+91 98 999 407 04
aqlamalhind@gmail.com

القائمة‎

شقة الحرية ومكانتها في الأدب العربي الحديث
*محمد ميكائيل بن نوشاد علي

إن هذه الرواية معروفة بـ “شقة الحرية” (بكسر الشين المعجمة أو بفتحها) وعنوانها يدل على ما تحتوي عليه من معان وأفكار، وهذا الأمر لاينطبق على كل الروايات الموجودة بين أيدينا حيث أن عنوان الرواية يدل على مضمونها ولكنه صحيح مائة في المائة بالنسبة لهذه الرواية، الحرية بمعناها العام والشامل مطلب هذه الرواية و خلاصتها و محورها وهي دعوة صارخة إلى الحرية من التقاليد البالية والتزمت العنيف والأحكام والأعراف القديمة التي كانت الأمة العربية مشدودة ومكبولة بها من حقبة تاريخية ممتدة، والحرية التي دعا ِإليها الدكتور غازي القصيبي عبر هذه الرواية الشهيرة هي حرية الرأي والفكر والحرية الفردية والاجتماعية، والاستقلال الحكومي ودمقرطة النظام البيروقراطي، وحرية المؤسسات المختلفة التي تدعم الديموقراطية وتعمل لأجلها، والجدير بالذكر أن الحرية المنشودة في الرواية هي الحرية الغربية والأوربية وليست الحرية الإسلامية، مع أن فؤاد “الشخصية الرئيسية (Main Character) في الرواية يحاول إيجاد التوفيق بين القومية العربية والإسلام وبين الاشتراكية والإسلام ولكنه يخيب ويفشل.

وشخصيات هذه الرواية رغم نوازعها المختلفة للحرية تؤمن بالإسلام وقوته وتفتخر دوما بالانتماء إليه إلا أنها لا ترى دورها الكامل في النظام الحكومي والاقتصادي والسياسي وتتبني فكرة حصر الإسلام في حدود الأمور الشخصية للأفراد كما هي الظاهرة الآن لدى المتنورين المزعومين الذين يدّعون بالإسلام ويؤكد على ما قلناه هذا المقتطف من الرواية  عندما يظهر يعقوب آرائه الدينية أمام رفيقه الشيوعي الأستاذ سين قائلا: “سوف أخبرك بكل ما يدور في رأسي حول الدين. أنا شيوعي وسوف أظل شيوعيا حتى ِأموت. ومع هذا، فأنا لا أستطيع أن اتنكر لنشأتي وتربيتي. لقد ولدت مسلما، ورضعت الإسلام مع الحليب، ولايمكن أن أتخلص من هذا الجزء من نفسي. أتعرف لماذا اعتنقت الشيوعية؟ اعتنقتها بحثا عن الحرية. وصلت إلى الماركسية بعد مراحل فكرية عديدة، وكنت في كل مرحلة أبحث عن المذهب الذي يحمي حرية الإنسان. ثم اكتشف أنه لايمكن أن توجد حرية حقيقية إلا في ظل الشيوعية. إذا أردت أن أصلي فسوف أصلي. وإذا أردت أن أصوم فسوف أصوم. إذا قررت أن أكون ماركسيا مسلما فسوف أكون ماركسيا مسلما. هل تفهمني؟ أريد أن يكون موقفي من الدين نابعا من اقتناعي، ومن اقتناعي وحده.[1]“.

هذا والمقتطف الثاني من نفس الرواية وهو أن عبد الرؤوف (إحدى الشخصيات في الرواية) يقول لـ فؤاد إني لا أؤمن بالاشتراكية لأني أؤمن بالإسلام فيقول فؤاد: “ما علاقة هذه بذلك؟ الإسلام دين والاشتراكية مذهب اقتصادي.

عبد الرؤوف: الإسلام منهج متكامل. رؤية شاملة تنتظم كل شيئ. شؤون الاقتصاد وشؤون السياسية والسلوك الشخصي والعبادات. لايمكن أن تنتقي من هنا وهناك مباديء ونظريات. إما أن تكون مسلما أو تكون اشتراكيا.

