اسمه الكامل “عمرو بن بحر محبوب الكناني الليثي البصري[1]” و لقبه “الجاحظ” و “الحدقي[2]“، لبروز عينيه وكنيته”أبو عثمان[3]“. ولد الجاحظ في البصرة بالعراق ونشأ يتيماً وفقيرا ولكنه أصبح غنياً بعلمه، حيث انكب على نهل العلم، فاختلف إلى المساجد ومراكز العلماء، وسوق”المربد” الذي كان مركزاً يلتقي فيه الأدباء والشعراء وأهل اللغة ليقيموا فيه ندواتهم. فتلقى العلم على بلغاء اللغة من العرب، وطلب العلم في سن مبكّرة، فقرأ القرآن والابتدائية على شيوخ بلده، وبسبب اليتم والفقر صار يبيع السمك والخبز في النهار ويكتري دكاكين الورّاقين في الليل فكان يقرأ منها ما يستطيع قراءته حتى أصبح الجاحظ كاتبا عبقريا شهيرا في العالم العربي وقد تميزت كتابات الجاحظ بالقدرة على عرض صور ونماذج من واقع الحياة الاجتماعية، وتوفي في البصرة وعمّر الجاحظ نحو ستّ و تسعين عاماً.
الجاحظ: لم نجد ما نزين به مقدمة رسالتنا إلا ما كتبه علامة عصره عبد السلام هارون، أنّه قال عن بيان الجاحظ:
“وبعد فالجاحظ إمام فذّ من أئمة البيان في العربية، وليس من الإسراف والمغالاة أن نعدّه زعيم البيان العربي، نطلق القول ذلك إطلاقاً. هو زعيم للبيان العربي في قوته وأسره، وفي دقته وصحته، وحلاوته وجماله وفنّه. كان الجاحظ زعيما للبيان العربي، وهو كذلك أحد زعماء المكتبة العربيّة التي كانت في الصدر المقدّم من مكتبات الدنيا، فيما أسدت للإنسانية والفكر العربي واللسان العربي من خير، وما بسطته على ظلام المدنيات المتهافة من نور”. ويعدّ الجاحظ إمام الأدباء وزعيم البيان العربي في العصر العباسي الثاني، فهو قدوة المنشئين وإمامهم في هذا العصر كما كان ابن المقفع إمامهم في العصر العباسي الأول[4]، ونظراً لثقافته الواسعة وإطلاعه الدائم، وبحثه وراء العلم، وأخذه من مصادره من علماء وشيوخ اللغة وغيرهم، تنوعت مؤلفاته وهي في علم الكلام والأدب والسياسية والتاريخ والأخلاق والنبات والحيوان والصناعة والنساء وغيرها، وإن كان البيان والتبيين، كتاب الحيوان، كتاب البخلاء، كتاب البغال ، كتاب الفتيان، كتاب القوّاد، كتاب الوكلاء المتوكّلين، كتاب الشارب والمشروب، كتاب المعلّمين، كتاب الجواري، كتاب نوادر الحسن، كتاب العرجان والبرصان، كتاب التربيع والتدوير، كتاب الطفيليين، كتاب أخلاق الملوك، كتاب الفتيا، و كتاب الحاسد والمحسود من أشهر هذه الكتب.
نجد في كتب الجاحظ ورسائله أسلوبين بارزين مهمين: أسلوب أنيق ويكاد يكون هذا الأسلوب مقصوراً على مقدّمات كتبه ومطالع فصوله. ثمّ له أسلوب يجري فيه على السليقة ويعالج به الموضوعات التي يتناولها في متون كتبه[5]، و الجاحظ قد خلق فناً جديداً من الكتابة لم يسبق إليه، وتفرد بخصائص ومميزات جعلته يتربع فوق قمة عليا،لأن مدرسة الجاحظ ضخمة، فمسيرة الأدباء على هذا الدرب تتابع وتستمر حتى عصرنا الحديث ويتطلع إليها طلاب الأدب في عصره وما تلاه من العصور. وكانت له جولة و صولة في الأدب العربي.
حياته و نشأته و تعليمه:
ولد في مدينة البصرة بالعراق عام 776م، نشأ يتيماً و فقيرا ولكنه أصبح غنياً بعلمه، حيث انكب على نهل العلم، فاختلف إلى المساجد ومنازل العلماء، وسوق “المربد” والذي كان مركزاً يلتقي فيه الأدباء والشعراء وأهل اللغة ليقيموا فيه ندواتهم ومناقشاتهم. فتلقى العلم على يد شيوخ وبلغاء اللغة من العرب، وطلب العلم في سن مبكّرة، فقرأ القرآن ومبادئ اللغة على شيوخ بلده، ولكن اليتم والفقر حال دون تفرغه لطلب العلم، فصار يبيع السمك والخبز في النهار، ويكتري دكاكين الورّاقين في الليل فكان يقرأ منها ما يستطيع قراءته، وكان دميما قبيحا جاحظ العينين وإنّما جاءه السواد من قبل إحدى جدّاته في عمود نسبه. ولقب بالجاحظ لجحوظ عينيه، وكان قصير القامة، صغير الرأس، دميم الوجه، صغير الأذنين، جاحظ العينين، دقيق العنق، قوي البنيية و نشيط الجسم، ومشوه الخلقة[6]، لكنه كان خفيف الروح، حسن العشرة، وظريف النكات، يتهاتف الناس إلى الاستمتاع بنوادره. وبلغ الجاحظ من الذكاء وجودة القريحة وقوة العارضة والتفكير ما جعله من كبار أئمة الأدب في البلاد العربية[7].
وعرف عن الجاحظ عشقه للقراءة فما كان يدع كتاباً قط يصل إليه دون أن يتم قراءته، ومما يدل على شغفه بالقراءة، أنه كان يستأجر دكاكين الوراقين ويبيت فيها للنظر و للاطلاع على ما فيها من كتب[8]. ذهب الجاحظ وراء العلم فانتقل من البصرة إلى بغداد ليتصل بمفكريها، فالتقى مع الأصمعي والأنصاري وأخذ اللغة عنهما، كما اتصل بالأخفش وأخذ عنه النحو، والنظام وأخذ عنه علم الكلام، واطلع على الثقافة اليونانية من خلال سلمويه وحنين بن إسحاق، وارتاد البادية ليأخذ اللغة والأخبار، وزار الجاحظ دمشق وإنطاكية وذلك من أجل التعمق في الثقافة واللغة والأدب. أما أساتذة الجاحظ الذين تتلمذ عليهم و رَوَى عنهم في مختلف العلوم والمعارف فهم كثيرون جدًّا، وهم معظم علماء البصرة إبَان حياته، المظنون أنَّ الجاحظ لم ينقطع عن حضور حلقاتهم. ولكنَّ مترجميه يكتفون بقائمةٍ صغيرةٍ منهم غالباً ما تقتصر على العلماء الأَجِلَّة المشهورين. ومهما يكون من أمر، وبناءً على بعض المصادر، نستطيع القول: إنَّ أهمَّ هؤلاء الأساتذة هم كما يلي:
في ميدان علوم اللغة والأدب والشِّعر والرِّواية: أبو عبيدة معمر بن المثنَّى التميمي و الأصمعي وأبو زيد بن أوس الأنصاري ومحمد بن زياد بن الأعرابي و خلف الأحمر وأبو عمرو الشَيباني وأبو الحسن الأخفش وعلي بن محمد المدائني. وفي علوم الفقه والحديث: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي ويزيد بن هارون والسري بن عبدويه والحجَّاج بن محمد بن حماد بن سلمه بالإضافة إلى ثمامة بن الأشرس الذي لازمه الجاحظ في بغداد. وفي الاعتزال وعلم الكلام: أبو الهذيل العلاَّف والنَّظَام ومويس بن عمران وضرار بن عمر والكندي وبشر بن المعتمر الهلالي وثمامة بن أشرس النُّميري، وأبو إسحاق إبراهيم بن سيار البلخي المعروف بالنظام المتكلم المشهور[9].
