كشكه الصغير كان في ناحية يسرى من نواحي “سوق خان” في دلهي، و أمام فوهة تلك الزقاق الضيقة التي يغدو منها و يروح إليها مئات من الناس كل يوم، و لم يمض زمن على قيام كشكه هناك حتى عرف كثيرا من الناس بوجوههم، وعددا منهم بأسمائهم، و قد تصادق مع بعضهم. في البداية واجه مشكلة في الكسب ولكن بمرور الأيام زاد عدد الزبائن فبدأ يكتسب مقدارا مناسبا من المال يكفي لأسرته الصغيرة التي تتكون من أمه العجوز، و أخيه الصغير، وهو لم يكن يتزوج بعد.
كان اسمه موكيش ولكن عرف بين زبائنه بـ”صاحب التنبول”، وبما أنه كان يجلس في دكانه منذ الصباح الباكر إلى منتصف الليل، فقد استأنس بكثير من وجوه الناس الذين يسكنون في بيت أو آخر من بيوت ذلك الطريق الضيق. فيرى الناس ذاهبين و عائدين صباحا ومساء، و كان من بين تلك الوجوه المستأنسة و جه فتاة جميلة لاحظها منذ أيام، هي تخرج من تلك الزقاق بعد الظهيرة حوالى الساعة الثانية كل يوم و تركب سيارة و تغادر، و ترجع في الليل حوالى الساعة الحادية عشر والنصف بنفس السيارة و معها حارس يوصلها إلى بيتها ثم يرجع و يغادر بالسيارة. و في هذين الوقتين حركة الناس قليلة على الشوارع.
أعجبته هذه الفتاة منذ أول يوم إعجابا، وبدأ إعجابه بها يزيد كل يوم حتى أصبح ينتظر خروجها من الزقاق عند الظهيرة و رجوعها إليها في الليل بكل شوق ولهف، ومع قلب خافق ليتمتع برؤية جمالها ونضرة وجهها. كان يشعر بالاشتياق إليها و لكنه لم يجرؤ قط أن يذهب إليها و يتكلم معها، و كيف يجرؤ وهو لا يعرف حتى اسمها وهي لم تجئ إلى كشكه قط لكي تعطيه الفرصة للتكلم والحوار، فإنه لا يبيع ما يتعلق بالنساء في دكانه، بل يبيع ما لا يليق حتى للرجال الطيبين، فالتنبول، و التبغ، و السيجارات، والبيري و غيرها أشياء لا يحبها كرام الناس، وهو لا يستطيع أن يبيع غيرها في مثل هذا الدكان الصغير الذي حصل عليه بعد جهد ووساطة ورشوة.
قد لاحظ حركات موكيش بعض أصدقائه من الحي، وأحدهم “راجو” الذي كان يقضي أكثر أوقاته عند دكانه، و كانت أسنانه قد اصفرت لكثرة تناول التنبول، فقال له ذات يوم مازحا “هل تعجبك هذه الفتاة” فبدأ يخجل كأنه أُخذ متلبسا بجريمة.
– لا تُخفِ، فقد عرفت بأنها قد أعجبتك
– لا، الأمر ليس كذلك.
– لماذا لا، إنها تعجب كثيرا من الناس لأنها تملك جمالا فاتنا، وألا تعرف بأنها شهيرة في الحي بجمالها النادر، و هي لا تلتفت إلى احد.
– أنت تعرف عنها كثيرا؟
– “نعم، هي تعمل في إحدى الشركات، و لا تخرج في نهاية الأسبوع أعني يوم السبت و يوم الأحد فهما يوما عطلة لها”. ثم اقترب منه قليلا و همس في أذنه “هناك بعض الشبان يخططون لاختطافها.”
– لماذا؟
– قد عرض عليها بعضهم حبهم, لكنها رفضت.
– ولكن لماذا الاختطاف؟
-لأنهم يريدون نيل مرامهم.
