زرت يوما من الأيام حديقة جميلة في قلب مدينة رائعة مليئة بالأزهار الجذابة تتمتع بها الفراشات وتلعب بها الهواء، والفتيات والفتيان يجلسون هنا وهناك جماعات وفرادى متجاذبين أطراف الحديث، فرأيت من بينهم مختارا – صديقي الحميم من زمن الكلية – جالسا وغارقا في الفكر في إحدي زوايا الحديقة، ولا تظهر من محياه أثر الفرح والسرور كما يبدو على الوجوه الأخرى في نفس الحديقة، تأملت قليلا واقتربت من الوراء بتلصص وسلمت عليه فجأة قائلا ماذا تفعل يا دكتور؟ ففزع من صوت مفاجئ وحاول إخفاء جزعه، ونفض رأسه ومسح يديه على وجهه لئلا تقع عيناي على الكأبة والحزن الذين يعبّر عنهما وجهه بكل وضوح وصراحة، و ردّ علي السلام وعلّق على كلمة “دكتور” قائلا أفعل ايه بالدكتوراه يا أخي مكرم! ماذا تفيد الدكتوراه؟ هل تعود هذه الشهادة العالية بالنفع؟ هل تساعد في الحصول على الوظيفة؟ كلا.. كلا… كلا…. لأنه في معظم الأحيان لا يُنظر إلى مؤهلاته العلمية لاختياره في الوظائف بل يُنظر إلى حسبه ونسبه وإقليميته ونفوذ أهله أو صلته بأهل النفوذ وقربته من أهل الرأى و..و…و…. وفاضت عيناه بالدموع وابتلّت لحيته القصيرة، فاندهشت من هذا، وربتُّ على كتفه لتهدئته، وقلت له لا تيأس من رَوح الله، إنه يرى كل شئ، إنه سَمِيع بَصِير، إنه سيحكم بالعدل عاجلا أو آجلا إذ الحق يعلو ولا يُعلى عليه.
في أثناء ذلك جاء مجيد وسلّم علينا، وسأل عن أحوالنا، وجلس بيننا، واستفسر عن موضوع كلامنا، وخاض في الحديث معنا، ثم انضم إلينا ناهد بعد ذلك، و بيّن كل منا تجربته الشخصية عما يحدث في المقابلات الشخصية لشغل المناصب الشاغرة في جامعتنا. و قال مجيد فيما قال معك حق يا مختار! إن طريقة تعيين البروفيسور في الجامعات الهندية تفقد الشفافية والنزاهة في زمننا، لأنها تعتمد كاملا على المقابلة الشخصية، والمقابلة الشخصية تتعرض دائما للمحاباة، والانحيازية، والمحسوبية، والإقليمية، والتعصب المذهبي وغيرها. وقد تلمست هذا المرض المهلك والمدمر للنظام التعليمي شخصيا إذ حضرت مقابلات شخصية متعددة. كم من مرة شاهدنا أن طالبا متفوقا وممتازا يفشل في تحقيق أمنيته، وييأس في حياته، ويقعد في بيته. و لكن طالبا مهملا يفوز بالمنصب و يحصل على الوظيفة. فرفع ناهد رأسه وقال إنه جزء من القضاء والقدر، علينا أن نؤمن بالقدر خيره وشره، لأن كل ما يحدث في هذه الدنيا الفانية هو بأمر الله، علينا أن نعمل ونبذل الجهد بقدر استطاعتنا و نترك الباقي على الله. هكذا استمرت ثرثرتنا لساعات، ثم انتهى حديثنا، ورجعنا إلى منزلنا، واشتغلنا بأمورنا. و بعد مرور بضعة أعوام، وجدت الفرصة للالتقاء بمختار، فسألته عن أحواله، واستفسرت عن أقربائه، وسألت عما فعل ويفعل في حياته. و في هذه المرة لم يكن حزينا أو كئيبا إذ كان قد تم تعيينه كبروفيسور مساعد في إحدى جامعات الهند. فحمدت الله على ذلك وقلت صدَقَ من قال: اعمـــــــــــلوا فكل ميسّر لما خُلقَ لــــــهُ.
* أستاذ ضيف بمركز الدراسات العربية و الإفريقية، جامعة جواهرلال نهرو، نيو دلهي، الهند
Leave a Reply