من يعاين بطلي روايتي (ثربانتس) و(إميل حبيبي)، أعني (دون كيخوته) و(سعيد المتشائل) يستطيع أن يدرك قرب التّجاور في بناء الشّخصيتن،وأنّهما رُسمتا بنفس واحد ورؤية منبثقة ثانيتها عن أولاها، كما يدرك أنّ (إميل حبيبي) كان في محراب شخصية (دون كيخوته) عندما رسم شخصيّة (سعيد)؛فالبطلان ابتداء يحملان اسمين ساخرين؛فاسم (دون كيخوته) كما يقول (عبد الرحمن بدوي) مترجم الرّواية إلى العربية هو اسم له ظلال مضحكة وفقاً للهجة القشتاليّة(1)،وهو من حيث المظهر والأحوال يثير الضّحك والسّخرية والشفقة؛فهو رجل نحيف طويل ناهز الخمسين من عمره،متوسطّ الحال،يعيش أعزبَ في إحدى القرى الإسبانيّة إبّان القرن السّادس عشر(2)،وقد أنفق عمره وأهمل إدارة أمواله في قراءة كتب الفروسيّة التي ملأت رأسه بالأوهام والشّطحات والخيالات،فملأت رأسه هوساً إلى حدّ أنّه قد قرّر أن يستأنف أدوار بطولة الفرسان الجوّالين ليضرب في الأرض،ويبحث عن المغامرات في حرب ضدّ الظّلم والفساد،ويدافع عن الحقّ أنّى ذهب(3)،ويحمل سلاحاً قديماً متآكلاً،ويتخذ خوذة من الورق المقوى المبطّن بالقضبان الحديديّة،ويركب حصاناً أعجف هزيلاً،ثم يتّخذ لنفسه حبيبة وهميّة،ويختارها فتاة مليحة الوجه إسمها (ألدونثا لورنثو)،ويجعل منها سيدته الحبيبة التي أطلق عليها إسم (دلثينا دل توبوسو) إذ ” كان يحسب أنّ الفارس الجوال بغير عشق مثله مثل الشّجرة بغير أوراق أو ثمار”(4)،ثم تذكّر وهو سائر في طريقه أنّه في حاجة إلى تابع مخلص أمين،فاتّخذه (سنشو بانزا) الذي وعده بان يهبه إحدى الجزر عندما يحقّق انتصاراته المأمولة،وطفق بعدها في مغامراته المضحكة المبكية حيث يصارع طواحين الهواء لتوهّمه أنّها شياطين ذات أذرع هائلة،ودخل في معركة مع الأغنام،وتنقّل من معركة إلى أخرى يحصد الفشل والإهانة والضّرب والذّل إلى أن تبرّأ في نهاية رحلته من أوهامه التي أصابته بسبب قراءته لكتب الفروسيّة(5)،وندم على أنّه لم يقرأ كتباً من شأنها أن تنير روحه(6)،ليموت على فراشه في بيته بعيداً عن ساحات المعارك ومصائر الفرسان(7)،وقد استردّ اسمه الحقيقي، وهو(ألونسو كيخانو الملقّب بالطّيّب).( 8)
ولا شك ّ في أنّ (ثربانتس) قد بنى شخصية (دون كيخوته) على ملامح فنتازيّة كي تؤدي الدّور الذي سيسنده إليها بكلّ نجاح،فشخصيّة بهذه الملامح الفنتازية قادرة على أن تسخر من الواقع والذّات والآخر دون أن تتحمّل وزر أفعالها وأفكارها وطروحاتها،لقد سخر (ثربانتس)من كلّ من أراد السّخرية منه دون أن يتحمّل وزر ذلك لاسيما أنّه كان الفقير المنكود الضّعيف المتنفّذ في مجتمع مترف يعجّ بالنّبلاء والأثرياء وأصحاب النّفوذ.
