ملخص البحث:
أحمد شوقي أمير الشعراء في العصر الحديث أحد أبرز الأدباء في العالم العربي. ولد في مصر عام 1868، ومات فيها عام 1932 بعد حياة مكرسة لخدمة الأدب بصفة عامة والشعر العربي على وجه الخصوص. كان شوقي شاعرا وكاتب مسرحيات ومقالات إلا أن النزعة الشعرية تطغى عليه فكتب جميع مسرحياته شعرا إلا مسرحية أميرة الأندلس لأنه كتبها نثرا. وله ديوان مكون من أربعة مجلدات ضخمة، يعكس خلاصة حياته الأدبية.
أسهم أحمد شوقي في مجال المسرحية بثماني مسرحيات، هي ذات موضوعات مختلفة، وذات اتجاهات متنوعة، فبعضها مقتبسة من التاريخ، وبعضها من واقع الحياة المعاصرة. وما اقتبسه من التاريخ فبعضها من التاريخ المصري القديم، وبعضها من التاريخ الإسلامي والعربي القديم.
تعالج سرحيات شوقي قضايا اجتماعية وسياسية وغيرها إلا أن بعضا منها يختص بالتاريخ الفرعوني القديم، كما يتميز بعضها الآخر بالتاريخ الإسلامي في الماضي القريب وفي العصور الوسطى وعصر صدر الإسلام كما أن واحدة من تلك المسرحيات مختصة بالعصر الجاهلي. يقدم شوقي في هذه المسرحيات العديد من القضايا الإنسانية، والاجتماعية والسياسية، ويتجلى فيها حنينه إلى تلك العصور وولهه بتلك الآثار الإسلامية، واعتناؤه بالقضايا الثقافية التي بينها في صور شتى من قراءة الكتب واقتنائها من قبل الأميرات وعامة الناس.
يهدف هذا البحث إلى تحليل مسرحية أميرة الأندلس، حيث يستكشف تفاصيل هذا العمل الأدبي الجليل، بما في ذلك موضوعات، شخصيات، وأسلوب شوقي في تقديم الأحداث التاريخية والثقافية. يتناول البحث أيضا كيفية تفاعل المسرحية مع التاريخ الإسلامي والأندلسي، واهتمام شوقي بتقديم رسالة ثقافية وفكرية من خلال هذه المسرحية.
الكلمات المفتاحية: أحمد شوقي، المسرحية، أميرة الأندلس، المسرحية العربية، المسرحيات التاريخية.
نبذة عن أحمد شوقي:
أحمد شوقي بن علي شوقي هو شاعر وأديب مصري وُلد في القرن التاسع عشر. كان من أصل شركسي، لكنه وُلد ونشأ وتوفي في القاهرة. ترعرع في ظل الملكية وتربى في بيئة مرفهة، حيث تلقى تعليمه في مدرسة خاصة بالأمراء والدبلوماسيين، بعيداً عن عامة الناس. تمتاز شخصية شوقي بموهبة شعرية فذة وطبيعة خلاقة، حيث بدأ قرض الشعر منذ الطفولة. عاش شوقي حياته مكرساً للشعر، حتى حصد في نهايتها لقب أمير الشعراء.
أسهم أحمد شوقي في العديد من الفنون الأدبية بجانب الشعر، حيث كتب روايات ومسرحيات ومقالات كثيرة. رغم تنوع أعماله، كانت النزعة الشعرية تهيمن على نثره، إذ كان يزينه بالسجع والقوافي ويقيده بالجناس والأوزان. ومن أشهر مؤلفاته النثرية: دول العرب وعظماء الإسلام ، وعذراء الهند ، وشيطان بنتاؤر، ولا دياس، وأسواق الذهب. أما سرحيات شوقي، فبيانها ما يلي.
مسرحيات أحمد شوقي:
كتب أحمد شوقي ثماني مسرحيات في موضوعات مختلفة واتجاهات متنوعة. وهي:
(1) علي بك الكبير (2) أميرة الأندلس (3) مجنون ليلى (4) قمبيز (5) مصرع كليوباترا (6) عنترة (7) البخيلة (8) الست هدى.
دراسة تحليلية لمسرحية أميرة الأندلس:
هذه المسرحية هي الوحيدة من بين مسرحيات شوقي التي كتبها نثرا. وهي نتاج رحلته إلى أسبانيا حيث عاش خمس سنين من حياته يعاني من آلام النفي والاغتراب. فضلا عن هذه الآلام إنه كان يعاني من آلام أخرى أصيب بها في منفاه لما شهد من المجد الإسلامي العريق الذي زال وتبدل لكن لم يتنكر لأهل الفضل والعلم. والجدير بالذكر أن هذه المسرحية تتشابه بحياة كاتبها أحمد شوقي الذي ولد وعاش في النعيم في ظل الملكية والأرستقراطية، وشب فيها إلى أن حدثت معه حادثة سياسية، وانقلبت حياته من النعيم إلى المأساة فعاش سنوات منفيا ثم عاد إلى البلاد فلم تعد إليه الحياة السابقة.
أميرة الأندلس حكاية لفتاة من أسرة ملكية كانت بارعة الجمال، نافذة الذكاء والشجاعة، متحلية بالأدب الجم والعلم الغزير. اسمها بثنية، وأمها الاعتماد الرميكية، وأبوها المعتمد بن عباد؛ سليل أسرة بني عباد، وأعظم ملوك الطوائف في الأندلس. شهدت بثينة مثل أبويها وأسرتها تقلبا سياسيا أسوء في حياتها، فانقلبت أوضاعهم من حياة السعادة والنعيم إلى البؤس والشقاء؛ حياة السجن والاعتقال في المنفى بالاغتراب. وجميع هذه التقلبات السياسية مرتبطة بحياة بثينة ابنة الملك المعتمد ابن عباد، ولذلك سمى الكاتب أحمد شوقي هذه المسرحية بلقبها الذي كانت تلقب به أميرة الأندلس.
