القاصّة الفلسطينية الكبيرة سميرة عزّام تعتبر رائدة القصة القصيرة في فلسطين، ولها مكانة متميزة ودور كبير في بلورة الخطاب السردي الواقعي ومعالجة قضايا المجتمع الفلسطيني، بما فيها تداعيات الحرب وما تلاها من احتلال للأراضي الفلسطينية، والتي تمخضت عنها من قتل وتشريد وما عاناه المجتمع الفلسطيني من هموم وآلام وأحزان في الحياة اليومية.
إنها لعبت دورا رياديا في بلورة الخطاب السردي الواقعي ومعالجة قضايا المجتمع الفلسطيني، بما فيها تداعيات الحرب وما تلاها من احتلال للأراضي الفلسطينية ومن ثم ما تمخضت عنها من قتل وتشريد وما عانى منه المجتمع الفلسطيني من هموم وآلام وأحزان في حياته اليومية. التزمت سميرة عزام بالتعبير عن واقعية القضايا الشعبية وقدّمت محاولاتها الجادة لمعالجة المشاكل التي جرّتها ويلات الحرب على المجتمع الفلسطيني. ففي كتاباتها لم تعالج القاصّة قضية فلسطين وخسارتها فحسب بل عالجت أيضا قضايا الناس العاديين بما فيها قضية التفاوت الطبقي وقضية المرأة والجنس وقضية القومية. وبما أن المشكلة الفلسطينية هي مأساة إنسانية فيوجد تأثير الأحداث الواقعية في أدب سميرة عزّام كما أنها تشير إلى الكفاح من أجل البقاء للفلسطينيين. فركّزت عنايتها على تصوير شخصياتها والصراعات والكوارث التي عاشتها في أسلوب “الواقعية”، إذ قامت بمعالجة القضايا المجتمعية وتسوية المشاكل الاجتماعية في قصصها القصيرة.
نبذة عن سميرة عزّام:
سميرة عزّام هي كاتبة وصِحافية فلسطينية، ولدت في 13 سبتمبر عام 1927م في مدينة عكا في شمال فلسطين لعائلة مسيحية أرثوذكسية وفازت بلقب رائدة القصة القصيرة في فلسطين كما أشار إليها الناقد المصري الشهير، رجاء النقاش، قائلا: “إن سميرة عزام هي أميرة القصة العربية القصيرة”[1]. نشأت وترعرعت في مسقط رأسها وتلقت تعليمها الابتدائي والثانوي فيها. وفي ربيعها السادس عشر، مارست مهنة التعليم. ثم أصبحت مديرة للمدرسة التي كانت تعمل فيها ولكن عندما وقعت النكبة عام 1948م، انتقلت إلى لبنان مع عائلتها. في المنفى، تنقلت بين بغداد وبيروت وقُبْرُص، حيث عملت في التدريس في العراق لمدة عامين. ثم ذهبت إلى بيروت حيث كانت تكتب لمجلة “الأديب والآداب” وغيرها. وفي عام 1952م، عملت بمحطة “الشرق الأدنى” للإذاعة العربية كمذيعة ومحررة وكاتبة في برنامج ركن المرأة متنقلة بين بيروت وقُبْرُص حتى عام 1956م. وظّفت على منصب مراقبة لبرنامج أدبي في العراق لعامين. ثم عادت إلى بيروت من جديد عام 1959م حيث قامت بترجمة عدد من المؤلفات الأمريكية في مؤسسة “فرانكلين الأمريكية” للترجمة والنشر. أصدرت في حياتها أربع مجموعات قصصية وهي: “أشياء صغيرة” (1954م) و”الظّل الكبير” (1956م) و”وقصص أخرى” (1960م) و”الساعة والإنسان” (1963م) التي نالت عنها جائزة أصدقاء الكتاب. وأصدرت لها دار العودة في بيروت مجموعتها الخامسة بعد وفاتها وهي: “العيد من النافذة الغربية” (1971م). شهدت سميرة عزّام الأماكن والتجارب المتنوعة التي عاشتها كمرأة فلسطينية لاجئة وأديبة وصِحافية وناشطة. قدّمت إسهامات كبيرة في الأدب العربي خلال حياتها القصيرة حتى انتقلت إلى جوار ربّها في 8 أغسطس من عام 1967م وهي لم تتجاوز الأربعين من عمرها ولم تعِشْ الظروف الجديدة بعد النكسة 1967عام التي تلت النكبة 1948م.