فيقول فؤاد لـ عبد الرؤوف: رؤوف، هذه نظرة رجعية. لم أكن أعرف أنك تعتنق مثل هذه الأفكار من قبل.[2]“. فتجلى لنا أبعاد الحرية التي تضمنتها الرواية.

هذا وأن جميع الشخصيات الرئيسية والفرعية ماعدا ماجد وعبد الرؤوف، يتلذذون بالمغامرة الجنسية ويشربون البيرة والشمبائن ويدخنون السيجارة والسيكارة بل ويتعاملون مع البنات التي يبعن أجسادهن لقاء الأجور، ويفعلون كل ذلك من باب الاحتفال بالحرية كما تشير الرواية إليها[3]. هذا يظهر مفهوم الحرية في هذه الرواية.

أما قصة هذه الرواية فتدور أحداثها في عهد جمال عبد الناصر قبل الوحدة العربية بسنة وتنتهي في عام انفصال الوحدة أي في نهاية عام ألف وتسعمائة وواحد وستين الميلادي (1961م). وهذا هو العهد الزاخر بالأيدولوجيات النتظيمات والأحزاب والعهد الحافل بجهابذة الأدب العربي وقادة الثورة وكان العالم يشهد فيه النقلة الحضارية الواسعة وكل هذا أثر في جعل قصة هذه الرواية ممتعة وشيقة وحقا أنها تشد القراء بجمالها الآسر وحبكتها الروائية الممتازة والقصة هي قصة بعض الطلاب الجامعيين الذين غادروا بلادهم إلى القاهرة لحصول التعليم النوعي والممتاز في مصر، وقد كانت موئل طلاب البلاد العربية ومركزها التعليمي المفضل حينذاك، وذلك بوجود مدارس وجامعات متميزة أنشئت في مصر بعد النهضة الحديثة التي بدأت عام ألف وسبعمائة وثمانية وتسعين الميلادي (1798م) بغزو نابليون بونابرت على مصر، وتبدأ النهضة التعليمية بالتحديد في مصر في عهد محمد على ورقاها ونماها اسماعيل الأول والثاني[4]. والحكومات التي جاءت بعدها لم تتغاض عن دور التعليم، ولذا نجد هناك أرقى الجامعات العربية من مثل جامعة القاهرة، وجامعة الاسكندرية وجامعة عين شمس وغيرها، وكان يدرس فيها الأساتذة الغربيون والاساتذة العرب الذين تعلموا ودرسوا في أشهر الجامعات الأوربية، ولذا أصبحت مصر محط انظار جميع البلاد العربية والإسلامية، والمجموعة الطلابية التي تحدث عنها الدكتور غازي القصيبي هم من البحرين وهي بلدة صغيرة في خريطة الدول الخليجية، وحزموا حقائبهم إلى مصر في ستينات من القرن العشرين الميلادي لحصول التعليم، وقد كانوا سمعوا عن مصر ودرسوا عنها في الكتب والروايات لعباقرتها من مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وعباس محمود العقاد وإحسان عبد القدوس ويوسف إدريس وغيرهم، فأعجبوا بما سمعوا و درسوا عن الحياة المصرية والحرية المتواجدة فيها، والأفكار والنظريات التي كانت توجد فيها، فرأوا أن يعيشوا في مصر ويتلذذوا بحرياتها ولذا استأجروا شقة قرب الجامعة وسموها بالاتفاق، بعد أن اختلفوا في التسمية، بـ “شقة الحرية” ولاحظوا هذا المقتبس من الرواية:

“”في صبيحة 10 مارس 1958م انتقل الفرسان الأربعة إلى الشقة رقم 6، في الدور الثالث من العمارة التي تقع في منتصف شارع الدرّي. كان أول قرار ينتظرهم هو اسم الشقة. وتعددت المقترحات:

– الرفاع.