-ألا يخافون من الشرطة؟
-ألا تعلم، قد أصبح الاغتصاب شيئا عاديا في بلدنا، و حسب التقريرات تتعرض حوالى ست فتيات للاغتصاب و خمس عشرة فتاة للمضايقة في كل يوم، فلا يخاف من الشرطة إلا الشرفاء و الرجال الطيبون مثلك، لا يمكن أن تعثر الشرطة على المجرمين، و إن عثرت، فمن الممكن أن يقدموا لها الرشوة لكي لا يتم تحرير المحضر بالواقعة.
-و ماذا؟ لو ظهر هذا الحادث في الصحيفة، فالصحف في بعض الأحيان تثير ضجة حول بعض الجرائم؟
– هه، الصحيفة، ستهدأ العاصفة بعد تسجيل الجريمة، ولا يحدث بعد ذلك شيئ. و من الممكن أن يغلق الملف بعد شهور إذا قدمت رشوة هائلة. و إذا لم يتم إغلاق الملف فستستمر المحاكمة سنوات طوالا حتى يموت المتهم أو المجنى عليه، أو يضيق المجنى عليه بمتابعة المحكمة فيسحبها. و إن صدر الحكم بالمعاقبة في النهاية بعد محاكمة متعبة لكلا الطرفين، فلا يحكم على الجاني إلا بالسجن سنة أو سنتين أو مدى الحياة على الأكثر، فليس هناك عقوبة كبيرة. ألا تعرف؟ في معظم الأحيان يتم إطلاق سراح الجاني بكفالة، فهو حر، وليس عليه إلا أن يحضر المحكمة في اليوم الموعود في كل شهر أو شهرين أو كما شاءت المحكمة.
– يبدو كأنك تعرف كثيرا عن المحكمة، هل لك علاقة بالمحامين؟
– لا، ولكن شاهدت كثيرا يرتكبون الاغتصابات، و لا يُحكم عليهم.
– أوه، لذلك أسمع كل يوم أخبارا عن اختطاف الفتيات، واغتصاب البنات الصغيرات.
– نعم، و هذا ما أردته أن أفهمك، والآن أريد أن أقول لك شيئا.
– تفضل.
– حسنا، ولكن أعطني تنبولا أولا.
– تفضل، أنا أعد لك تنبولا.
– طيب، عِد أن لا تقول ذلك لأحد.
– والله، لا أخبر أحدا.
– يجب أن يبقي هذا بيني و بينك فقط.
– أوافق.
– لماذا لا نختطفها قبل أن يمسها أحد.
– من؟
– هذه الفتاة التي تعجبك.
– لا، لا أستطيع.
– لماذا؟
– أنا أحبها.
– الحب، ههههههه؟ الحب لا يجديك نفعا، فسيختطفها أحد، و ستبقى أنت متحسرا دائما إلى الأبد.
– أنا لم اقترف مثل هذه الجريمة قط.
– إذا اقترفت مرة، ستتعود عليها. كما قد تعودت أنا، و قد تمتعت باغتصاب بعض الانجليزيات اللواتي أتين الهند للسياحة والزيارة.
– و لكن، ماذا سيحدث؟ لو عرف الناس.
– لا يعرف أحد، سنفعل ذلك بخِفية.
– لا، لا أستطيع.
– لا تكن سخيفا، لو نجحنا، بوسعك أن تسعد بها أولا ثم أنا.
– كيف يمكن؟
– في ذهني خطة.
– ما هي؟
-سأخبرك عندما تغلق الدكان في الليل. طيب، إلى اللقاء.
كان موكيش يغلق كشكه حوالى الساعة الثانية عشرة بعد عودة تلك الفتاة، ولكنه بقي ذلك اليوم في دكانه إلى الساعة الواحدة ليلا بانتظار صديقه ذاك، ولكنه لم يجئ في الوقت الموعود، فغمره اليأس وأغلق الدكان و بدأ يتهيأ للنوم في داخله. إنه قضى اليوم التالي بائعا التنبول كالعادة ولكن في انتظار شديد لصديقه الذي لم يحضر حتى منتصف الليل، وعندما قصد أن يغلق دكانه رأى ذلك الصديق قادما مبتسما. فأدخله في الكشك وأغلق الباب، ثم بدآ يتسامران.