تنقسم المسرحية إلى خمسة فصول بعد التمهيد والمقدمة؛ التمهيد بيان لأسماء الشخصيات الواردة في المسرحية، والمقدمة تسلط الضوء على حكاية هذه المسرحية وخلفيتها التي تتلخص في بيان الأسباب التي أدت إلى تشتت مملكة عظيمة إلى دويلات صغيرة وانهيارها لاحقا إلى أيدي الفرنجة وأعداء الإسلام الذين لم يكونوا يألون جهدا لاستعادتها.
ينقسم الفصل الأول إلى ثلاثة مناظر. أما مكان المنظر الأول فهو قصر الملك المعتمد بن عباد في إشبيلية، يحضره أولا ثلاثة من خدمه مضحكه مقلاص، وحاجبه جوهر، ولؤلؤ ساقيه. يجري الحوار بينهم أن الملك مصاب بالهموم في هذه الأيام أكثر بكثير، وسببها أعباء الملوكية والضغط السياسي الشديد من الداخل والخارج معا؛ فهناك أعداء من داخل البلاد طماعون لإطاحة الملك من العرش وهناك أعداء سياسيون من خارج الأندلس أحدهم من الدولة المغربية أمير المسلمين وآخرهم ملك الفرنجة ومن والاهم من الأمراء والولاة من دول الجوار.
تنضم الأميرة بثينة إليهم وتشاركهم في حديثهم فتحدثهم عن غيابها لثلاثة أيام من القصر إذ كانت في قرطبة تتجول متنكرة مغامرة بين الشعب في الأسواق. وهي تقارن بين قرطبة وإشبيلية أن الثانية أفضل بكثير من الأولى في كل شيء من النظافة والأسواق وغيرها إلا أسواق الكتب فإن القرطبيين يعتنون بالعلوم والمكتبات إلى حد الجنون ويختزنون بنفائس الكتب ونوادر المخطوطات مهما علا ثمنها، فهم أولو فضل جم وعلم كثير. وتلتقي الأميرة هناك في سوق الكتب شابا جميلا مولعا بالعلم نازعها في الحصول على رسالة من رسائل المنجم الضبي فأعجبها كثيرا وأحبته حتى رأته أهلا بزواجه معها. وفي نهاية المنظر الأول من هذا الفصل يحضر القاضي ابن أدهم في قصر الملك رسولا من الأمير يوسف بن تاشفين يخطب أميرة الأندلس بثينة للأمير المغربي سيري بن أبي بكر لتكون رابعة لزوجاته. رفضت الأميرة هذه الخطبة بشدة وأنكرت أن تكون ضرة لامرأة أو أن تكون لها ضرة. وهنا مربط الفرس إذ يجر هذا الرفض ويلات كثيرة على أسرة بني عباد وتستبدل نعيمهم بالبؤس والنفي والاعتقال.
والمنظر الثاني عبارة عن مجلس الطرب والغناء بالخمور والفواكه يحضره الملك مع حاشيته من الوزراء والخدم. يتحدث الملك مع حاشيته عن النبلاء الأسبان الذين كانوا ضيوفا على حاشيته، منهم خبراء فنون وبعضهم أصحاب صفات سيئة، يدعوهم الملك إلى مجلسه ويشاورهم في قضية ابن شاليب الذي كان رسولا من ملك الفرنجة لكنه شتم الملك المعتمد بن عباد أمام الملأ فجوزي بالقتل كما أشار على الملك كبير النبلاء الأسبان، وهكذا أظهر ملك الأندلس قوته وبطشه فبدأ النبلاء ترعد فرائصهم وظلوا صامتين.
والمنظر الثالث يحكي حكاية الملك حين يخرج للتنزه نشوان مع مقلاص ويركب الزورق في النهر فيكاد أن يغرق فيه لكن ابنته بثينة تأتي إليه بزورقها متنكرة في صورة فتى وتحدثه عن أمها وحبه القديم وتسبب للزيادة في الحب بين الوالدين. يظهر الكاتب أحمد شوقي في هذا المنظر شجاعة بثينة ورزانتها مع بذخ الملك وترفه في بعض شؤون من حياته.
والفصل الثاني عبارة عن أحداث سياسية جرت في خان التميمي بإشبيلية بين أحد أعداء الملك وهو الأمير حريز بطل الأندلس، وبين لص الأندلس الشهير الباز بن الأشهب مع جماعته من اللصوص. وهناك شخصيات أخرى مهمة في هذا المنظر؛ أبو القاسم، وابن حيون، والأمير حريز، والأمير الإفرنجي بطرس، والباز اللص الشهير، وقيم الخان وغيرهم من جماعة اللصوص ونزلاء الخان. يبتدئ الفصل بالحوار بين “أبو القاسم” وابن حيون الذي يحقد الملك المعتمد بن عباد منذ عشرين سنة على أنه تزوج بحبيبته. ثم يجري الحوار بين حريز والأمير الفرنجي بطرس الذي كان أسيرا لحريز لكنه يطلقه بشرط أن يتم تسريح رجاله المأسورين في الحصن. ومن هنا يبتدئ أصل الأحداث أن بائعا للحلوى يأتي في الخان ويشتريه حريز ليأكله فيشرك فيه جميع من في الخان إلا ابن حيون، وكل يصاب بالإغماء بينما ينجو ابن حيون، وينال صرة من اللآلي واليواقيت.
يشعر القارئ في هذا المنظر بشيء من الغموض لكن يزول هذا الغموض في نهاية المسرحية أن أحداث هذا الخان جرت بين الأمير حريز بطل الأندلس وبين الملك المعتمد بن عباد وأنها كانت دامية أسفرت عن مقتل عديد من الموجودين فيه منهم الأمير ظافر ابن الملك المعتمد بن عباد، والأمير حريز بطل الأندلس.