وقد مدّ هذه الشخصيّة الفنتازيّة بالعجائبيّة والغرائبيّة كي تمتدّ على وافر مساحات التّخييل وفق حقيقة أنّ جنس العجيب أو العجائبيّ : يتحدّد إذا قرّر القارئ أنّه ينبغي قبول قوانين جديدة للطّبيعة، يمكن تفسير الظّواهر بها(9)،فالعجائبيّ “هو التردّد الذي يحسّ به كائن لا يعرف غير قوانين الطّبيعة فيما يواجه حدثاً غير طبيعي حسب الظّاهر”(10).أمّا جنس الغريب أو الغرائبيّ : فيتحدّد إذا قرّر القارئ أنّ قوانين الواقع الطّبيعة تظلّ سليمة وتسمح بتفسير الظّواهر الموصوفة(11). بل إنّ (دون كيخوته) لم يخرج قط من عوالمه الفنتازيّة طوال الرّواية إلاّ عندما اضطر إلى أن يستسلم للحقيقة والهزيمة في آخر الرّواية،ويكفر بأوهام مغامرات الفرسان،ليخضع أخيراً للواقع وحقائقه.
وعلى الرّغم من الإيغال في هذه الفنتازيّة إلاّ أن (ثربانتس) لم يُغفل عن أنّ تظلّ هذه الغرائبيّة بمنأى عن تجريد (دون كيخوته) من نبالته وقيمه الرّفيعة وجمال أهدافه،ولذلك كان بطلاً في فكره وأهدافه وأحلامه،وإن لم يكن كذلك في واقعه وحروبه،” إنّ (دون كيخوته) رمز النّبالة السّاعيّة في خير الإنسانيّة،ولكن وسائلها العاجزة لا تستطيع تحقيق أمانيها،رمز للمثل الأعلى الإنسانيّ الذي دائماً يصطدم بالواقع الكالح،فينتهي بالإخفاق…إنّه القطب الهادي دائماً إلى المزيد من السّمو الإنسانيّ”(12)
ولنا أن نزعم أنّ (ثربانتس) قد خلع الكثير من مأساته وشخصيته وحياته على شخصّية (دون كيخوته) الذي كان وليد معاناته،وله أسند دور البطولة والألم والإخفاق واليأس والهزيمة في مجتمع منافق كاذب،لقد سمح للعالم كلّه بأن يرى جانباً من روحه وذاته وإبداعه عندما خلق شخصية (دون كيخوته) من بنات أفكاره ومعاناته،وأطلقها تسعى في رائعته الخالدة،وفي الوقت نفسه قد خلع (إميل حبيبي) شخصيته على (سعيد المتشائل)،وهذا ما اعترف به صراحة في لقاء أُجري معه قبل رحيله عن الحياة،إذ قال:” كنتُ أكذب وأقول في الماضي إنّ شخصيّة سعيد أبي النّحس هي عكس شخصيتي،لكنّني صرتُ في عمر لا أحتاج فيه إلى الكذب،كنتُ أتحدّثُ في المتشائل- إلى حدّ كبير- عن نفسي” .ونستطيع القول إنّ (إميل حبيبي) قد سعى من خلال بناء نفسه في هذه الشّخصية إلى إبراز قلقه الوجودي،والتطهّر من التّاريخ الأسود له في خدمة العدوّ الصّهيونيّ والتّعاطف معه ضدّ وطنه فلسطين بحكم أنّه مواطن فلسطيني في داخل الكيان الصّهيونيّ.(13)
“إنّ (إميل حبيبي) هو المتشائل نفسه،وهو البطل الممزّق،وصاحب الشّخصيّة المنقسمة الذي لم يتمكّن من إعادة الوحدة والانسجام إلى ذاته المشطورة،ولذلك راح يعلي من شأن خياراته السّياسيّة،ويشدّد على أنّ البقاء في فلسطين ولو تحت نير الاحتلال هو أجدى للفلسطينيّ”.(14)
وهذا يفسّر لماذا كانت شخصيّة (سعيد المتشائل) شخصيّة معقّدة وإشكاليّة كما هي شخصيّة (دون كيخوته)،وإن بدت الشّخصيتان ساذجتين ومسطّحتين دون عمق،إلاّ أنّهما في الحقيقة على عكس ذلك تماماً،فـ(سعيد) كان شخصية فنتازيّة تكشف عن عوالم كابوسيّة يعيشها الفلسطينيّ في أرضه بعد قيام دولة فلسطين،وفي ذلك محاولة منه “للتّعبير عن عالم شديد الغرابة يعيشه الفلسطيني في أرضه المحتلّة… وذلك عبر شكل روائي غني فيه مزج بين أساليب سرديّة مختلفة”(15)
