+91 98 999 407 04
aqlamalhind@gmail.com

القائمة‎

رحلة بهاء طاهر من الحداثة إلى مابعد الحداثة في ضوء رواياته:المنظور الفلسفي
محمد جيلاني*

الروائي بهاء طاهر أديب مصري  من جيل الستينات من مواليد سنة 1935م ولا يزال على قيد الحياة. أعماله تتراوح بين القصص القصيرة والروايات والكتب العلمية. صدر له عدد كبير من القصص القصيرة من بينها عديد من مجموعاتها من أمثال “الخطوبة” و”بالأمس حلمت بك” و”أنا الملك جئت” و” لم أكن أعرف أن الطواويس تطير” نالت قبولا واسعا بين القراء والناقدين. صدرت له ست روايات فازت عدة منها بالصيت الواسع. تم ترجمة العديد من أعماله في اللغات العالمية الأخرى.  و ترجم أربع من رواياته  إلى اللغة الإنجليزية. حاز على جائزة الدولة التقديرية في الآداب سنة 1998م، وجائزة “جوزيبي أكيربي” الإيطالية لروايته “خالتي صفية والدير وجائزة الزياتور الإيطالية  لروايته ” الحب في المنفى” وفي سنة 2008م سعت إليه بوكر العربية لروايته “واحة الغروب”.[1] بهاء طاهر يعرف بكونه ناشطا سياسيا من أيام تعليمه إلى يومنا هذا. قام بتأسيس حركة ” كفاية”  سنة 2004م ضد حكم حسني مبارك وشارك في المظاهرات ضد حكم الرئيس  حسني مبارك.[2]

أعماله:

كان ملتاعا بالقراءة والكتابة القصصية من مبكر عمره وكتب كثيرا من القصص كثرتها غير منشورة لبالغ اهتمامه في الكتابة الجادة وبما يليق بالنشر منها. على الرغم من ذالك نجد عديدا من قصصه القصيرة والروايات نشرت على مر السنوات، والتي نالت قبولا واسعا بين القراء في بلاده وبين الأجانب وفازت بالاهتمام البالغ والتقدير الأدبي بين المثقفين والفنانين. فكتب كثير من الأدباء والناقدين مقالات عن قصصه ورواياته. أخرجت عديد من قصصه وإحدى رواياته كمسلسلات تلفزونية واكتسبت تقديرا مشجعا بين الناظرين. ترجمت جميع رواياته في عديد من اللغات الأوروبية وكذالك بعض قصصه القصيرة.

نشر له: الخطوبة عام 1972م، بالأمس حلمت بك 1984م، أنا الملك جئت 1985م (قصص قصيرة)، قالت ضحى 1985م، شرق النخيل 1985م، خالتي صفية والدير 1991م، الحب في المنفى 1995م (رواية)، ذهبت الى شلال 1998م(قصة قصيرة)، ونقطة النور 2001م، وواحة الغروب سنة 2006م (رواية). نال الجائزة العالمية للرواية العربية عام 2008م لروايته “واحة الغروب وتم ترجمتها إلى عدة لغات من البوسنية،الكرواتية،الفرنسية،الإنجليزية،الألمانية،اليونانية،الإندونيسية،الإيطالية،النرويجيةوالرومانية[3]. اختار مهرجان الأقصر للسينما المصرية والأوروبية الروائي المصري بهاء طاهر رئيسا شرفيا لدورته الأولى التي تقام في سبتمبر في مدينة الأقصر الجنوبية[4] .

وصدرت له الأعمال: فاصل غريب- ترجمة لمسرحية يوجين أونيل 1970م، البرامج الثقافية في الاذاعة-  دراسة نظرية 1975م، مسرحيات مصرية: عرض ونقد 1985م، أبناء رفاعة: الثقاقة والحرية دراسة 1993م، ساحر الصحراء وهوترجمة لباولوكويلهو1996م.[5]

المبحث:

حاولت في هذا المقال تحليل السمات الحداثية ومابعد الحداثية في روايات بهاء طاهر من الوجهة الفلسفية. الحداثية الفلسفية تقوم لمركزية الذاتية الإنسانية كما هو عند هيغل والذي يدعو إلى تحرير العقل الإنساني بوصفه كائنا يصلح للهداية والتقدم، أوإلى العقلانية الليبينيزية التي تعتبر العقل الإنساني مرجعا ووسيلة وحيدة للوصول إلى العلم الحق، ومن ثم إلى تحرير البيئة السياسية والاجتماعية وإعطاءه الحقوق الطبيعية من الحرية والديموقراطية كما هو عند روسو.[6] فنجد مركزية العقل الانساني كمحور جذري للحداثة  إذا ما تحدثنا عنها على المستوى الفلسفي. وذلك يقتضي توجيه المحاولات الإنسانية تجاه كل ما يبرره العقل وإلغاء ماعدا ذلك. فكذلك الحال للأدب الحداثي، فإنه يبتني على العقلانية والإيمان بها، فالمواقف والاتجاهات في الأدب الحداثي تكون واضحة، وتصاوير الحقائق غير معقدة. فربما يكون الأدب الحداثي واقعيا بمفهومها الواقعية السياسية والاجتماعية العقلانية. فيحاول الأديب فيه إلى تقديم الحل في المآزق والمواقف المعقدة من خلال الحلول التي تبتني على العقلانية أو مستمدة من العقل المحض. وأما ما بعد الحداثة الفلسفية فهي نقيض الحداثة، وسوف أقدم بشرحها فيما بعد.

إن البيئة التي شب فيها بهاء طاهر كانت بيئة هبت العواصف فيها ضد الملوكية مخترقة سبيلها إلى الديمقراطية ومن الآلام إلى الآمال ومن لاسبيل إلى سبيل. شارك في عديد من المظاهرات ضد الملوكية ثم من أجل فلسطين وهو في الثانوية. فتلتها ثورة  عام 1952م، ثم نزوة فنكبة- النكبة الكبرى ل1967م التي هزهزت التوجه إلى القدام وجعلت الشعب في مأزق فكري، لكن الهزيمة الجسمية حاولوا ألا تتطرق إلى الهزيمة الفكرية ولا زالو يعلقون آمالهم الفكرية في التوجه السوي في المستقبل إلى أن نفد صبرهم من الأحداث السلبية التي بدأت تتراكم من التسعينات إلى اليوم. ثم نجده يلج في عالم اللاوقوف والعقلانية المتناقضة التي لا تترك من الحقائق إلا الشك.

بهاء طاهر يبدو يمضي من كل هذه المراحل في رحلته الروائية. فإن بعضا من رواياته يمكن أن يطلق عليها أنها تتسم بسمات الحداثة وأخرى منها بسمات ما بعد الحداثة وبعض منها بسمات الوسطية بين الحداثة ومابعد الحداثة من وجهة فكرية بالتحديد. لم أحاول تقديم المقال من وجهة التقنيات الفنية المستخدمة في رواياته بل من وجهة  السلسلة الفكرية التي تبناها الروائي وسلك من مسالكه الفكرية، وذالك أيضا على المستوى الفلسفي.

فكما ذكرنا من قبل أنه “ليست الحداثة الأدبية وليدة الصدفة أوالتقليد، بقدر ما هي فعل حضاري تقوم على الإيمان الراسخ بالعقل والعقلانية والحرية والتقدم الاجتماعي، وكذالك الإيمان بالفردانية والاختلاف، مشكّلا حاضرا جديدا على أنقاض الماضي…من أجل مستقبل مرتقب أفضل وامتلاك الحاضر الذي هو أساس الحداثة وبالتالي المستقبل.”[7]