والمجتمع الفلسطيني الذي تُصوّره سميرة عزام في قصصها قد مرّ بمراحل تاريخية حرجة وتأثر بالتغيرات السياسية. فكانت القصص القصيرة مرآة حقيقية تعكس هذه الأحوال والتغيرات وتعبّر عنها تعبيرا واضحا، وتسرد واقع فلسطين السياسي والاجتماعي والاقتصادي والفكري والثقافي وتبحث عن الكثير من آمال الشعب وآلامه. ويقول الكاتب الفلسطيني، عادل الأُسْطَة: “إذا كان بعض الدارسين قال إن الشعر ديوان العرب، فيمكن أن أقول: إن القصة القصيرة الفلسطينية ديوان الفلسطينيين وقصص سميرة عزام، وغسان كنفاني من بعدها، وغيرهما ممن كتبوا القصة القصيرة ما بين 1948م و1967م، تُعَدُّ ديوان الفلسطينيين بحق، فهي تسجل ما مروا به ما بين تلك الأعوام، وربما ارتدت إلى ما قبلها، بخاصة في المنافي. ولمن يريد أن يعرف معاناتهم قبل النكبة وبعدها، فما عليه إلا أن يعود إلى مجموعات القصاصين ليقرأها”[2].
قضية فلسطين في قصص سميرة عزّام:
القضية الفلسطينية هي من أهم القضايا الأساسية التي اهتمت بها سميرة عزام اهتماما كبيرا وهي أحد الموضوعات التي شغلت بالها كثيرا. فانبرت لسرد الواقع الفلسطيني المأزوم والمأساوي الذي أنهك الشعب الفلسطيني وشرّده وأجلاه عن بيته وأهله ووطنه.
لقد مرت القضية الفلسطينية بمراحل كثيرة، إذ أنّ “قضية فلسطين ليست مجرد مشكلة قومية ، على الصعيد العربي، أو مشكلة اجتماعية، بالنسبة لأبناء فلسطين، وإنما هي مأساة إنسانية عامة، هي مأساة العنصرية، أكبر وصمة عرفها التاريخ الحديث، لذلك أتصور فلسطين دائما نبعا لا ينصب من الأفكار والتجارب التي لا تنتهي”[3].
أفصحت سميرة عزام عن رأيها في القضية الفلسطينية والنزاع العربي الصهيوني في مجلة “صوت المرأة” البيروتية الصادرة في أكتوبر عام 1946م، قائلة:
“ليست القضية الفلسطينية قضية عرب فلسطين وحدهم، بل هي قضية كل قطر عربي يتظلل برأية الجامعة .. فمطامع الصهيونية لا تقتصر على فلسطين فحسب بل لعلها تتمسك بفلسطين كنقطةِ ارتكازٍ تزحف منها على ما يجاورها من بلاد العرب، فتحيك حولها المؤمرات وتدعي فيها حقوقا تاريخية ودينية تعرف كيف تختلقها”.