والفصل الثالث حكاية لأبي الحسن التاجر الأندلسي الكبير الذي يصاب بمكروه في أمواله وسفنه التجارية في البحر لكنه صاحب بيت كبير كالقصر يريد بعض السماسرة أن يشتروه لكنه لا يرضى فيدفعهم إلى الخارج مغضبا. ويتقدم إليه صديقه الحميم ابن حيون متنكرا بزي شيخ مغربي ويؤتيه صرة من اليواقيت التي نالها في الخان ثم يغيب خادعا التاجر أبا الحسن لئلا يزول تنكره فيعرف. أما ولده حسون فهو شاب ظريف صاحب علم وفضل كبير وقد لقيته الأميرة بثينة في قرطبة أثناء الحصول على رسالة المنجم الضبي فأحبته لكنها لا تعرفه من هو وأين يسكن. وبحسن الحظ تأتي الأميرة إلى بيت التاجر أبي الحسن متنكرة بزي فتى باسم ابن غصين فتتعرف على ولده حسون ويجري بينهما حوار أنهما لقيا من قبل في قرطبة. وأثناء الحوار تصاب الأميرة بالإغماء فيكتشف ولد التاجر عن سرها أنها ليست فتى اسمه ابن غصين بل هي الأميرة بثينة ابنة الملك المعتمد بن عباد التي تحبه شديدا.
والفصل الرابع يبتدئ بالحوار بين الأميرة بثينة وجدتها العبادية ثم يدخل بينهما الملك ثم ابن حيون ثم مقلاص. ويجري الحديث عن أمير المسلمين يوسف بن تاشفين الذي أغار على إشبيلية ودخلت جنوده في القصر فيواجههم الملك بالسيف المسلول وهو يغني بعض أبياته ملخصها أن أعداءه إذا حاربوه فهو لا يستسلم بدون المواجهة والقتال لأنه ليس من الجبناء فيرجع من القتال بل هو من حسب رفيع فلا يأمل في الرجوع من ساحة القتال.
والفصل الخامس عبارة عن النتيجة والمأساة، وهي تنقسم إلى ثلاثة مناظر. تقلبت حياة النعيم والترف إلى كل أنواع الشقاء فكانت الأسرة الملكية أضاعت كل ما كان عندها من النعيم ونسيت كل ثرائها وترفها وشموخها. أغار يوسف بن تاشفين على إشبيلية وقصر الملك المعتمد بن عباد فأنزله عن العرش وأسره مع جميع أعوانه وخدمه وأعضاء أسرته في أغمات بالمغرب في إفريقية في سجن لا يمكن لأحد من أنصاره أن يقترب إليه. أما ابنته بثينة التي كانت أميرة الأندلس فقد اختطفها الأمير سيري بن أبي بكر الذي خطبها إلى أبيه الملك لكنها رفضت فأغار على قصرها وذهب بها فكانت هي تعيش في أحد قواد الأمير سيري بن أبي بكر طريحة على فراشها لا تأكل ولا تنام سوى السهر والبكاء إلى أن اهتدى إليه التاجر أبو الحسن وأتى بها إلى بيته في اختفاء وأرسلها مع ولده حسون إلى أغمات حيث كان أبوها وأسرتها في السجن يبكون على فراقها وانقطاع أخبارها إذ جاءتهم البشرى يوم العيد ووصلت بثينة إليهم ليتم عيدهم ويكتمل سرورهم في منفاهم ومغتربهم ومعتقلهم حيث الأميرات يعملن ليسددن جوعهن. وقد جاءتهم مع بثينة بشرى أخرى هي انتقالهم من السجن إلى بيت قريب منه بشرط أن يرعى الملك جمالا فيه ويحتسي الهوان كل يوم وليلة. وبهذا تكتمل قصة أسرة حاكمة ذاقت طعم البؤس والفقر والهوان كما ذاقت أنواع النعيم لمدة طويلة.
أهم الموضوعات التي تناولها شوقي في فسرحية أميرة الأندلس:
الاعتناء بالعلم والكتب:
يتناول أحمد شوقي في هذه المسرحية جانبا مهما من جوانب الحضارة الأندلسية الراقية، وهو عناية أهل قرطبة بالعلوم والمعارف فهي أكثر المدن الأندلسية عناية بنفائس الكتب ونوادرها. ويذكر أحمد شوقي أن إشبيلية أدنى مرتبة من قرطبة في الاعتناء بالمعارف والعلوم ولا تعج طرقها مثل قرطبة بالفقهاء والمهتمين بنوادر الرسائل والمخطوطات. وهو يذكر مشهد أسواق الكتب بقرطبة في مسرحية أميرة الأندلس على لسان الأميرة التي تقارن بين أسواق قرطبة وإشبيلية: “وجدتها دون أسواق إشبيلية حركة ونشاطا إلا سوق الكتب فلا أحسب بغداد أقامت مثلها. دخلتها يا أبي فلبثت فيها ساعة أتأمل ما يقع في جوانبها، وأشهد النداء على نفائس الكتب وذخائر المخطوطات وهي في أيدي الناس، يقلبونها في اعتناء وإشفاق كأنها كرائم الحجارة في أسواق الجوهر.”
ويذكر أحمد شوقي عناية الأميرة بكتاب تتنافس فتى آخر في عنايته بنفس الكتاب حتى أنه يغلب عليها بعد أن وصل ثمن الكتاب إلى خمس مائة دينار. ومثل هذه العناية لا يوجد اليوم في أمصار المسلمين ولا في غيرهم
مجالس الخمور والطرب:
يذكر أحمد شوقي في هذه المسرحية مجالس الطرب والغنى التي يتمتع فيها الناس بأنواع من الخمور والمشروبات الكحولية والفواكه والثمار. يجلس الملك المعتمد بن عباد مع نخبة من حاشيته حول مائدة طويلة عليها أنواع من الأطعمة والفواكه وأفضل الخمور؛ خمور مالقة وزبيب إشبيلية. يتمتع الملك ومن معه بهذه الخمور والفواكه والثمار، ويغني أحيانا “الجوز واللوز يا رب الفوز” فيرد عليه المضحك مقلاص وبعض الحاشية مغنين “الجوز واللوز..”، وهكذا يأكلون ويشربون ويطربون ويتمتعون. وحينما يسمع بعض الحاضرين من الحاشية أن الملك يغني بأغنيته “الجوز واللوز” فيقول لمن بجواره: هذا لحن الملك الذي يحبه ويهتف به حتى في الحمام”. وهذا يدل على أن الملك كان محبا للحن والغناء وكان شاعرا وأديبا كبيرا فلا ريب أنه كان على حب بالموسيقى والألحان.
