+91 98 999 407 04
aqlamalhind@gmail.com

القائمة‎

قصة قصيرة: القفص
ترجمة: د. بثينة شموس

كان القفص مليئاً بالدجاج والدِّيَكَة الخصيّة والهزيلة والجريحة بألوان وأشكال مختلفة، فمنها ذات الرؤوس الأفعوانية والكمونية والمنقّطة والبيضاء والشبيهة بالقبرات، ومنها ما هو منتوف الذيل، أو قصير السيقان من دجاجات صغيرة وغضّة وضعيفة، وكلها موضوعة إلى جانب الممر المجاور لجدول الماء الصغير والمتجمد. كانت بقايا الشاي والدماء المتخثرة متراكمة في الجدول، وممتزجة ببقايا قشور الرمان والبرتقال والأوراق الصفراء والجافة ونفايات أخرى، وإلى جانب القفص كانت هناك حفرة مليئة بالدماء المتخثرة والمتجمدة وريش الدجاج واللفت المتعفن وبقايا السجائر ورؤوس دجاج مقطوعة وأقدام مبتورة وروث حصان. كانت أرضية القفص رطبة تعلوها طبقة من روث الدجاج والفضلات الممتزجة بالتراب والقش وبقايا قشور الجاوَرس، وكانت الرطوبة قد نالت من أقدام الدجاجات والدِّيَكة وريشها أيضاً، فالمكان كله ملوث بالفضلات، وضيق بشكل بالغ، ويسيطر على جوّه الهياج والاضطراب بما فيه من ديوك ودجاجات تنحشر بجانب بعضها كحبات الذرة، فلم يكن المكان يتسع لها للجلوس ولا للوقوف ولا للنوم؛ لذا كانت تتضارب برؤوسها، وتتزاحم بصدورها، وتنبش التراب الأسود والمتسخ بمخالبها في ذلك المكان الخانق الذي ترعى فيه بضيق وازدحام.

كان المكان ضيقاً حقاً على الجميع، ومما يزيد الوضع سوءاً ما يعتري نزلاء القفص من برد وجوع وغربة في محيط نَتنٍ بكل ما فيه، وعدا عن ذلك المحيط -بظروفه التي يتساوى فيها الجميع، والتي لا تمنح أحداً ميزة تجعل حاله أفضل من البقية- كان ما يجمع بين الدجاجات أيضاً أنها جميعاً بانتظار شيء ما.

كانت الدجاجات والديوك مرغمة على تنكيس رؤوسها لتناول طعامها أو لإخفاء رؤوسها تحت أجنحة البقية وريشها، وكانت مناقيرها تنغمس في فضلات القفص شاءت أم أبت، ولم يكن أمامها بدّ من تناول قشور نبات الجاوَرس من بين تلك الفضلات، أما الدجاجات التي لم تجد متّسعاً أو فرصة للوصول بمناقيرها إلى أرضية القفص بكل فضلاته فلم يكن أمامها خيار إلا النقر على قضبان القفص الجانبية والتحديق إلى الخارج، ولكن دون جدوى، فلا مفرّ؛ إذ لم يكن مكاناً صالحاً للحياة، ولم تكن تتبدى طريق الخلاص، فما كانت مناقيرها ولا مخالبها ولا صخبها الغاضب ولا انحشارها وتزاحمها كفيلاً بأن يُبدي لها بصيص أمل في الخلاص، ولكن ذلك كان يشغلها عما كانت فيه، كما يشغلها تحديقها إلى خارج القفص في الحياة التي تبدو لها غريبة وقاسية، وتحسّرها دون جدوى، ودون أن ينفعها جمال ريشها في الخلاص مما كانت فيه.

كانت الدجاجات والديوك تتزاحم فيما بينها في القفص، وتنقر فضلات بعضها، وتشرب الماء من إناء مكسور ومركونٍ في جوار الممر، وتمدّ رقابها إلى الأعلى كعربون شكر، وتنظر إلى سقف القفص الواهي والدنس والمثير للسخرية، وتحرك حناجرها الناعمة والرقيقة.

كانت جميعاً تنتظر شيئاً ما في لحظات إغفائها القليلة، ويعروها التيه والحيرة. لم يكن هنالك مفر، فلا مجال للحياة ولا للهروب، إذ لا خلاص من ذلك المستنقع الآسن، فقد كانت الدجاجات والديوك تتخبط كالمحكومة بحكم جماعي فيما تعانيه من برد وغربة ووحدة وتيه وانتظار.