ونرى في أدب سميرة عزام أن القضية الفلسطينية تحتلّ حيزا وافرا من نتاجها القصصي إذ هي لا تمثّل لديها مأساة شعب فقط بل مأساة أمّة بأكملها، مأساة حصدت الأخضر واليابس، وكارثة كبرى ممّا يَشِيبُ لها الوِلْدان، جعلت من الأم ثَكْلى، والطفل يتيما والزوجة أرملة والعجوز بلا ابن وابنة يتكفّل برعايتها. وفي مجموعة قصصها قصة باسم “الظلّ الكبير”، وهي قصة تؤلم ضمير المرء إذا قرأها ويشعر بيأس وألم وحزن شديد. ففي مدينة القدس، تصوّر الكاتبة منظرا مأساويا ينمّ عن معاناة الشعب العربي الفلسطيني من الاضطهاد والعذاب ..حيث تجلس العجوز (أم عبود) تنتظر (ماري) ابنتها، لكن الابنة لم تأت، فقد مرض زوجها ولم تتمكن من مقابلة والدتها، فتقول الأم العجوز لحامل هذا الخبر: “قبّل رأسها عنّي وقلْ لها على لساني بعد السلام أنني إذا عشت عاما آخر فسآتي إليها زاحفة على قدميَّ .. وإذا عاجلتني رحمة الله، فلن أموت إلا بحسرتين، حسرة بلدي، وحسرة (ماري)”[4]. وهذه القصة من أحسن قصص هذه المجموعة، وفيها مواقف إنسانية مؤلمة، تمكنت القاصّة من إبرازها بلغة عاطفية معبرة.
وبقدر ما نجد في قصصها تصوير آلام الشعب الفلسطيني في ظلّ الاحتلال والظلم والاضطهاد والعدوان الذي يتعرضون له ليل نهار. فبنفس القدر، نجد قصص بطولات الشعب الفلسطيني وصموده أمام العدو واستعداده دائما للتضحية بكل غال ونفيس في سبيل استعادته لوطنه ومجده وكرامته. ففي القصّة “في الطريق إلى برك سليمان”[5]، نرى قصّة نزوح الفلسطينيين من ديارهم تحت وطأة الضغط والإرهاب والقتل. والقصّة تدور حول جانب من حياة مدرس فلسطيني وزوجته وطفله “عمر” وقد رحل من قريته التي حاصرها اليهود. فوقف أهلها في وجه الأعداء يقاومونهم بأسلحتهم البسيطة وذخيرتهم المحدودة. تصف القصّة نزوح المدرس حسن مع زوجته وهو يحمل وحيده الصغير. وفي الطريق، خلال نزوح المدرّس (حسن)، يلعب القدر دوره في القصة. فتصيب شظيّة ولدهما (عمر)، ويشعر الأب بأنّ شيئا حارا يغطي يديه فيتمالك نفسه، ويحث الخُطى مع زوجته تحت وابل من القذائف، وبعد أن ابتعدا، عرف أنه قد فقد إلى جانب بيته وأرضه ووطنه وحيده (عمر). وبعد أن دفنه –وقد أحسّ بعظم المصاب – الوطن، والبيت والمستقبل والولد وأنَّ هؤلاء كلهم ضاعوا في رحلة الضياع والتشرد والبؤس .. طوى على ساعده بطانية صغيرة لزجة، يعلم أنها لم تكن حمراء قبل ساعتين “…إنها صورة الفلسطيني المقاوم الذي يحمل على كاهله أكثر من مصاب مؤلم محزن، وهذا يدلّ على أنّ الكاتبة بدأت تلتفت بصورة قاصدة إلى جوانب من حياة النكبة ..”[6].
تسلط قصص سميرة عزّام الضوء على المصائب والمتاعب التي كانت وليدة الحروب وتلقي الضوء على إدراكها لدورها في مواجهتها والتزامها بالتعبير عن واقعة قضايا شعبها. تتّسم قصص سميرة عزام بمراعاة الذوق الشعبي، إذ يتّخذ عدد منها التاريخ مادة وكانت قد تأثرت بالثورة الفلسطينية وبنظرة جديدة للعالم والتاريخ كما أشار إليه غسّان كنفاني، قائلا: “وقد ظل الأدب الشعبي بعد سقوط فلسطين عام 1948 هو المكان الذي عبر فيه الشعب المغلوب على أمره عن أشواقه”[7].
قضية التفاوت الطبقي وسوء الوضع الاقتصادي:
وهي من أبرز القضايا التي تناولتها القاصة سميرة عزّام، فعندما نستعرض قصصها نلاحظ أنّ الاحتلال قد أدّى إلى تفاقم المشكلات الإنسانية، منها قضية الصراع الطبقي. ونجد أيضا أنّ عددا كبيرا من سكّان فلسطين كانوا يعيشون تحت خط الفقر حيث يواجهون أزمة اقتصادية ومرّت حياتهم بظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية غاية في الشدّة والضيق وعلى الرغم من ذلك امتاز الشعب الفلسطيني بصبره واعتزازه بنفسه وبكرامته بالرغم ممّا عاناه من آلام ومصائب وما تحمّله من معاناة وتشريد.