 فأولى روايتيه ’شرق النحيل‘[8] و’قالت ضحى‘[9] تبدو خطابا عاما وتحضيضا عقليا إلى وجهة مستقبلية ذات طريق واضح المعالم على غرار العقلية الحداثية. البيئة فيهما بيئة الأمل والعقل، الجهد والهدف، الثقة والثبات، الشعار والصدام، التحرك والتمرد، المحن والعز. البطل فيهما إيجابي على الرغم من الأحداث المنهكة والخانقة. تمثلان التزام المثقف تجاه الأهداف النبيلة التي كانت البيئة مدويا بصلصلاتها، تجاه المجتمع الذي يعيش فيه وتجاه الشعب الذي تصلهم أخوة الوطنية، كي يضطرب لآلامهم، يجهد لقيادهم إلى الأفكار السليمة والحلول السديدة مع النظريات والأفكار الجديدة التى يرى فيها مستقبلا بريقا للشعب عامة وللفئات المكبوتة خاصة. نجد في هاتين الروايتين أن الروائي لديه فكرة محددة وهدف مأمول. ومن تلك الوجهة الفكرية هو يدعو القراء إلى ما يعتقده من السبيل السوي والطريق الحق. الروائي فيهما ليس غموضا بل واضحا أشد الوضوح فيما أراد من رسم وتصوير، وتعليم وتثقيف، أو توجيه رسالة خاصة أو دعوة إلى التحرك. الشخصيات الإيجابية فيهما أحامس نشطاء لتغيير الواقع ولتحقيق المستقبل الأحسن من خلال القوة الإنسانية العقلانية. فهم من حاملين لواء الأفكار التي يؤمنون بها، متوجهين قداما لتحقيق المرامي والأهداف النبيلة. وكل هذا يجعل منهما أعمالا ذات سمات الحداثة فكرة. نجد فيهما بصمات أو سمات الحداثة المتأخرة إذا ما قارنناهما بنفس الحركة بالغرب كما يقول مصطفى عطية جمعة “فإن التأثر والنقل للتيارات الأجنبية لم يكن مواكبا لإزدهار هذه التيارات في الغرب، وإنما كان تاليا لها، عندما تنتهي وتنزوي في الأدب الغربي فإنها تنتعش وتصبح علامة على التطور في الأدب العربي”[10]. أما من سمات العمل الحداثي فيقول مصطفى عطية جمعة”فإن كثيرا من الروايات الحداثية عبرت عن منظور جزئي عن هموم الوطن، وآلام فئة أوطبقة، ومن ثم تبنت بعض الحلول والأفكار و روجت لمذهب فكري ما وانتصرت لقيم عديدة، وتمسكت بالوطن  وناقشت الهوية، وكانت هناك أحلاما عديدة حتى بعد هزيمة 1967م، فإن الروائيين  العرب عبروا عن مرارات الهزيمة ولكنهم تمسكوا بقناعاتهم الفكرية وجعلوا الملاذ في الوطن كاشفين العيوب إما بالرمز أو بالإشارة أو بالخطاب المباشرضمن بناءات سردية جديدة وبفضاءات نصية مبدعة وبلغة حافلة بالجديد من التراكيب وبلاغة السرد”[11]

الروائي في روايته ’شرق النخيل‘ يدعو إلى الوطنية والعروبة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والحرية والمساواة. وبالتصوير الإيجابي المتسم بالحماس والنشاط يقوم بتحريض القراء وإغرائهم. كل من زملاء البطل في الجامعة يصبحون نشطاء للوطن وللفلسطين وللعروبة وللحرية. الأشخاص فيها يخرجون من غوايات الحب الذاتي إلى مغارات الحب الفكري، إلى حب المبادئ و إلى القيام لها صوتا وشوطا. سمير يتحمس للمظاهرات مع الطلبة في الجامعة بعد أن لم تمتد حماسته ماوراء النساء والتلهي في الأنغام. عصام الطالب الفلسطيني بالجامعة يقوم بتضحية نفسه لأجل وطنه. هذا يعمل لعقل سمير سوطا يوقظه من سباته من الجهل والهواية إلى القيام للوطن والعروبة حتى ولو كان الثمن حياته. ثم يلحق به آخرون من أصدقائه وينهرون بعيدا عنهم الحب الكذب وحياة الخدعة.

ورواية ’قالت ضحى‘ على غرار رواية ’شرق النخيل‘ تتسم بسمات الحداثة من الوجهة الفكرية الواضحة، والأهداف المحددة، والطرق البينة. قد قام الروائي بإثارة قضية الاقتصاد الاشتراكي والعروبة والوطنية بنبرة مؤيدة ويدعو إلى التمسك بما يعتبره من النظريات نبيلة الأهداف، وإلى إجهاد كل المحاولات تجاه تحقيق تلك الأهداف التي سوف يضمن للمجتمع العدل والازدهار، وإلى أن يقوم الناس لها بدون وهن وتقصير.

