“جسر إلى الأبد” إحدى ثلاث مسرحيات كنفاني التي يحتوي عليها المجلد الثالث لمجموعة أعماله الكاملة الخاص بالمسرحيات، وكان غسان كفاني كتبها في عام 1965 لإحدى الإذاعات العربية بغرض نشرها في عشر حلقات وخاتمة ولكن لم تتم إذاعتها وكذلك لم تعرف طريقها إلى النشر.[1]
هناك جدل كثير في هل نعتبر “جسر إلى الأبد” مسرحية أم لا لعدم وجود بعض عناصر المسرحية فيها، فقد رفض بعض النقاد إدراجها في ضمن المسرح كما يقول غنام “أبدأ برفض إدراج جسر إلى الأبد ضمن المسرح كما درج الكثير من الباحثين، ولا أحسب أنهم فعلوا ذلك إلا من قبيل الكسل النقدي.”[2] ولكن لا يمكن لنا غض النظر عن هذه المسرحية، فهي إحدى أعمال غسان الثلاث في مجال المسرح، وهي تلقي الضوء على تطور الفن المسرحي لدى غسان، وكذلك تشير إلى رؤيته المتطورة في تناول القضية الفلسطينية من حيث المقاومة و الاستسلام.
عنونة المسرحية:
يمكن أن نقسم عنوان هذه المسرحية إلى جزئين، أولا “جسر” وثانيا “إلى الأبد”. كلمة الجسر عبارة عن العلاقات الوثيقة بين شيئين، فهي تقيم علاقة بين طرفين للنهر وتوجد التواصل بينهما ولذلك نرى الكتاب يستخدمون هذه الكلمة للتعبير عن العلاقات الوطيدة بين أمتين وبلدين، وهلم جرا، وفي هذا العنوان، تدل كلمة الجسر على العلاقات الحميمة بين الابن “فارس” وأمه، وترمز إلى العلاقة غير المنقطعة بين فلسطين وأبناءها الذين أُجبروا على النزوح والهجرة منها خلال قيام دولة إسرائيل المحتلة.
أما الجزء الثاني من هذا العنوان وهو “إلى الأبد” فيدل على وجود الأبدية في شيئ ما، سواء في فقدان شيئ أو في وجود شيئ، وهناك يدل على فقدان أمه للأبد، والكآبة والحزن والألم الناتجة من فراقها، ولا شك في أن رحيل الابن وموت أمه يرمز هنا إلى نزوح أهالي فلسطين من وطنهم، وفقدان أرضهم وإماطة إسم فلسطين من خارطة العالم على أيدى الصهاينة.
أهم أشخاص المسرحية:
فارس: فتى قد أنهى دراسته منذ سنتين، وتتمحور حوله المسرحية
الأم: أم فارس، امرأة عجوزة
رجاء: فتاة في العشرينات تكتب رسالة الدكتوراه في علم النفس
أبو رجا: رجل غني وله ابنة فقط وهي رجاء
الشبح/الصوت: يزور فارس كل ليل ليقول له كل يوم كلمة واحدة فقط.
تلخيص مسرحية “جسر إلى الأبد”:
تبدأ المسرحية بحادث مرور يؤدي إلى لقاء بطل المسرحية “فارس” ببطلتها “رجاء” بالمصادفة. فـ”رجاء” التي كانت تسوق سيارتها تصدم رجلا يجئ أمام سيارته وتسبب له جرحا ينزف منه الدم ويبلل قميصه. تنزل رجاء من سيارتها و تؤنب ذلك الرجل الذي يبدو غارقا في فكره ويسير في الطريق كأنه يتمشى في حديقة، و عندما ترى رجاء جرح الرجل والدم النازف منه، تطلب من الرجل أن يجلس في سيارتها لتأخذه للمستشفى رغم انكاره و تسامحه، فتتوجه معه إلى المستشفى وفي الطريق يخبرها الرجل عن إسمه وهو “فارس”، ويريها شيئا غريبا فقد كف الدم عن النزوف، وقد التأم الجرح، ويريها بعد قليل بأنه لا يوجد أي أثر لجرح، فتدهش بذلك رجاء وتصبح خائفة لفترة ما، وتسأله كيف يمكن ذلك، فيخبرها فارس عن قصته الغريبة وحالته المشوشة ويسرد لها ما حدث معه كما يلي.