تصوّر القاصة مشاهدَ الحرمان والبؤس التي تعانيها فئة من أبناء الشعب الفلسطيني. فتحدثت عن مسألة المعاش وتأمين الكفاية الاقتصادية، إذ أنها صورة من صور الصراع لأجل البقاء والوجود، ومحاربة العدو بكل وسيلة متاحة لاستعادة الوطن الذي يحبّه الشعب الفلسطيني ويعشقه ويحنّ إليه. إنّ سميرة عزام تعشق وطنها عشقا يملك عليها زمام نفسها، ترى في جماليات فلسطين جماليات قلّ أن تراها في غيرها، إنه عشق الوطن … ” كان الوقت ربيعا، ربيع فلسطين بحر أزرق تتهادى فيه أشرعة المراكب البيضاء نهارا، وبساتين البرتقال يكثف عبقها الهواء، وفي ربيعه ذلك عرف شيئين، الحبّ والحرب، وكان الأول يعطي معنى للثاني، بل جملة من المعاني، فالحرب ليست عدوا يقتل الشهوة إنما هي حق حياة الأرض التي يحبّ، والفتاة الحزينة التي يحبّ، إنّ فلسطين ليست بحرا ومراكب صيادين، وليست برتقالا يتعلّق كالذهب، وليست زيتونا وزينا يملأ الخوابي … إنها عينا (سعاد) السوداوان أيضا. وفي عينيّ (سعاد) رأى خير فلسطين كله … رأى ظلّ بيت سعيد له، وزوجة تنجب له أبطالا صغارا وتجعل من حبّها معنى لوجوده … وذلك على الرغم مما تعانيه في دواخل نفسها، …”[8].
قضية المرأة:
تحتوي قصص سميرة عزّام على قضية المرأة بقدر كبير حيث قدّمت لنا صورة شاملة عن حياة المرأة الفلسطينية وأشكال معاناتها وفتحت أعين النساء على واقعهن، إذ يقول الأديب والباحث الأردني، الدكتور عيسى الناعوري: “ولعل سميرة عزام خير قاصة عربية تعالج الأقصوصة الأنثوية وتحلل نفسية المرأة وأحاسيسها في أقصوصة فنية بارعة”. وأضافت الأديبة السورية ألفة الإدلبي: ” إن سميرة عزام “رائدة من رائدات القصة في أدبنا النسوي”.
لعبت المرأة الفلسطينية أدوارا رئيسية في تخفيف معاناة أسرتها وبيتها إذ تحمّلت من المشاق والصعوبات والمشاكل ما تجعلها تدفع ثمنا غاليا وهي في كل ذلك تفتخر بنفسها وبتضحياتها إذ أنها تدافع عن وطنها وبيتها وشرفها وشرف وكرامة أمّتها. إنها ساهمت في ميدان المقاومة والتحرير من أجل وطنها وحقها كما لعبت دورا بارزا في مجال الإعلام بتغطية الأحداث وإبراز الوحشية الصهيونية والقمع على أيدي جنود الاحتلال. وكذلك شاركت في ميدان الرعاية الطبية حيث كانت تعاون الجرحى فضلا عن خدمتها في المستشفيات والعيادات ولا ننسى مساهمتها في المظاهرات والمسيرات التي تطالب بحق الشعب الفلسطيني، إضافة إلى حضورها الاجتماعي في مناحي الحياة المختلفة.