التجارة:
يصف أحمد شوقي التجارة كضرورة بشرية أساسية، ويذكر شخصية أبو الحسن، أحد كبار التجار في الأندلس، الذي يمتلك سفنا تجارية تنقل البضائع بين الأندلس ومصر وغيرها من البلاد. في مجلس الملك، ويمدحه الناس بإن أبو الحسن ذو فضائل ومروءة، وأن ابنه شاب فاضل ومثقف. لكنه تعرض لخسارة كبيرة عندما ضاعت ثلاث من سفنه في البحر؛ غرق إحداها بسبب عاصفة، والثانية بسبب هجوم الفرنجة، والثالثة اشتعلت فيها النار.
أحمد شوقي يصف التجارة كضرورة بشرية أساسية، موضحاً شخصية أبو الحسن، أحد كبار التجار في الأندلس، الذي يمتلك سفناً تجارية تنقل البضائع بين الأندلس ومصر. في مجلس الملك، يُشاد بأبو الحسن كإنسان ذو فضائل ومروءة، ويُذكر أن ابنه شاب فاضل ومثقف. لكن أبو الحسن تعرض لخسارة كبيرة عندما ضاعت ثلاث من سفنه في البحر؛ غرق أحدها بسبب عاصفة، وأخرى بسبب هجوم الفرنجة، والثالثة اشتعلت فيها النار.
ولما سمع الملك حديث وزيره عن هذا التاجر الكبير في الأندلس أراد إغاثته لئلا يعيش منكوبا ملهوفا إذ له فضل كبير على أسواق الأندلس، وولده نابغ في الفنون، نابه في المعارف، كريم الأخلاق، عظيم الشجاعة فلا يترك سدى هو ولا أبوه. وقبل أن يغيث الملك ذاك التاجر الكريم وصلت إليه الأميرة مختفية بلباس أجنبي للرجال، وهي تريد إغاثته، فلقيته أولا ثم لقيت ابنه الذي كان في بيته يلعب مع ابن حيون. وما أن رأته الأميرة إذ تحيرت أنه هو الشاب الذي رأته في قرطبة ونافسته في الحصول على نسخة نادرة من كتاب.
الصداقة:
الصداقة فعل طيب، كثير المحاسن، عظيم الفوائد ما لم تكن في شؤون المضار أو السلبيات. وقد ذكرها أحمد شوقي في مسرحية أميرة الأندلس بشكلها الرائع بين شخصيتين هما التاجر الكبير أبو الحسن وصديقه الأديب ابن حيون. يخسر التاجر ثلاثا من بوارجه كانت مشحونة في البحر بأثقال التجارة لكن غرقت إحداها نتيجة العاصفة في البحر، وتحرقت أخراها جراء شعلة اتقدت فيها فلم تنطفئ، وثالثتها صارت لقمة سائغة لأسطول الفرنجة فنهبت تماما.
أصيب التاجر بخسارة فادحة، وعظمت مصيبته فلم يسع له النهوض حتى توافدت على بابه جماعة من السماسرة لشراء بيته الكبير. يتيه التاجر في حيرة وقلق أيبيع هو بيته الشبيه بقصر كبير فيتمكن من النهوض في تجارته أم يحتفظ به لئلا يضيع من هذا الثراء الوحيد الذي بقي في متناول يديه فيدعو ربه سبحانه أن يعينه بإبقاء بيته لديه. ويكون التاجر في هذه الحالة المقلقة إذ جاءه رجل شيخ متنكرا، يبدو من المغاربة بلباسه، ويقص عليه قصة لتجواله ثم يعرض عليه شراء بيته شريطة أن يقدم له بدل حراسة البيت صرةً من اليواقيت واللآلي التي هي أثمن من مائة ألف دينار قائلا أنه إن عاد بعد ثلاثة شهور فيأخذ البيت وإلا فليمسكه هو ويراه ملكا له. يرتبك التاجر في الأمر إذ جاءه ضيوف فيخرج من عنده ذلك الشيخ المغربي والصرة في يد التاجر أبي الحسن، وحينما هو يراها في يده لا يجد الشيخ في بيته فيزداد قلقا وارتباكا.
لم يكن هذا الشيخ المغربي إلا ابن حيون الذي كان صديقا حميما للتاجر أبي الحسن وولده حسون، ولم يخرج الشيخ من بيت التاجر بل أزال تنكره وجلس عند ولده حسون الذي كان على بعد منه يشتغل بلعبة الشطرنج. وهكذا صنع صديق بصديقه خيرا حينما كان الآخر منهما في أشد ضنك وفقر إلى المال ليعود إلى تجارته وينهض كما كان قبل مصيبته. ولم ينكشف سر هذا الشيخ المغربي إلا حينما كان الملك المعتمد بن عباد مأسورا في سجن أغمات ويزوره التاجر وولده حسون، وابن حيون مع الأميرة بثينة كما يقول التاجر لابن حيون: الله أكبر! أنت والله هو المغربي الذي دخل على داري، وما كنت يومئذ إلا متنكرا محسنا للتنكر، فأسوت حرحي وحفظت علي داري، واستنقذتني من عوادي البؤس والفاقة، والآن ترد علي تجارتي وتشاطرني كرائم مالك، فبأي لسان أؤدي شكر إحسانك!