“بعد منتصف الليل بقليل، قرأت صفحات من كتاب أحبه ثم أطفأت الضوء وطمرت رأسي باللحاف. كان المطر يهطل بغزارة في الخارج وكان صوت الرعد يتناهى إلي كتهديد مجهول رهيب. كانت الشجرة الوحيدة في باحة داري تصفر وهي تتمايل مع الريح، وكنت على وشك الإغفاء حين سمعت طرقاً على الباب، فخيل إلي بادئ الأمر أن ذلك صوت الريح فليس من المعقول أن يطرق إنسان باب داري بعد أن توفيت أمي، ولكن القرع اشتد فلم أجد بداً من النهوض،”[3] لأنني مع اشتداد القرع سمعت صوتا محملا بأقصى ما يوحي بأنه صوت غير طبيعي وله صدى عميق يقول “افتح يا فارس افتح..سأقول لك كلمة”، ففتحت باب غرفتي لأرى الظلمة الشديدة وأشعر بالبرد القاسي، ويقول الصوت في هذا الظلام الهالك بعد التأكد من أنه يخاطبني أي فارس: “سوف تعيش لتشهد ستة أيام ثلاثاء ولكنك لن تشهد السابع.” ثم يختفي ذلك الزائر/الصوت العجيب فجاءة تاركا إياى في حالة خوف ودهشة. ولم أفهم شيئا ولم أتمكن من أن أتبين ملامح ذلك الزائر أو أكتشف طبيعه، فكان يقف أمامي كالظل، كتلة سوداء.
عندما ينتهي فارس من قصته يجد رجاء لا تصدقه بل تظنه رجلا وهميا، فيطلب منها مرآتها ثم يكسر تلك المرآة ويجرح بها ساعده حتى يمزق اللحم ويريها الجرح الذي كف دمه عن النزف بسرعة فائقة، ويريها طرفي الجرح يقتربان من بعضهما حتى يلتئم الجرح وفي دقيقة واحدة يغيب أثره. فرجاء تصدق الفارس الذي يستأنف قصته فيقول:
“وهذه كانت بداية المشكلة لي، فقد بدأ ذلك الصوت يزورني كل ليلة في نفس الوقت تماماً كما فعل في المرة الأولى، ولا يقول إلا ما قاله في المرة الأولى، وفي كل ليلة أقول لنفسي أني لن أرد على صوته وهو يناديني، ولكن ما أن يبدأ ذلك الزائر بقرع الباب حتى أجد نفسي مسوقاً إلى الاستجابة كأنما بفعل قوة مجهولة. ولكن رغم ذلك لم أكترث لأنني رجل واقعي أعيش على الأرض، وكنت قد أنهيت دراستي الجامعية منذ سنتين، فبذلت جهدا بالغا لأقنع نفسي بأنني أعاني من الوهم فتركت ذات ليلة باب داري مفتوحا لأتأكد في الصباح أنني لم أكن أحلم، وفي الصباح وجدت الباب مفتوحا كما تركته في الليل. و فيما بعد أكثر من ذلك، فمرة حين أثلجت، شهدت في الصباح آثار خطواته مغروسة في الثلج، وكانت تلك الليلة بالذات هي الليلة التي قال لي الصوت فيها بأنني سأعاقب على خطيئة ارتكبتها. وكانت تلك هي الليلة الوحيدة التي قال فيها شيئاً آخر غير الذي كان يقوله كل ليلة. قبل أن آوي إلى فراشي تلك الليلة قررت أن اعرف كل شيء. لقد قررت أن أدعوه إلى الكلام بأية طريقة حتى لو أدى بي الأمر إلى التمسك به ومنعه من الحركة.. وقد بت مترقباً في سريري حتى تجاوز الوقت منتصف الليل، وفي اللحظة التي اعتدت أن أسمع فيها صوت الباب وهو يقرع، بدأ الباب يقرع، فقمت من سريري وفتحت باب غرفتي وسرت باتجاه باب الدار، ولكنني وقفت هناك دون أن أفتحه، وكانت قبضة الشبح تنهال عليه بلا هوادة..وكان صوته كالعادة يجئ مختلطاً بصوت الريح والرعد.” بدأ الشبح يقرع الباب قائلا “يا فارس افتح الباب” مرارا و تكرارا وفي كل مرة اشتد قرع الباب، ولكنني لم أفتح الباب بل أصررت على أن يجيب الزائر على سؤالي لانني أردت أن لا أسمع كلمته المملة المعتادة كل يوم، بل قصدت أن يجيبني الزائر واكتشف لماذا يحدث لي هذا الأمر المرعب. ونتيجة لإلحاحي تغيرت لهجة صوت الزائر ودلت على غضبه، ثم قال لي ما أرعبني وتركني في ورطة، فقال “يَحدُثُ لك هذا الأمر المرعب لأنك قتلت أمك.”