أمّا في مجال التضحية والفداء، فدفعت الثمن عاليا من روحها ومن دمها ودم أبنائها. فترسم القاصة صورة للأم الفلسطينية التي تعاني الألم والحزن وهي تودِّع أبناءها الذين لن يعودوا إلى الأبد. ويقول أسامة يوسف شهاب في مقالته بعنوان “المرأة المأزومة في قصص سميرة عزّام”: “تعدّدت نماذج المرأة في أدب سميرة عزّام، وصوّرتها في معظم مجالات الحياة … صديقة حميمة تعاطفت معها، وكشفت عن عوامل ظلمها، ودعت إلى نصرتها، ليس انحيازا منها إلى بنات جنسها، ولكن إيمانا منها بدورها الهام في المجتمع، لقد صوّرت المرأة صاحبة المصائب والمشكلات، المرأة العاشقة المظلومة في حبّها، المرأة الأم التي طردت من وطنها، المرأة الزوجة التي غاب عنها زوجها للدفاع عن وطنه”[9].
ليست المرأة تربي أولادها بطريقة تقليدية فحسب بل هي برعت في مقاومة النفس والجِبلة الإنسانية. وشاركت الحروب مع العدو في صنع امرأة ثورية مكافئة للرجل كما أشارت إليها سميرة عزّام في قصة “خبز الفداء”[10]. تحكي هذه القصة عن حب صغير وحب كبير. جمع بين سعاد ورامز علاقة حب طاهرة ممتزجة بحب الوطن. ترفض سعاد أن تغادر الوطن مع أهلها. تظهر تمسك سعاد بالوطن واعترافها بحب رامز مثل قول رامز لها: “هل فعلتِ هذا بسببي؟”. وانفجرت بوجهه: “لا، ليس بسببك .. صحيح أنني أحبك .. ولكن لستَ كل شيء”. وذات مرة، حينما كانت سعاد تحمل الطعام إلى المقاتلين أصابتها رصاصة. ولكنها استطاعت أن تصل إليهم، غير أن الطعام اختلط بدمها وماتت. فقرّر رامز أن يمنع أصدقائه من أكل هذا الطعام. وتنتهي القصة حين يسقط رامز مغشيا عليه بعد أن يقول لرفقائه: “كلوا … إن سعاد لا ترضى لنا أن نموت جوعا”. وقد بدا لنا أنّ سعاد لم تغادر بلاد فلسطين مع أهلها بل فضّلت أن تسكن فيها وتعمل لصالحها حتى استشهدت لها. فشخصية سعاد ترمز إلى الوطن الجريح، فقد توحدت روحها مع ترابه الطاهر.
تعالج قصص سميرة عزام موضوع المقاومة الفلسطينية عام 1948م، إذ أشار إليه غسّان كنفاني، قائلا: ” ما يميز الأدب المقاوم في فلسطين المحتلة منذ 1948م حتى 1968م هو ظروفه القاسية البالغة الشراسة، التي تحداها وعاشها”[11]. وتتحدث عن ضراوة المعركة وتمتزج بمعاني الحب والبطولة والوطنية. كانت سميرة عزام من أوائل الذين تناولوا في كتاباتهم المرأة ودورها خاصة في مجال النضال. ومن هنا، تبرز الواقعية في قصة سميرة عزّام في القرن العشرين.
بالإضافة إلى تصوير القضية الفلسطينية وقضية المرأة، صوّرت سميرة عزّام أيضا واقع المجتمع الفلسطيني في همومه وآلامه، وأنواع من الظلم والاضطهاد الذي تعرّض له، والصعوبات التي واجهها في حال تشرّده وضياعه. وذكرت هموم وأحزان الشعب الفلسطيني التي هي نتيجة للظروف التي يعيشها منذ فترة طويلة في ظل الاحتلال الصهيوني مما جعلته يعاني شتى ألوان العذاب. وفي مقدمة هذه الهموم هموم اللاجئين الذين لا يجدون الرزق ومحرومون عن حقوقهم. فعبرت سميرة عزام في قصصها عن حياة اللجوء والتشرد وصوَّرت لنا ما يلقاه اللاجئ من تحديات يومية في صراعه مع الفقر والألم والخيبة التي أصبحت واقعا فلسطينيا قاسيا بعد ضياع وطنه.
