+91 98 999 407 04
aqlamalhind@gmail.com

القائمة‎

مسرحية “القبعة والنبي” لغسان كنفاني: دراسة
د. محسن عتيق خان

مقدمة:

مسرحية “القبعة والنبي” التي أنجزها غسان في بداية عام 1967، هي محاولته الثانية في مجال الأدب المسرحي الفلسطيني، ولكنها ظلت مدفونة في الملف في شكل مخطوطة، و لم تعرف طريقها إلى النشر إلا بعد ست سنوات في عام 1973، وذلك في مجلة “شؤون فلسطينية”، في عددها الصادر في شهر نيسان عام 1973، بعد حوالى تسعة أشهر من استشهاد غسان كنفاني[1]. وإذا بحثنا عن الأسباب التي أدت غسان كنفاني لا إلى إهمال نشر هذه المحاولة المسرحية فحسب بل إلى إهمال الكتابة المسرحية بنفسها، فوجدنا أنها ترجع إلى النكسة التي أثرت فيه أثرا عميقا، ودفتعه إلى العمل النضالي واتخاذ موقف سياسي أيديولوجي يتمثل في محاولة انقلابية في مشواره الأدبي، وهو الانتقال من رمزية “رجال في الشمس”، و تجريبية “ما تبقى لكم” إلى النبرة النضالية المباشرة في “أم سعد”[2].

هل تفوق”القبعة و النبي” على “الباب” أهمية:

نظرا إلى تقنيات السرد الحديثة التي استخدمها غسان في هذه المسرحية، يذهب بعض النقاد إلى أن مسرحية القبعة والنبي تفوق على مسرحية “الباب” رغم أن الباب أكثر متداولا لدى نقاد المسرحية بالنسبة للقبعة والنبي، كما تقول رابعة حمو “أما مسرحية القبعة والنبي التي فاقت في أهميتها مسرحية الباب فليس من باب المبالغة في أن اعتبرنا أن هذه المسرحية هي ملحمة  جدلية متقنة الصنع. استطاع كنفاني التوفيق الناجح بين الموقف الثوري وبين تقنيات الشكل الحديث في المسرح وهو أهم إنجاز قدمته القبعة والنبي ولعله واحد من أبكر الجهود المبذولة في هذا المضمار، فمع أن المضمون ثوري وسياسي دون ريب، إلا أنه نسج على قالب الحداثة، فهو شديد الشبه بالأشكال الفنية المسرحية التي استحدثها مسرح العبث والغرائبي واللامعقول في باريس خلال العقدين السادس والسابع من قرننا المنصرم على أيدي صومائيل بيكت ويوجين يونيسكو وسارتر رواد المسرح العبثي في أوروبا والذي تابعوا في اعمالهم عبثية بريخت المسرحية في إثارة الدهشة في أحداث المسرحيات ودلالاتها وشخصوها، فليس من المستغرب أن يسمي كنفاني أحد أبطال مسرحيته بالشيء الغريب.”[3] فغسان كنفاني الذي عرض مسرحية الباب في زي ميثولوجية عربية، يقدم هذه المسرحية في ملبس آخر جديد، في ملبس العبث أو اللامعقول كما ظهر من الفقرة المذكورة أعلاه آنفا، وقد أشار إلى ذلك غنام قائلا “المسرحية الثانية المعنونة بـ “القبعة والنبي”، تنتمي إلى ما يسمى بمسرح العبث الذي يعتبر سيد الجدوى بسبب إتاحته المجال للدخول إلى عوالم غامضة لكشفها وإماطة اللثام عن مضامينها.[4]” والعبث أو اللامعقول (Absurd Theatre) تيار فكري له جذور في مذهبي التعبيري والسريالي، وظهر في الكتابة المسرحية والروائية خلال خمسينات القرن الماضي عندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها. وقبل أن نتناول السرحية التي نحن بصددها، يجب أن نلقي بعض الضوء على هذا التيار ليتنسى لنا فهمها.

