+91 98 999 407 04
aqlamalhind@gmail.com

القائمة‎

حياتي لأحمد أمين: قراءة
د. محسن عتيق خان

ربما سمعتم عن حوليات الشعراء حيث يقضون سنة كاملة في تصحيح وتحسين قصائدهم، ولكن هل سمعتم عن حوليات القراء، حيث يقرأ قارئ أو يدرس دارس كتابا لا يتجاوز مئتي صفحة طوال سنة كاملة، ها انا ذا اختم كتابا اليوم كنت قد بدات مطالعتها قبل سنة، وظللت أطالعها لسنة كاملة من يناير عام 2023 حتى فبراير عام 2024 بوقفات قليلة أتممت خلالها مطالعة كتب أخرى في السيرة والتاريخ، والأدب، وأكملت أثناءها كتابة مقالات عديدة، ولكن كنت مصمما منذ أن بدأت مطالعة “حياتي” في يناير عام 2023 بأنني سأتمه هذه المرة ولو أخذ ذلك وقتا طويلا، فاستأنفت كل مرة من حيث تركته حتى بلغت نهايته. وكم من مرة في السنوات الماضية، كنت بدأت دراسة هذا الكتاب، ثم تركته بعد قراءة بضع صفحات، ثم بدأت من جديد من الصفحة الأولى وتركته مرة أخرى، وهكذا حدث عدة مرات، وذلك ليس بسبب عدم الرغبة في قراءته بل بسبب أشغالي الضرورية. ولكن عندما بدأت دراسته في السنة الماضية، كنت قد عقدت العزم بأنني لا أبعده عن عيني حتى أنهيه ولو أخذ ذلك وقتا طويلا، وها أنا ذا نجحت في قراري في النهاية. وكل الشكر لله تعالى.

هذا الكتاب سيرة ذاتية للأديب البارع والكاتب المصري الشهير أحمد أمين (1954-1886) الذي يعرف لأسلوبه الأدبي الشيق في الكتابة الأدبية. وهذا الكتاب بمثابة نافذة نطل منها على الحياة المصرية الأدبية والسياسية والاجتماعية خلال النصف الأول من القرن العشرين، فنشاهد التطورات التي مرت بها مصر في ذلك الحين، وليس هذا فحسب، بل نتمكن من إطلالة على حياة الشرق الأوسط عند منتصف القرن العشرين، فمن خلال أسفاره نتعرف على أحوال السوريا، وفلسطين، والعراق، وكذلك على الأوضاع في الجزيرة العربية والحرمين الشريفين. وبالإضافة إلى ذلك نشاهد تركيا، ونلاحظ الفرق بين حياة المصريين وحياة أهالي تركيا، ودنوهم وعلوهم في الدين والأخلاق. وكذالك نشاهد بعيون الكاتب أوربا وحالتها الإجتماعية والأخلاقية، والرقى والازدهار والنمو التي بلغتها في ذلك الوقت.

بدأت قراءته فشعرت كأنني أمشي في زقق القاهرة في نهاية القرن التاسع عشر، وأشاهد الناس بأعيني يمرون في الطريق بملابسهم، وأرى أستاذ الكتاب في زي خاص بالعلماء في ذلك الحين، وهو يدرس الطلاب بطريقة قديمة، ويعتمد في التدريس إلى تعذيب الطلاب بأبشع طريق، وكذلك أراه يتناول الطعام الساذج مع طلاب الكتاب. وأشاهد الناس في المساجد يتوضؤون من حوض ثم ألحظ تغيرا جزريا، فتظهر نظام الأنابيب، وكذلك أرى عددا من العلماء المحافظين يخالفون هذا التطور إذ يعتبرون هذا النمو خلاف الشرع ربما اعتبروا الثقافة القديمة نوعا من الدين. ثم أرى مدرسة عصرية أُسست لتدريس العلوم الحديثة إذ ينتقل كاتبنا من كتاب إلى مدرسة مدنية حديثة، أساتذتها من جنسيات متنوعة فقد جاءوا من بلدان مختلفة متقدمة، ويتم التعليم فيها بطريقة جديدة تراعي مشاعر الناشئين لترغيبهم في القراءة والكتابة.

ثم ينتقل كابنا إلى جامعة الأزهر، فنشاهد هذه الجامعة العريقة مع أساتذتها الذين يجلسون على كراسيهم المربوطة بالأساطين وحولهم طلابهم في حلقات، ونشاهد نظامها الدراسي القديم الذي يتطلب تحديثا مهما ويحتاج إلى تغير هام. فطريقة التدريس كان قد فسد بسبب الركود لزمن طويل، وغلب عليها زخارف الألفاظ، واللا يعني، والغوط في الحواشي بدلا من فهم النص الأصلي، والمعنى الحقيقي. وأشعر بما يعاني منه كاتبنا عندما يسحبه ابوه من المدرسة الحديثة ويلحقه بجامعة الأزهر فيُضطر كاتبنا أن يلبس العمامة ويختار الزي الخاص بطلاب الأزهر كما يقول الكاتب: “فقدت أصدقائي القدامى، ولم استعض عنهم أصدقاءا جددا، كنت كالفرع قُطع عن شجرته، أو الشاة عُزلت عن قطيعها…انقعطت صلتي بيني وبينهم… فقد عهدوا أن العمامة لا يلبسها إلا الشاب الكبير…كانوا كثيرا ما يتضاحكون عليى إذا رأوني…كانوا يظنون أني مسخت مسخا وتبديت بعد الحضارة…فشخت قبل الأوان، والطفل إذا تشايخ كالشيخ إذا تصابى. كلا المنظرين ثقيل بغيض كمن يضحك في ماتم أو يبكي في عُرس…تضرعت إلى أبي أن يعيدني إلى مدرستي، وأن يعفيني من العمة، فلم يقبل.”

