+91 98 999 407 04
aqlamalhind@gmail.com

القائمة‎

قصة قصيرة: أعدقاء حميمون
د. محمد سليم

[[جميع أبطال هذه القصة وأحداثها من صنع الخيال، وأي تشابه بينها وبين شخصيات من الواقع لا يعدو أن يكون من قبيل المصادفة، ولذا أي محاولة مبذولة للبحث عن الواقع في الخيال ستكون مضيعة لوقت القارئ الكريم]]

شاءت الأقدار أن يعيشوا في مجرّة درب التبانة، التي تحوي المليارات من النجوم والكواكب والكويكبات، وتفجرت أضواء متوهجة من أحد النجوم، فوصلت الأرض وأحيتها فاخضرت، وأزهرت الأشجار والنباتات، فتمايلت محملة بالثمار اليانعة، وسحت الوديان، وجرت الأنهار، وانبجست المياه من جوف الأرض، وفاضت المحيطات الهادئة والصاخبة باللحوم الطازجة، وأضحت مسخرة تعبرها السفن تتموج جآجئها إثر تموجات الأمواج المتلاطمة، وغدت الأرض صالحة ليهبط عليها بنو آدم خليفة للواحد القهار الذي بنى السماوات السبع والأرضين السبع ومن عليها وما عليها. وآه لبني آدم! لم يرق للبعض منهم العيش وفقا لمعايير الخلافة في الأرض، من إعمار للبلدان، ونشر للعدل والأمانة، وتثبيت للصدق والحق، فعدلوا عن الطريق، وأجحفوا في حقوق بني جلدتهم. وهذه وغيرها من المواضيع التي شكلت خطابات مدير الهيئة “المولى كامل شريعتي”، فانبرى يتحدث عنها كلما سنحت له فرصة للحديث، وهي مواضيع قرأها شريعتي في كتّاب قريته، وطالعها خلال أيامه في الكلية، ودأب على حفظ النصوص المروية عنها عن ظهر قلب، وترسخت قناعاته بها لما تقدم به عمره.

وانجذب الناس إلى طروحات “المولى كامل شريعتي” أينما حلّ، وانضموا إلى جماعته يبثون عنه أفكاره، وغدا محببا لدى الجميع، وبالتالي عمل على تقريب الناس إليه، وتوطيد وشائج الصداقة معهم، وفي حضورهم ردّد قوله عن عدم وجود فوارق بين البشر، فلا فرق بين سود وبيض، وصفر وسمر، ولا يتفوق بعضهم فوق البعض إلا بالجهد والعمل، وذلك أمر رغّب الناس المنتمين إلى الطبقات في الاجتماع حوله والاستفادة منه. وذات مرة سمعوه يشارك في برنامج تثقيفي وتربوي، فأخذ ضياء قاسم وصحابه أهبتهم للمشاركة فيه، وخرجوا يكسبون ود صحابهم وجمهرتهم، فوصلوا إلى الملتقى الذي كان صحاب شارق جالسين فيه، ورمقه أحدهم فخلع نظارته، وجلاها بطرف قميصه، ثم ارتداها وبدأ ينظر إليه شزرا، رآه فانقبض صدره، وراح يخفي نفسه، وتلفت يمينا ويسارا كي يتسلل من بين الجموع المحتشدة، وبينما كان يهيئ نفسه إذ أحس يدا زغدت في كتفه، فاستدار بوجهه، وأدهشه وقوف ضياء قاسم أمامه، ولم تمض إلا ثوان حتى وقف يحييه، ويثني عليه… وأجلسه بجانبه، وبدأ يتحدث إليه كأنما كان ينتظره منذ ساعات، ودعاه ضياء قاسم حضور اجتماع “المولى كامل شريعتي” بعد أيام، وجاء اليوم الموعود، فحضروه وأصخوا بآذانهم نحو الكلمات التي تلفظها المولى شريعتي على الملأ:

“أيها الحضور الكرام! نحن بنو آدم ومتساوون، فالدماء التي تجري في شرايينا دماء واحدة، وإن كنا ننتمي إلى جماعات وشعوب ومناطق مختلفة غير أن جذورنا واحدة، وإنسانيتنا واحدة، وكوكبنا واحد، ونحن كبشر مفروض علينا إقامة العدل، والابتعاد عن الجور والعصبية، وكسر شوكة الديدن الطبقي الجائر، وصهر المجتمع البشري في بوتقة العدل والرشاد، فنحن خليفة الواحد القهار في الأرض، وواجبنا حفظ كرامة الإنسان، ومسؤوليتنا العمل لرفاه الجميع”.