البطل فيه إيجابي. ولو أنه يمر بأزمة داخلية يفرض من أجلها على نفسه الانسحاب من النشاط السياسي إلا أنه يصحو من سهوته وغفلته وينشط للعدل ويتحمس ضد الفساد ويقوم بتقديم الإعانة لشخصية أخرى في الرواية سيد القناوي. القناوي رمز للإيجابية التي يدعو الروائي إليها، فهو مؤمن بتحقيق العدالة من خلال الاقتصاد الاشتراكي، ومؤمن بفكرة العروبة –مشروعين متميزين في عهد جمال عبد الناصر. يرتقي القناوي من وظيفة الساعي إلى أن يصبح ممثلا للعمال في النيابة. إنه يكافح ضد الفساد في النيابة، الفساد الذي سوف تفضي إلى تضعيف الوطن وتضعيف فكرة القومية والوطنية وإلى تضعيف المشروعات الاقتصادية التي يبتني عليها ازدهار الوطن وتقدم الشعب. يذهب سيد القناوي إلى اليمن كالمتطوع العسكري ليشارك في الحرب هنا على جانب الثوار ضد الملوكيين. الثوار كانوا من المؤمنين بحكم الشعب وبفكرة العروبة. فلما يرسل إليهم جمال عبد الناصر الإعانات العسكرية يقدم لها القناوي طواعيا. هناك يضيع أحد رجليه من أجل الفكرة التي يؤمن بها وهي العروبة. القناوي يقوم بالحماس والنشاط ضد الأعداء الداخلية للوطن من القائمين بالفساد وضد أعداء العروبة والمشروع الناصري.

ويمكن أن نقول أن روايتيه ’الحب في المنفى‘[12] و’نقطة النور‘[13] كانتا من زمن المفرق أو المعبر ويعني ذالك الامتداد الفكري بين الحداثة ومابعد الحداثة أو بأسهل التعبير فترة الانتقال من الحداثة إلى مابعد الحداثة. فإن جذور الحداثة ضربتها العواصف القلاعة الناشئة من هزيمة 1967م. إلا أنها بقيت منغرسة على الأراضي الفكرية للمثقفين  عل الرياح المبشرة تهب من جديد فتنزل بماءها إلى جذورها فتصحو من جديد. ولكن العواصف لا تبدو تهن وتقاحمت الجذور  مرات على فترات حتى بدت تذبل إلى ممزقات مشتتة مبعثرة نجد  فيها خلقا فكريا جديدا ما يسمونه بما بعد الحداثة.

إن هاتين الروايتين تمثلان النفسية المزيجة من الألم والأمن، والهبوط والصعود، من الرجاء والقنوط، فنجد الأشخاص فيهما يصحون فيغشون على فترات، يبذلون الجهود مرة فيقنطون منها مرة أخرى. يحاولون ويفشلون فيبحثون عن شيئ يعلقون به في الحالتين. فقد يحاولون إلى اختراق الطريق إلى الآمال ثم ينكمشون إلى الحب الذاتي في رواية ’الحب في المنفى‘. نرى الشخصيات فيها مأخوذين بالقنوطية بتة ولكن لايكادون ينسحبون من آمالهم كاملا. نرى في هذه الرواية التشكيك في الوجهة الفكرية وفي المواقف المتعلقة بالأيدولوجيات. نجد فيها الاسترجاع الداخلي تجاه المواقف التي كانوا يقومون له صلبا ويكافحون له حياة في وقت ما حتى تبدو مواقفهم وقد مستها الريبة والوهن. البطل وزميله إبراهيم وبريجيت وألبرت كلهم كانوا من المتحمسين لأفكارهم، جاهدين إلى أهدافهم، مذعنين بمايقومون له إذعانا باتا في وقت ما. كان البطل من الناصريين،وكان من الصحفيين البارزين وكان متحمسا للمشروعات الناصرية من الاقتصاد الاشتراكي وتقسيم الأراضي، والعدالة الاجتماعية. ولكن الأوضاع تتغير، فتتغير أفكارهم ومواقفهم وإيقانهم. كلهم يحاولون أن يجدوا في الحب ملاذا أو فرارا من الهزيمات الخارجية، ويتخذ بعضهم من العبث شغلا. يحاولون جمع الأشلاء المشتتة ليجدوا أنفسهم مرة أخرى في نفس المطاف من اليأس والقنوطية واللا يقين. يضعف إيمانهم بتغيير المجتمع ويرون إلى مواقفهم نوعا من المثالية التي ليس لها على أرضية الواقع من سبيل.