ويرد ابن حيون على التاجر بأحسن ما يمكن به من الجواب فيقول: “بل اشكر الله يا أخي، فإني لم أعنك بمالي ولكن أعنتك بماله ولا أجدني صنعت يومئذ إلا واجبا ولا قضيت إلا دَينا عليّ للصداقة القديمة وللود الصحيح”.
ومن هذا الكلام لابن حيون تتضح مكانة الصداقة البريئة والود الخالص كيف تفعل الصداقة إيجابيا في استنهاض الهمم وإغاثة اللهفان. وقد تناولها أحمد شوقي بالذكر في هذه المسرحية إبرازا لقيمتها الخلقية ومكانتها العظيمة.
تدخل الفقهاء في إطاحة الحكومات:
يذكر أحمد شوقي في مسرحية أميرة الأندلس كثرة العلم والعلماء في الأندلس، وكان من بينهم الفقهاء الذين كانوا يتوسطون بين الملوك والأمراء ويعملون سفراء بعضهم إلى بعض. وهم الذين يؤدون دورا ملموسا في نشوء الاختلاف بين الملوك ونشوب القتال بينهم لأطماعهم السياسية. ومنهم القاضي ابن أدهم الذي قام بدور الوسيط والسفير بين الأمير المغربي سيري بن أبي بكر وملك الأندلس المعتمد بن عباد في خطبة أميرة الأندلس بثينة.
وكذلك حينما سأل الملك المعتمد بن عباد ابنته الأميرة بثينة عما رأت في قرطبة وكيف وجدتها فبينت أن للفقهاء دورا كبيرا في إشعال نار الفتن وإطاحة الحكومات، وشوارع قرطبة تعج بالفقهاء، ولذلك تشتعل قرطبة فتنة حينا فحينا، ويقتل كل من تولى إمارتها عاجلا غير آجل. وهنا نذكر الحوار الذي جرى بين الملك والأميرة والقاضي:
“الملك: وكيف وجدت قرطبة؟
الأميرة: وجدت طرقاتها تموج بالفقهاء يعرفهم النازر بزيهم، فذكرت حينئذ شهرة هذا البلد بالفتنة والتشغيب وجرأة أهله على أمرائهم وحكامهم، وأشفقت منه على أخي الظافر، وإن كنت واثقة بحزمه وعزمه.
القاضي: ومن أنبأك أيتها الاميرة أن الفتنة والشغب يجيئان من ناحية الفقهاء.
الأميرة: لم يبق سرا يا سيدي أن الفقهاء يعلقون سعادة الأندلس وخلاصه بإقائه في أحضان جيرانه سلاطين المغرب.
القاضي: وأنت يا بنت ملوك المسلمين أما تجدين ما يطلبه الفقهاء في قرطبة أجدى على الأندلس من بقائه على الحال التي هو فيها مشرفا على التلف والضياع؟
الأميرة: لا يا سيدي القاضي، ليس في الحق أن يغتصب جماعة من المسلمين أوطان جماعة غيرهم من المسلمين، فإن الوطن هو كالبيت في قداسته وكالضيعة في حرمتها”.
يتضح من هذا الحوار بين القاضي والأميرة أن الفقهاء أدوا دورا سياسيا سلبيا في قرطبة وتسببوا لإشعال نار الفتن بين حكومتين عظيمتين من حكومات المسلمين. وقد أدى صنيعهم هذا إلى الأسر والقتل والتدمير وتخريب الديار والبلاد وإفساد البيئات والأوضاع بين أوطان المسلمين، ولذلك قالت الأميرة أنه لا يجوز لطائفة من المسلمين أن يخربوا أوطان غيرهم من المسلمين.
الاستضافة:
يذكر أحمد شوقي بعض نبلاء من الأسبان وزعهم الملك إلى حاشيته من الوزراء والخدم وغيرهم. وهو يسألهم بعد أيام عن أحوالهم وأفعالهم وعاداتهم. كان هؤلاء السبان نزلوا على الملك ضيوفا فاستضافهم برحابة الصدر ووزعهم على حاشيتهم ليستفيدوا منهم ما يعرفونه من أنواع الفنون. وقد تعلم من أحدهم خادم الملك وساقيه لؤلؤ فن الرقص الأسباني مغتنما الفرصة الذهبية له كما يقول لؤلؤ: “إنه شاب يا مولاي خفيف الظل والروح، مولع بالرقص، وأنا أتلقى عليه كل ليلة دروسا في الرقص الأسباني حتى كدت أحسنه”.
وكذلك اغتنم الملك نفسه فرصة الاستفادة والاستشارة منهم في قضية هم أجدر بمعرفتها وهي جزاء ابن شاليب رسول ملك الفرنجة ألفونس الذي أرسله إلى الملك المعتمد بن عباد سفيرا في قضية ما فجاء الرسول إلى إشبيلية وقام بين الناس مباشرة يهدد الملك من غير أن يصل إليه ويتعرف عليه فيبلغه رسالة ملكه ألفونس. وقد أسر وسجن واستشار الملك المعتمد بن عباد ضيوفه النبلاء الأسبان في قضية السفير وجزاءه لدى ملك الأسبان فبينوا له القتل. وهذا الاستشار كما يدل على ذكاء الملك المعتمد وحيطته، يدل كذلك على صورة من صور تكريم الضيوف. وقد فعل الملك بأحسن وجه فنال مبتغاه ومراده وضرب عصفورين بحجر واحد.
تعدد الأزواج:
لم يتناول أحمد شوقي هذه القضية بصراحة بل تكلم عنها قليلا حيث تناول القضية على لسان الأميرة حينما يخطبها وزير الدولة المغربية سيري بن أبي بكر على لسان القاضي ابن أدهم فأول ما تسأله عنه هو أنه “أفارغ هو أم مشغول يا سيدي القاضي”. ولما علمت الأميرة أن للوزير ثلاث زوجات من قبل وهي ستكون له رابعة عليهن غضبت بشدة ورفضت تماما أن تكون رابعة الزوجات لأن أباها لم يأت بضرة على أمها ولم يفعل ذلك أحد في أسرته فهي لا تفعل مثل أبيه أن تكون ضرة على امرأة.