– الحدّ.

– العروبة.

قال قاسم بمرارة:

– كل شئي هنا الآن اسمه “نصر”، سموها “شقة نصر” وارتاحوا. أوشك الباقون أن يوافقوا نكاية في قاسم، إلاّ أن يعقوب اعترض:

– لا! الحرية! جئنا هنا لممارسة حريتنا. سوف نسميها “شقة الحرية”.

ووفق على الاسم يالاجماع.[5]“.

وهذا يظهر تطلع هذه الثلة من الشباب إلى الحرية، والجدير بالذكر لكل واحد من هؤلآء الشبان شخصيته المستقلة وتفكيره ومغامراته ولكن تجمعهم كلهم شقة الحرية بعض الهموم المشتركة التي منها ما يتعلق بالتحصيل والدراسة ومنها يتعلق بالسياسة وأكثرها يحوم حول الجنس والحب فـفؤاد، الراوي والبطل في الرواية يتنمي إلى القومية والبعث والحزب القومي، ويجرب كل هذه الأفكار ويزنها بالمقايس العقلية والنقلية ويوازنها بالإسلام ولكنه يتخلى عنها جميعها في آخر الرواية وبعد تجارب متعددة. ومع أنه لم يزل متشبثا بالفكر الناصري أي فكرة جمال عبد الناصر ويتحاج مع أصدقائه ورفقائه لتثبيت هذه الفكرة، وكثيرا ما يردد اسم جمال عبد الناصر، ولكنه يتخلى عنه في آخر الرواية عند ما يبلغه الخبر عن فشل الوحدة العربية وتهاون جمال عبد الناصر في ذلك.

أما قاسم فهو من أسرة تنتمي إلى فئة البورجوازيين الجدد وكان لايؤمن بالاشتراكية ولا بالقومية ولا بشعارات عبد الناصر بل كان يحب الفكرة الرأسمالية كما يقول عنه راوي القصة فؤاد “أما هو فيعرف طريقة، يعرف الأولوية الوحيدة الحقيقية في هذا العالم. الشيئ الذي يعشقه الكبار والصغار. الذكور والإناث (خصوصا الإناث!). الراسماليون والشيوعيون. الحكام والمحكومون. المؤمنون والملحدون. الشيئ الوحيد الذي لا يحتاج إلى نظريات أو شعارات أو هتافات. الحقيقة الأساسية في الحياة: “البيزات”![6]“.

أما يعقوب فيبدو متذبذبا بين الوجودية والفرويدية ثم ينتهي بالانتماء إلى الحزب الشيوعي فيقفل ثم يطلق سراحه وينفي من مصر إلى بيروت ولكن كمال جنبلاط، رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي الراحل يتوسط له عند جمال عبد الناصر فيرجع إلى القاهرة لإكمال دراسة ويتوب من فعلته، وشخصية يعقوب في الرواية شخصية علمية لايزال يعرض أقوال كارل ماركس و سيجموند فرويد وغيرهما من المفكرين الغربيين لمعالجة وتحليل كل القضايا الواردة عليه ولايكف عن الكلام البذئ والتصريح الجنسي المكشوف في ذلك، يغامر المغامرات الجنسية مع الفتيات والعجائز وكل نوع من البنات محتسبا أنه يعمل على الموقف الوجودي الغربي.

وعبد الكريم شيعي يحاول التأقلم مع أهل السنة وقد بين الدكتور غازي القصيبي مشكلة الشيعة والسنة في البحرين خصوصا وفي العالم العربي عموما خلال هذه الشخصية (character) وتكلم عن أبعاد هذه المشكلة وعمق جذورها والخلافات بينها وبين السنة، وهو يقع في حب بنت مصرية سنية وعند ما يعلمه أبوه ذلك، يستنكر على هذا الزواج ويهدد ابنه بالبراءة منه. أما ماجد فينتمي إلى الحزب القومي الذي كان مقره الشام وزعيمه جورج حبش وبعض القوميين الآخرين ومنهم غسان كنفاني وهناك شخصيات آخرى مثل عبد الرؤوف ونشأت فينتمي الأول إلى الإخوان المسلمين وينتمي الثاني إلى الطبقة البورجوازية التي لاتدين بشيئ مثل زميله البحريني قاسم، وينضم إلى الدولة ويصبح مفوضا.