عندما ينتهي فارس من سرد قصته تشتعل رجاء غضبا، لأنها تظن أنه قتل أمه حسب قوله وتطلب منه أن يغادر السيارة ويخرج من حياتها فهي لا تريد أن تضيع مزيدا من الوقت في مساعدة رجل قتل أمه ورغم ذلك يقول أنه رجل مسكين فهي تتمنى أن يلقى فارس جزاءه ويسدد حسابه، وبعد نقاش ساخن يفتح فارس باب السيارة ولكنه يمد إليها ورقة قبل أن يغادرها قائلا “سأخرج من السيارة، ولكنني لا أستطيع أن أخرج من حياتك، سأظل ألاحقك و سوف تشعرين بذلك دون أن يقع بصرك على، هذا عنوان بيتي لا، لا تخرقيه ضعيه في حقيبة يدك فهو لن يثقل عليك، ذات يوم ستحسين بحاجتك إليه.”[4] و يضيف فارس قائلا “أريد أن أقول لك شيئا يا رجاء، أنا لا اعتقد أنني خائف من موعدي مع الموت، الخوف كلمة تافهة في حياة إنسان يعيش مع الأشباح، ولكنني أخاف من الذهاب إليه بهذه الطريقة البشعة، أفهميني جيدا، أنا إنسان قتلت فعلا منذ أن كف الناس عن تصديقي، منذ أن بدأ الأطباء يقولون أنني مصاب بالهم، و هذا هو رعبي الحقيقي، أريد إنسانا واحدا فقط يصلني بعالم الناس يكون جسري إلى الموت.”[5] بعد ذلك يغلق فارس باب السيارة و يمضي في الطريق.
رجاء تعود إلى بيتها و تقص على أبيها كل ما حدث لها في الطريق من صدمة فارس بسيارتها، وجرحه، والتئام جرحه، وقصته مع الشبح الزائر، وموعده مع الموت، ولكن أباه لا يصدقها بل يمزح منها ويظنها واهمة، فعنده هذه أمور لا تحدث في هذا العالم، ويظن بأن الدراسة الجامعية قد أتعبت ابنتها التي ستصبح دكتورة في علم النفس، وتصرف كل وقتها على التحضير للامتحانانت، ومن المكن أن تكون هذه الحالة ردة فعل تتأتى عن الإرهاق، ويقول لرجاء أن تلجأ إلى الفراش وتستريح، فتطيعه رجاء بوعد أن يستمع إليها غدا بجد وإخلاص وأن ينزع من ذهنه الاعتقاد بأنها واهمة، وتذهب إلى غرفتها للنوم.