– لماذا لم تحضر أمس؟
– كنت مشغولا.
– بأي شيئ؟
– لا شئ.
– كنت تتكلم عن خطة؟
– نعم، اليوم أنت تبدو راغبا في الاختطاف (مازحا)
– كانت تعود كالعادة مع حارس يوصلها إلى بيتها، ولكنني رأيتها اليوم تنزل من السيارة و تذهب إلى بيتها وحيدة.
– والله، هذه كانت فرصة ذهبية، ولكننا فقدناها، والآن أدعو أن لا ينال منها أحد، فبعض الفتيان بالمرصاد، ولكنني لم أر أحدا منهم اليوم. سننتظر للفرصة الأخرى. ما اليوم؟
– يوم الجمعة.
– سننتظر حتى يوم الجمعة القادم، لعل الحارس لا يأتي معها في يوم الجمعة، فسنكون بالمرصاد و نقوم بتنفيذ الخطة.
ثم تكلما عن الخطة طويلا، و أخبره ذلك الصديق كيف اختطف قبل سنة فتاة من جامعة دهلي, و اغتصبها طول أسبوع مع صديقيه اللذين يسوقان سيارة أوتو و كيف قتلوها عندما قاومت كثيرا ولم يعثر على ذلك أحد، و كذلك أخبره بأنه كيف تمتع باغتصاب فتاة إنجليزية في الأسبوع الماضي، وهكذا تكلما طويلا حتى ناما في آخر الليل.
حصولها المفروض زاد موكيش اشتياقا إليها، و إعجابا بها، فجعل ينتظر ليوم الجمعة القادم بكل حنين و شوق كأنه منتهى أمنياته ورغباته، فلم يعد يفكر إلا في ذلك اليوم، و ما سوف يحدث، و كيف يتقدم في نيل مرامه. كانت الخطة تدور في ذهنه كل لحظة، فيبدو غارقا في فكره. كان ينسى شيئا أو آخر في إعداد التنبول، أو كان ينسى أخذ الفلوس من الزبائن، و كان الوقت يبدو كأنه لا يزحف.
أخيرا، حضر يوم الجمعة فزاد اشتياقه، وعندما خرجت من الزقاق في وقتها للذهاب إلى المكتب، بدت له أجمل مما كانت تبدو له كل يوم، كان يمكن أن يستشف ما كان وراء قميصها الضيق وملابسها القليلة غير الكافية لستر جمالها الفاتن. إنه ظل يحدق فيها حتى ركبت السيارة و غادرت، و بعد ان اختفت السيارة عن الأنظار طال له اليوم طولا لا ينتهي.
حضر صديقه ذلك بعد الساعة العاشرة ليلا عندما خف ازدحام السيارات في الشارع في سيارة سوداء، و كان معه رجلان يبدوان من أزياءهما كأنهما سائقان. إنه أغلق كشكه بعد مجيئهم وجلس معهم في داخله يشاهدهم يعيدون النظر في خطتهم و يناقشون في مهمة كل منهم في تنفيذ الاختطاف. إنه كان يشعر بالفرح والسرور و لكن كان يساوره خوف و كثيرا ما كان يرتعش جسمه ارتعاشا ويرتجف قلبه ارتجافا لأنه كان يتقدم إلى جريمة لم تخطر بباله قط. أما الآخرون فكأنهم لا يتكلمون عن جريمة بل عن مهنتهم و هوايتهم.
عندما حان الوقت، خرجوا من الكشك و قطعوا كابل ضوء الطريق. اختفى واحدهم في الزاوية اليسرى، وآخرهم في الناحية اليمنى من الزقاق. أوقف ذلك الصديق سيارته عند فوهة الزقاق في زاوية و جلس فيها مستعدا، أما موكيش فتوغل في الطريق قليلا كما أشاروا عليه.