مسرح العبث أو اللامعقول:

العبث أو اللامعقول هو ما يخلو عن الغرض ويبعد عن الدين والجذور الميتافيزقية والمتعالية، فالرجل منعزل، وجميع أعماله تصبح بلا معنى، وبدون جدوى. والشعور بالألم الميتافيزيقي لعبثية الوضع الإنساني…وكذلك الشعور بلامعقولية الحياة، وبالانخفاض المحتوم في قيمة المثل العليا، والغرض، والنقاء ثيمة لسمرحية العبث أو اللمعقول[5]. فينطبق مصطلح العبث أو اللامعقول على الإنتاجات في مجال القصة والمسرحية التي تعبر عن الوضع الإنساني اللامعقولي و العبثي بالأساس، و تؤمن بأن هذا الوضع لا يمكن أن يظهر إلا في الكتابات الأدبية التي هي بنفسها لامعقولة و عبث[6].

ظهرت تباشير هذا الاتجاه الفكري من حيث الفن المسرحي والحالة النفسية لدى الكاتب الفرنسي ألفريد جيري (Alfred Jerry) في مسرحيته “الملك أوبو” (Ubu Roi) في وقت مبكر من عام 1896، ثم لدى فرينز كفكا (Franz Kafka) في “دي ترائيل: ميتامورفوسيس” (The Trial, Metamorphosis) خلال العشرينات من القرن الماضي. وظهر هذا التيار في أبرز شكلها واتخذ طابع الحركة في فرنسا بعد ويلات ودمار الحرب العالمية الثانية كثورة ضد المعتقدات الأساسية، وأقدار الثقافة والأدب التقليدي، فالحروب المتواصلة كانت قد جعلت أوربا – التي كانت مسرحا لهذه الحروب لكونها قارة تحتوي على القوى الكبرى في ذلك الحين- عرضة للانهيار وأظهرت إفلاس القيم الروحية والدينية والأخلاقية. وفي البداية، نبتت الافتراضات بأن الإنسان مخلوق عقلاني يعيش في كون شبه مفهوم، وبأن الإنسان  يشكل جزءا من البنية الاجتماعية المنظمة، وبأن الإنسان يقدر على البطولة والكرامة حتى في حال الانهزام. و لكن بعد أربعينات القرن الماضي ظهر ميل على النطاق الواسع لدى بعض الأدباء على سبيل المثال جين بول (Jean-Paul)، و سرتري (Sartre)، و البرت كاموس (Albert Camus) للنظر إلى الإنسان كوجود منعزل يعيش في الكون اللاوعي، وللنطر إلى الكون كأنه لا يحمل حقيقة متأصلة، أو قيمة صلبية، أو معنى أصيلا، ولعرض الحياة الإنسانية في بحثها المخفق عن الغرض والمعنى كوجود مكروب وعبثي[7].

و أبرز كاتب لهذا النوع من الأدب الذي له أثر ملحوظ أكثر من غيره سواء في الفن المسرحي أو في القصة هو صموئيل بيكيت (Samuel Beckett) الذي كان ينتمي إلى آئيرلندا و يعيش في باريس. إنه كان يكتب بالفرنسية ثم يترجم إنتاجاته بنفسه إلى الإنجليزية. عندما اتجه صموئيل إلى الكتابة المسرحية كان قد بلغ الخسمين من عمره، ولكن مسرحيته الأولى “في انتظار غودوت” (Waiting for Godot)  التي نشرت في عام 1953 جعلته كاتبا مسرحيا أكثر إثارة للجدل في ذلك الوقت و لفتت انتباه الناس إلى مسرحية العبث واللامعقول، ثم تلت مسرحية أخرى بعنوان “لعبة النهاية” (Endgame)  التي نشرت في عام 1953[8]. و هاتان المسرحيتان تعرضان اللاعقلانية، والعجز، وورطة الحياة الإنسانية في الأشكال المسرحية التي ترفض البنية الفنية، و التفكير المنطقي أو حبكة متماسكة التطور.