كلمات تلهج بها مدير الهيئة “المولى كامل شريعتي” علنا، فوقعت موقعا حسنا من قلوب الملأ، وراحوا يذيعونها، وانتشى المولى كامل زهوا وفخارا، وبدأ يمشى الهوينا. وما إن غادر الاجتماع وخلا إلى حاشيته حتى تغيرت رؤيته، وتبدلت قناعاته، والشيء من مأتاه لا يُستغرب، فعاد إلى سيرته الأولى، وبدأ يشن هجوما عنيفا على “الآخرين”، الذين ظنهم خارج طبقته ورجاله، فهم “آخرون” و”غيرنا” تماما، وبدأ يرى الناس منقسمين إلى طبقات متناحرة ومتطاحنة، فمنهم من يكنون لك حبا صادقا، والآخرون يضمرون لك غلا مضمرا يجهرون لك الحب في العلن، ويناصبونك العداء في الباطن.

وعقب خطاب المولى كامل دار حوار بين ضياء قاسم المنتمي إلى حاشية المولى وبين شارق ورفقاءه، وصرّح ضياء قاسم أن ما تفوّه به المولى شريعتي هو عين الإنصاف، وكلامه هو عين المطلوب، ومجتمعنا في مسيس الحاجة إلى أمثاله من الرجال المحنكين، غير أن شارق ورفقاءه ظنوا الأمر بداية القصة التي قرأوا فيها أول فصولها، وهم قبل أن يبنوا رأيهم يفتقرون إلى قراءة بقية الفصول، ولذا تريثوا في إبداء رأيهم حتى يخبروا أيامهم مع المولى كامل شريعتي، فانصرفوا منشغلين بمهامهم، وتركوا المولى شريعتي وحاشيته وشأنهم.

وذات مرة ترامى إلى أسماع حاشية المولى شريعتي نبأ مشاركته في الاجتماع المعقود، فانفضوا مهرولين إليه، وتركوا أشغالهم نافرين، مفعمين بأمنيات لذيذة، ومدفوعين بحماسة متقدة، فالمولى كامل شريعتي شخصية فذة، وقال أحد الحاضرين في فرط حماسه إنه شخصية “فضية”، هل تحدث بذلك تداركا للخطأ الفادح الذي وقع فيه، أم تلفظ به عمدا؟ فذلك أمر لا يهمهم، المهم أن شريعتي حضر الاجتماع لإلقاء خطاب وازن حول الارتقاء بشعبه، وضرورة التغلب على الانقسام الداخلي، بغية بلوغ الهدف الأسمى الذي يتمثل في العمل لصالح طبقته وحدها، مهما كلفه الأمر، فهو لا يخاف في سبيل ذلك لومة لائم، ولا يلقي بالا للضرر الذي سيلحق الآخرين، فسياسة” نحن” و”الآخرون” دوما عُدّت سياسة مجدية ومفضلة لدى الحاكمين منذ سالف الزمان، وألقى المولى شريعتي بالمناسبة كلمته جاء فيها ما يلي:

“بات الحديث عن إحقاق الحق وإبطال الباطل أمرا مفروغا منه، وأضحى الكلام عن نبذ العصبية وأوجهها ودرء الفساد وتجفيف ينابيعه أمرا لا طائل تحته، فالذي يهمنا هو العمل لصالح طبقتنا وحدها ورجال مناطقنا وحدهم، بصرف النظر عن الاعتبارات الأخرى، ففيه يكمن سر نجاحنا، وهو الذي سيضمن لنا عيشا خضيلا، ومستقبلا تتراقص فيه أمانينا، وبالتالي ستتحقق به أحلامنا التي تراودنا منذ زمن، أما البقية فليذهبوا إلى الجحيم، لا يهمنا العمل لهم، فلا ناقة لنا في شؤونهم ولا جمل، فنحن – بكل جدارة – من ورثة العلم، والصرح الذي سعينا بناءه يقوم على القوة والسلطان، وإزاحة الآخرين سوانا مبغانا، فنحن إن لم نقم باتخاذ سياسة “فرق تسد”، فقد لا تقوم لنا قائمة، ومن هنا يلزمنا إقصاء الآخرين غيرنا عن الطريق، وتكريم من هم من أذنابنا، وملأ الساحة بمن يروق لنا سبيلهم حتى يبقوا يرددون قيمة أعمالنا المنهوبة والمسروقة مثل الببغاء ليل نهار”.