هكذا نرى أن غازي القصيبي أراد أن يوزّع هؤلاء الشبان على كافة النزعات والاتجاهات والطبقات التي كانت سائدة في مصر وبعض البلدان العربية في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات الميلادية. وهو يقتدي في ذلك، فيما يبدو، بثلاثية نجيب محفوظ التي تحكي عن فترة سابقة. وهو أضفى هذا التنوع في الاتجاهات والانتماءات السياسية الكثير من الحركة والحيوية. ولكن هذه الشخصيات الشابة لا تهمها السياسية فحسب، بل لابد أن تمتزج كذلك بدقات القلوب وإغراءات الجسد. لذلك، فإن لكل واحد منهم تجارب حب ومغامرات مثيرة لابد أن تسجل وتروي بكل صراحة وصدق. ونلاحظ أن أحداث الرواية جميعها تسرد عن طريق الراوي العليم الذي يعرف ما يدور ويتدسس إلى نفسية كل شخصية من هذه الشخصيات، معبرا عن أفكارها وموافقها تجاه الأزمات وكافة المناسبات.[7]“.

وقد ضمنت الرواية قضايا عديدة شائعة في ذلك العصر، وتناول الد كتور القصيبي معظم القضايا المعاصرة وتحدث عنها في روايته، كما لم يدع أهم الاتجاهات الفكرية التي تسود العالم العربي بل والعالم كله في ذلك الوقت، من مثل الشيوعية والاشتراكية والرأسمالية والوجودية والبعثية والماركسية وحركة إخوان المسلمين والقومية العربية والتنظيمات الأخرى. إنه جعل شخصيات روايته ممثلا لتلك الاتجاهات المختلفة وبين ما فيها من ضعف وانفكاك وعدم صلاحياتها لحل قضايا العالم العربي والإسلامي ولم يصل الكاتب والروائي القدير الدكتور غازي القصيبي إلى نتيجة حتمية في روايته تجاه أية نظرية وفكرة وبعد بيان مالها وعليها والنقاش الحاد حولها عبر لسان شخصياته، ترك القاري أن يعمق وينظر في قضية الحرية، فنهاية هذه الرواية نهاية مفتوحة كما قلنا سابقا.

ولا يسعني إلا أن نعترف أن الدكتور القصيبي صور تصويرا رائعا الثورات والانقلابات وصور جدية أصحابها حتى أنهم كانوا يضحون مصالحهم الشخصية لأجل الفكرة الثورية التي ينتمون إليها، كما فعلت سعاد صديقة فؤاد التي كانت منضمة بالحزب البعثية. إنها فضلت الالتزام بالفكرة البعثية على الصداقة مع فؤاد بعد أن ما جرى بينهما من الحب والغرام، وكذلك التزم يعقوب بالمبدأ الشيوعي وعمل لأجله حتى أنه ألقى نفسه في غياهب السجن ونفي من مصر، وقد كان يعمل عمله الثوري على حساب الدراسة، وبالتالي فشل في الامتحان النهائي. و ينتابنا شعور عجيب من الفرح والقلق ومشاعر عميقة التأثر بعد دراسة روايته، ربما نفكر ما أحلى زمن الثورات! وحينا نتصور ماأتعس زمن الانقلابات ! وتارة أخرى نجد أنفسنا في متاهات لا يتبين لنا الصواب من الخطا والخطأ من الصواب….. وحقا إن زمن الثورات وعصر الصراع الفكري زمن عجيب. وقد أحسن الروائي القدير الدكتور غازي القصيبي تحليل هذا الزمن في روايته، ولذا تضم الرواية قضايا عديدة لا حصر لها وأفكارا متنوعةلا يمكن لدارس ومحلل أن يحدد الفكرة الرئيسية التي تدور حولها الرواية، لأن الرواية بحر واسع للأفكار العديدة ومع ذلك يمكننا القول أن الفكرة الرئيسية التي تدور حولها رواية “شقة الحرية” هي الحرية بنفسها بمعناها العام والشامل ومدلولها العربي والغربي فهذه الرواية بمثابةدستور الحرية للبلاد العربية، وهؤلاء الشباب المتطلعين إلى الحرية أعني بها شخصيات هذه الرواية عند ما صاغوا دستور شقة الحرية التي كانوا يسكنونها فكانت مادته الأولى:

“شقة الحرية جزء لا يتجزأ من الأمة العربية، يسكنها بصفة أصلية كل من عبد الكريم الشيخ ويعقوب الحدّي وقاسم صدفي وفؤاد الطارف وبصفة فرعية كل من عبد الرؤوف بحيري ونشأت محرم وهي شقة ذات سيادة واستقلال، تقوم على مبادئ المساواة والعدل والديموقراطية، وتؤخذ القر ارات بالأغلبية، ويجوز لأي عضو طرح أي موضوع للنقاش[8]“.

إن شقة الحرية مساحة فكرية نقل فيها الدكتور غازي القصيبي من الغزل والسياسية والتجارب إلى ذاك المناخ الثقافي والفني الغني والأمور العديدة لها صلة بالفرد والمجتمع للتمتع بالحرية كما أنه متعنا برسائله وقصصه والحوار الأدبي مع أعلام الأدب العربي من مثل نجيب محفوظ وعباس محمود العقاد والدكتور طه حسين وأنيس منصور، حقا أن شقة الحرية أفاق رحبة لأفكار غزيرة ومفاهيم عديدة وهي خيال جوال في التاريخ، في السياسية، في العلاقات الإنسانية الروحية والجسدية وفي كل شئ. وفكرة هذه الرواية أشبه ما تكون سلة من الفواكه المختلفة، كل فاكهة تمثل تيارافكريا يختلف ويتصادم مع تيار آخر وهي تصور حقبة من الالتهاب الفكري في العالم العربي ما بين ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين و ألف تسعمائة  وسبعة وستين الميلادي (1948م-1967م) ولاسيما ما بين الستينات والستعينات.

مكانتها في الأدب العربي الحديث

مما لاشك فيه أن رواية “شقة الحرية” تحتل مكانة مرموقة فيما بين الروايات، وقد كثر الحديث عنها وتناولها بعض الأدباء والنقاد بالتحليل وأعجبوا بها وفتن الجيل المعاصر بها افتنانا ولاسيما الشباب الجامعي، ولو كتبنا في محركات البحث الانترنتية اسم هذه الرواية لتظهر عدة النتائج وتعليقات عديدة من القراء، وأكثر التعليقات تحبذ بالمؤلف وروايته وتقررها من أفضل الروايات وأمتعها أسلوبا وأقربها إلى الطبع وأسهلها لفظا، غير أن أحدا من المعلقين لم يمدحها باعتبار نضجها الفني ولم يفضلها أحد على روائع الروايات العربية التي كتبها عباقرة هذا الفن من أمثال محمد حسين هيكل وتوفيق الحكيم وإحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ وأمثالهم، إلا أن هذه التعليقات لم تؤخذ بالاعتبار لإثبات تفوق هذه الرواية لأنها صدرت من القراء العاديين دون المتخصصين في الأدب العربي. وها أنا أنقل بعض أقوال أساتذة الأدب العربي حول هذه الرواية وقد أدرجها الدكتور غازي عبد الرحمن القصيبي في الصفحة الأخيرة للطبعة الخامسة للرواية ومنها:

قال الدكتور محمد جابر الأنصاري: “اقرأوا هذه القصة مباشرة دون واسطة النقاد وبعيون واعية يقظة وحاسة نقدية عفوية من جانبكم لتميزوا فيها بين صحيح الحياة العربية وباطلها، فهي سجل حافل بهذا كله.”[9]. وقال أيضا “إنها هدية الخليج والجزيرة العربية إلى الثقافة العربية في الوطن العربي الكبير للعام الجديد 1994م بل لعام ألفين.”[10]. وعلق عليها الأستاذ جهاد فاضل: “حبكة متقنة وسرد مشوق وسلاسة في الأداء ونضرة في القالب وإشراق في التركيب وبساطة في التعبير كأنه خبير قديم في الصناعة الروائية الخالصة….”[11].

وهذه الأقوال تبرز مكانة هذه الرواية وأهميتها البالغة بكونها إحدى الروايات العربية المتميزة. وأهم ما تتميز بها الرواية هو عنصر التشويق والإثارة فلم يعد لقارئ بدأ دراستها إلا أن ينتهي منها في غضون أيام وقد قرأت بنفسي هذه الرواية التي تحتوي على ما فوق أربعمائة وستين صفحة في يومين فقط، أنها تشد القراء بحبال سحرها وسلاسة عباراتها وجاذبية معانيها. حبكتها متواصلة متراصة وحدثها ينمو نموا فنيا من نقطة إلى أخرى ويتطور ويتحرك داخل الإطار القصصي وتشارك القارئ في تخيل مسار القضية القصصية فيبدأ القارئ يعوم في أجواءها ويغوص في أعماق قضاياها ولايستطيع الخروج منها إلا إذا أنهكته قواه، والكاتب الدكتور غازي عبد الرحمن القصيبي شكل ملامح روايته على طور يمكن أن يستمتع بها القارئ العادي والقارئ الإيجابي الواعي معا، أنها أثارت قضايا عامة عادية وقضايا خاصة تستلفت أنظار وجهاء الفكر وأعلام البصيرة وعالجت كلا النوعين من القضايا وبذلك أصبحت هذه الرواية متعة لكلا النوعين من القراء العوام والخواص.

إن هذه الرواية لم تحظ بجائزة  الروايات  العربية المتميزة كما حظيت الروايات المعاصرة الأخرى، ولم تعد من بين الروايات العالمية الممتازة ولكنها تشكل علامة بارزة في خضم الروايات العربية الحديثة وذلك مما يلي:

  • إن رواية “شقة الحرية” تتميز بقصتها المنفردة الشيقة وهي قصة شبه الحقيقة تصور أحوال العالم العربي ومتغيراتها التي طرأت عليه في فترة زمنية خاصة.
  • تتميز الرواية بشخصياتها الحيوية ومتعددة الملامح ومركبة الأبعاد، والراوي والبطل لهذه الرواية فؤاد أصبح من الشخصيات الروائية المعروفة، يمثل به في الكلام مثل شخصية أحمد عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ.
  • تعالج الرواية الأفكار السياسية والنظريات الحديثة من مثل الماركسية والشيوعية والرأسمالية وغيرها، وذلك بنظرة نقدية وتحليلية وهزلية وجدلية، ولم يتناوله أحد مثل هذا التناول من قبل.
  • تعكس الرواية تحولات الحياة العربية بكل دقة ويعمق في تصوير الأحداث وبلورة القضايا تعميقا كأنها الصورة الكاريكاتورية المتمثلة في ثوب الألفاظ أم اللقطات التي تم التقاطها بعين الكاميرا الشفافة وتتبلور لنا قصة زمن بعد قراءة هذه الرواية ويخيل إلينا أننا نرى مسلسلا تلفزيا تتجسد فيه الشخصيات، وملخص القول أنها في غاية الوضوح في البيان.
  • أحسن الكاتب في استخدام آليات القص الناضج من السرد والحوار والمونولوج الداخلي والتناص الروائي وغيرها، ومن حيث الجوانب الفنية تخلو الرواية من زلات وهنات اللهم إلا البعض وذلك مقتضى الطبيعة البشرية.
  • إن صاحب هذه الرواية شاعر موهوب أصيل وهو مشهور بشعره أكثر من روايته، كما يقال عن الشعراء إنهم يدركون الأمور بإحساسهم ما لا يدركها الأخرون، ولذا نرى أن الرواية تمتلئ بالنكات والنقاط اللتين تفوقان مخيلة القارئ والدارس العام، فالكاتب ربما يعبث وتارة يقول قول الحكيم وقد لمسنا اثناء دراسة هذه الرواية أنه هو شاعر بانفعالاته وقاص بارع بحبكته القصصية وروائي ممتاز بتحكمه في الأدوات الفنية للرواية.
  • تحدث الكاتب في روايته عن الإسلام وأورد الآيات القرآنية وساق الأحاديث النبوية لتوضيح موقفه وتثبيت رأيه وفكره، وهذا المنحى جديد في الرواية الحديثة.
  • هذه الرواية مثال فريد للواقعية الحديثة، وأنصف الكاتب مع الواقع في أغلب الأحوال وصوره كما هو أو كما تراه مخيلته الروائية، والعرض عرض علمي خال من التعصب ومنزه من التطرف والمحاباة.