كان الجاحظ في أوّل أمره ضيّق الرزق يبيع الخبز والسمك بسيحان (نهر بالبصرة) ولم يبزغ نجمه إلاّ بعد أن انتقل من البصرة إلى بغداد لما دخلها المأمون آيبا من خراسان سنة 204ه، ثم علا نجمه لمّا اتّصل بوزير المعتصم محمّد بن عبد الملك الزيّات فأصبح من الموسرين. ويبدو أن الجاحظ عمل مدّةً يسيرةً في ديوان الرسائل مع إبراهيم بن العبّاس الصولي في أيّام المأمون، ولكنّه كره حياة الديوان وشيكاً فتركها[10].
ويورد ياقوت الحموي قولاً لأبي القاسم البلخي في معجم الأدباء، يقول فيه : “الجاحظ كنانيّ من أهل البصرة، و كان الجاحظ من الذكاء وسرعة الخاطر والحفظ بحيث شاع ذكره، وعلا قدره، واستغنى عن الوصف”. وقال إسماعيل ابن إسحاق عن الجاحظ فيه: “فإنّي ما دخلت اليه إلاّ رأيته ينظر فى كتاب أو يقلّب كتباً أو ينفضها”. وكان الجاحظ عظيم الذكاء قويّ الملاحظة واسع التفكير بارعاً في كثير من علوم اللغة والأدب و من العلوم الطبيعية والعقلية. وكان يجمع إلى ذلك حبّ اللهو و الدعابة و المرح الأصيل. وكذلك كان مفكّراً حرّاً قليل الاهتمام بما تواضع عليه الناس، وخصوصاً فيما يتعلّق بسلوكه الشخصي في الحياة، ولم يتزوّج، ولكنّه كان يتّخذ جاريةً بعد أخرى[11].
ومما أورده صاحب “معجم الأدباء” ويوجز فيه لنا ما سبق بلفظٍ أنيقٍ وتعبيرٍ رشيقٍ قولـه: “أبو عثمان الجاحظ، خطيبُ المسلمين، وشيخُ المتكلِّمين، ومَدْرَهُ المتقدمين والمتأخِّرين. إن تكلَّم حكى سحبان في البلاغة، وإن ناظر ضارع النَّظَام في الجدال، وإن جدَّ خرج في مسك عامر بن عبد قيس، وإن هَزَلَ زاد على مزبد، حبيب القلوب، ومزاج الأرواح، وشيخ الأدب، ولسان العرب، كتبه رياضٌ زاهرةٌ، ورسائله أفنانٌ مثمرةٌ، ما نازعه منازعٌ إلا رشاه أنفاً، ولا تعرَّض لـه منقوصٌ إلا قدَّم لـه التَّواضع استبقاءً. الخلفاء تعرفه، والأمراء تصافيه وتنادمه، والعلماء تأخذ عنه، والخاصَّة تسلِّم له، والعامَّة تحبُّه. جَمَعَ بَيْنَ اللسان والقلم، وبَيْنَ الفطنة والعلم، وبين الرأي والأدب، وبين النثر والنظم، وبين الذكاء والفهم، طال عمره، وفشت حكمته، وظهرت خلَّته، ووطئ الرِّجال عقبه، وتهادوا أدبه، وافتخروا بالانتساب إليه[12]“.
وبهذا الصدد، قال جرجي زيدان عن الجاحظ: “وقد كان اشتهر وذاع صيته في العالم الإسلامي، فتقاطر الناس لمشاهدته والسماع منه. فلا يمرّ أديب أو عالم بالبصرة إلاّ طلب أن يرى الجاحظ ويكلمه. وكان إذا طلب أحد أن يراه يقول: وما تصنع بشق مائل ولعاب ولون حائل. وهو إمام الأدباء في العصر العبّاسي الثاني، وله أساليب و مذاهب و آراء في الأدب واللغة خاصة، واشتهر بطريقة في الإنشاء تنسب اليه قلّده فيها الناس وعرفت بإسمه. فهو فدوة المنشئين إمامهم في هذا العصر، كما كان ابن المقفع إمامهم في العصر الأوّل. وكان الجاحظ من فضلاء المعتزلاء. وكان علم الكلام قد نشأ على أثر نقل الفلسفة والتبحّر فيها، وطالع الجاحظ كثيراً من كتب الفلاسفة وانفرد عن سائر المعتزلة بمسائل تابعه بها جماعة عرفوا بالجاحظية[13]“. و قال أبو الفضل بن العميد “ثلاثة علوم الناس كلهم عيال فيها على ثلاثة أنفس: أما الفقه فعلى أبي حنيفة، لانه دوّن وخلد ماجعل من يتكلم فيه بعده مشيرا اليه ومخبرا عنه. وأما الكلام فعلى أبي الهذيل، وأما البلاغة والفصاحة واللسن والعارضة (المراد بها: البيان واللسن وقوة البديهة) فعلى أبي عثمان الجاحظ[14]“.
و كتب السيد عبد الحليم محمد حسين في كتابه (السخرية في أدب الجاحظ) عن الجاحظ:” لقد كان الجاحظ عالما محيطا بمعارف عصره وزعيما من زعماء المعتزلة وراوية من رواة اللغة وأدابها وأديبا يكتب عن رهافة في الحسّ وخصوبة في الخيال وقوة في الملاحظة ودقة في الإدراك وقدرة على التغلغل في الموجودات و استشفاف الحركات النفسية المختلفة وتمكن من العبارة الحية النابضة والتصوير الكاشف البارع الذي يبرز الصورة بشتى ملامحها وظلالها في بساطة وجمال[15]“.
ولا شك أن الجاحظ رمز من رموز الأدب اللامعين كما أنه ليس مجرد كاتب أو مؤلف للكتب الكثيرة ولا أحد من المهتمين بالأدب العربي فقط بل هو عالم مدقق وباحث محقق وإمام فذّ وزعيم البيان العربي وكاتب غزير الإنتاجات. فشخصيته العبقرية تتسم بالموسوعية وتعدد الاهتمامات الفكرية تتداخل لديه المعارف والخبرات حيث يصعب أن يدرس جانب من فكره بعيدا عن الجوانب الأخرى. كان الجاحظ غزير الإنتاجات وكثير التأليفات والتصنيفات والرّسائل كما أنه كان جامع العلوم والفنون، صاحب الفضل والكمال وأنّه كان عظيم الذكاء قويّ الملاحظة وواسع التدبير والتفكير وكان الجاحظ بحر العلوم من النبات والحيوان والصناعة والنساء والأخلاق والسياسة والتاريخ والأدب والمنطق والحكمة والفلسفة وعلم الكلام والأخبار وعلم اللغة والدين والقرآن والتفسير والحديث وغيرها. ومن الحق أنه كان أكادميّا في شخصيّته المتنوّعة وكانت شخصيته الموسوعية كدائرة معارف.
المؤثّرات العامة والخاصة على الجاحظ:
تشير كتب التراجم إلى أمرين أثّرا في موهبة الجاحظ الكتابية. أولهما عقله الناضج، وذكاؤه اللمّاح، وحافظته العجيبة، وفضوله العلمي، حتى إنه كان يكتري دكاكين الورّاقين ويبيت فيها ليقرأ محتوياتها. وثانيهما طبيعة العصر العباسي التي سمحت بالحرية الفكرية، ونمو الشعوبية، وتعدُّد الفرق والمذاهب الكلامية، والاتصال بالثقافات الأخرى. أي أن الجاحظ كان يملك استعداداً شخصياً فطرياً لمهنة الكتابة، ويعيش في بيئة تسمح بالتعبير والاختلاف في الرأي، إضافة إلى أنه نما وتبلورت موهبته في مناخ اتضحت فيه الهوية الحضارية العربية. وترجمة حياة الجاحظ تشير أيضاً إلى أنه كان يعتز بعروبته وانتسابه إلى “كنانة” وتلقيه الفصاحة في”المِربَد”، وانصرافه إلى استيعاب المعارف والعلوم والفنون، وإيمانه بالعقل. والظن بأن الجاحظ قرأ القرآن الكريم، و وعى بيانه، وتأثَّر بما في أسلوبه من- دقّة وإحكام، وجزالة، وروعة انتقال، وجمال تمثيل، وعناية بالتكرار اللفظي. كما قرأ الأحاديث النبوية، و وعى بلاغتها، وتأثر بما في أسلوبها من – بساطة وإيجاز وتلميح وملاءمة بين الألفاظ وحال المخاطبين.