أبو رجاء يفكر في الأمر ويرى من الواجب أن يستشير طبيبا فلم يتمكن من أن يؤمن بالأشباح والجروح الملتئمة، فيتصل هاتفيا بالدكتور سعيد ويخبره أن ابنته في حالة تعيسة ويطلب منه أن يأتي فورا إلى بيته. الدكتور سعيد يحضر بيت رجاء ولكنها تمنعه من تفحصها. ويقول سعيد لأبيها إن هذه الحالة حالة طارئة ومن الطبيعي أن تمضي بسرعة، ويبدو أن فارس أصابها بنوع من التأثير العميق، ويشير سعيد على والد رجاء أن يحول بين رجاء وفارس بأية طريقة وبأسرع طريقة، وأن يحصل على ورقة عنوان فارس الموجودة عند رجاء ويخرقها، ويطلب من فارس أن يكف عن ملاحقتها ويتركها وشأنها وفي حال رفضه لملاحقة رجاء، يسلمه للشرطة بتهمة الاحتيال.
في اليوم التالي عندما تستيقظ رجاء تجد أباه قلقا ومهموما وهو يسأله عن أحوالها، فتخبره بأنها في حالة حسنة، ولم تعد ترغب في إسماعه قصة فارس، ولاطمئنانه تقول له قصة صدمة السيارة بفارس قصة حقيقية، ولكن قصة التئام الجرح والأشباح كانت من اختلاقها، وتقول له بأنه ليس لديه عنوان فارس فقد كانت خرقته بالأمس.
تخرج رجاء من البيت بحيلة الذهاب إلى الجامعة وتلتقي بأقرب أصدقائها كميل الذي كان يدرس معها منذ سنوات طويلة وهي تعتبره أقدر على فهمها من أبيه، فتخبره قصتها مع فارس ولكنه يسخر منها ويقول لها مازحا أن تقدم الدكتوراه في الأشباح والجروح التي تلتئم. تذهب رجاء بعد ذلك إلى أستاذها وتخبره كل ما حدث بالأمس، ولكن هو الآخر لا يصدقها ويقول لها إن توتر الأعصاب ينعكس بمظاهر فيزيائية، ويشير عليها أن تذهب إلى بيتها وتستريح. يائسة من لقائهما، تتجه رجاء إلى الطبيب الذي بعد اجراء الفحص الطبي يخبرها بإنها في صحة جيدة جدا، وأجهزتها تعمل كالساعة، ولكنه يرى أن هناك ما هو على غير ما يرام وينصحها أن تذهب إلى طبيب نفساني. يبدو أن قصتها ذاعت بين زملائها و طلاب الجامعة، فنجد واحدا ينصحها أن تنزع هذه القصة من رأسها سواء حقيقية أو غير حقيقية، وآخرا يتهمها بأنها تسلك هذا الطريق الملتوي الطويل لتلفت أنظار الناس وهكذا كلاما آخرا.
في المساء، عندما تصل رجاء بيتها، تنفجر بالبكاء، وتخبر والدها بأنها كذبت عليه في الصباح، وأن قصة الأشباح والتئام الجرح كانت قصة حقيقية، وتطلب من أبيها أن يصدقها لأن كل الذين قابلتهم اليوم رفضوا أن يصدقوها، ثم تجد نفسها تعيد كلمات فارس، فتشعر برغبة قوية في نفسها للقاء فارس وتندفع من بيتها إلى بيت فارس.