هذه الأسباب التي لمسناها أثناء دراسة هذه الرواية تدل على أن هذه الرواية من أحسن الروايات وأفضلها التي أنجبتها قرائح الأدباء العرب وإن لم تكن من أحسنها على الإطلاق، ولم نعثر بعد التحري الدقيق والاستقراء على قول ناقد عربي حدد مكانة هذه الرواية، وقد عثرنا على بعض المقالات المنشورة في صفحات الويب وبطون الكتب وقد تناولت هذه المقالات رواية “شقة الحرية” تناولا بسيطا، فنرى الدكتور حسن بن حجاب الحازمي في كتابه القيم “البناء الفني في الرواية السعودية” يردد ذكر هذه الرواية في مواضع عديدة ولكنه لايبسط القول حولها حتى في موضع واحد، وأدرج المؤلفون الذين جمعوا الأعمال الروائية والقصصية جميعا هذه الرواية في مجموعاتهم وموسوعاتهم واكتفوا بالإشارة إلى الفكرة الرئيسية لهذه الرواية دون التعمق والتفصيل في مزاياها ونقائصها وايجابياتها وسلبياتها،  مع أنها كانت جديرة بها، والذين كتبوا حول الروايات الخليجية خاصة اعتنوا بهذه الرواية أيما اعتناء وجعلوا “شقة الحرية” من الروايات البارزة التي كتبت في دول الخليج، واكتفى بعض الكتاب قائلا بأن هذه الرواية من أحسن الروايات السعودية أو الخليجية، أو قالوا إن هذه الرواية من أحسن ما أنتجها الدكتور غازي عبد الرحمن القصيبي.

وخلاصة القول لم يحدد أحد من نقاد العرب البارزين مكانتها في الروايات العربية الحديثة اللهم إلا بعض كتاب المقال ومنهم الدكتور أحمد عبد الملك، وقد قال في مقال حول “الرواية الخليجية .. روح المكان ومرأته” المكان أيضا يتجلى في رواية “شقة الحرية” لغازي القصيبي حيث تحفل الشقة بممارسات الشباب الطائشة والأفكار المتطرفة الليبرالية وشقاوة الشباب، ويأخذ المكان في الرواية أشكالا متعددة …… إلى أن قال: “وتكاد تقترب الرواية من روايات نجيب محفوظ لإحاطتها بتفاصيل حياة الشباب الخليجيين في الشقة واندماجهم بالمجتمع المصري.”[12].