وخلال دراسته في جامعة الأزهر نرى لمحة عن المفكر والكاتب العربي الشهير محمد عبده في ذلك الحين، ونرى كيف يتأثر كاتبنا بآرائه في الأدب والتاريخ والتشريع الإسلامي كما يقول “كانت دروسه مملوءة بالفكاهات الظريفة…كان يشرح ما غمض علينا في أدب ووضوح..كان يستطرد في شرح حال المسلمين واعوجاجهم وطريقة علاجهم…ندمت على ما فاتتني من التلمذة عليه…واعتزمت أن أتابع دروسه.”

وبعد ذلك ينال كاتبنا القبول في مدرسة القضاء التي تبدو مزيجا من طريقة التدريس القديمة والحديثة. وبعد تخرجه فيها يتعين مدرسا ويواصل التدريس لسنتين، ثم يتم تعيينه قاضيا فنراه يذهب بنا إلى داخل مصر وإلى الواحات حيث الحياة مختلفة تماما عن الحياة في القاهرة، فالأرياف جميلة ولكن الحياة فيها صعبة، ونرى كاتبنا يحكم في أنواع من الشجارات الأهلية بعضها مضحكة وبعضها مبكية.

يتأثر كاتبنا بالتطورات السياسية كثيرا كما يكتب عن غلبة الإنجليز على سلطة مصر فيقول “خُلع الخديوي عباس، وُلي الأمير حسين كامل سلطانا على مصر، فحز ذلك في نفوسنا…عانت مصر ويلات الحرب من سوء الحالة الاقتصادية ومن اعتداء الإنجليز على الأهالي…تم تشغيل العمال رغم أنوفهم…ثم تسفير العمال إلى فرنسا… احتكرت السلطة محصول القطن…نُزع الصلاح من المصريين…كل هذا وأمثاله ربى شعورنا الوطني، وكبت العواطف…قامت المظاهرات وكثر التخريب واشتعلت البلاد نارا…عاقب الإنجليز الأهالي عقابا شديدا بإطلاق الرصاص على المتظاهرين والتنكيل ببعض القرى تنكيلا يذيب القلوب.”

ويستلم كاتبنا خطابا من د. طه حسين يدعوه لتدريس الأدب في جامعة القاهرة، فيلتحق بالجامعة مدرسا لمادة النقد الأدبي ويواصل التدريس فيها حتى تقاعده. وخلال مهام تدريسه، نراه ينجز أعمالا عظيمة في التصنيف والتأليف منها سلسلة فجر الإسلام، وظهر الإسلام وضحى الإسلام، وغيرها عديد من الكتب المهمة. وكذلك قام بتاسيس لجنة الـتأليف والترجمة التي أشرف عليها لمدة أربعين سنة، ونشر عددا كبيرا من الكتب المهمة في العلم والأدب. وكذلك قام بإنشاء الجامعة الشعبية عندما عمل مديرا للإدارة الثقافية بوزارة المعارف.

وخلال تدريسه في الجامعة سافر إلى تركيا لمشروع علمي يتطلب النظر في بعض المخطوطات ويسجل مشاهداته خلال إقامته هناك فيقول “قد حدثت في تركيا انقلابات اجتماعية خطيرة تثير اهتماما… تركيا أول بلد إسلامي نزعت هذا المنزع وجربت هذه التجارب. فقد خلعت الخليفة وألغت الخلافة، وحولت الخلافة إلى جمهورية…وألغت المحاكم الشرعية وحَدت القضاء، وتعلم تعليما مدنيا واحدا، ومن شاء أن يعلم ابنه تعليما دينيا فليتكفل بذلك على نفقته. قصَرت التعليم الديني على كلية اللاهوت التي تتبع الجامعة، وهذه هي اللتي تخرج رجال الدين. ألغت الطرق الصوفية وأغلقت الزوايا والتكايا، وحرمت العرافة، والسحر، والتنجيم، وكتابة التعويذ…وكشف الغيب, والإخبار بالمستقبل…عاقبت كل من يثبت عليه شيئ من هذا بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر…حولت الزوايا والتكايا إلى مدارس مدنية، ألغت التقويم العربي، وحتمت التقويم الغربي، منعت الإسراف في الجهاز والزواج…ونُحَي رجال الدين عن أي تدخل في الشؤون الدينية.”

وكذلك يصور لنا ما شاهد خلال سفره إلى سوريا وفلسطين، والعراق، وكذلك إلى أوربا، ولكن ذكر كل ذلك يطيل المقال. وفي الحقيقة هذا الكتاب يحتوي على لمحات مهمة من النصف الأول للقرن العشرين، ويساعد القارئ علي فهم أحوال مصر بصفة خاصة، وأحوال الشرق الأوسط بصفة عامة، وأرى من المناسب أن أقترح لكل طالب علم لللغة العربية أن يدرس هذا الكتاب.
*الكاتب رئيس تحرير مجلة أقلام الهند.

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of