وقد قاده هذا التأثر بأسلوب القرآن الكريم و الأحاديث النبوية إلى الإيمان بثلاثة أسس للبلاغة، هي: مطابقة العبارة لمقتضى الحال، والبيان أو وضوح الدلالة، والإيجاز وعدم التكلف. أو قل أنه قرر هذه الأسس في “البيان والتبيين”، وسعى إلى ترسيخها، تبعاً لتأثره بأسلوب القرآن الكريم والحديث النبوي الذي يجعل لكل مقام مقالاً، ويطالب المتكلم بمعرفة أقدار المعاني والموازنة بينها وبين أقدار المستمعين، ويعدُّ البيان اسماً جامعاً لكل شيء كشف للقارئ قناع المعنى وهتك الحجب دون الضمير، حتى يفضي السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصوله. والثابت أن الجاحظ قرأ ما كتبه سهل بن هارون وعبد الحميد الكاتب وعبد الله بن المقفع، وكان ميالاً، نتيجة تأثره بالبيان القرآني وبلاغة الحديث النبوي، إلى الأسلوب المرسل، وأكثر إعجاباً بسهل بن هارون وابن المقفع لأنهما يستعملان هذا الأسلوب. أخلص من الحديث عن المؤثرات العامة والخاصة إلى أن أسلوب الجاحظ ليس ابتداعاً، بل هو حصيلة ما استقر عليه الأسلوب العربي في عصر الجاحظ، وما أضافه هو نفسه إلى هذا الأسلوب استناداً إلى موهبته وثقافته الموسوعية وتفاعله مع عصره.
أعماله وآثاره:
وقد ألّف الجاحظ عديدا من الكتب جاوزبها السبعين بعد المئة، ويشير ابن حجر(صاحب لسان الميزان) إلى إحصاء ابن النديم (صاحب الفهرست) عن أثار الجاحظ فيقول: “كتبه وهي مائة ونيف وسبعون[16]“. وقال سبط بن الجوزي عن عدد مؤلفات الجاحظ:”أما مصنفاته فثلاثمائة وستون مصنفا، ووقفت على أكثرها في مشهد الإمام- أبي حنيفة[17]“. ولقد أكثر الجاحظ من التأليف حتى قيل: إنه بزّ من سبقه، ومن لحقه[18]، كما قال المسعودي: “ولايعلم أحد من الرواة، وأهل العلم، أكثر كتباً منه وكان له وراق خاص اسمه (ابن زكريا)[19]“. كان الجاحظ من الثقافة الموسوعية بحيث كتب في موضوعات شتى مثل العلم والأدب والسياسة والدين والفلسفة ويقول عمر فروغ فيه:”كتب الجاحظ كثيرة جداً ومتنوعة الموضوعات، فقد كتب الجاحظ في معظم الفنون التي كانت معروفة في أيّامه”.
واحصى ياقوت الحموي أثار الجاحظ قائلا “هذا فهرست كتب الجاحظ: كتاب الحيوان وهو سبعة أجزاء وأضاف اليه كتاباً آخر سمّاه: كتاب النّساء (الفرق بين الذكر الأنثى)، و كتاباً آخر سمّاه: كتاب النعل. قال ابن النديم. ورأيت أنا هذين الكتابين بخطّ زكرياء بن يحي- ويكنى أبا يحي- ورّاق الجاحظ، وقد أضيف اليه كتاب سمّوه كتاب الإبل ليس من كلام الجاحظ ولايقاربه، وكتاب الحيوان ألّفه باسم محّمد بن عبد الملك الزيات. قال ميمون بن هارون: قلت للجاحظ ألك بالبصرة ضيعة؟ فتبسّم وقال: إنّما أنا وجارية، وجارية تخدمها وخادم وحمار، أهديت كتاب الحيوان إلى محّمد بن عبد الملك فأعطاني خمسة آلاف دينار، وأهديت كتاب البيان والتبيين إلى ابن أبي دؤاد فأعطاني خمسة آلاف دينار، وأهديت كتاب الزرع والنّخل إلى إبراهيم بن العبّاس الصولي فأعطاني خمسة آلاف دينار،فانصرفت إلى البصرة ومعي ضيعة لاتحتاج إلى تجديد ولا تسميد، كتاب البيان والتبيين نسختان: أولى وثانية، والثانية أصحّ وأجود: كتاب النبي والمتنبّىئ، كتاب المعرفة، كتاب جوابات كتاب المعرفة، كتاب مسائل كتاب المعرفة، كتاب الردّ على أصحاب الإلهام، كتاب نظم القرآن ثلاث نسخ، كتاب مسائل القرآن، كتاب فصيلة المعتزلة، كتاب الردّ على المشبّهة، كتاب الإمامة على مذهب الشيعة، كتاب حكاية قول أصناف الزيدية، كتاب العثمانية، كتاب الأخبار وكيف تصحّ؟ كتاب الردّ على النصارى، كتاب عصام المريد، كتاب الردّ على العثمانية، كتاب إمام معاوية، كتاب إمامة بني العبّاس، كتاب الفتيان، كتاب القوّاد، كتاب اللّصوص، كتاب ذكر ما بين الزيدية والرّافضية، كتاب صياغة الكلام، كتاب المخاطبات في التوحيد، كتاب تصويب علي في تحكيم الحكمين، كتاب وجوب الإمامة، كتاب الأصنام، كتاب الوكلاء المتوكّلين، كتاب الشارب والمشروب، كتاب افتخار الشتاء والصيف، كتاب المعلّمين، كتاب الجواري، كتاب نوادر الحسن، كتاب البخلاء، كتاب الفخر بين عبد شمس ومخزوم، كتاب العرجان والبرصان، كتاب فخر القحطانية والعدنانية، كتاب التربيع والتدوير، كتاب الطفيليين، كتاب أخلاق الملوك، كتاب الفتيا، كتاب مناقب جند الخلافة وفضائل الأتراك، كتاب الحاسد والمحسود، كتاب الردّ على اليهود، كتاب الصرحاء والهجناء، كتاب السودان والبيضان، كتاب المعاد والمعاش، كتاب النّساء، كتاب التسوية بين العرب والعجم، كتاب السلطان وأخلاق أهله، كتاب الوعيد، كتاب البلدان، كتاب الأخبار، كتاب الدلالة على أنّ الإمامة فرض، كتاب الاستطاعة وخلق الأفعال، كتاب المقيّنين والغناء والصنعة، كتاب الهدايا منحول، كتاب الإخوان، كتاب الردّ على من ألحد في كتاب الله عزّ وجلّ، كتاب آى القرآن، كتاب الناشي والمتلاشي، كتاب حانوت عطّار، كتاب التمثيل، كتاب فضل العلم، كتاب المزاح والجدّ، كتاب جمهرة الملوك، كتاب الصوالجة، كتاب ذمّ الزنا، كتاب التفكّر والاعتبار، كتاب الحجر والنبوّة، كتاب آل إبراهيم بن المدبّر في المكاتبة، كتاب أمّهات الأولاد، كتاب الاعتزال وفضله عن الفضيلة، كتاب الأخطار والمراتب والصناعات، كتاب أحدثة العالم، كتاب الردّ على من زعم أنّ الإنسان جزءاً لايتجزأ، كتاب أبي النجم وجوابه، كتاب التفّاح، كتاب الأنس والسلوة، كتاب الكبر المستحسن والمستقبح، كتاب نقص الطّبّ، كتاب الحزم والعزم، كتاب عناصر الآداب، كتاب تحصين الأموال، كتاب الأمثال، كتاب فضل الفرس، كتاب على الهملاج، كتاب الرسالة إلى أبي الفرج بن نجاح في امتحان عقول الأولياء، كتاب الرسالة إلى أبي النجم في الخراج، كتاب رسالته في القلم، كتاب رسالته في فضل اتخاذ الكتب، كتاب رسالته فى كتمان السرّ، كتاب رسالته فى مدح النبيذ، كتاب رسالته فى ذمّ النبيذ، كتاب رسالته فى العفو والصفح، كتاب رسالته فى إثم السكّر، كتاب رسالته فى الأمل والمأمول، كتاب رسالته فى الحلية، كتاب رسالته فى ذمّ الكتّاب، كتاب رسالته فى مدح الكتّاب، كتاب رسالته فى مدح الورّاق، كتاب رسالته فى ذم الوراق، كتاب رسالته فيمن يسمى من الشعراء عمراً، كتاب رسالته اليتيمة، كتاب رسالته فى فرط جهل يعقوب بن إسحاق الكندي، كتاب رسالته فى الكرم إلى أبى الفرج بن نجاح، كتاب رسالته فى موت أبى حرب الصفار البصري، كتاب رسالته فى الميراث، كتاب فى الأسد والذئب، كتاب رسالته فى كتاب الكيمياء، كتاب الاستبداد والمشاورة في الحرب، كتاب رسالته فى القضاة و الولاة، كتاب الملوك والأمم السالفة والباقية، كتاب رسالته فى الرد على القوليّة، كتاب العالم و الجاهل، كتاب النرد والشطرنج، كتاب غشّ الصناعات، كتاب خصومة الحول العور، كتاب ذوى العاهات، كتاب المغنّين، كتاب أخلاق الشطّار[20].