كلمات مشبعة بالجدية والصرامة تحدث بها المولى شريعتي أمام حاشيته المطبلين له دوما صاف الزمان أم شتا، وسرت نشوة الجاه والسلطان داخل نفوس الجمهور المحتشدين، وراحت تعتصر قلوبهم، فهللوا للمدير المولى شريعتي، وعظموا شأنه، وأحلفوا على أنفسهم أيمانا غليظة للانصياع لأوامره، فهو دوما يرعاهم ويرعى مصالحهم، وقد أفنى ذاته في سبيل ذلك، ونذر نفسه لخدمة شعبه المختار، رعيته يقتفون أثره، وجماعته منقادة ومطواعة، يمكنه تطويعهم كيفما يشاء، واستغلالهم فيما يودّه، وبمضي الأيام غدوا بوقات له يذيعون عنه كل شيء جديا كان أم تافها.

جمعتهم ذات مرة ظروف طارئة نشأت، فاندفعوا مسرعين، وتجمعوا في غرفة المولى شريعتي، وقد اصطبغت وجوههم بصبغة الجد والاهتمام، واكتسى مظهرهم بالتواضع والانكسار، فدلفوا إلى داخل الغرفة، وأخذوا مكانهم، وبقوا ينتظرون قدوم المدير، وهمس بعضهم في أذن البعض تأخر بعض الرفاق، فتلاقت عيونهم، وحكت ما لا يحكى، ونطقت بما لا ينطق.

وما مضت عليهم إلا دقائق حتى أقبل المدير المولى كامل، يصطحبه أحد المقربين منه، فوقف بعضهم تكريما له، وما إن جلس المدير إلى مكتبه حتى طلب منهم تهنئة قريبه العامل في إحدى الإدارات، فتهامست الشفاه وغمزت العيون، ثم هنئوه على منصبه، وبذلك أضحى أحد العاملين في إحدى الهيئات القائمة في أرجاء البلاد الشاسعة، والتي غدت مرتعا يلهو فيه المقربون من المدير ويرتعون، بينما سعى هو كل مسعاه إبعاد الأشخاص غير المقربين حتى يخلو له الميدان، فيفعل ما يبغاه ويتصرف كما يحلو له، بيد أنه لم يتوان في التلهج بكلمة العدل ليل نهار، ولم يثنه شيء عن التشدق بقيمة الكفاءات وترجيح كفتها، غير أن مساعيه لصالح المقربين منه وحدهم أهالت التراب على دعاويه.

وفي الوقت الذي عانى فيه شارق ورفاقه الأدهى والأمر من الأمر، ازدات سورة الجاه لدى مدير الهيئة وحاشيته، واتخذ المجلس المنعقد في غرفته مكانه من الأهمية والاهتمام، وراحت الأفواه المأجورة تتلقف النبأ، فتذيعه في أرجاء الهيئات، وتمضغه الألسن في تلذذ مشبع بالأفاكيه، وظن المدير وحاشيته أنهم غدوا مثل ملوك يتصرفون في أقدار الناس، وإذا نبههم امرؤ إلى تصرفاتهم أخذتهم العزة بالإثم، ويبدأون يخلقون أعذارا عرجاء تراكمت عبر السنين، ورانت أكوام من الذحل والسحام على القلوب، فغلطة الشاطر بألف، ولذا لفوا وداروا، وعرجوا ولفقوا، غير أن تلفيقهم لم ينفعهم شروى نقير.

وبقى حاشية المولى كامل ينطلقون زرافات ووحدانا يجمهرون الناس، ويطلبون إليهم حضور اجتماعات وجلسات علمية يحاضر فيها المولى، وفي إحدى المرات لما تقدم حاشيته نحو رفاق شارق وجدوهم جاهزين فبدأوا يناقشونهم في أمور وجدوها غريبة تتنافى مع روح المحاضرات التي يلقيها المولى على الملأ غير أن فعاله تغايرها تماما، واحتدم النقاش بينهم، وحمي وطيسه.

وتحدّث ضياء قاسم مؤكدا -حسب رأي المولى شريعتي- على “ضرورة استخدام القوة والجبروت حتى يتمكن المرء من فرض أمره، مهما تطلب الأمر من جهد، ومهما عده الناس جورا، المهم استخدام القوة في مختلف صورها، قوة النفوذ وقوة العدة والعتاد لصالح ذوي المرء وجماعته بصرف النظر عن قيم العدل والكفاءة، فالبقاء للأقوى للأبد كما يقولون”.