وقد عالجت الكاتبة سميرة عزام في قصة “فلسطيني” من مجموعة قصصها “الساعة والإنسان” المعاناة وأزمة الهوية التي أحس بها معظم الفلسطينيين عموما، وأولئك الذين لجأوا إلى لبنان خصوصا. فالفلسطيني، بكونه لاجئا، محروم من أبسط الحقوق المدنية ومن حق الوظيفة ومن حرية التنقل ومن جواز السفر ومن نعمة المناداة باسم محدد ومن نعمة الاستقرار وما إلى ذلك.
كتبت سميرة عزام عن لاجئ فلسطيني في لبنان وهو حاول تبديل هُويته. فلجأ إلى تزويرها بهوية لبنانية، كي يتخلص من جنسيته الأصلية. ومع أن اللاجئ الفلسطيني حصل على الهوية اللبنانية، عامل أهل لبنان مع اللاجئ معاملة قاسية. على سبيل المثال، طلب الفلسطيني صاحب الدكان من جاره اللبناني هويته، ليقارن هويته اللبنانية المزورة بها، فيسأله اللبناني: “وما تفعل بهويتي يا فلسطيني؟”. ولا يناديه باسمه. وكذلك في نهاية القصة، أشارت إليه امرأة بـ “فلسطيني”. وتكتب سميرة عزام “وأحس الفلسطيني في وقفته المرتعشة خلف الطاولة بالصوت الممطوط ينفذ من جيب سترته إلى جيبه الداخلي، فيحيل البطاقة إلى مزق صغيرة تخشخش في جيبه”. فأدرك الفلسطيني في نهاية القصة بأن الحل لا يكون عن طريق تبديل الهوية بل عن طريق العمل الذي يوفّر لهويته احتراما لشخصيته. صوّرت سميرة عزام واقع الفلسيني في المنفى بحيث تبرز تمييز الجنسية أيضا في هذه القصة.
تقص قصة “الساعة والإنسان”[12] عن أبي فؤاد الذي كان يوقظ الموظفين في حيفا الذين يسافرون بالقطار حتى يصلوا إلى المحطة قبل موعد مغادرة القطار لأن ابنه فؤاد أصيب بالقتل تحت سكة الحديد حينما كان في السرعة للسفر إلى العمل بالقطار. بهذا السبب كان أبو فؤاد يوقظ جميع العمّال لكي يصلوا إلى المحطة قبل الموعد. وذات يوم، مات أبو فؤاد في سريره ولم يذهب إليهم لإيقاظهم. وإنهم كانوا من المتأخرين. فعرفوا أن أبا فؤاد انتقل إلى جوار ربه. ولكن ساعته ما زالت تتكلم أي ترنّ: تك .. تك .. تك . تثبت شخصية أبي فؤاد في هذه القصة كشخصية رمزية، حيث فؤاد رمز الشهداء ودور والده، هو إنقاذ الناس من مأساة الحياة ونبّههم على الخطر بحيث أن يكملوا كل العمل قبل الوقت المحدد وهذا يشير أيضا إلى أن نستعدّ للآخرة قبل أن يأتينا أجلنا مثل الساعة التي لا تفيده بعد موته. قد أشارت الكاتبة هنا إلى واقعية حياة الإنسانية.
إنّ سميرة عزام رمزت إلى الحنين إلى الوطن من خلال كتابة القصص القصيرة كما صورت لنا حنين أولئك الذين غادروا فلسطين أو حنين أولئك الذين مكثوا فيها واشتاقوا إلى لقاء أهلهم المهاجر. كما نجد في قصة “عام آخر”[13] وقصة “الحاج محمد باع حجته”[14] و”زغاريد”[15].
هذا عن الموضوعات والقضايا التي طرحتها سميرة عزّام وعالجتها في قصصها. أمّا بالنسبة لأسلوبها الكتابي، فنجد أن أسلوبها لا ينفرد بالسرد المباشر فحسب، بل هي قد أدخلت بعض تقنيات السرد الحديثة مثلاً المونولوج الداخلي وأسلوب الرسائل والحواريات. امتاز أسلوبها بتجربتها الأدبية المستمدة من تصوير واقعي للحياة وقد أحسنت في إبراز العديد من مناحي التجربة الإنسانية، ومنها تجارب المرأة المتعددة في الثقافة العربية. وتميّز أسلوبها بالدقة والإيجاز والوضوح والبعد عن العاطفية.