تدخل رجاء بيت فارس فتجده باردا إلى حد ترتجف وتصطك أسنانها فتطلب من فارس شيئا تلبسه فقد كانت غادرت بيتها فجاءة ونسيت معطفها، ولكن لا تجد أي شيئ في البيت تتدثر بها، وذلك لأن فارس يمضي أكثر لياليه وهو في العراء يغسله المطر طوال الليل. عندما يسألها فارس عن سبب مجيئها ويتوسل إليها أن ترجع إلى بيتها، تخبره رجاء بأنها شعرت بشيئ غريب يدفعها إلى فارس، وكيف كانت تردد كلماته العجيبة عن الحياة القاحلة التي يقطع فيها الناس صلاتهم به فجاءة فيتركونه في الهواء، ثم تخبره بأنها وحدها تستطيع أن تفهمه وتحس أحاسيسه، وتهمس في أذنيه بأنها تحبه، وكذلك فارس أيضا يخبرها بأنه يشعر تجاهها شعورا خاصا، ولكنه يحاول أن يفهمها بأنه لم يبق من حياته إلا ستة أيام، وهي لا تحب إلا رجلا ميتا ويطلب منها أن ترجع إلى بيتها حينما هي تهمس في أذنها مرة أخرى بأنها تحبه وتطلب منه أن يقبلها، ولكن فجاءة سمعا طرقا على الباب، وصوت الشبح الذي يكرر “افتح الباب يا فارس..افتح الباب..سأقول لك كلمة”،فكلاهما يذهبان بعد تردد إلى الباب ويفتح فارس الباب فيقول له الشبح “يوم ثلاثاء واحد..ولكنك لن تشهد يوم ثلاثاء آخر” ثم يغيب عن الأنظار. رجاء التي كانت في حالة إغماء بعد سماع صوت الشبح وقوله، تصحو بصدى فارس وتتمتم كلمات غير مفهومة تصحو بعد قليل. رجاء ترى بدا من أن تفعل شئيا فلا تريد أن تجري الأمور على هذا المنوال فترى من المناسب أن تستمع إلى قصة فارس مع أمه وكيف قتلها، فيسرد فارس قصته بصوت حالم بعد إلحاحها كما يلي:
كانت “أمي امرأة عجوزا محطمة. وبعد أن مات والدي بدا لي أنها تخطو بإرادتها إلى اللحاق به، كنت وحيدهما، طفلاً مدللاً يحصل على ما يريد ومتي يريد، وحتى كبرت ولكنهما كانا يعاملانني كأنني ما زلت طفلاً..أنهيت دراستي الثانوية..ثم أنهيت دراستي الجامعية، ومات والدي قبل أن أتخرج من الجامعة لقد هز موته حياتنا .. كنا دائماً عائلة صغيرة متماسكة هي حدود الدنيا كلها، وحين مات بدا لي أن حائطاً من حيطان البيت قد تهدم وأن عاصفة عاتية اجتاحت البيت الدافئ وطيرت منه كل الأشياء الثابتة التي عاشت فيه كل العمر..يوماً بعد يوم كنت أشعر أن شيئاً ما يجب أن يحدث فيغير من حياتنا، بدأت أبحث عن عمل أعيش وأعيَّش أمي به. والدي لم يشعرني أبداً أننا فقراء إلى هذا الحد، وحين مات كانت الحقيقة أكبر من أن أتجاهله. ومضت شهور طويلة وأنا أفتش عن عمل. وكانت أمي تخطو بسرعة إلى القبر، كان يبدو ذلك في كل شيء تقوله أو تعمله، وذات يوم قررت قرارا حاسماً. ما زلت أذكر تماماً كيف بدأت القصة. كانت في غرفتها. هذه الغرفة المغلقة التي لم أفتحها قط منذ ماتت. جئت ذات ليلة إليها ، كانت نائمة” فأيقظتها، وأخبرتها بأنني قد حصلت على وظيفة بعد البحث المتعب لستة أشهر، فتفرح فرحا، ولكن عندما أخبرتها بأن الوظيفة ليست هنا بل في مكان بعيد، وأنا سأركب الطائرة لأذهب للعمل، بدت مذهولة وأصبحت تبكي وتقول “أنا عجوزة كسيحة، لمن تريد أن تتركني واستمرت في البكاء حتى اجبرتني على أن أغير موقفي أمامها، ولكن توصلت في قلبي إلى قرار فوعدت أن لا أذهب. وفي الصباح قلت لها بأني ذاهب في البحث عن العمل كالعادة، وخرجت من البيت لأنها كانت فرصة عمري. “صفقت الباب ورائي..كان ذلك يوم الثلاثاء، الساعة الثامنة صباحاً تماماً، لقد نظرت إلى ساعتي ومن بعيد قرعت ساعة المدينة ثماني دقات وقفت هنيهة وضبطت عقارب ساعتي على الثامنة تماما، وصلت إلى المطار في الثامنة والربع..في التاسعة كانت طائرتي تقلع في السماء، وكنت أغادر المدينة إلى مركز عملي الجديد. “لقد غبت شهرين كاملين، كنت في كل يوم أكتب لها رسالة طويلة أقول لها في الرسالة كل شيء، أصف لها كل لحظة واعدها بأن أعود قريباً ولكنها لم تكتب لي حرفاً واحداً طوال الشهرين..كنت أقول أنها امرأة لا تحسن الكتابة ثم هي تأمل أن أعود قبل أن تصل رسائلها إلي، وربما كانت غاضبة، تنتظر عودتي لتصب غضبها على رأسي. ثم عدت..كنت محملاً بالهدايا لها وبالمستقبل لنا معاً، نزلت من الطائرة كان ذلك يوم أحد..وذهبت إلى البيت، ولكن لم أجدها أبدأ.
