حدّثنا خالد بن سلام قال لمّا وصلت إلى مدينة على جراه في إحدى زياراتى، وقد غلبنى الشوق وملكنى كل مشاعرى وإحساساتى. وهل لأحد من سبيل غير إرواء غلّ الشوق، كما يغلّ عطشهم أهل العلم والذوق. وكلما يذكر اسم مدينة على جراه، يتبادر إلى الذهن بالتوّ أحداث الماضى وكل ما أحدثه القدر و أجراه. وقد نشأت في أرضها حركة سياسية وثقافية قويّة تعرف ب” حركة على جراه”، والتى كان لها أثر قويّ بين الناس من ذوى الأثر وذوى الجاه. وقد نشأ بها وترعرع في أحضانها رجال العلم والأدب، والذين نقعوا غلّتهم من معينها الذى لا ينضب، فقدموا إنجازات لا تضاهيها الفضّة ولا الذهب.
قال خالد بن سلام قد سمعت كل هذا من رجل كان عنها خبيرا، كان طالبا ثم أصبح محاضرا وعالما نحريرا. وقد طلبت منه أن يفصّل في الكلام ويزيد، وألححت عليه هل من مزيد؟ فأرخى الرجل العنان لكلامه، وألقى الكلام على رسيلاته، وألقى الرجل الحديث على عواهنه، ووجدت اللغة له أطوع من بنانه. ففاض الحديث من لسانه، وبدأ يتناثر الدرر من كلامه وبيانه. وقال لقد مضى الدهر وحدث تغير في حالها، لكن بقيت دار لقمان على حالها. وكم أراد أعداء جامعة على جراه أن ينالوها بسوء مكرهم وشرورهم، فوجدوا مكرهم ردّت في نحورهم. وكم حاولوا أن يجعلوها ميدانا للفتنة والقتال، لكن أصحاب الخير فيها صمدوا لها بشجاعة وحفظوها من النضال. النضال فيها نضال ضد الظلم والاضطهاد، والدعوة فيها دعوة إلى نزع الفساد والاستبداد. ثم أنشد:
جامعة شهيرة فى جميع الأنام
أهلها يسلكون طريق السلام
نبذوا الجهل والبغى والفساد
وكشفوا عن الناس سحب الظلام
ودعوا إلى ترك الفرقة والاقتتال
ونادوا إلى الوحدة والوئام
أناروا للناس الطريق السوى
وبيّنوا الحق فى أحسن الكلام
وكسبوا بذلك ودّ الرجال
فبدأ الكل يضرب لهم بسلام
ومضى بن سلام يحدّث وفى الكلام يكثر، ولم يضن علىّ بحديث يعلمه فيخفيه أو يقصّر. ثم رأيته فجأة يطرق إطراقا غير قصير، كأنه أرتجّ عليه في كلامه فيحسّ فيه بمرير. ولم أكن قد أحسست في الرجل حتى الآن عيّا ولا فهاهة، فكيف له أن يصبر على ذلك ولا يجد فيه غضاضة. لكن ذلك كان للرجل طريقة للخوض في التفكير، ليأتى بعد ذلك بحديث غاية في التدبير. وبعد وقت نهض رأسه وقال ياأخى! حدث كل ذلك بجهود رجل وحيد، كان مؤسسة في عهده وفى الزمان فريد، رأى زوال أمته وانفراط عقدها، وشاهد تشتّت كلمتها في الهند وانشقاق عصاها. وحدثت في عهد حياته أحداث جسام، وقد تداعت الأمم على الأمة المسلمة كما يتداعى إلى القصعة الأكلة اللئام. وحدثت ثورة 1857 فذاق المسلمون على أيدى الإنجليز اللهب والنيران، وكانت من أفجع الفواجع ممّا يشيب لها الولدان. فخارت قوى الأمّة وطاشت عقولها، وتبعثرت حالها بعد أن قتل فحولها. اللهم إلا بصيص من الأمل كان باقيا، وما قدّره الله فقد كان ماضيا.
وقد حاول هذا الرجل الكبير إصلاح أوضاع المسلمين، وعاونه في ذلك رجال من أصحابه القادرين. فمضوا في عملهم يواصلون الليل با لنهار، وقطعوا في ذلك أشواطا بعيدة في الأسفار، والتقوا بالنبلاء والأخيار. فتمخضت مجهوداتهم عن إنشاء مدرسة في البداية، والتى تطوّرت فصارت جامعة في النهاية. فتوجت مساعى الرجل بجامعة تدرّ خيرا للأمّة، وقد انقشعت بعض سحب الجهالة وانجابت الغمّة.
وهذا الرجل العبقريّ كما أنتم تعرفون هو سرسيّد أحمد خان، والذى له سمعة طيّبة وأجلّ شأن. وقد اتّهمه بعض الناس وقذفوه ببهتان. ادّعوا هؤلاء بأن الرجل صاحب الانكليز الأعداء، كى يكسب له مكاسب ولم يعتبرهم في طريق السعادة العقبة الكأداء. والحقّ أن هذا القول لهو بهتان عظيم، وما يأتى بذلك إلا من هو فاجر أثيم. فإن الرجل كان يضمر الخير لجميع الهنود، ويكنّ المحبّة للجميع السمر منهم والسود، وقد محضهم الحبّ والإخلاص مما ينفسه عليهما الحسود، ويبغضه لذلك العدو اللدود. اللهم إلا أن الرجل لم يكن معصوما من بعض الأخطاء، ومن منّا يستطيع أن يدّعى بأن نفسه خالية من الميول والأهواء في بعض الآراء. وممّا يؤخذ على الرجل أنه أساء فهم بعض الآثار، فأخطأ في تفسيرها ووقع في زلّة وعثار.
ونحن بهذا لا نريد أن نبخس قدر الرجل فننال من شخصيته الكريمة، ولا نريد بهذا القول التشهير به ولا المسّ من مكانته العظيمة. وإنما غرضنا بهذا إفادة القرّاء، بحقيقة الأمر من غير أن نتخذ فى ذلك طريقا نكراء. ونحن إذ نذكر أمره، ونبيّن شأنه. ندعو للرجل الغفران، من الخالق الرحمان. ورحمة ربّنا الغفور واسعة وسارية، ونرجو أن يشفع للرجل ما ترك وراءه من صدقات جارية. فاللهم اغفر له وارحمه وأحسن مثواه، وأدخله فسيح جناتك وضاعف له ثوابه. فإنك أنت الغفور الكريم، وبعبادك أنت الرءوف الرّحيم.
*الباحث في الدكتوراه، بمركز الدراسات العربية والإفريقية، جامعة جواهرلال نهرو، نيو دهلي.
Leave a Reply