في هذه الأيام ترى كثيرا من الأشياء بدأت تتكلم وتحاكي وتشكو، والمستحيلات واللاممكنات تكاد تحذف من القواميس والمعاجم، والإنسان حيران ودهشان كيف يتكلم الجوال بدون اللسان، كيف يسير السيارة بدون سائق ولا بغال، وكيف يطير الطيارة بدون طيار، وحينما هذه الأشياء تصاب بأي مشكلة أصحابها يذهب بها للعلاج والإصلاح، ففي هذا اليوم لو يتكلم الكتاب ويشتكي فلا تتعجب ولا تتحير، وهذا ليس من المستحيل، فالله الذي أنطق كل شيئ، أعطاني لسانا وقوة بيان لكي أتكلم وأشكو بما عانيت وأصبت بالمشكلات والصعوبات في هذا العصر الراهن عصر التكنولوجيا وعهد العولمة. الإنسان الذي ترقى مدارج الرقي والازدهار وعرج معراج الحضارة والثقافة بدراسة كتبي وقراءة صفحاتي، ما أخفي في دفتي من علوم وفنون وتاريخ وآداب، فأرى الإنسان في هذا العصر ينسى أو يتناسى فضلي ومني عليه، ويكاد يغفل عن ما عانيت من المشكلات والصعوبات لجعله راقيا متطورا. كم من كتب ضاعت في المكتبات! وكم من كتب أكلتها الديدان! فلمن أشكو وأخبر همي وألمي؟ وإلى من أداوي؟!
الطلاب الذين كانوا يتجالسونني ويتعانقونني في قديم الزمان فقد فقدتهم ونسيت أسمائهم، وأرى في هذه الأيام أن الطلاب يكتبون الامتحان والاختبار بقراءة مقالة أو مطالعة جريدة وصحيفة أو بسماع أي مسموعة أو بمشاهدة أي فيديو، ولا يقرأون الكتب والمصنفات المتعلقة بتلك المادة. وأرى طلاب العلم في هذه الأيام يتكلمون ويتفوهون أكثر مما يقرأون. ولو يقرأون لا يفهمون ولو يفهمون لا يعملون ولو يعملون لا يستمرون ولو يستمرون لا أجد فيهم الأمانة والجدية تجاه العلم والمعرفة وعن الكتاب والكاتب، فلمن أشكو؟
الباحثون في هذا العصر الذين قرأوا بعضا من صفحاتي وأوراقي ومعظم منهم لم يقرأوا ولو بصفحة فأخذوا الكتاب من الدولاب أو حمّلوها من المكتبات الإلكترونية أو استعاروا الكتب من المكتبات العامة يقرأون عنوان الكتاب والمحتويات وجعلوا يبدؤون المحاكمة عني وينقدون على صاحبي-المصنف- مع أنهم لا يعرفون في ذلك الفن إلا بعض الأسماء المشهورين من الكتب ولم يقرأوها! فقط سمعوا أسماءها وما وُفّقوا إلى قراءتها ودراستها، ولكنهم ينقدون ويحللون بدون علم ولا معرفة، ويأتون بالمصنفات والبحوث فلمن أشكو؟
كان لي محبا وعاشقا في قديم الزمان، كان يلازمني ليلا ونهارا وصباح ومساء حتى لا يفارقني ولو كان على مائدة الطعام، ولا يفارقني ولو كان في سفر ولا يفارقني ولو كان ناعسا ونائما، هل تعلمون اسم هذا الشيخ الجليل!! إسمه علي الطنطاوي، كان يقرأ على الأقل مئة صفحة إلى ثلاثمئة صفحة كل يوم من كتاب وهذا كان روتينه وعادته إلى أربعين سنة، هل سمعت اسم الجاحظ كان يقرأ ويقرأ ويطالع ويطالع.. ويلازمني في حله وترحاله في بيته وخارجه كان لا يتكلم إلا عن العلم والمعرفة وعن الكتب والمصنفات. وهؤلاء الذين بدأوا يقولون عني: خير الجليس في الزمان كتاب. ولكن أرى في هذا الزمان يكرهونني الطلاب ولايعجبني الباحثون ولو يعجبهم عنوان الكتاب فلا يهتمون به ويلازمونه مثل الجليس والحبيب. فلمن أشكو وإلى من أقدم الاحتجاج؟
هل سمعتم اسم الشيخ أبي الحسن كان يحبني حبا جما وكنت أحبه أيضا حتى جعلته في الصف الأول من العلماء والأدباء، ولمن أحب أجعله محببا لدى كل شخص، قد جعلني محببا إلى حد كبير حتى كانت أخته تطعمه في فيه وترتب له العشاء والغداء وإنه يلازمني ملازمة شديدة حتى ذهبت عينه بسبب القراءة والمطالعة، ولكن ما توقف عن الدراسة والمطالعة وما تركني قط وما أنساني ولو بيوم، كنت مصاحبا له وهو يصاحبني كنت أحبه وهو يحبني. وألقيت محبته في كل قلب وفي كل رجل حتى أجعله محببا لدى كل شخص. وهذا من مَنّ الله علي خاصة. لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر”. وقال تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء” فالشخص الذي يدري ويدري أنه يدري فهو عالم فاسئلوه، والشخص الذي لا يدري ويدري أنه يدري فهو جاهل فاجتنبوه، والشخص الذي لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فهو غافل فأيقظوه. فهناك أصناف من الناس الذين يسافرون إلى المدارس والكليات والجامعات لكسب العلم والفضل من مصنفاتي وكتبي ومن أوراقي وصفحاتي ومن بحري الزاخر. فالطالب الحقيقي يستفيد مني وينهل من منهلي حسب ذوقه وقدرته، فأشربه جرعة العلم والفضل والكمال، وأما المقصر فيقضي أوقاته مع واتس اب وفيس بك ومشاهدة الأفلام على شاشة الجوال، فلا يغني من جوع ولا يجزي بشيئ. ولا أعطي للمقصر الغافل الكسلان جرعة من الماء ولا شربة من البحر. فالطالب الحقيقي يفني عمره ويقضي أوقاته معي لا ينام إلا معي ولا يستيقظ إلا معي حتى ينام والكتاب بيده والأوراق يغطي وجهه، فأحب هذا العاشق الولهان الذي يعشقني ويحبني، من يحب الكتب يحبه الناس، حتى بدأ الناس يقول عنه: إساله إنه يقرأ الكتب إنه يعرف ويدري هذا. فالناس يحبونه ويقدرونه ويحترمونه، ولكن بعد هذه المعاملة الحسنة والتقدير والتبجيل لا أرى الطلاب والباحثين أن يعجبو بي ويقرأوا صفحاتي ويكبوا على أوراقي. الباحثون والطلاب يعشقون الجوال والتلفزيون والأفلام فحسب لا يقدرون الكتب ولا يهتمون بها. والكتب التي قد اشتروها والمؤلفات التي قد حملوها من المكتبات الإلكترونية تكاد تغيب عن الملفات وتكاد تذهب بوايرس ولكنهم لا يقرأون ولا يطالعون ولا يدرسون مع أنني أشاهدهم يتلذذون بالأفلام ويقضون أوقاتهم مع الجوال ويشاهدون الأفلام إلى ساعات وساعات، وهم يتركونني ويتناسونني ولا يلازمونني. كنت أفكر في نفسي سيذهب هؤلاء بالشهادات العالية وسيلقبون بالألقاب الفاخرة وسيتولون المناصب العليا بكل حيلة ودسيسة، ولكنهم لا يعلمون ما كتب في شهاداتهم وليس عندهم قدرة أن يفهموا ما كتب على شهاداتهم، معنى ذلك شهاداتهم شاهدة على جهلهم وخسرانهم. مثل هؤلاء الطلاب والباحثين يكتسبون لي سمعة سيئة. فمثل هؤلاء الباحثين بدأوا يقولون عني هذا كتاب ردئ. وهذا كتاب قيم بدون قراءة ومطالعة وبدون خوض في أغوار أمهات الكتب في ذلك المجال. أسفا عليكم يا أبناء الزمان. أين وقعت في هذا العصر؟ وإلى من اًنتسبت في هذا العصر الإلكتروني. فلمن أشكو وإلى من أذهب لأداوي ؟
وجدت بعض الناس كتبوا مصنفات ومؤلفات بدون قراءة عشر كتب كتبوها لترقية وظيفة ولنيل سمعة فقط، وطالعت أطروحات ومقالات يكتب الباحثون بناء على القطع والإلصاق من الكتب والمقالات ولم يلاحظوا قوانين البحث العلمي وضوابط الكتابة. فلمن أشكو وإلى أي محكمة أذهب للعلاج بهذا المرض الهالك وآتي بدواء شاف لهم. وجدت بعض الأساتذة يلقون المحاضرات بدون قراءة ومطالعة للمادة، فحينما يسأل عنه سائل سؤالا يتغير وجهه تماما، وحينما يطرح طالب مسئلة وقضية يكاد يفر من الفصل فضلا عن إجابتها وإقناع الطالب بها. فلمن أشكو يا سيدي؟
لا تغضب علي. مهلا يا سيدي! أمة إقرأ لا تقرأ. أقول حقا ولا أخاف لومة لائم. أنا أشكو والإحصائيات على مستوى الدولي والمحلي خير شاهدة على ذلك. الأمة القائدة الرائدة التي كانت تنوب عني في مجال العلم والفن وفي مجال الثقافة والحضارة. فمن بيننا كان الإمام الرازي والغزالي وابن رشد وابن سينا وغيرهم. قد تظن أنك ستكسب سمعة في مجال العلم والفن بدون اهتمامي وبدون قراءة الكتب، فهذا حلم أحمق. وهذا ظن فاسد. وهذا أمر مستحيل لا يتحقق أبدا. من لا يقرأ لا يسد ولا يقد. فالغرب قد جدوا واجتهدوا وفاقوا على أقرانهم من الأمم وأبدعوا في العلوم حتى أسسوا فروع العلوم والفنون الجديدة واخترعوا الماكينات والآلات. فهم يقرأون ويكتبون ويطالعون ساعات وساعات. الغرب يحبونني ويصاحبونني في السفر والحضر، في القر والحر، حتى جعلتهم قائدين وأساتذة في كل مجال. فأناشد الآن الأمة الإسلامية خاصة والأمم العالمية عامة أن يهتموا بي ويلازمونني كي أجعلهم من صفوف الكتاب البارزين والمعلمين الناجحين والأدباء العباقرة والقواد الفاتحين والأناس الطيبين.
*الباحث بمركز الدراسات العربية والإفريقية، جامعة جواهر لال نهرو، نيو دلهي
Leave a Reply