“لقد انتظرت المسكينة يوما..يومين..ثلاثة أيام، ثم حملت نفسها على عكازتها ومضت تبحث عني في المدينة الكبيرة..إنها امرأة عجوز محطمة تنتظر الكساح كما تنتظرين أنت شهادتك..لا شك أنها سقطت في مكان ما من هذه المدينة الكبيرة..وسحقتها الحياة وهي تمشي من حولها بجنون ماتت ودفنت كالجيفة، لا أحد يعرف أين ولا متى ولا كيف ..امرأة عجوز وجدت ميتة في الشارع لا اسم ولا علامة ولا شاهد يقول من هي، فدفنت كما يدفن آلاف المجهولين في هذا الكون القاحل الأحمق. لقد وصلت الأحد، بحثت عنها في كل متر مربع من هذه المدينة طوال يوم الأحد، طوال ليلة الأحد، يوم الاثنين، طوال ليلة الاثنين، طوال يوم الثلاثاء، طوال ليلة الثلاثاء، وحين عدت إلى داري منهكاً تلك الليلة زارني الشبح وفهمت كل شيء.”
بعد سماع هذه القصة، رجاء تتيقن بأن فارس لم يرتكب أية خطيئة، وبأن الأم موجودة في مكان ما لأنه لم يعثر عليها، فتبدأ مع فارس البحث عن أمه في مخافر المدينة، و تقرأ آلافا من أسماء الموتى، و كلما تسمع ضابطا يقول له أنه لم يسمع عن أمه، تزداد هي يقينا بأنها موجودة في مكان ما. ولكن خلال جولة رجاء وطوافها للمخافر المختلفة، يذاع الخبر في الصحف عن انهيارها العصبي، فتصبح حديث المدينة والجامعة، بدأ الناس يشكون في سيرتها الطيبة، ويتكلمون عنها كلاما سخيفا لا يلائم لفتاة محترمة، وأبوها أيضا يعاني من حالة سيئة فقد شك فيه الشرطة بكونه في حالة نفسية سيئة، لأنه كان يتابع ملاحقة رجاء من مخفر لمخفر، ولم يدعه يغادر إلا بعد أن وقع الدكتور سعيد على أوراق متعددة بوساطة أحد معارفه ذوي النفوذ والكلمة.
رجاء تواصل مسيرة البحث عن الأم، وعلى إشارة ضابط مخفر تزور المشرحة فتعثر على جثة أمه، وتقرأ التقارير الطبية التي تقول أنها ماتت يوم الثلاثاء في الساعة الثامنة والنصف صباحا، وتكتشف أن أمه كانت تشتري طعاماً للغداء وكانت على وشك العودة إلى البيت حين داهمها الموت في الطريق، فقد أصيبت بالسكتة القلبية فجأة، و لقد كانت في غاية الاكتفاء حين ماتت. وتدرك رجاء أن أمه ماتت في نفس اليوم بعد نصف ساعة من خروجه من البيت وهو لم يكن يغادر المدينة بعد، وبما أنها كانت في غاية الاكتفاء حين موتها فلم تكن تدرك بذهابه. إنها تقص كل ذلك على فارس وتؤكده بأنه لم يقتل أمه بل ماتت هي بالطبيعة، وتطمئنه بأنهما انتصرا وإذا جاء الشبح هذه الليلة ستبصق في وجهه، وتقول له أنك كاذب. و هكذا تنتهي هذه المسرحية بانتصارهما وبنهاية سعيدة.