كما يقول الأديب الأردني، د. ناصر الدين الأسد عن أسلوب سميرة عزام: “تعتمد سميرة عزام في قصصها على الحوادث ولا على الحكبة، أو العقدة القصصية، وإنما تستغني عن ذلك بقدرتها الرائعة على التصوير والتحليل، تصوير جو القصة بأجزائه الدقيقة وتفصيلاته الخفية، وإحاطته بإطار فني واقعي، يشوق القارئ بصدقه وبساطته، وتحليل النفس الإنسانية تحليلا يستخرج أعمق مكوناتها وأدق خفاياها وقد نجحت سميرة عزام في أن تجعل شخوص قصصها نماذج حية نابضة، يخيل للإنسان أنها تجالسه وتحادثه..”[16].
ومن خلال هذه الدراسة الموجزة، توصلنا إلى أن سميرة عزام برزت ككاتبة كبيرة من بين كتّاب الواقعية في الأدب العربي من خلال إنتاجاتها في فن القصة القصيرة الفلسطينية وخلّفت لنا مجموعات قصصية رائعة زاخرة بالأحداث التي وقعت في مجتمعها وتناولت فيها الحقائق الاجتماعية والإنسانية والوطنية وعبّرت عنها في قالب قصصي جميل وعالجت في قصصها أحوال الفقر والبؤس والحياة الإنسانية في المجتمع الفلسطيني وذلك كله بلغة موحية جميلة وأسلوب شيّق عذوب.
والجدير بالذكر أنّ سميرة عزّام “لم تأخذ من اللغة إلا ما ينسجم مع الشخصية القصصية، فتصير عندئذ صدى لإحساس الناس ومشاعرهم بكل حرارتها وتوهجها، بخيباتها وانتصاراتها، تنقل الحياة بحلوها ومرها، بمنغصاتها ومسرّاتها الصغيرة والكبيرة، وهذا ما أعطى لقصصها نكهة خاصة، تفصح عن قاصّة تجيد فن القصة، وتبدع فيه، ويتجلى هذا الإبداع في المجاميع القصصية المتتالية، التي تُمثِّل مرحلة البدايات والريادة في مجال الأدب القصصي العربي الفلسطيني”[17].
المصادر والمراجع
. الأمانة العامة، دمشق، ودار آفاق للدراسات والنشر، نيقوسيا، قبرص، 1985م.[1]
. سميرة عزام .. أربعون عاما من الرحيل لعادل الأسطة، ص: 3.[2]
. شعرنا الحديث إلى أين لغالي شكري، ص:81.[3]
. الظلّ الكبير لسميرة عزّام، ص: 61، صورة الفلسطيني في القصة الفلسطينية لأبي الشباب، ص: 76-76.[4]
. من مجموعة “وقصص أخرى” لسميرة عزّام. [5]
. صورة الفلسطيني في القصة الفلسطينية لأبي الشباب، ص: 78-79. [6]
. أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 1948-1966 لغسّان كنفاني،ج1، ص: 15. [7]
. قصة “خبز الفداء من مجموعة “وقصص أخرى” لسميرة عزّام، ص:83. [8]
. المرأة المأزومة في قصص سميرة عزّام لأسامة يوسف شهاب، ص: 305.[9]
. “خبز الفداء” من مجموعة “”وقصص أخرى” لسميرة عزام، ص: 73-93.[10]
. الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948م-1968م لغسان كنفاني، ج2، ص: 10.[11]
. مجموعة “الساعة والإنسان” لسميرة عزام.[12]
. مجموعة “الظل الكبير” لسميرة عزام، ص:67-77. [13]
. المصدر السابق، ص: 47-54. [15]
. نقلا عن مجلة الهلال، عدد خاص بالقصة القصيرة، آن 1970م.[16]
. المرأة المأزومة في قصص سميرة عزّام لأسامة يوسف شهاب، ص: 302. [17]
* الباحثة في الدكتوراه – جامعة جواهرلال نهرو، نيودلهي، الهند
Leave a Reply