كذالك البطل في نقطة النور، على الرغم من الظلام السائد والأوضاع المتردية المتقهقرة يوما بعد يوم لا يزال يعلق آماله في نقطة ينبثق منه النور. الشيخ الروحاني أبو خطوة يبدو يلعب دور المحرك المثالي، وحفيد البطل سليم يبدو ممثلا النقطة التي أصبحت الآمال مرتكنة إليها. البطل يموت في بيته ولا يستيقن أن النور لما يأت. البيت القديم الذي لازمه البطل وينكر الخروج منه حتى بعد الزلزال الذي داهمه وهدم بعضا من الأجزاء المرممة حديثا يمثل الوضع الفكري، كما أناستعداده للموت فيه يمثل علقته الشديدة بما كا يؤمن به من المبادئ الفكرية. سليم يمثل الفكرة المبتكرة التي لا تبدوا تتشكل شكلا ذا معالم واضحة. وفي هلوسته مثَل للفكرة القادمة الجديدة التي يعتقده كائنا قيد التشكل إلا أنه يجده غير واضحة غير محددة.

نهائيا نرى في رواية ’واحة الغروب‘ غروب الآمال، غروب العقلية الجديدة والولوج في عالم الغموض واللاوقوف.

نجد في هذه الرواية سمات ما يعبرونه بما بعد الحداثة، على قول مصطفى عطية جمعة “ومن ثم في علوم السياسة وعلوم الاجتماع وهي تعود إلى حركة الشك العميق التي انتابت الباحثين في العالم. وهي حركة شاملة تضرب في البديهيات المسلمة الفكرية وقد أسفرت عن عدم يقين كلي ورغبة في صياغة نظريات جديدة أكثر قدر على قراءة نص العالم المعقد.”[14] “يحاول خطاب مما بعد الحداثة إلى إيجاد قيم بديلة من مبادئ التنوير والعقلانية والتقدم الاجتماعي لإعلان تهاوي الحضارة العقلانية التي نادى بها عصر التنوير، معبرا عنها بأفكار وحركات راديكالية متعددة في الأدب والفن و الثقافة والعلوم الإنسانية ومؤكدا على مفاهيم التعددية والاختلاف وتنامي الهويات القومية”[15]

ويقول عبد العزيز بن عرفة عن ما بعد الحداثة ” وفي الحقيقة فإن ما يشغل تفكير رواد مابعد الحداثة هو وضع حد لوعي الإنسان الذي يجعل من نفسه مركزا للكون، أي إن فكر الإنسان هو مركز الكون ومنبعه، ولا وجود للأشياء في الكون إلا ولها ارتباط بالعقل البشري، وإن الإنسان هوالذي يحدد هويته ويعطي للأشياء معنى ودلالة، بمقتضى قانون سنة العقل. وبهذا فإن الذات الإنسانية تختزل في الوعي، وإن الميتافيزيقية تختزل الذات في الوعي.

فهي(ما بعدالحداثة) فلسفة ترفض المرجعية الفكرية وتحاول إثبات أن النظم الفلسفية العقلانية تحتوي على تناقضات أساسية لا يمكن تجاوزها، لأنها طريقة لا تسطيع تنظيم الواقع، وإنما هي ((علامة)) على عدم وجود حقيقة، بل مجرد مجموعة من الحقائق المتناثرة لأن كل الحقائق نسبية، ولا يكون هناك قيم من أي نوع. ومن هنا فإن ما بعد الحداثة الفلسفية تهدف إلى تقويض ظاهرة الإنسان عن طريق هدم المركزية اللوغوسية(العقلانية الأوربية)، ومن ثم زرع الشك في الذات الفلسفية العقلانية والتقدم الاجتماعي والعلمي والتقني الذي أنتجه عصر التنوير.”[16]