أما آثار الجاحظ المطبوعة فقد أحصينا منها {سبعة وخمسين-57} أثراً مؤكَّد النِّسبة له، وهذا مسردٌ لها. ذاكرين عدد طبعاتها أَو أهمِّها ومعرضين عن تبيان المصادر القديمة التي ذكِرَتْ فيها لأنَّ ذلك لن يقدِّم أو يؤخر في شيءٍ بَعْدَ ثُبُوتِ نسبتها إليه، تاركين الآثار التي ثبت نحلها إليه مثل التَّاج في أخلاق الملوك وتهذيب الأخلاق والأمل والمأمول[21].
أسلوب الجاحظ من خلال كتاباته:
في العصر الجاهلي لم يكن تدوين النصوص الأدبية شائعاً، وإن كانت الكتابة معروفة مستعملة. و أثّر ذلك في أسلوب هذه النصوص في العصر الإسلامي، وذلك لأن الأدباء اضطروا إلى تأليف نصوص تتسم بسمتين أسلوبيتين رئيستين، هما: الإيجاز والموسيقى، وهاتان السمتان واضحتان في أسلوب الأجناس الأدبية التي عرفها الأدب في العصر الجاهلي وهي: الشعر والخطابة والأمثال وسجع الكهّان. كما أنهما تلائمان “الذاكرة”، وتساعداها على حفظ النصوص واستعادتها. ومن ثمَّ كان هناك ضعف في التدوين، قاد إلى تقوية الذاكرة لئلا تضيع النصوص بعد إبداعها. وكان هناك تلاؤم أسلوبي مع هذا الحال، تجلّى في الاعتماد على سمات تلائم الذاكرة وتساعدها على الاحتفاظ بالنصوص. فالإيجاز سمة واضحة في الشعر والنثر في العصر الجاهلي، رسّخها الاعتماد على الذاكرة التي تجافي الإطالة، وعدّها العرب أساساً من أسس البلاغة. وإذا قصرنا الحديث على النثر وحده لاحظنا أن سمتي الإيجاز والموسيقى انتقلتا إلى أدب صدر الإسلام، لأن التدوين لم يختلف في صدر الإسلام عمّا كان عليه في العصر الجاهلي. يستثنى من ذلك تدوين القرآن الكريم، وهو التدوين الذي حفظ هذا النص العظيم من التحريف، وجعله مثلاً أعلى للبلاغة العربية. أما الحديث الشريف الذي استندت بلاغة النبي محمد (صلى الله عليه وسلّم) فيه إلى الإيجاز نفسه، فقد تأخر تدوينه، وكان هذا التأخر سبباً من أسباب نشوء علم الحديث. وتهمني الإشارة إلى أن النثر في صدر الإسلام استمر في الاعتماد على الذاكرة و ما يتصل بها من إيجاز، حتى إنه يصعب العثور على نص نثري طويل منسوب إلى تلك المرحلة.
أما الموسيقى فقد ضعف أمرها رويداً رويداً، لأن النثر مال إلى التخلي عن السجع وتنميق الكلام، وشرع يصبح مرسلاً. وما إن بدأ التدوين يفشو في العصر الأموي حتى أصبح استعمال النثر المسجوع غير مستحب. وأما رسائل عبد الحميد الكاتب التي ضاع أكثرها، وحفظ القلقشندي في”صبح الأعشى” قليلاً منها، إلا نموذج لما أقول. فقد دبّ الخلاف حول أسلوب رسائله نتيجة استعماله السجع والتوازن والازدواج، في حين تخلّص معاصره عبد الله بن المقفع من ذلك، وراح يستعمل الأسلوب المرسل الذي لا يتقيد بازدواج وسجع وترادف وتنميق. وكأن الأسلوب المسجوع الذي اختفى بعد ظهور الإسلام، عاد ثانية في إهاب عبد الحميد الكاتب، وأصبح النثر الفني العربي يملك نوعين من الأسلوب: نوعاً مرسلاً ونوعاً مسجوعاً، ويُقدم ابتداءً من العصر العباسي ممثِّلين لهما، وصراعاً بينهما. وأنّ كتابات الجاحظ هى مجموعة من النوعين من المرسل والمسجوع. ونجد البلاغة و الإيجاز من الأسلوب في صدر الإسلام حتى انتهى في العصر الأموي إلى عبد الحميد الكاتب فأطال الرسائل وادخل التحميدات في فصول الكتب . فلما جاء العصر العبّاسي الأول نبغ ابن المقفع وهو إمام المنشئين في ذلك العصر كما يظهر في ترجمة “كليلة و دمنة” وهو إنشاء مرسل بلا تسجيع و لاتقطيع[22].
وأما العصر العباسي الثاني، فنبغت فيه طبقة من الكتّاب المنشئين لا يشق لهم غبار، إمامهم الجاحظ الذي وضع أسلوبا في الإنشاء قلدوه فيه . وذلك أنه جعل الجملة قطعة صغيرة مثل الشعر لكن بدون وزن ولاقافية، أو هو سجع لاتشترط فيه القافية كقوله : “جنبك اللّه الشبة، وعصمك من الحيرة، وجعل بينك و بين المعرفة سببا و بين الصدق نسبا، وحبب إليك التثبت، وزين في عينك الإنصاف، وأذاقك حلاوة التقوى، أشعر قلبك عز الحق، وأودع صدرك برد اليقين، وطرد عنك ذل اليأس..ألخ ” وهذا الأسلوب في الإنشاء ينسب إلى الجاحظ، وقد توخاه معاصروه فنسجوا على منواله كابن قتيبة و المبرد و ابن ثوابة وغيرهم . ومن أمثلة ذلك قول حمزة الأصفهاني جامع ديوان أبي نواس. فإنه من أهل العصر العباسي الثاني وأسلوبه كأسلوب الجاحظ – قال في مقدمة الديوان المذكور: “سألتني أبقاك اللّه أعلى قدرك وبلغك أقصى أملك، وزادك من فضلك ما خولك، وأحسن ما منحك، ولا أعدمك جميل ما عودك، ان اصرف لك عنايتي إلى عمل مجموع من شعر ابي نواس. يشتمل على كل أشعاره، و جل أخباره. وقد أسعفتك أيدك أللّه بطلبتك واجبتك إلى ملتمسك ألخ” ولايؤخذ من ذلك أن تكون أساليب الكتّاب في ذلك العصر واحدة من كل وجه، وهو غير طبيعي. أما الطبيعي أن يكون لكل كاتب أسلوب يعرف به. ولكن أبناء العصر الواحد تتشابه أساليبهم، ويغلب أن يكون أحدهم مقدا ما يسيرون على خطواته فيقلدونه في أسلوبه كل منهم جهد طاقته. والجاحظ في هذا العصر إمام أهل الأدب و قدوة المنشئين.