أما الكتاب الآخرون الذين اشتهروا في هذا المجال فهم آرثر آداموف (Arthur Adamov)، و يوجين أيونسكو(Eugene Ionesco)، وجين جينيت (Jean Genet)، وبوريس فيان (Boris Vian)، ودينو بوزاتي (Dino Buzzati)، ومينوئيل دي بيدرولو (Manuel de Pedrolo )، وفارناندو أرابال (Fernando Arrabal)، وروبرت بينغيت (Robert Pinget)، وغيرهم كثير.

اتجاه العبث عند الكتاب المسرحيين العرب:

و قد تسرب هذا الاتجاه إلى الأدب المسرحي العربي الذي لم يكن يبلغ أوجه بعد في العقد السادس من القرن الماضي، و توفيق الحكيم، رائد المسرحية العربية أول من تناول هذا الاتجاه في مسرحيته “يا طالع الشجرة” التي نشرت في عام 1962. ثم تلتها بعض أعمال أخرى لكتاب كبار على سبيل المثال، مسرحتي “مسافر ليل” و”الأميرة تنتظر” لصلاح عبد الصبور، ومسرحية “الفرافير” ليوسف إدريس التي كانت تحمل في طياتها نفس الاتجاه.

استمد توفيق الحكيم فكرة مسرحية “يا طالع الشجرة” من أغنية شعبية مصرية، ولعله رأى فيها ما يحقق غرضه من عرض العزلة الإنسانية و الانفصال الفردي عن العالم الخارجي، وعبثية الحياة الإنسانية. وتتمحور هذه المسرحية حول زوجين وهما “بهادر” و”بهانة” اللذين يعيشان في بيت منعزلين عن الناس، لديهما شغل شاغل عن الآخرين، فالزوج يتعهد شجرة في بيته و الزوجة تشتغل بخياطة الملابس لطفلها الميت و تنتهي القصة بموت الزوجة خنقا.

“مسافر ليل” مسرحية شعرية تجري فيها الحوار بين شخصين في قطار ليلي، أولهما راكب وثانيهما عامل التذاكر، وهناك شخص آخر يوضح ويعلق خلال المسرحية ولكن لا دور له في الحوار فيصمت ويشاهد طول الوقت ولكنه يقوم بالتعليق. وقد ذهب النقاد إلى أن الراكب رمز للضحية وهي الشعب المصري، وعامل التذاكر رمز للجلاد وهو الحاكم العسكري، وأما الشخص الثالث الذي يستلزم الصمت طول الوقت فهو رمز للأغلبية الصامتة[9]. و تتمثل سمات مسرح العبث أو اللامعقول في أسلوبها فقد كتبها صلاح عبد الصبور في أسلوب التهكم وهو من أساليب مسرح العبث، وكذلك في افتراضه الأشياء في غير محلها المعروف، و في إفراغ الواقع من إطاره المألوف. أما مسرحية “الأميرة تنتظر”، فيظهر العبث أو اللامعقول في انتظار الأميرة للفارس، الفارس الذي ينجيها من المحنة، و يخرجها من المأزق مثل ما نجد في مسرحية “في انتظار جودو” لبكيت. و كذلك يظهر هذا الاتجاه في مسرحية “الفرافير” ليوسف إدريس التي نشرت في عام  1964م.

أشخاص مسرحية القبعة والنبي:

المتهم: شاب معدم ينزل على شرفته شيئ من العالم الخارجي فيكون محور الكلام

الشيئ:  شيئ من العالم الخارجي تتمحور حوله المسرحية

رقم1 و رقم2: القاضيان في المحكمة

السيدة: حبيبة المتهم

أم السيدة: أم حبيبة المتهم

الشرطي:  الرجل الذي يقوم بتحريك الحاجز في قاعة المحكمة بين الفينة والأخرى.