في روايته الأخيرة ’واحة الغروب‘[17] التي نالت احتفالا واسعا واهتماما بالغا، نرى بهاء طاهر يغوص أعماقا بقلمه متخذا من سمات ملغزة مدخلا إلى خلايا الحوادث دخولا متباينا وإيحاءا متسايرا متشابكا، مع تمزيج متداخل يتراكم فيه الماضي والحاضر. تتحاور فيه الأسطورة مع التاريخ والتاريخ مع الأسطورة، يتحارب الإنسان البسيط الداخلي مع الإنسان المتكيف المتغير المتعقد الخارجي، يتعقب الإنسانَ الضبابي الماضي الإنسانُ الحاضر الذي يركب غابات الماضي و يمرش من خلاله بحثاعن وجوده الذي يتعلق به ويحيا له، يقاتل له فيقتل أويقتل.

ينفذ ببصره إلى أعماق التاريخ فيجده أسطورة، ويسير بين العالم اللغزي الأسطوري فيجده تاريخا. فماذا لو يرى إلى الإنسان نفسه فيجده أسطورة، ووجوده لغزة ، وعقلانيته سرابا، وحياته خدعة، وحقيقته هزوا، وسليمه شريرا وشره أسلم. فماذا لو يرى تفلسفاته موكبا للهيمنة،وسياسته مآبا للسفسطة، مرصادا للمصرعة، ، وتاريخه متاهة للمفسده.

بهاء طاهر يبدو في روايته هذه أغمض إيحاءا وألطف منهجا، و أدق مطلبا،  وأعمق نفسيا وأقرب إلى الإنسان طبيعة وسلوكا. لا يضع الإنسان وسط الجدلية الخطية، بل نجده يجعل منه محورا للجدليه الكروية التي ليس الإنسان فيه بين سلوك وآخر بل له سلوك متثني، ومتعانق ومتفارق، يدور سلوك الإنسان فيه من وجهة إلى أخرى ما لا تلائم الجدلية الخطية أي الجدلية الثنائية. نجد روايته هذه تسأل أكثر من أن تجيب، تثير أكثر من أن تهدأ وتتركنا في مدوار فكرية نخرج منها متضادين حسا وفهما.

ما نرى في هذه الرواية هو ضياع العقلانية المحددة منها إلى الوجودية المعقدة التي لا يمكن للإنسان أن يتخذا موقفا ما.[18] أو كما يقول محمد أنقار: الفن المعاصر يلزم أن يكون تجريديا مركبا إلى حد التعقيد ليضاهي بذالك تعقيد الحياة المعاصرة ذاتها ويبتعد عن كل واقعية بسيطة لا بد أن تكون- في نظر عديدين- فجة. وحينما يتحقق المطلوب النادر  ونعثر على رواية من هذ القبيل غير الحداثي ونشعر كأن مؤلفها يسبح ضد تيار الفن المعاصر بإيقاعاته المتصارعة وتركيباته اللامنسجمة أو تشييئية الجافة التي لا تلامس شغاف القلب بل تترك العقل يتوه حائرا. وتلك واحدة من غايات ما بعد الحداثة.[19]

البطل محمود عبد الظاهر في الرواية شخصية معقدة لم يتخذ لا في الحياة الظاهرة موقفا واضحا ولا في النفسية الداخلية. فهو دائم التقلبات في المواقف والنفسيات. لا يجد في نفسه شجاعة ليقوم بمادئه الثورية العرابية بل يفضل الحياة المخدوعة ولا يصل أبدا إلى أي من الموقفين كان سديدا. قد يحب الثورة ثم يؤثر الحياة، ثم يمضي حياته كأنه لا تعني له ويتمنى لموته. ولما يأت الموت أمام عينها يتقهقر خلفا ويؤثر الحياة مرة أخرى، فهو لا يموت ولا يحي. فحياته أصلح أو مماته أفضل لا يكاد ذالك يبين له أبدا. هو وجود محمود حي أو ميت لا دراية له. ونهائيا فإنه يقتل نفسه في المعبد، فهل يقتل حياة أو فكرة لا نجد منه أي وضوح.يبدو كأن موته يماثل تقويض الظاهرة الانسانية التي تتمركز حوله فلسفة مابعد الحداثة.