ويعد الأسلوب أحد المميزات الكبرى التي يمتع بها الجاحظ و يعتبر كتاب البخلاء أحد الكتب التي انتقد فيها شريحةً من مجتمعه، وأسلوب الجاحظ فى السخرية والفكاهة والإضحاك، واتخاذه سبيلا للمواجهة، فقد كان يعالج المشكلات، ويجابه المواقف بالسخر، ويواجه الخصوم بالهزء والاستخفاف كما تفنن فى الأجوبة المسكتة، والتخلص الذكي، واستبطان أسرار النفوس، مستخدما السخر اللاذع، والفكاهة المرحة، والطرائف المسلية، ليدفع عن نفوسنا عبء الحياة الثقيلة.
خصائص أسلوب الجاحظ:
إنّ الجاحظ يعد الأسلوب أحد المميزات الكبرى التي يمتع بها، فهو سهل واضح فيه عذوبة و فكاهة و استطراد بلا ملل كما توجد فيه موسوعية ونظر ثاقب وإيمان بالعقل لا يتزعزع. عرف أسلوبه بإيقاعيته وقصر عباراته واستطراداته، مع روح ساخرة، سخرت من كل أشكال القبح في عصره حسِّيًا كان أو معنويًا. وأوتي مقدرة بيانية مكَّنته من مدح الشيء وذمِّه. وللجاحظ في كتبه أسلوبان: أسلوب أنيق (فيه صناعة وموازنة وسجع وتأنّق في اختيار الألفاظ وترديد للمعنى الواحد في تركيب مختلفة). ويكاد يكون هذا الأسلوب مقصوراً على مقدّمات كتبه ومطالع فصوله. ثمّ له أسلوب يجري فيه على السليقة ويعالج به الموضوعات التي يتناولها في متون كتبه[23].
والجاحظ في أسلوبه فصيح الألفاظ متين التركيب يمزج الجدّ بالهزل ويكثر من الاستطراد. والاستطراد هو أن يخرج الكاتب عن الموضوع الذي يعالجه إلى موضوع آخر قريب منه أو بعيد. وكان الجاحظ يفعل ذلك ترويحاً عن القارئ ودفعاً للملل عنه. والأسلوب الذي يجري فيه الجاحظ على السليقة شديد الصلة بأسلوب ابن المقفّع في كتاب “كليلة ودمنة”. إلاّ أن أسلوب الجاحظ أمتن وآنق. ونحن اليوم إذا أردنا أن نخطب في أمر عامّ أو أن نحاضر في موضوع علميّ أو أن نكتب في مجلّة أو جريدة لجأنا في الأكثر إلى أسلوب ابن المقفع. أما إذا أردنا أن نكتب مقدمةً لكتاب أو أن نطنب في وصف أمر من الأمور، خطابةً أو كتابة، فإننا نلجأ عادةً إلى أسلوب الجاحظ[24].
أسلوب الجاحظ من خلال بعض مؤلفاته:
لقد كان للجاحظ أسلوب فريد يشبه قصص ألف ليلة وليلة المتداخلة… إذ أن شهرزاد تحكي لشهريار قصة. ثم يحكي أحد أبطال هذه القصة قصة فرعية. وتتخلل القصة الفرعية قصة ثالثة ورابعة أحيانًا. ثم نعود للقصة الأساسية. فالجاحظ يتناول موضوعًا ثم يتركه ليتناول غيره. ثم يعود للموضوع الأول وقد يتركه ثانية قبل أن يستوفيه وينتقل إلى موضوع جديد… وهكذا. حينما نقرأ كتب الجاحظ نجد فيها أسلوبين مهمين: فالأول أسلوب أنيق يعني الأسلوب فيه نوع من الصناعة والموازنة والسجع والتأنق في اختيار الألفاظ، وترديد للمعنى الواحد في التراكيب المتعددة المختلفة، استخدم الجاحظ هذا الأسلوب في مقدمات كتبه و مطالع فصوله خاصةً. والثاني أسلوب يجري على السليقة ويعالج به الموضوعات التي يتناولها في متون كتبه عامةً. والآن أقوم بعرض الأساليب الخاصة بالكتب ألفّها أبوعثمان الجاحظ وعرض الأسلوب في كتبه المهمّة بقدر من التفاصيل كمايلي:
- كتاب الحيوان :
وكتاب الحيوان أكبر كتب الجاحظ حجماً وأجمعها لفنون العلم والأدب معاً. و”الحيوان” جامع للكلام على أنواع الحيوان وأجناسه وأعضائه ولأحواله وطرق حياته. و قد استمدّ الجاحظ معلوماته فيه من القرآن الكريم والحديث الشريف ومن الشعر العربي وأقوال العرب. واعتمد الجاحظ في هذا الكتاب اعتماداً كبيراً على كتاب الحيوان للفيسوف اليوناني أرسطوطاليس[25]. وفي كتاب الحيوان استطراد كثير إلى ذكر القصص المتعلّقة بالحيوان وإلى شئ كثير من الشعر ومن أخبار الأدب والفلسفة و من الكلام على حياة الاجتماعية. ومع أنّ القصد الأول من وضع هذا الكتاب كان الإحاطة بعلم الحيوان، فإنّ قيمته لنا اليوم في أخباره الأدبية والتاريخية التي كان الجاحظ قد استطرد اليها استطراداً. إنّ في كتاب الحيوان مثلاً خمسين طرديّة (قصيدة في وصف الصيد) لأبي نواس. أمّا الأمور العلمية المتعلقة بالحيوان فليس لها اليوم قيمة علمية لأن علم الحيوان قد تقدّم كثيراً في الألف والمائة سنة التي تفصلنا عن الجاحظ[26].
وقد أوضح الجاحظ في “الحيوان” أسلوب تأليفه للكتاب قائلاً : “متى خرج -القارئ- من آي القرآن صار إلى الأثر، ومتى خرج من أثر صار إلى خبر، ثم يخرج من الخبر إلى الشعر، ومن الشعر إلى النوادر، ومن النوادر إلى حكم عقلية ومقاييس شداد، ثم لا يترك هذا الباب ولعله أن يكون أثقل والملال أسرع حتى يفضي به إلى مزح وفكاهة وإلى سخف وخرافة ولست أراه سخفًا”. ويبدو أن عدم ثقة الجاحظ في القراء على وجه العموم كانت سبباً في سلوكه هذا السبيل. فهو يقول: “ولولا سوء ظني بمن يظهر التماس العلم في هذا الزمان، ويظهر اصطناع الكتب في هذا الدهر لما احتجت إلى مداراتهم واستمالتهم، وترقيق نفوسهم وتشجيع قلوبهم إلى هذه الرياضة الطويلة، وإلى كثرة هذا الاعتذار، حتى كأن الذي أفيده إياهم أستفيده منهم، وحتى كأن رغبتي في صلاحهم رغبة من رغب في دنياهم” والجاحظ بفكره الذي يعلي من شأن العقل، وهذه الثقافة المتنوعة الجامعة، وهذا العمر المديد بما يعطيه للمرء من خبرات وتجارب، وهذا الأسلوب المميز: استحق مكانه المتميز في تاريخ الثقافة العربية بما له من تأثير واضح قوي في كل من جاءوا بعده.