وقال صاحب موسوعة الأدب العربي السعودي الحديث محللا رواية “شقة الحرية” ……. “ولكن القصيبي قد أستطاع مع ذلك أن يقدم في شقة الحرية شخصيات حية متباينة التفكير والاتجاهات وهي شخصيات تجسد حدة الصراع الفكري والسياسي للإنسان العربي خلال تلك الفترة.”[13]. واضاف قائلا: “إذا كانت روايات الدمنهوري والناصر والبوقري وزيلع قد أثرت مرحلة التجديد وأمددتها بالأعمال الناضجة- لو أن بعضها قد ظهر متأخرا- فإن هناك الكثير من الأعمال القصصية التي لاتتوافر فيها مقومات الرواية الفنية.”[14].

                واتضح من خلال ما سبق أننا لانجد شيئا نركن إليه في تحديد مكانة هذه الرواية في الأدب العربي الحديث لأن أدبنا العربي الحديث مليء بكلاسيكيات الأدب العربي الذي يوازي الأدب العالمي الراقي من مثل أدب نجيب محموظ ولاسيما ثلاثيته وأدب عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، وأدب ميخائيل نعيمة وأدب أدباء المهاجر و الأدباء المصريين على سبيل العموم، ففي خضم هذه الآداب الراقية أين نضع رواية “شقة الحرية”؟ وكيف نحدد مكانتها؟ وفي حالة غياب أقوال الناقدين لايمكن لنا القول في مكانتها ولايسع لكاتب قليل البضاعة مثلي أن يحكم على هذه الرواية. ولذا أكثر ما نستطيع أن نقول عنها معتمدا على بعض الأقوال التي عثرنا عليها أن هذه  الرواية أيضا من أحسن و أجمل ما كتب في الأدب العربي الحديث وأمتعها وأسلسها وأعذبها لغة تناولتها أيدي الجمهور وأعجبوا بأسلوبها وفتنوا بسحر عباراتها ولاسيما الشباب الجامعي، وقد عثرنا على آلاف من المدونات للشباب الجامعي والجيل الجديد في الأنترنت وكلهم عبروا عن استحسانهم بهذه  الرواية وصاحبها، وقد نالت قبولا واسعا وإقبالا متزايدا من أغلب فئات المجتمع اللهم إلا المحافظين المتزمتين، وهذا الإقبال والتداول يدل على علو مكانتها وكعبها وعظمة صاحب هذه الرواية. ولو لم يعطها النقاد والكتاب حظها من  العناية فقد أعطاها جمهور القراء مكانة تليق بها.

*****

مراجع البحث:

[1] . القصيبي، غازي عبد الرحمن- شقة الحرية- ص 299.

[2] . القصيبي، غازي عبد الرحمن- شقة الحرية- ص 79.

[3] . المصدر السابق- ص 111.

[4] . ضيف، شوقي، الأدب العربي العاصر في مصر، ص 169 إلى 217.

[5] . القصيبي، غازي عبد الرحمن- شقة الحرية- ص 103-104.

[6] . القصيبي، غازي عبد الرحمن- شقة الحرية- ص 307.

[7] . سيدو، د. أمين سليمان و القعمي، الأستاذ محمد بن عبد الرزاق – موسوعة الأدب العربي السعودي الحديث- المجلد الخامس- ص 33-34.(تلخيص و تضمين)

[8] . القصيبي، غازي عبد الرحمن- شقة الحرية- ص 104.

[9] . جريدة “الأيام” الصادرة من البحرين- نقلا عن شقة الحرية.

[10] . جريدة “الأيام” الصادرة من البحرين- نقلا عن شقة الحرية.

[11] . مجلة “الحوادث” الصادرة من لندن- نقلا عن شقة الحرية.

[12] . جريدة “الاتحاد” الصادرة من الإمارات العربية المتحدة- الخامس من شهر يونيو- عام 2012.

[13] . سيدو، د. أمين سليمان و القعمي، الأستاذ عبد الرزاق- موسوعة الأدب العربي السعودي الحديث- ص35-36.

[14] . المصدر السابق – ص36.

* الباحث في الدكتوراة بمركز الدراسات العربية و الإفريقية،جامعة جواهر لال نهرو، نيو دلهي، الهند

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of