تقول الأميرة موضحة رأيها في الخطبة: “إنك يا سيدي القاضي تدعوني إلى خطة لا أنا مضطرة فأحمل نفسي الكارهة على قبولها، ولا الأمير ابن أبي بكر معطل البيت من الربة الصالحة فيتشبث بها ويصر عليها، بل تلك خطة لم أجد أبوي عليها ولم آلف رؤية مثلها في حياة أسرتي؛ فهذا أبي جعلني الله فداءه لم يتخذ على أمي ضرة ولم يكسر قلبها بالشريكة في قلبه، فجاءت بنا أولاد أعيان، نجتمع في جناح الأبوة ولا نفترق في عاطفة الأمومة، ولو شاء أبي لكان له كنظرائه الملوك والأمراء نساء كثير، ولكان له منهن بنو العلات تحسبهم إخوة وهم أنصاف إخوة، من كل دجاجة بيضة، ومن كل شاة حمل”.
يتضح من الفقرة المذكورة أعلاها أن تعدد الأزواج في أسرة ملكية حيث يعم كان مرفوضا تماما لدى الملك المعتمد بن عباد، وأتى به أحمد شوقي مثالا لبيان هذه القضية.
النظافة:
كان أحمد شوقي مولعا بالمجد الإسلامي في الأندلس ولذلك كان كل شيء يسترعي انتباهه سواء كان من أمور المجتمع أو من الشؤون السياسية. وإنه شهد ازدياد القذارات وفقدان النظافة في قرطبة فبينها على لسان الأميرة: “حال من القذارة تتنزه عن مثله إشبيلية”. وأناط هذه القذارة بما تراكم في القلوب والأذهان من قذارات الفتن والشرور خاصة ما ظهر في الناس من الاضطراب من قبل الفقهاء الذين يخوضون في أمور السياسة بين الدولتين ويتسببون لنشوء الفساد والقلق وإشعال نار الفتن بينهما. تقول الأميرة: “هذا من توالي الفتنة والاصطراب على الناس حتى شغلوا عن تنظيف مدينتهم التي كانت المثال المحتذى بين المدن نظافة ونظاما”. وهي تقول في مكان آخر: “لم يبق سرا يا سيدي القاضي أن الفقهاء يعلقون سعادة الأندلس وخلاصه بإلقائه في أحضان جيرانه سلاطين المغرب” … ليس في الحق أن يغتصب جماعة من المسلمين أوطان جماعة غيرهم من المسلمين، فإن الوطن هو كالبيت في القداسة وكالضيعة في حرمتها”.
معاناة المرأة:
ونرى معاناة المرأة في مسرحية أميرة الأندلس أن الأميرة بثينة يخطفها الأمير المغربي سيري بن بأبي بكر لأنها رفضت خطبته. وفوضها إلى قائد آخر حينما هجرت الطعام والشراب جراء المرض وألم الفراق من أسرتها وما حل بأبيها ودولته. وحينما ينقذها التاجر أبو الحسن في بيته يغير عليه بعض من الجنود بحثا عنها مخافة ألا تهرب من إشبيلية لأنها للأمير سيري بن أبي بكر ما دامت هي ترزق بالحياة فلا لها أن تعيش كما تشاء ولا أن تفوز بحبيبها سوى أنها جديرة بالعقاب جراء الرفض والإنكار. ويتضح ذلك من الحوار الآتي الذي جرى بين الأميرة وحسون ووالده التاجر أبي الحسن وخدمه.
“الغلمان: سيدي أبا الحسن! سيدي حسون، سيدي ابن حيون، خذوا حذركم …
بثينة: حول الدار ضجة.
خادم من الغلمان: أولئك جنود المغاربة يا سيدي.
الثلاثة (بصوت واحد): جنود المغاربة حول الدار؟
الخادم: أجل، أتوا يسألوننا عن بنت الملك هل رأيناها وهل آويناها، وهم يقولون إنها دخلت الدار منذ ساعة، وإنها طريدة الأمير سيري بن أبي بكر قائد جيش الفتح.
حسون (مغضبا): بل قل جيش الفضح يا غلام، فقد باء الغادرون بفضيحة الأبد.
بثينة: الآن فهمت يا حسون، الآن أدركت عم أن سيري بن أبي بكر كان قد خطبني إلى أبي وكان رسوله يومئذ القاضي ابن أدهم، فلا أبي أجاب، ولا أنا قبلت، ولعله تذكرني اليوم فهو يريد أن يأخذني عنوة”.
قرطبة الولاية الحمراء:
قرطبة هي مهد الفتوحات الإسلامية وبوابتها في الأندلس، ولها مكانة سامية في قلوب المسلمين في كل عصر وبلد لكنها افتقدت روعتها الدينية البديعة وجمالها العلمي والسياسي جراء الحروب والمعارك الدامية بين أمراء المسلمين وولاتهم. ويذكر أحمد شوقي هذا الإقليم العظيم في هذه المسرحية ويبين فجائعه وما أصابه من النحس السياسي جراء تشتت المسلمين وتكاثر دويلاتهم الضعيفة أن كل من تولى إمارة هذا الإقليم أصيب بسوء وكان القتل جزاءه أو على الأقل عزله وطرده حتى أن قرطبة كانت قد اشتهرت بين الناس بالولاية الحمراء في حين كانت هي تضارع دمشق وبغداد أيام الأمراء والخلفاء الأمويين. تقول الأميرة ذاكرة أخاها الظافر ومتخيلة سوء مصيره في هذه الولاية: “آه من قرطبة وفجاءاتها يا جوهر، وويلي على أخي الظافر من هذه الولاية الحمراء التي لم يقلدها أمير إلا قتل أو عزل… عرش يضطرب تحت كل جالس، وتاج لا يستقر على رأس كل لابس”.