- كتاب البيان والتبيين:
ألّف هذا الكتاب بعد تصنيف كتاب الحيوان. وكانت غاية الجاحظ من تأليف البيان (وضوح كلام العرب) والتبيين (التعبير بوضوح عن مقاصد الإنسان) أن يدافع عن تفوّق البيان العربي في جميع مظاهره وأن يردّ على الشعوبية الذين كانوا يريدون أن ينتقصوا العرب بالتعريض ببعض أحوالهم الاجتماعية والأدبية كحملهم العصا عند الخطابة، حتى إنه عقد فصلا طويلا في هذا الكتاب سمّاه “باب العصا” للردّ على الشعوبية خاصة. وقد تكلم الجاحظ في البيان والتبيين على الألفاظ والتراكيب وعلى لهجات العرب في البدو والحضر، ثمّ تكلم على الشعراء والخطباء والنساك والمعتزلة، وعلى مكانة البيان العربي بالإضافة إلى عبقرية الأمم، وعلى أن عبقرية العرب إنما هي في لغتهم وبيانهم وشعرهم. وجمع الجاحظ في هذا الكتاب نماذج من الشعر والنثر، تمثّل أوجه التعبير عن المقاصد وتصف أحوال الإنسان وتأتي شواهد على الآراء والمعتقدات وعلى حقائق الأمور. وفي هذا الكتاب استطراد كثير[27]. ويرى الجاحظ أن حقيقة البيان هو الكشف عن المعنى بألفاظ تؤدّي إلى الفهم والإفهام: إن المعاني كثيرة متشعبة ولكنّها مستورة في الصدور،وإنما الفضل في الدلالة عليها باللفظ الحسن. والجاحظ يرى أنّ الكلام الفاسد الساقط آلف لآذان الناس وأسرع إلى العلوق بألسنتهم وأشد التحاماً بالطبائع[28]. والانسان بالتعلم والتكلف وبطول الاختلاف إلى العلماء ومدرسة كتب الحكماء يجود لفظه ويحسن أدبه[29]، فمن الكلام الجزل والسخيف والمليح والحسن والقبيح….وكله عربيّ….وقد يحتاج إلى السخيف في بعض المواضع، وربما أمتع (السخيف) بأكثر من إمتاع الجزل الفخم من الألفاظ الشريفة المعاني الكريمة[30]. والجاحظ يوافق بعض الربانيين من الأدباء في قوله: “إن المعنى إذا اكتسى لفظاً حسناً وأعاره البليغ مخرجاً سهلاً ومنحه المتكلم قولاً متعشّقاً صار في قلبك أحلى ولصدرك أملأ. والمعاني إذا كسيت الألفاظ الكريمة وألبست الأوصاف الرفيعة تحولت في العيون عن مقادر صورها وأربت على حقائق أقدارها بقدر ما زيّنت به وعلى حسب ما زخرفت[31]“.
وأسلوب الجاحظ في البيان والتبيين أنيق وحلو وبليغ وعذب. واستخدم الجاحظ في هذا الكتاب أسلوبا مرسلا ليس فيه شئ من التوازن والترادف ونجد فيه مطابقة العبارة لمقتضى الحال، والبيان أو وضوح الدلالة، والإيجاز وعدم التكلف، و فيه قد قام الجاحظ باستخدام أجمل الألفاظ وأنسب العبارات وأحسن التراكيب وأفضل التعبيرات و وفرة المحسّنات البديعية، ولذا يعد هذا الكتاب من الروائع العربية حتى الآن.
- كتاب التاج في أخلاق الملوك:
هذا الكتاب كتبه الجاحظ في السياسة. وأنّه كتاب غريب، انفرد بذكر الكثير من الأخبار، وكره المتعصبون للجاحظ أن ينسب إليه. وقد افتتحه وختمه بتعظيم الفتح بن خاقان وزير المتوكل، والمقتول معه. طبع الكتاب لأول مرة في القاهرة بعناية العلامة أحمد زكي باشا سنة 1914م. وأسلوب الكتاب بليغ وأنيق وفيه يضم مراسم الدخول على الملوك ومجالستهم، ووداعهم للأشراف، وصورة الخطى بين أيديهم، وركوب الدواب بإزائهم، وما يجب على كل طبقة من ذلك. وضمنه الكثير من دساتير ملوك العجم، التي أخذنا عنها قوانين الملك والمملكة. والتي إذا لم يراعها الناس خربت الدول. وذكر في مقدمته أن الذي حداه لتأليفه أمور، منها: ما أوجبه الله تعالى على العلماء من توقير الملوك وطاعتهم. .. .. ومنها: تعريف العامة بما تجهل من الأقسام التي تجب لملوكها عليها. ونبه إلى أن هذه الأخلاق هي أخلاق الملوك، ممن هم دون الملك الأعظم. ومن العدل أن يعطي الملك كل أحد قسطه وكل طبقةٍ حقها، وأن تكون شريعة العدل في أخلاقه كشريعة ما يقتدي به من أداء الفرائض والنوافل التي تجب عليه رعايتها والمثابرة على التمسك بها، وإيناس الناس في بسط أيديهم في الطعام، حتى يسوي في ذلك بين الملوك والأمراء والحكّام والنمط الأوسط والعامة[32].
- كتاب المحاسن والأضداد:
من عيون كتب الجاحظ، أودع فيه ما شاء إيداعه من محاسن الشيء وضده، في كل علم وفن، مصوراً ما عليه الناس من الأخلاق والصفات والفوارق الظاهرة، والعادات والمنازع المختلفة، ونثر فيه الحديث عن جوانب غير معروفة من حياة فئة من ذوي الشأن والسلطان. وقد افتتحه بكلمته السائرة التي تحدث فيها عمن يحط من قدر مؤلفاته التي يمهرها باسمه، ويتناولون بالإجلال والتكريم تلك المؤلفات التي يصنعها الجاحظ بنفسه وينسبها لابن المقفع والخليل بن أحمد ويحى بن خالد وأمثالهم، قال: (فيأتيني أولئك القوم بأعيانهم الطاعنون على الكتاب الذي كان أحكم من هذا الكتاب لاستنساخه وقراءته علي، ويكتبونه بخطوطهم ويصيرونه إماماً يقتدى به) إلى أن قال: (وهذا كتاب وسمته بالمحاسن والأضداد، ولم أسبق إلى نحلته، ولم يسألني أحد صنعته، وابتدأته بذكر محاسن الكتابة والكتب، وتمته بذكر شيء من محاسن الموت، والله يكلؤه من حاسد إذا حسد). ونجد نقولات من الكتاب في (خزانة الأدب) للبغدادي، إلا أنه يسميه (المحاسن والمساوئ) ومن نقولاته عنه: قصة البيت (وناهدة الثديين) وقصة البيت: (ألا سبيل إلى خمر فأشربها) وماعداها مع قصة المثل: (أبخل من مادر) وخبر دير حرقة. طبع الكتاب طبعات كثيرة، أولها طبعة مصطفى الكتبي بمصر سنة 1912م. والأسلوب في هذا الكتاب أنيق و رائع. واستخدم الجاحظ في هذا الكتاب أسلوبا مرسلا.
- كتاب البخلاء
أخيراً، اقول عن كتاب “البخلاء” بأنّ هذا الكتاب الذي صور فيه الجاحظ البخلاء الذين قابلهم وتعرفهم في بيئته الخاصة خاصة في بلدة مرو (عاصمة خراسان)، وفيه صور الجاحظ تصويراً واقعياً حسّياً نفسياً فكاهياً , فأبرز لنا حركاتهم ونظراتهم القلقة، وكشف أسرارهم وخفايا منازلهم واطلعنا على مختلف أحاديثهم، وأرانا نفسياتهم وأحوالهم جميعاً، فالكتاب دراسة اجتماعية تربوية نفسية اقتصادية لهذا الصنف من الناس، يوثق لهذه الفئة بشكل ساخر و فكاهي و ومازح وهزلي، و الكتاب يعد مصدر توثيق مهم جدا للأجيال المتوالية سواء على مستوى التربية أو المستوى الإبداعي و في هذه الحالة من الممكن أن نعتبر كتاب الجاحظ (البخلاء). وجمع فيه الجاحظ قصصاً عن البخل والبخلاء، وخصوصاً البخل بالطعام. وأكثر هذه القصص واقعية ولكنّ الكاتب ستر أسماء نفر من أصحابها. ويقصد الجاحظ أن يصوّر في هذا الكتاب طبائع الناس وعاداتهم وخصوصاً أولئك الذين يبخلون بشئ دون شئ أو يبخلون على أنفسهم خاصة ويتحملون كل مشقة في أجسامهم وفي أنفسهم في سبيل ادّخار المال، كما يتساهلون في سبيل ذلك بكثير من مثلهم العليا. ثمّ إن الجاحظ يريد أن يصف جانباً من الحياة في العصر العبّاسي: حياة البخل في خصم من الترف، وحياة أولئك الذين كانوا فقراء ثم أيسروا فجأة من طريق رواج تجارتهم أو صناعتهم أو ارتفاع أثمان أراضيهم بعد ذلك الانقلاب الاقتصادي الذي حدث في صدر العصر العبّاسي[33].