جسر الموت أو الحياة:
“أريد إنسانا واحدا فقط يصلني بعالم الناس يكون جسري إلى الموت.”[6] (فارس)
“أريد مساعدتك أنا لست جسراً بينك وبين الموت. كما كنت تريد، أنا أكثر من ذلك..أكثر إني أحس أنني جزء منك.” (رجاء)
فارس بعد لقاءه مع رجاء بدأ يعتبره جسرا إلى الموت، جسرا يصله بعالم الناس فيموت موتا عاديا، ولكن رجاء تثبت فيما بعد بأنها ليست جسرا إلى الموت، بل جسرا إلى الحياة السعيدة، و لا تصله بعالم الناس ليموت موتا عاديا، بل ستصله بعالم الناس ليعيش عيشة راضية وحياة كريمة معها، فتخرجه من المأزق وتعطيه حياة جديدة.
هل شحصية فارس كناية عن الكاتب:
ذهب بعض النقاد إلى أن إسم بطل هذه المسرحية “فارس” كناية عن إسم غسان كنفاني المستعار الذي اختاره للكتابة خلال إقامته بدولة الكويت، و كان ذلك من غرض إخفاء هوية الكاتب الحقيقي كما يقول عبد الله أبو راشد “وفارس هذا كناية مكشوفة عن ذات الكاتب الذي كتب بإسم مستعار إبان وجوده في دولة الكويت، و كأنه بذلك يبوح عن حقيقة وجوده وقلقه الدائم وفكرة الموت التي لا تفارقه طوال حلقات المسرحية. وهو تعبير عن حالة إنسانية محاطة بمجموعة من النقائض، تدفعه دفعا لأسوار الشك والريبة بقدره المحتوم، وتأخذ هذه المعاناة صورا سردية متنوعة موزعة ما بين تبكيت الضمير على قضية لم يرتكبها، وملاحقة صدى الخوف له كظله الظليل وتارة نحو التحدي ومحاولة الصمود والمواجهة.[7]“
يبدو أن أبا راشد وقع في خطأ، فتجب الإشارة هنا إلى أن غسان لم يكن يكتب في “الكويت” بإسم فارس المستعار بل كان يكتب بتوقيع “أبو العز”. أما إسم “فارس” المستعار فاختاره غسان خلال خمس سنوات أخيرة من حياته في بيروت لكتابة مقالات نقدية ساخرة نشرها في “ملحق الأنوار” الأسبوعي خلال العام 1968 بعنوان عام هو “كلمة نقد”. ثم كتب بنفس التوقيع و بنفس العنوان في مجلة “الصياد” اعتبارا من أوائل شباط عام 1972 حتى أوائل تموز من نفس العام حين استشهد[8]. و قد جمع هذه المقالات الأستاذ محمد دكروب في كتاب بعنوان “مقالات فارس فارس: كتابات ساخرة”، و نشره مع مقدمة قيمة من دار الآداب في بيروت.
البعد النفسي و البعد الاجتماعي:
نجد غسان في هذه المسرحية يعبر عن الأحاسيس الداخلية للأشخاص في صورة جميلة مؤثرة، ويعبر لنا ما يجري في قلب شخص وما يطرأ على نفوس أشخاص المسرحية بكل مهارة. وكذلك نراه يتناول البعد الاجتماعي أيضا بكل مهارة، فيظهر أمامنا كيف ترك المجتع فارس وحيدا، وكيف بدأ الناس يلومون الفتاة ويتهمونها بأنواع التهم، وكيف أصبحت هي حديث البلد بعد نشر الصحيفة عن إقامتها مع فارس، وعن بحثها الجنوني عن جثة أم فارس في المخافر والمشرحات.