وبالفعل قتل الظافر بن المعتمد بن عباد الذي تولى إمارة قرطبة في معركة الخان، وكأسلافه في قرطبة إنه شهد نفس المصير. ولذلك ذهبت روعة هذه الولاية البديعة الجمال المعروفة بالعلوم والآداب، وبقيت قصوره مستوحشة لا أنس فيها ولا عمران. وقد رآها أحمد شوقي حين مكوثه منفيا في بلاد الأسبان فتألم قلبه الشاعر بما قرأه في التاريخ، ورآه عيانا فتناول هذه الأحداث بالذكر مركزا على شخصية بثينة أميرة الأندلس، وأحب بنات الملك المعتمد بن عباد التي درجت في مهد السراوة بين العلم والفضل بلا كد الحياة ومشاقها، لأن حياة أحمد شوقي كذلك أشبه بحياة أميرة الأندلس إلى حد كبير رغم أنه لم يكن أميرا لكن لم يكن أقل رتبة من أمير.
مأزق إشبيلية وملكها المعتمد بن عباد:
كانت إشبيلية مقر المملكة التي أسسها بنو عباد في الأندلس والتي امتدت إلى سبعين سنة، ثالث ملوكها وآخرهم المعتمد بن عباد. وقد واجهت المملكة أيام المعتمد بن عباد ضعفا سياسيا إذ كانت مطمح أنظار الأعداء الأشداء من جميع الجهات؛ من داخل المملكة وخارجها ومن يمينها وشمالها، وعلى الرغم من ذلك امتدت حدود المملكة إلى قرطبة وتولى إمارتها الظافر بن المعتمد بن عباد. ولما دب الضعف في المملكة وسرى فيها بدأ الانهيار والانحلال فسقطت طليطلة من حدود المملكة، واشتد الضغط برا من جانب الأسبان والفرنجة كما اشتد نفوذ السلطان المغربي يوسف بن تاشفين من جانب البحر، وأصبح الأندلس بينهما فريسة لهما يفزعانها حينا فحينا إلى أن تقدم السلطان واحتل إشبيلية وسلبها من ملكها ونفاه إلى أغمات حيث عاش أسيرا ومات هناك غريبا منفيا فقيرا. يقول أحمد شوقي على لسان الملك المعتمد: “…إن مروءة السلطان لم تزد على أن جعلني راعيا لجماله، بعدما سلب نعمتي واغتصب ملكي ونفاني أنا وأسرتي في أغمات”.
التحالف بقوى المسلمين والاستنجاد بها:
يبين أحمد شوقي عدوان ملك الفرنجة على الملك المعتمد بن عباد الذي استنصر بسلطان المغرب يوسف بن تاشفين أمير المسلمين رغم أن السلطان نفسه مثل الملك ألفونس يطمع في بلاد المعتمد بن عباد. ويحذر الملك الفرنجي المعتمد بن عباد أن السلطان يطمع في بلاده وسيغتصب ملكه إذا تحالف هو معه لأن هذا التحالف أو الاستنجاد ليس طبيعيا بل هو أخطر استغاثة. ومن سوء الحظ أن كل نبوءة الملك ألفونس تتجلى صادقة لكن الملك المعتمد يميل إلى أمير المسلمين ويفضله للخضوع أمامه على الملك ألفونس.
وتتضح هذه الأحداث مما قاله الملك المعتمد بن عباد: “الملك ألفونس منذ سقطت طليطلة وقضاها الله له، أصبح لا يعرف لي منزلة ولا يألوني تحقيرا وإهانة ويطلب المال باستكلاب وشره، والبلاد باستطالة ولؤم، ومن عجيب أمره أنه يغضب من جهة فيصخب ويهدد، ويلين من أخرى فيلومني على الاستغاثة بيوسف بن تاشفين واستنجاد جنوده، ويدعي الطاغية أنه أوفى لي منه عهدا وذمة، وأصفى صداقة ومودة، وأنني إن حالفت يلكان المغرب كانت محالفة الذئب للحمل، وأن بربر المغرب إذا دخلوا الأندلس طغوا في البلاد، وهدموا بنيان الحضارة فيها، ومن نكد الدنيا أن تصدق فينا نبوءة هذا الناصح الغاش، فقد طمع ضيفنا ابن تاشفين في ملكنا وسلطاننا وتطلعت نفسه إلى خيراتنا وأرزاقنا، واستنصرناه على ألفونس فإذا نحن الآن نخشى منه بطش النصير”.
إغارة يوسف بن تاشفين على إشبيلية:
كان يوسف بن تاشفين أمير المسلمين وملك الدولة المغربية، وقد كان الملك المعتمد بن عباد قريبا منه فتحالف معه نظرا لخطورة إغارات الفرنجة على إشبيلية. ولكن لما رفضت أميرة الأندلس خطبة الأمير المغربي سيري بن أبي بكر انقلب التحالف إلى العداء والصداقة إلى عدوان مبين. يقول أحمد شوقي على لسان الملك المعتمد حينما أخبره الحاجب أن البلاء حل بإشبيلية: “البلاء! تريد أن الصديق قد انقلب وأن الحليف قد عاد حربا. هذا ما خفت أن يكون وقد كان”.
اكتظت المدينة بجنود يوسف بن تاشفين، الذين كانوا كثراً كالسيل. استغاث ساقي الملك لؤلؤ بالملك مطالباً إما بالقتال أو بالفرار، لكن الملك، رغم غضبه، قرر مواجهة العدو بشجاعة، وواجهه بسيفه فقط وبدون درع، مظهراً استعداده للموت مع مائة شاب. بعد المعركة، أسر الملك وعائلته ونفيوا إلى أغمات، حيث عاشوا في بؤس وضرورة. أما ابنته بثينة، أميرة الأندلس، فيختطفها الأمير المغربي، وينقذها التاجر أبو الحسن فيرسلها إلى أبيه في أغمات مع ما تمكن من الشفاعة للملك أمام يوسف بن تاشفين فينقل الملك مع أسرته من السجن إلى بيت قريب منه شريطة أن يرعى الملك جمال يوسف بن تاشفين.