وخيّم صمت رهيب على الجمع هنيهة قطعه كلام شارق إذ اندفع يقول: “إذا كان البقاء للأقوى فلماذا هذا البكاء والاستبكاء على المجتمعات المقهورة والمظلومة؟ ولماذا هذا اللوم على كيانات مارست قوة الاستيلاء والاستعلاء ولا تزال تمارسها ضد المستضعفين والمقهورين؟ فقوى الاستعمار والاحتلال تستخدم قوتها بنفس الطريقة، وهي البقاء للأقوى، وتساندها القوى الغربية مستخدمة نفس المسوغات، فهل يمكننا تبريرها للحظة؟ هي ممارسات عدوانية، وعمل استعماري شنيع في نظرنا، لكنها عملية يحبذها دعاة العمل لصالح نظرية البقاء للأقوى… هم يحاربون من أجل سلطة كبيرة وأرض كبيرة، وعندنا من يحاربون من أجل سلطة ضئيلة وهيئة صغيرة، فالخيار واحد، والأرضية واحدة… بس المكان مختلف والظروف متغايرة… فالشعب المقهور مقهور، وأصحاب القوة مندفعون بلا رادع، فمقولة البقاء للأقوى الغربية سرى بين الناس مفعولها.”

وعند سماع هذا الكلام انفجر أحد المقربين من حاشية المولى كامل وبدا من نبرته كأنه يستشيط غضبا، فانبرى يرغي ويزبد، ثم تكلم بصوت جهوري سريع يتقافز الرذاذ من فمه غير أنه واصل حديثه فقال:

“أنت ذهبت بعيدا، وسعيت تدويل أمر ضئيل، هو ليس بجديد، توارثناه أكابر عن أكابر، وليس الأمر من الدين وقيمه في شيء، هو محض أمر دنيوي، وقد يسعى المرء تسييس الأمر والتصرف فيه طبقا لضرورة الوقت، وقد يفضي الأمر إلى إقصاء الآخرين بكياسة وبراعة.”

ولم يستطع على هذا الكلام أحد أصدقاء شارق صبرا فاستطرد قائلا:

“ما تقوله هو كلام فارغ لا يجدي نفعا، تماما مثل الذي يبيع الماء في حارة السقائين. وهل فرق ديننا بين قيم العدل والأمانة؟ فقال منها ما هو محرم في أمور الدين، وجائز في أمور الدنيا، ومتى ما أصبحت قيم العدل والأمانة والصدق موزعة بين الأمور الدينية والدنيوية؟ وهل أيامنا في الدنيا بعيدة عن أمور ديننا في أية لحظة؟… إما هي لحظات التنوير والاستكشاف أو لحظات الانزلاق نحو متاهات الظلم والظلام والإبحار في بحار الدماء البريئة المهراقة… ولم يترك الدين بقعا رمادية، فالأمور في نظره إما هي بيضاء أم سوداء، لا مكان لمنطقة رمادية على حد قول أهل زماننا… والأبواب إما هي مفتوحة أم منغلقة، هي ليست مواربة أبدا.”

وكاد النقاش يخرج عن حدوده المرغوبة والمعهودة، وكادت الكلمات تبلغ درجة الجرح والإجراح حتى تمسك أولو النهى من الفريقين زمام النقاش فغيروه ببراعة نحو الحديث عن أنواع القهوة، وتقاليد الناس المتوارثة عبر العالم في تحضيرها وتناولها. ولطالما أتى الحديث عن القهوة ملاذا لبعض المتطفلين في مجال الأدب والفن حيث تقديمه المدلل للأتباع يصرف أذهانهم عن طرح السؤال، ويطفئ جذوة التفكير العلمي لديهم، ويخمد أوار الخوض في البحث والتحقيق فيهم، وبدوره يعمل على حفظ ماء الوجه للمتطفلين السادة في مجال الأدب والفن.

ولما هدأ أوار النقاش قليلا، أخذ ضياء قاسم نفسا عميقة، وتنحنح ثم اعترف قائلا وهو مطأطئ الرأس: “أريد أن أصارحكم الأمر فإن تفوهات المولى كامل في العلن أمام الملأ تغاير أحيانا مواقفه من القضايا عند حديثه سرا مع حاشيته”.

وما إن باح ضياء قاسم بذلك السر حتى ساد صمت عميق على الجمع، وغدا الجو ثقيلا بمثل ثقل أردان الماضي على القلوب، وافتضح الأمر للجميع، للحاشية المقربين، وللآخرين غيرهم، وأضحى الضباب كثيفا في الخارج، وبدأت السماء تبكي وتستبكي، والأرض والأشجار بدأت تنوح، والريح شرعت تصفر وتزأر، وتلفع الكون بالسواد، واخشوشن صفير الرياح، فبدأ يصك الآذان، وأعيى الظلام الأبصار، فبدأت النفوس تهيم على غير هدى، وتاهت الإنسانية، وخفت نور النجوم، وبقيت الأرض تبحث مرة أخرى عن أمة وسط تتحلى بالقيم ولا تزال تخوض في غمار بحثها عنها.

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of