الحدث في المسرحية:
الحدث من إحدى المكونات الأساسية للمسرحية الفنية، و نجد ذلك في هذه المسرحية في صورتين، أولا في صورة الاعتقاد القوي لدى بطل هذه المسرحية فارس بمسؤولية جريمة شنيعة لم يرتكبها قط، وهذا هو الاعتقاد الذي يشكل جزءا مهما من المسرحية بل هو في الحقيقة الحدث الذي تبني عليه المسرحية لأن جميع حوادثها ووقائعها تحصل نتيجة لهذا الاعتقاد الخاطئ. وثانيا في صورة مساعي رجاء التي تجوب المدينة طول اليوم وتزور المخافر حتى تصل في نهاية المطاف إلى أن فارس لم يرتكب أية جريمة، وكل ما يعانيه هو بسبب اعتقاده الخاطئ.
لماذا نجد فيها بطلين فقط:
الذين رأوا في هذه المسرحية نقصا فنيا يعتبرون احتوائها على بطلين اثنين من النقص و يثيرون الجدل حولها، ولكن سبب وجود بطلين فقط يرجع إلى غرض إعدادها، فكما ذكرنا في بداية هذا المقال، كان غسان كنفاني كتبها لينشرها في إحدى الإذاعة العربية، ولذلك نراها تتجزأ على حلقات ولكن لم تسنح له الفرصة.
الاستسلام والمقاومة:
نجد في هذه المسرحية الاستسلام المتواجد في رجال في الشمس، وكذلك المقاومة المتواجدة في مسرحية “الباب” معا. فقد كان غسان كتب “رجال في الشمس” و “الباب” في نفس الوقت ويبدو أنه خص أولهما بحالة الاستسلام، والثاني بمساعي المقاومة، ولكنه جاء بكليهما في مسرحية “جسر إلى الأبد”، فنرى بطلها فارس يستسلم للشبح بدون أدنى محاولة للمقاومة، ويسلك مسلك أبطال رجال في الشمس الذين لم يطرقوا حتى جدران الخزان، ولكن بطلة هذه المسرحية “رجاء” لا تستسلم بل تقاوم في أقوى صورة وتبلغ الحل بمساعيها المضنية فتنجي فارس من الشبح وتجعله إنسانا حيا بعد أن كان ينتظر الموت كل لحظة. وتقول الفنانة ياسمين همار التي لعبت دور “رجاء” في تمثيل لهذه المسرحية في الجزائر “إن المسرحية تتحدث في معظمها عن حق الفلسطينيين في العيش الكريم، و مقاومتهم و صبرهم في تحدي الصعاب.[9]“
و هذه المسرحية التي تتناول ظروف الإنسان القاسية، والحب والفناء في الحب، والذنب والخطيئة الموهومة، تعتبر قطعة مهمة من الروح الإنساني وقد تم إدخالها في المقررات الدراسية في المدارس الثانوية المتواجدة في المناطق الفلسطينية المستقلة. ولأهميتها وصلتها بالقضية الفلسطينية هي لا تزال تختفي في ذاتها حيوية تستقطب أنظار المخرجين المسرحيين من حين لآخر فنجدها تعرض على المسرح في البلدان العربية النائية، وفي اللهجة العامية و الفصحى كليهما.
[1] كنفاني، غسان، جسر إلى الأبد،ط2، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، (أنظر الغلاف الخلفي للمسرحية)
[2] غنام، الحرية في مسرح غسان كنفاني،
[3] كنفاني، غسان، جسر إلى الأبد،ط2، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1987، صـ 17-18.
[4] كنفاني، غسان، جسر إلى الأبد،ط2، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1987، صـ 29.
[5] كنفاني، غسان، جسر إلى الأبد،ط2، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1987، صـ 29.
[6] كنفاني، غسان، جسر إلى الأبد،ط2، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1987، صـ 29.
[7] عبد الله أبو راشد، المسرح في عالم غسان كنفاني، جريدة الأسبوع الأدبي، السنة السادسة والعشرون، العدد 1308(18-8-2012)،دمشق، صـ 7.
[8] كنفاني، غسان، مقالات فارس فارس، دار الآداب، بيروت، ط1، 1996، صـ 5.
[9] تقرير عن هذا العرض في الجزائر على مدونة الصحفي نجيب فراج، الرابط:
Leave a Reply