فجأة فُتح باب القفص، فصدرت حركة من جانبه الآخر، وامتدت إلى داخله يد مشؤومة فاحمة السواد وبارزة العروق ومليئة بالتجاعيد ومعصوبة في وسطها بقطعة قماش ممزقة، وبدأت تمتدّ متفحّصة دجاجاته، وإلى جانبها يد أخرى قاسية وغاضبة ومستهترة، وقد خلّقت جلبة وتوتراً بين الدجاجات والديَكة التي كانت حينها قد اشتمّت رائحة موت مألوفة، فشعرت بالغثيان، وبدأ كل منها بمحاولة الاختباء تحت أجنحة هذا وريش تلك. كانت اليد تدور فوق رؤوسها وتحركها كمغناطيس قوي يجذب برادة الحديد، وتجول في كل مكان بإرشاد عين كالرادار، إلى أن أمسكت في النهاية بجناحي دجاجة وضيعة ورفعتها من وسط البقية. لم تكن اليد والدجاجة -التي كانت قرقرتها تتعالى وتزداد توتراً وسط رفرفتها اليائسة- قد غادرتا القفص بعدُ إلا وكانت بقية الدجاجات قد عادت للانشغال بالنبش في أرض القفص النتنة والتّزاحم في تناول ما ترعاه، دون أن تتناقص حدّة ما كانت تشعر به من برد وغربة وحيرة وانتظار، فجميعها كانت غريبة ومستهترة وجافية فيما بينها، وتنظر إلى بعضها بحنق، وتتخامش بمخالبها.

إلى جانب القفص في الخارج كانت سكين حادة وقديمة تحزّ عنق تلك الدجاجة، فيندفع الدم منها، وأثناء ذلك كانت بقية الدجاجات والديوك تراقب ما يحدث من داخل القفص، فتقرقر بتوتر، وتنقر الجدار الداخلي له، ولكن ذاك الجدار كان محكماً بقدر لا يُفضي إلى الخارج على الرغم من أنه لم يكن يحجبه أيضاً. كانت جميعها تنظر بحيرة وخوف وتأهّب واستسلام وضعف إلى الدم المندفع من عنق تلك التي كانت شريكتها في القفص قُبيل حين وحُررت للتو من هناك، ولكن ما كان باليد حيلة، فما حدث قد حدث.

وحينما كان الصمت يخيم على الجميع وكأن غبار الموت قد انتثر فوق القفص، غرس ديك ذو رأس أحمر وريش ملون ولامع منقاره في فضلات القفص، ونبش التراب، ومرّغ رأسه جيئة وذهاباً، ثم رفعه، وقبض بمنقاره على عرف دجاجة وهبّ فوقها، فجثمت الدجاجة مباشرة واعتلاها الديك برشاقة، فنالت الدجاجة نقرة على رأسها، وجثمت بذلّ في الفضلات ثم نهضت، ونفضت نفسها، ونفشت ريشها، وعادت إلى رعيها، وبعد هنيهة وقفت على طرفي قدميها، ورفعت جسدها، ومكثت كذلك قليلاً، وعادت إلى انشغالها بالرعي والنبش.

لم يمضِ إلا القليل حتى ارتفعت قرقرة دجاجة أخرى وأنينها، إذ دارت حول نفسها برهةً، ثم جثمت مكانها في وسط القفص، وبعد كثير من الألم تركت تحتها بيضة دون قشرة تبدو عليها آثار دماء وسط كل تلك الفضلات، وعلى حين غرّة امتدت إلى وسط القفص اليد السوداء المشؤومة ذات العروق البارزة والمليئة بالتجاعيد والمعصوبة في وسطها بقطعة قماش ممزقة، واخترقت سكون هوائه، وانتزعت البيضة من مكانها، وفي اللحظة ذاتها فُتح فم كالقبر خارج القفص وابتلعها. كان نزلاء القفص يحدقون أمامهم بعيون يملؤها الانتظار.

[1] صادق تشوبك “صادق چوبک” (1916- 1998م) أديب إيراني رائد في القصة القصيرة، تتميز قصصه بدقة تصويرها وصراحتها في الوصف وتعقيدها واعتمادها على التفاصيل والتحليل النفسي والغوص في أعماق النفس الإنسانية، وقد عكست الجانب المظلم للمجتمع، وعالجت المصير المأساوي لبعض الناس في عالم لا إنساني، إذ برزت فيها الطبائعية، وما زال العديد من أعماله ممنوعاً من النشر حتى الآن، وقد كان لها تأثير بالغ في الأدب الفارسي الحديث، وقصة “القفص” من القصص التمثيلية التي جاءت في مجموعة: “انتری که لوتیش مرده بود: القرد الذي مات صاحبه”، والتي تحمل بعداً سياسياً واجتماعياً في تصويرها للمجتمع المستسلم والخانع في عصره، وهي إحدى أهم قصصه.

*عضو هيئة تدريسية في جامعة طرطوس- سورية.

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of