وكذالك أتى بهاء طاهر بالتحليل الإنساني من خلال الأسطورة الإسكندرة تحليلا لا يرتكن لها إلى مركزية الذاتية الإنسانية كما هو عند هيغل والذي يدعو إلى تحرير العقل الإنساني بوصفه كائنا يصلح للهداية والتقدم، أوإلى العقلانية الليبينيزية التي تعتبر العقل الإنساني مرجعا ووسيلة وحيدة للوصول إلى العلم الحق، ومن ثم إلى تحرير البيئة السياسية والاجتماعية وإعطاءه الحقوق الطبيعية من الحرية والديموقراطية كما هو عند روسو.[20]

وتصوير الإسكندر في الرواية لا يختلف كثيرا من تصوير البطل فيها. صور الروائي تصوير الإسكندر من خلال الأسطورة وينفذ بها إلى أعماق نفسية الإسكندر المتقلبة التي لا تكاد تستريح أبدا. يعمل أعمالا متناقضة، ويتحذ مواقف متباينة في الحياة. يجد اللذة في إراقة الدماء ثم يلوذ بالإلياذة والشعر والموسيقي. هو يقهر الناس بالسيف والقوة ثم يألفهم بالمودة والزواج. هو يقوم بقتل الناس قتلا مبيدا ثم ينهض لتحقيق الأمن والسلام. هويقتل أقرب أصدقاءه وأصحابه ومحبيه من أدنى ريبة، وأبسط إثارة ثم يبكي لهم أياما لا يفارق أجسادهم الميتة حتى ينسى الأكل والشرب ويكاد يقتل نفسه أسفا. يحي حياة مليئة بالملذات والملاهي والنشاطات كأنه يود حياة مؤبدة ثم يحاول الانتحار مرارا كأنه لم يكن في قلبه حب الحياة أبدا.

نجد هنا بهاء طاهر يلج إلى العالم الأسطوري الذي تبرأت الحداثة منها منذ ظهور عصر ما يسمونه بعصر التنوير. فهو محاولة النفوذ إلى ماوراء العقلنة الحديثة وغوص في الميتافيزيقية القديمة في البحث عن أجوبة لأسئلة تقصر أمامها العقلنة الحديثة. ولكنه نهائيا يخرج من العالم حائرة خائبة متشككا في الذات وفي العقل. لا تنجلي لديه أسباب تقلبات في حياة الإسكندر، ولا يجد لديه تفسيرا ما لسلوكه في الحياة كما أن الإسكندر نفسه ينكر تعقل سلوكه في الحياة. والحال كذا لشخصية البطل محمود عبد الظاهر لا يكاد يجد تفسيرا مقنعا لسلوكاته وتقلباته في الحياة. فهذه السمات من اللاوقوفية، والتعددية في السلوك، وعدم الارتكان إلى العقلية المحضة تضاهي اللاوقوفية المابعد الحداثية.وهذا ما يمكن أن نقول عن الرواية أنها تتسم بسمات ما بعد الحداثة الفلسفية.

خلاصة البحث:

إذا ما تعمقنا في روايات بهاء طاهر وحللناه من المنظور الفلسفي وجدنا أن رواياته التي نشرها منذ 1985م إلى 2006م يتغير الإطار الفلسفي فيها مع التغييرات في المناخ السياسي والاقتصادي حوله تغيرا من الإطار الحداثي إلى ما بعد الحداثي. وذالك من خلال السرد الإيجابي الواضح مع نبرات الإيقان والإيمان بالمركزية العقلية الإنسانية ومن ثم بالعقلانية الحديثةالتي تكون النداءات فيها واضحة والأفكار محددة، الرسالات مؤكدة والنبرات راسخة والأهداف مأمولة في رواياته الأولى من ’شرق النحيل، إلى ’الحب في المنفي،. ثم نرى انقلابا في سرده وتصويره، مواقفه ونبراته، رسالاته وأفكاره من الإيجابي إلى التشكيكي، من الواضح إلى المشبوه، من المحدود إلى المغموض، من الوقوف إلى اللاوقوف ومن العقلنة إلى اللاعقلنة في روايته ’واحة الغروب‘ التي تم نشرها أولا سنة 2006م، معلنا بولوجه في عالم الإطار الفلسفي مابعد الحداثي.