ما حصل هذا اللطف القليل بالملك المعتمد بن عباد إلا لأنه كان قد قال ذات مرة قولته التي غدت مثلا في الأندلس وهي أنه يؤثِر أمير المسلمين على ملك الفرنجة إذا اضطر للخضوع لأي واحد منهما كما يقول أحمد شوقي على لسان الملك: “لقد سئلت مرة في مجلس الحكم إن كان لا بد لي أن أخضع لسلطان أو أدين لملك بالطاعة فأي الملكين أفضل وأي السلطانين أختار: سلطان المغرب أم ملك الأسبان؟ فأجبت: أرعى الجمال عند أمير المسلمين ولا أرعى الخنازير لملك الأسبان”.
قتل رسول ملك الفرنجة كرامة لملك الأندلس:
هدد ملك الفرنجة ملك الأندلس المعتمد بن عباد بشكل متكرر، خاصة بعد أن ضاع الأندلس إمارته طليطلة . أرسل ملك الفرنجة ابن شاليب كمبعوث، حيث شتم ابن شاليب المعتمد بن عباد علنا وتعرض للعقاب. رغم ذلك، استمر في تهديد الملك المعتمد، مهددا بطلب جزاء عن الأذى الذي تعرض له. استشار المعتمد بن عباد بعض النبلاء الإسبان الذين رأوا أن العقوبة المناسبة هي الإعدام. بناء على ذلك، أمر الملك بقتل ابن شاليب وأرسل الجثة إلى ملك الفرنجة. “ليعلم الناس هناك أن الأسد العربي لا يشتم في عرينه، وأنه لو غلب على غابته حتى لم يبق له منها إلا قاب شبر من الأرض لما استطاعت قوى الإنس والجن أن تنفذ إلى كرامته من قاب هذا الشبر”.
الزواج للمصالح السياسية:
الزواج أمر اجتماعي لكنه كثيرا ما ينعقد وفقا للمقضيات السياسية بين الأمراء والولاة والملوك وغيرهم من أهل السياسة في كل ملة ونحلة وفي كل مكان وزمان. وقد تناول أحمد شوقي هذا الزواج الذي ينعقد لمصالح أهل السياسة في هذه المسرحية بحيث أن الوزير المغربي سيري بن أبي بكر يخطب أميرة الإشبيلية بثينة ابنة الملك فهي ترفض بينما يريد أبوها الملك والقاضي ابن أدهم أن ينعقد هذا الزواج نظرا للظروف السياسية لئلا تمتد أيادي الإنجليز إلى إشبيلية وتكون الدولة المغربية عونا في الحوائج كما يقول القاضي ابن أدهم: “شهد الله لقد أحسنت بنيتي، ولكن مصلحة الملك أنسيتها ونصرة الوالد أغلت عنها وسلامة الأندلس أأهملت شأنها؟”. وترد عليه الأميرة قائلة: “لا يا سيدي القاضي، كل ذلك في المحل الأول من نفسي واهتمامي، ولكننا مختلفان في النظر، فأنت ترى أن الأندلس لا ينهض من كبوته إلا إذا مد السلطان يده، وأنا أتخيلها يد الذئب يمدها إلى الحمل…”.
خلاصة القول:
مسرحية الأندلس هي المسرحية الوحيدة من بين مسرحيات شوقي التي كتبها نثرا متأثرا برحلته إلى منفاه؛ إسبانيا حيث عاش خمس سنين وشهد المجد الإسلامي العريق الذي زال وتبدل لكن لم يتنكر لأهل الفضل والعلم. “أميرة الأندلس” حكاية لفتاة من أسرة ملكية كانت بارعة الجمال، نافذة الذكاء والشجاعة، متحلية بالأدب الجم والعلم الغزير. اسمها بثنية، وأمها الاعتماد الرميكية، وأبوها المعتمد بن عباد؛ سليل أسرة بني عباد، وأعظم ملوك الطوائف في الأندلس. شهدت بثينة مثل أبويها وأسرتها تقلبا سياسيا أسوء في حياتها، فانقلبت أوضاعهم من السعادة إلى الشقاء؛ حياة السجن والاعتقال في المنفى بالاغتراب. وجميع هذه التقلبات السياسية مرتبطة بحياة بثينة ابنة الملك المعتمد ابن عباد، ولذلك سمى الكاتب هذه المسرحية بلقبها الذي كانت تلقب به “أميرة الأندلس”.
المصادر والمراجع:
شوقي، أحمد. أحمد شوقي الأعمال الكاملة المسرحيات، مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1984م.
شوقي، أحمد. أسواق الذهب، مصر: مؤسسة هنداوي، 2010م.
شوقي، أحمد. البخيلة، مصر: مؤسسة هنداوي، 2010م.
شوقي، أحمد. الست هدى، مصر: مؤسسة هنداوي، 2010م.
شوقي، أحمد. أميرة الأندلس، مصر: مؤسسة هنداوي، 2010م.
شوقي، أحمد. دول العرب وعظماء الإسلام، مصر: مؤسسة هنداوي، 2010م.
شوقي، أحمد. علي بك الكبير، مصر: مؤسسة هنداوي، 2011م.
شوقي، أحمد. عنترة، مصر: مؤسسة هنداوي، 2010م.
شوقي، أحمد. قمبيز، مصر: مؤسسة هنداوي، 2011م.
شوقي، أحمد. مجنون ليلى، مصر: مؤسسة هنداوي، 2011م.
شوقي، أحمد. مصرع كليوباتره، مصر: مؤسسة هنداوي، 2011م.
*الباحث في جامعة جواهر لال نهرو، نيو دلهي.
Leave a Reply