وأسلوب الجاحظ في كتاب البخلاء حسّي ماديّ، فهو يحرص على استعمال الكلمات التي تقرّب الصورة الحسيّة من الذهن ولو كانت قريبة من العاميّة، نحو “قوّر الرغيف”. وقلما يذكر الجاحظ المغزي المقصود من القصّة التي يحكيها، بل يترك ذلك للقارئ يستنتج ما يستطيع أن يتخيّل به القصّة التي واضحة أو البخل الذي تشير اليه مجسّماً مبالغاً فيه. وليس في كتاب البخلاء استطراد، لأنّ موضوع الكتاب كلّه فكاهيّ[34]. وأسلوب الجاحظ في بقية الكتب ليس بمختلف من أسلوب الكتب المذكورة اعلاه والمطلوب من دارسي انتاجات الجاحظ الغزيرة الوافرة: من فضلهم القياس على العبارات المذكورة الخاصة بأسلوب الجاحظ في كتبه الكثيرة النافعة المثمرة ذات أهمية هامة وقيمة قيّمة.
ميزات أسلوب الجاحظ:
كان عصر الجاحظ عصر ازدهار واستقرار، ومزيجاً هائلاً من جميع الألوان، فتباينت البيئة العامة والبيئة الفكرية، وقد كان لهما أثرهما الواضح في أثار الجاحظ وأعماله الغزيرة[35] وأسلوبه الأنيقة والآن نذكر بزعة ميزات أسلوب الجاحظ الخاصة البارزة وهي كمايلي:
أوّلاً: هناك مَنْ يعتقد بأن للجاحظ أسلوبين: أسلوباً مرسلاً ليس فيه شيء من التوازن والترادف، كما هي حال أسلوبه في “الحيوان” و”البيان والتبيين”. وأسلوباً مترسّلاً أدبياً، فيه شيء من التوازن والترادف والازدواج، كما هي حال أسلوبه في “البخلاء” و”رسالة التربيع والتدوير” التي سخر فيها من أحمد بن عبد الوهاب، و”رسالة الشكر” التي مدح بها وزير المتوكل، و”رسالة وصف قريش” و”رسالة وصف الكتّاب”… والظن بأن المرونة- وهي أكثر سمات أسلوب الجاحظ بروزاً- أوحت بهذا التباين بين الأسلوبين، لأنها لوّنت أسلوب الجاحظ، فبدا أدبياً حيناً، وعلمياً أحياناً. فإذا سخر من أحمد بن عبد الوهاب بدا أسلوبه وصفياً قادراً على تقديم صورة تضم نواحي ضعف أحمد وتناقضه وجهله وحمقه وسوء أخلاقه. وإذا تحدّث عن الحيوان بدا أسلوبه مرسلاً قادراً على تقديم النظريات العلمية كالتأقلم والتطور، والمعارف العلمية الخاصة بالطب وأمراض الحيوان. وهذه المرونة في الانتقال من موضوع إلى آخر لا تخرج عن القدرة على التصرف باللغة العربية، وهي قدرة تنم على رصيده اللغوي، أي أنها مرونة لغوية اتسم بها أسلوبه، بحيث بدا متكثّراً وهو واحد .
ثانياً: اقترنت المرونة بسمة أخرى، هي الملاءمة بين الألفاظ والمعاني، أو بين المقال والمقام. فالجاحظ هو القائل في كتاب (الحيوان):”لكل ضرب من الحديث ضرب من اللفظ، ولكل نوع من المعاني نوع من الأسماء، فالسخيف للسخيف، والخفيف للخفيف، والجزل للجزل”. وقد قادته هذه السمة إلى نوع من الواقعية، فعدَّ الأدب صورة من الواقع، ولا بد له من أن يعبّر عن هذا الواقع وإن اضطر إلى استعمال بعض الألفاظ العامية والأعجمية، كما فعل الجاحظ في كتاب “البخلاء”. بل إن رأيه في رواية النوادر بالطريقة اللغوية التي قيلت فيها خضع لتفسيرات متناقضة، ذهب بعضها إلى أنه سمح باستعمال العامية، وذهب بعض آخر إلى أنه قصر هذا السماح على رواية النوادر وحدها لئلا يفسد الإمتاع الذي تُقدّمه النادرة. والظن بأن رأيه في رواية النوادرخاص وليس عاماً، كما أنه نابع من حرص أسلوبه على ملاءمة الألفاظ والكلمات للمعاني والملاءمة بين المقال والمقام.
ثالثاً: ليست هناك إمكانية للملاءمة بين اللفظ والمعنى إذا لم يتسم الأسلوب بالدقة. وقد كان الجاحظ حريصاً على الدقة في أسلوبه، بحيث ينتقي اللفظ الدال على المعنى، ويلتفت في أثناء الانتقاء إلى الجرس والإيقاع وقوة الدلالة، تبعاً لحرصه على الجزالة العربية التي تعني عذوبة الكلام في الفم ولذاذته في السمع. وهو في الغالب، ينتقي الألفاظ بمعانيها الحقيقية، دون أن يميل بها إلى المعاني المجازية . وليس هناك تعليل مقبول لمعيار انتقاء الألفاظ عنده غير رغبته في مخاطبة عقل القارئ. ولا يعني ذلك أنه لم يستعمل المعاني المجازية للألفاظ، بل يعني أنه ميال إلى مخاطبة عقل القارئ وفهمه وإدراكه وحواسه بما يقبله العقل وتصيغه الحواس دون جهد في التأويل والتفسير.
رابعاً: أعتقد أن تدقيق الجاحظ في الملاءمة بين الألفاظ والمعاني احتاج إلى أن يتسم أسلوبه بدقة الأداء إضافة إلى الدقة اللغوية. والمراد بدقة الأداء استعمال اللفظ في موضعه بحيث لا يصح استعمال غيره في الموضع نفسه، واستعمال المصطلحات ذات المفهومات المحددة في العلوم والآداب والفنون. وقد أسهمت دقة الأداء في مرونة أسلوبه، بحيث بدا فيلسوفاً في أثناء استعماله مصطلحات الفلاسفة، وعالماً في أثناء استعماله مصطلحات العلماء. بيد أن دقة الأداء لم تكن مقصورة في أسلوب الجاحظ على اللفظ وحده، لأنه لجأ إليها في صوغ تراكيبه أيضاً، بحيث تنسجم ألفاظها ولا تتنافر، ويبرز جرسها ومعناها دون أي خلل أو تقصير. وهذه الدقة في أداء التراكيب مسؤولة عن الوهم الذي أشرت إليه حين قلت أن هناك مَن يعتقد بأن للجاحظ أسلوبين: أسلوباً مرسلاً وأسلوباً مترسلاً. ذلك أنه استعمل في نثره المترسل الأدبي التوازن والترادف حفاظاً على جرس الجملة وانسجام الألفاظ وتقرير المعاني في أذهان القرّاء والدارسين وأسلوبه في هذ االحال ميال إلى التكرار اللفظي، سواء أكان الغرض من هذا التكرار توفير الجرس للتراكيب أم تأكيد المعنى في أذهان القراء.
خامساً: يخيَّل إليَّ أن دقة أداء التراكيب لوّنت أسلوب الجاحظ، بحيث جعلت جمله طويلة حيناً، وقصيرة أحياناً، دون أن يكون هناك معيار للطول والقصر فيها غير معيار الدقة في أداء الفكرة. فهو يعبّر عن الفكرة البسيطة بجملة قصيرة، وعن الفكرة الغامضة أو المجردة أو الدقيقة بجمل طويلة. وليس لهذه الجمل الطويلة نهاية غير اعتقاد الجاحظ بأنه وضّح المعنى المراد من الجملة توضيحاً لا لبس فيه. وهو في هذه الأحوال، حريص على تقسيم الجملة الطويلة إلى جمل قصيرة متوازنة أحياناً، منتهية غالباً بعذر يعلل الإطالة، كما فعل في خاتمة رسالة التربيع والتدوير.