مراجع البحث:

[1]قاسم، سامح، بهاء طاهر.. الطفل الذي يطاردنا”بوابة نيوز، 13/01/2016  لمزيد المتابعة : http://www.albawabhnews.com/1715816 حسب الاتصال في 4 يوليو 2017م، البوابة نيوز – المركز العربي للدراسات السياسية، 57ش.مصدق، الدقي، الجيزة, الجيزة ،مصر

[2]Sabre s.r.o.,Baha Taher: Of Hope and Rememberance, for more details: http://www.pwf.cz/archivy/texts/articles/bahaa-taher-of-hope-and-remembrance_3109.html

[3]Clee, Nicholas, Arab Literature Goes International, Book Brunch,

http://www.bookbrunch.co.uk/page/free-article/arab-literature-goes-international/

[4]سكاي نيوز عربية، اختار مهرجان الأقصر للسينما المصرية والأوروبية الروائي المصري بهاء طاهر رئيسا شرفيا لدورته الأولى التي تقام في سبتمبر في مدينة الأقصر الجنوبية، 5 يونيو 2012، العنوان الالكتروني حسب آخر الاتصال من يونيو 29، 2017، http://www.skynewsarabia.com/web/article/25459

[5]قاسم، سامح، بهاء طاهر.. الطفل الذي يطاردنا”بوابة نيوز، 13/01/2016  لمزيد المتابعة : http://www.albawabhnews.com/1715816 حسب الاتصال في 4 يوليو 2017م، البوابة نيوز – المركز العربي للدراسات السياسية، 57ش.مصدق، الدقي، الجيزة, الجيزة ،مصر

[6]الحيدري، إبراهيم، النقد بين الحداثة وما بعد الحداثة، ص 60-61-287، الطبعة الأولى 2012م، دار الساقي، بيروت، لبنان

[7]الحيدري، إبراهيم، النقد بين الحداثة وما بعد الحداثة، ص 317-318 ، الطبعة الأولى 2012م، دار الساقي، بيروت، لبنان

[8]طاهر،بهاء،شرقالنخيل،  (الطبعةالأولى1985م) دارالشروق،القاهرة، 2010م (الطبعةالثالثة)

[9]طاهر،بهاء،قالتضحى،  (الطبعةالأولى1985م) دارالشروق،القاهرة، 2009م

[10]جمعة، مصطفى عطية، مابعد الحداثة في الرواية العربية الجديدة: الذات- الهوية- الوطن، ص 11

[11]نفس المصدر، ص 12

[12]طاهر، بهاء، الحب في المنفى (الطبعة الأولى، 1995م) دار الشروق، القاهرة، 2010م (الطبعة الثالثة)

[13]طاهر، بهاء، نقطة النور ( الطبعة الأولى، 2000م) دار الشروق، القاهرة، 2009م

[14]جمعة، مصطفى عطية، مابعد الحداثة في الرواية العربية الجديدة: الذات- الهوية- الوطن، ص 22

[15]الحيدري، إبراهيم، النقد بين الحداثة وما بعد الحداثة، ص 390 ، الطبعة الأولى 2012م، دار الساقي، بيروت، لبنان

[16]الحيدري، إبراهيم، النقد بين الحداثة وما بعد الحداثة، ص 369، الطبعة الأولى 2012م، دار الساقي، بيروت، لبنان

[17] طاهر، بهاء، واحة الغروب، طبعة: دارالشروق، 2007

[18]Cahoone, Lawrence, From Modernism to Post-modernism- An Anthology, p 10, Blackwell Publishing,2003

[19]أنقار، محمد، ظمأ الروح أو بلاغة السمات في رواية “نقطة النور” لبهاء طاهر، ص 9، الانتشار العربي، بيروت، لبنان، 2008

[20]الحيدري، إبراهيم، النقد بين الحداثة وما بعد الحداثة، ص 60-61-287، الطبعة الأولى 2012م، دار الساقي، بيروت، لبنان

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of