ومن هذا الواقع الغرائبي جاءت شخصيّة (سعيد) المليئة بالتّناقضات التي تثير الكثير من السّخرية مثلما تثير الكثير من النّقد،:فليس من اليسير التّعامل مع أدب حبيبي بتلك البساطة والسّذاجة، فتلك السّخرية هي سخريّة مُرّة. إن أردتم: تلك الأعمال المثقلة بالتّناص،لا تجعل أعماله موغلة في العمق فحسب،بل نجعلها غنية بالدّلالات ومعينًا لا ينضب من التّساؤلات لنقل رسالته السّياسيّة بدهاء الفنان الأصيل ومكره”.(16)
وعلى غرار اسم (دون كيخوته) السّاخر الغريب كان اسم (سعيد)،فهو قائم على المفارقة ابتداء،إذ اسمه (سعيد)،ولكنّه تعيس مثل شعبه الفلسطينيّ،وكنية (سعيد) هي أبو النّحس،والنّحس اقترن به؛لأنّ بلاده أُحتلت في عام 1948،واقتران اسم (سعيد) بكنية أبي النّحس تأكيد على شعوره بالنّحس الذي أصاب الشّعب الفلسطيني عندما سقطت عليه الصّهيونية من المجهول لتحتلّ وطنه،وتنازعه عليه،ثم بعد هذا النّحس المقيم وهذا السّعد غير الموجود يأتي اسم العائلة،وهو الأغرب في هذا التكوين الاسمي،إذ هو حالة وسطى بين التّفاؤل والتّشاؤم،وهذا هو معنى اسم (المتشائل)،وهو “اسم غير مألوف في التّراث العربيّ الإسلامي،فهو غريب ينعدم له الشّبيه”(17).ويبدو أنّ “كلمة المتشائل قد صيغت من كلمتي المتفائل والمتشائم لإظهار التّناقض الواضح في نوايا المقاومة العربية في التّحرر والعدوان الإسرائيلي في الاستبداد والتّسلّط(18)
“ثم يأتي التّناقضُ في بقية الاسم جامعاً بين السّعادة(سعيد) ونقيضها التّعاسة(أبو النّحْس) والوَصْف الذي يوصف به منحوتٌ من كلمتين، هما: متفائل ومتشائم، وهما كلمتان مُتنافرتان.وهما تحيلان إلى مستوى ثقافي آخر هو النّفسُ والشّعورُ، الذي له تأثيره القويّ في تصرفات بطل الحكاية. وذلك يشفعُ للقارئ توقّعَه شيئاً من الغرائبيّة في الحكاية التي وصُفت مسبقاً بصفة (الغريبة) وهذا يحيلنا إلى مستوىً ثقافيٍّ آخرَ، وهو السّردُ الغرائبيُّ الذي عرفنا نماذجَ منه في السّرديّات القديمة، كألفِ ليْلةٍ وليلة، و سيرة الملك سيف بن ذي يزن، والتّوابع والزّوابع، وغيرها من سِيَر”.(19)
يقول (سعيد) في الرّواية عن اسمه:”هذه هي شيمة عائلتنا،ولذلك سمّيت بعائلة المتشائل،فالمتشائل هي نحت كلمتين اختلطتا على جميع أفراد عائلتنا…وهاتان الكلمتان هما المتشائم والمتفائل… خذني أنا مثلاً،فإنّني لا أميّز التّشاؤم عن التّفاؤل،فأسأل نفسي:من أنا؟أمتشائم أنا أم متفائل؟ أقوم في الصباح من نومي فأحمده على أنّه لم يقبضني في المنام،فإذا أصابني مكروه في يومي أحمده على أنّ الأكره منه لم يقع،فأيّهما أنا؟المتشائم أم المتفائل؟”(20)