جاءت السيارة لوقتها فنزلت منها تلك الفتاة وحيدة بدون حارس يوصلها إلى بيتها بأمن وسلام. غادرت السيارة من فورها فتقدمت هي إلى الأمام بكل احتياط في الضوء الضئيل لهاتفها المحمول بدون أن تعرف ما هو قُدر لها، و إلى أين سيأخدها قدرها القاسي، وما إن دخلت الزقاق حتى هاجم عليها أحد من ناحية فصرخت بأعلى صوتها، ولكن سرعان ما وضع رجل آخر على وجهها منديله فاختنق صراخها في حلقومها. إنها حاولت المقاومة بكل قوتها و لكنهما جراها بسرعة إلى السيارة التي اختفت عن الأنظار في لمحة البصر قبل أن يخرج أحد من أهالي الحي للاستفسار.
لم يدرك موكيش ماذا حدث؟ وكيف حدث؟ ولكن عندما وصل إلى فوهة الزقاق لم يجد أي أثر للفتاة، و لا للسيارة، ولا للذين جاؤوا لاغتصابها، فدخل كشكه قبل أن يراه احد من رجال الحي، واستلقى على فراشه و لكن لم يقر له قرار فشعر كأنه على جمرة من النار، وكأن رأسه أصبح فجأة ملجأ لكل نوع من الأفكار. إنه قضى الليل يقظا و ساهرا إلى أن طلعت الشمس ليوم جديد، ولكنه لم يفتح دكانه إلا عندما نادى به هوكر الصحيفة. إنه حاول أن يجلس في دكانه ولكن لم يتمكن من أن يستمر لأكثر من ساعة، فأغلقه عندما سمع بعض الناس يتكلمون عن اختطاف الفتاة الليلة البارحة، وبقى طول اليوم في كشكه متظاهرا بصداع الرأس إلى أن حضر الليل فغلب عليه وعلى أفكاره النوم المخيف.
في اليوم التالي، كانت على الصفحة الرئيسية للصحف صورة سوداء لفتاة، و خبر محزن للغاية، كان الخبر عن اختطاف فتاة و اغتصابها و محاولة قتلها إذ حاولت أن تقاوم المعتدين الغاصبين، و الذي أحزنه كثيرا هو أن هذه هي الفتاة التي تم اغتصابها قبل ليلتين. ذكرت الصحف بأن المارة لاحظوا سيارة ترمي بفتاة عارية على الطريق ولكن لم يعبأ بها أحد، كان الناس يتوقفون عندها للحظة، ويلقون عليها نظرة عابرة ثم يذهبون على وجوههم، و هكذا بقي جسدها ملقى على الطريق لحوالي ساعة إلى أن جاءت دورية شرطية فألقى عليها رداء وتم حملها إلى المستشفى. و قال الصحفي الذي أعد هذا التقرير، “الاغتصاب شيئ عادي في هذه المدينة، ولكن عدم ترحم الناس على حالة هذه الفتاة، و عدم شعورهم بحالتها الخطرة يشير إلى مدى الانهيار الخلقي في المجتمع.”
تأسف موكيش تأسفا شديدا و شعر كأنه اقترف جريمة لا تغتفر فوصل مخفر الشرطة و أخبر الضابط بأنه يعرف المجرمين بوجوههم إذ رآهم يفرون في السيارة، ولكن الشرطة لم يتمكن من إحضار أحد من أولئك المجرمين، و كذلك هو لم ير أحدا منهم بعد ذلك اليوم، ولكنه تعهد على نفسه أنه سيحضرهم إلى الشرطة إذا وجد أحدا منهم يوما ما. و بمرور الأيام اختفى هذا الخبر في غمرة من الأخبار المهمة الأخرى، و شغله عمله في كشكه عن تعهده، ولكن كان هناك شيئ بقي يخزه و يهزه هزا كلما سمع أحدا يقرأ خبرا مماثلا في الصحف اليومية، فموت هذه الفتاة ألحق بها جروحا عاطفية و ذكرياتها المؤلمة قد تغلغلت في أعماق نفسه.
*****
ما اجمل القصة، التي تعكس حقيقة المجتمع