سمات أخرى:
لا أشك في أن هناك سمات أخرى اشتهر بها أسلوب الجاحظ، كالإطناب والاستطراد وبروز الشخصية والقدرة على الإضحاك والإكثار من الاستشهاد بالقرآن الكريم والحديث الشريف والشعر والأمثال والابتعاد عن التكلف، ولم أر فائدة من تكرارها لاستفاضة شهرتها في الدراسات التي تحدثت عن الجاحظ، وخصوصاً الاستطراد الذي علله الجاحظ بدفع الملل والسآمة عن القارئ، ولجأ في سبيله إلى مزج الجد بالهزل، أو الخروج من النثر إلى الشعر. غير أنه من المفيد دائماً تحليل أسلوب أمير البيان، والتدقيق في علاقته بأسلوب القرآن والحديث النبوي، وتأثيره في أساليب الأدباء الذين أتوا بعده، وخصوصاً التوحيدي الذي لُقِّب بالجاحظ الثاني.
المرض والوفاة:
اشتد المرض بالجاحظ في أواخر أيامه فأصيب “بالفالج”، وقال المبرد يصف حاله: “دخلت على الجاحظ في أخر أيامه، فقلت له: كيف أنت؟ فقال: كيف يكون من نصفه مفلوج لو حزّ بالمناشير ما شعر به، ونصفه الأخر منقرس، لو طار الذباب بقربه ألمه، واشدّ من ذلك ست وتسعون سنة أنا فيها[36]“. وعلى الرغم من شدة المرض إلا أن المرض لم يكن هو السبب في وفاته، ولكن كان علمه هو السبب حيث يقال إنه توفى بعد سقوط قسم من مكتبته فوق رأسه يعني سقطت عليه مجلّدات من كتب، وجاءت وفاته عام 868م، وعمره نحو ستّ وتسعون سنة. وحدّث أحمد بن يزيد بن محمّد المهلّبيّ عن أبيه قائلا: “قال لي المعتزّ بالله: يا يزيد، ورد الخبر بموت الجاحظ، فقلت لأمير المؤمنين طول البقاء ودوام النعماء. قال، وذلك في سنة خمس وخمسين ومئتين” وفيه يقول أبو شراعة القيسي:
في العلم للعلماء إن يتفهّموه مواعظ
وإذ نسيت وقد جمعت علا عليك الحافظ
ولقد رأيت الظرق دهراً ما حواه الّلافظ
حتّى أقام طريقه عمرو بن بحر الجاحظ
ثمّ انقضى أمد به وهو الرئيس الفائظ[37]
وقد رحل الجاحظ عن الحياة تاركاً إرثاً أدبياً وعلمياً هائلاً فله العديد من التأليفات والتصنيفات وهي تنوعت مجالاتها بين علم الكلام والأخبار والحكمة والأدب واللغة والفكاهة والسياسة والتاريخ والفلسفة والدين والأخلاق والنبات والحيوان والصناعة والنساء وغيرها. وكان الجاحظ، كما يدل لقبه جاحظ العينين (أي بارزهما)، أسود دميم الخلق قصيراً، ولكنّه كان قويّ البنية نشيط الجسم[38]. وصفوة القول أن الجاحظ كان أمّة، وكان دائرة معارف، لانزال نتلمذ على تراثه العلمي حتى اليوم، وننهل من فيض أدبه وغزير علمه، ونمتع الروح والنفس برواية فكاهاته، والتحدث عن سخرياته، ويندر أن نجد أديباً، أو باحثاُ في الأدب، وناقداً أو فكهاً، أو صاحب مذهب ديني أو فكري، إلاّ وفي كتبه مقتبسات الجاحظ، واستشهاد بآرائه، ويكفي دليلاً على سبقه وفضله، وصلاحيته وأسلوبه وفكره، ان اسمه سيظل باقياً على امتداد الأجيال، خالدا ما تعاقب الليل والنهار.
***
[1] عبد الحليم محمّد حسين: السخرية في أدب الجاحظ، الدار الجماهيرية للنشر و التوزيع والإعلان مصراتة، ليبيا 1988م ، ص 31
[2] ياقوت: معجم الأدباء، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع: الجزأ السادس عشر ص 75
[3] الخطيب البغدادي،ج1، المجلد 12، ص 312، مطبعة السعادة، مصر 1931م
[4] جرجي زيدان: تاريخ أداب اللغة العربية، الهيئة العامة لمكتبة الأسكندرية، مصر، الجزأ الثاني، ص 171
[5] عمر فروخ: تاريخ الأدب العربي – الأعصر العبّاسية – ، دار العلم للملايين، بيروت لبنان، الجزأ الثاني، ص 307
[6] عبد الحكيم محمّد حسين: السخرية في أدب الجاحظ، الدار الجماهيرية للنشر و التوزيع والإعلان مصراتة، ليبيا 1988م، ص 31
[7] جرجي زيدان: تاريخ أداب اللغة العربية، الهيئة العامة لمكتبة الأسكندرية، مصر، الجزأ الثاني، ص 170
[8] ياقوت: معجم الأدباء، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع: الجزأ السادس عشر، ص 75
[9] جرجي زيدان: تاريخ أداب اللغة العربية، الهيئة العامة لمكتبة الأسكندرية، مصر، الجزأ الثاني، ص 171
[10] عمر فروخ: تاريخ الأدب العربي – الأعصر العبّاسية – ، دار العلم للملايين، بيروت لبنان، الجزأ الثاني، ص 304
[11] نفس المصدر، ص 305
[12] ياقوت: معجم الأدباء، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع: الجزأ 16، ص97–98
[13] جرجي زيدان: تاريخ أداب اللغة العربية، الهيئة العامة لمكتبة الأسكندرية، مصر، الجزأ الثاني، ص 171
[14] ياقوت: معجم الأدباء، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع: الجزأ السادس عشر، ص102-103
[15] الجاحظ: البخلاء، تحقيق طه الحاجري (مقدمة محقق الكتاب)، ص 18
[16] ابن حجر، لسان الميزان، ج4، ص 375
[17] سبط ابن الجوزي، مرآة الزمان، المجلد الثالث، الجزء العاشر، ورقة 58
[18] القالي، الأمالي، ج1، ص 248
[19] المسعودي، مروج الذهب، ج3، ص 135
[20] ياقوت: معجم الأدباء، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع الجزأ السادس عشر، ص106-110
[21] سبط ابن الجوزي، مرآة الزمان، المجلد الثالث، الجزء العاشر، ص 58 – 60
[22] جرجي زيدان: تاريخ أداب اللغة العربية، الهيئة العامة لمكتبة الأسكندرية، مصر، الجزأ الثاني، ص 189
[23] عمر فروخ: تاريخ الأدب العربي – الأعصر العبّاسية – ، دار العلم للملايين، بيروت لبنان، الجزأ الثاني، ص 307
[24] عمر فروخ: تاريخ الأدب العربي – الأعصر العبّاسية – ، دار العلم للملايين، بيروت لبنان، الجزأ الثاني ، ص 307
[25] نفس المصدر، ص 307 – 308
[26] نفس المصدر، ص 308
[27] المصدرالسابق، ص 309
[28] الجاحظ، البيان والتبيين، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة مصر 1932م، ج1، ص 85-86
[29]عمر فروخ: تاريخ الأدب العربي – الأعصر العبّاسية – ، دار العلم للملايين، بيروت لبنان، الجزأ الثاني، ص 305 – 306
[30]الجاحظ ، البيان والتبيين ، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة مصر 1932م ، ج1، ص 132-133
[31] نفس المصدر، ص 211
[32] نفس المصدر، ص 211
[33] عمر فروخ: تاريخ الأدب العربي – الأعصر العبّاسية – ، دار العلم للملايين، بيروت لبنان، الجزأ الثاني، ص 308
[34] نفس المصدر، ص 308
[35] عبد الحكيم محمّد حسين: السخرية في أدب الجاحظ، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان مصراتة، ليبيا 1988م ، ص 26
[36] ياقوت: معجم الأدباء، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع: الجزأ السادس عشر، ص 113
[37] نفس المصدر، ص 114
[38] عمر فروخ: تاريخ الأدب العربي – الاعصر العبّاسية – ، دار العلم للملايين، بيروت لبنان، الجزأ الثاني، ص 305
*الباحث بمركز الدراسات العربية و الإفريقية، جامعة جواهرلال نهرو، نيودلهي، الهند.
Leave a Reply