وهذه الشّخصيّة الفنتازية تأخذنا في مغامرة مع ألمها ومحاولاتها الفاشلة في الاندغام في المجتمع الصّهيوني الذي يرفضه على الرّغم من ولائه الشّديد له في سلسلة من الأحداث الغرائبيّة المضحكة المبكيّة إلى أن يؤول (سعيد) إلى قناعة أكيدة،إذ يكتشف أنّ الصّهيونيّ لن يقبله أبداً،وأنّه سيظلّ في عينه الفلسطينيّ صاحب الحقّ الذي يقضّ مضجعه،وفي الوقت ذاته يفشل في أن يصبح الفلسطيني المدافع عن وطنه،فيجد نفسه عالقاً في مأساة أبدية فنتازيّة تتجسّد في أن يجد نفسه فوق خازوق لا يستطيع أن ينزل عنه شأن الكثير من أمثاله الخونة الذين أضاعوا حاضرهم وماضيهم ومستقبلهم طمعاً في ساقط المكاسب:”وجدتني مرّة أخرى متربّعاً وحيداً على رأس ذلك الخازوق الذي بلا رأس”(21)
لقد انتهى (سعيد) كما انتهى (إميل حبيبي) نفسه نادماً على تاريخه السّياسي وأفعاله وأقواله في إزاء قضيته الفلسطينيّة التي لم يناصرها كما يجب شأن الآخرين من الأحرار والأبطال من أبناء شعبه، و(دون كيخوته) انتهى مؤمناً بأنّه عاش أوهاماً كثيرة في مقارعة أعداء وهميين، وآمن بأنّه قد ضلّ طريق السّعادة والنّصر، ولم يقدّم لنفسه ما تستحقّه وما تنفعه. لقد جمعت السّخرية بين (دون كيخوته) و(سعيد المتشائل) كما جمع النّدم والحزن والإحباط والفشل بين (ثربانتس) و(إميل حبيبي).
الإحالات والمراجع:
- إميل حبيبي:الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النّحس المتشائل،دار الشّروق للنشر والتوزيع،الأردن،عمان،2006،ص37.
- نفسه:جزء1،ص33.
- نفسه:جزء1،ص34.
- نفسه:جزء1،ص37.
- نفسه:جزء2،ص634.
- نفسه:جزء2،634.
- نفسه:جزء2،ص69.
- نفسه:جزء78،ص634.
- تزفيتان تودروف : مدخل إلى الأدب العجائبي،ترجمة الصديق بوعلام،ط1،دار شرقيات،القاهرة،مصر، ص49.
- نفسه:ص44.
- نفسه:ص49.
- عبد الرحمن بدوي من تصدير عام من ميجيل دي ثربانتس سابدرا:دون كيخوته،ج1،ص21.
- خضر محجز:إميل حبيبي:الوهم والحقيقة،ط1،قدمس للنشر والتوزيع،سوريا،دمشق،2006؛ جهاد فاضل:متاعب إميل حبيبي/المتشائل هل كان يهودياً بالولاء؟صحيفة الرياض،السعودية،الرياض،العدد14136،8 مارس 2007.
- صقر أبو فخر: إميل حبيبي: انشطار الهوية وقلق المبدع،موقع صوت الذين لا صوت لهم،كانون الثاني 2013 الرابط: http://palestine.assafir.com/Article.aspx?ArticleID=2440
- فخري صالح:إميل حبيبي سيل الحكايات،موقع أنفاس نت،الرابط:http://anfasse.org/index.php/2010-12-30-15-40-11/2010-12-30-15-36-49/5229-2014-01-26-16-04-26
- عادل الأسطة:كافر سبت،المنتدى التنويري الثّقافي الفلسطينيّ،عدد 28/أغسطس/2012.
- صابر عمري:دراسة في رواية الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النّحس المتشائل،جريدة الصباح،تونس،21/4/2012.
- سليمى محجوب:قراءة في رواية المتشائل للرّوائي الفلسطينيّ إميل حبيبي،منديات ستار تايمز،الرابط:http://www.startimes.com/f.aspx?t=15139578
- إبراهيم خليل:رائعة إميل حبيبي “الوقائع الغريبة” في ضوء التحليل الثقافي،موقع قاب قوسين،12/5/2011:الرّابط: qabaqaosayn.com
- إميل حبيبي:الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النّحس المتشائل،ص19-20.
- نفسه:ص20.
*أديبة و أستاذة جامعية وحقوقية /الأردن، أنظر الرابط التالي لدراسة حياتها و أعمالها
(https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B3%D9%86%D8%A7%D8%A1_%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%86)
Leave a Reply