تلخيص المسرحية:

أخرج غسان كنفاني هذه المسرحية في ثلاثة مشاهد، وكل مشهد مربوط بآخر. فالأحداث تقع في غرفة مظلمة كما جرت العادة لدى كتاب مسرح العبث واللامعقول في تركيز حول شئ واحد. نجد أنفسنا في بداية المسرحية في محكمة يمثل فيها أمام القاضيين متهم في جريمة قتل شيئ غريب من العالم الخارجي، وهذا الشئ الغريب حي ولكن لا يتنفس بل يعيش على الماء. القاضيان يبدوان في عجلة، فهما يسرعان في إصدار حكم الشنق على المتهم بدون إجراء المحاكمة، ولكن كلام المتهم الفلسلفي يبدأ محاكمة ممتعة ومعقدة، ومليئة بالحوار الفلسفي والدلائل المنطقية، ممتعة لأننا نرى القاضيين في قفص حينا والمتهم حينا آخر حسب غلبتهم في الحوار و قوة دلائلهم، و معقدة لأن القاضيين لا يستطيعان تحديد ما هذا الشئ الغريب، وأي نوع من الخلق هذا، وما هو جنسه، فهذا الشئ لا يتنفس ولكن يشرب الماء، لا يحمل في جسمه الدم ولكن يعيش، ليس لديه فم ولكن يتكلم، لا يرى في ضوء النهار ولكن يبصر في الظلام. والجدير بالذكر هناك أن المحاكمة تقوم رغم أنه لم يدع أحد على المتهم، كل ذلك بمفروض أن أخا الشيئ الذي نزل معه واختفى سوف يرجع و يطالب بدم اخيه.

و خلال المحاكمة، تتمثل أمامنا أحداث قصة المتهم بين حين وآخر عن طريق ارتجاع المشاهد الفنية، وجميع الأحداث تجري في غرفة المتهم المظلمة أو في قاعة المحكمة. والقصة يجري هكذا:

المتهم شاب فقير يسكن في غرفة مستأجرة، و على وشك أن يكون عرضة لدعوى قضائية لعدم قدرته على تصفية ديون الدكاكين في حيه، و تسديد فاتورة الكهربا. إنه أحب امرأة فزرع في رحمها طفلا حراما، ولكن لا يستطيع الزواج معها لفقره و لكونه دون مستواها حسب قول أم السيدة التي تريد إسقاط الجنين و تطلب منه المناصفة في التكلفة كما يظهر من الحوار التالي:

“المتهم: (محاولا تغيير الموضوع) أيتها الجميلة، و يا سيدتي العزيزة! دعونا نحل المشكلة كما ينبغي، و بأهون السبل. نتزوج، و يصير الجنين ابننا المشروع.

الأم: (مقاطعة) نتزوج؟ أنت تتزوج؟ أنت المفلس تتزوج و تتحدث عن الطفل أيضا! الطفل الحرام الذي جاء ثمرة احتيالك على هذه المسكينة. رجل بلا أصل، تريد الزواج من السيدة. اسمع أيها المحتال يجب أن نعمل على إسقاط الجنين فورا، و يجب أن تعيد كل رسائل السيدة إليها. و تدفع حصتك في التكاليف.”[10]

و نشر في الصحف أن جسما غريبا دخل إلى الفضاء الأرضي وانفجر، وأن شيئين مجهولين سقطا منه[11]. و هذان الشيئان المجهولان الذان نزلا من كوكب آخر مخلوقان غريبان (Alien) كانا على مهمة استطلاع الكرة الأرضية، و لكن عندما احترقت مركبتهما، سقط واحدهما على شرفة المتهم، و آخرهما على شرفة أم السيدة. و بالمصادفة، يتعارف المتهم مع الشئ فيصبح صديقه و سره، أما أم السيدة فلا تتعارف فتجعل من الشئ قبعة تلبس على رأسها بكل أناقة بعد أن غسلته و كوته. و عندما يكتشف المتهم بأن القبعة التي تلبسها أم السيدة هي في الحقيقة زميل الشيئ الغريب، يحاول حصولها بإغراءها وإرضاءها ولكنها لا تعطيه، فيجعل خطة لاشتراء تلك القبعة منها، و سرقها في صورة عدم بيعها بحيلة من الحيل لأنه يريد أن يذهب مع الشيئين الغريبين إلى أرض قاحلة أورثه أبوه إياها ولا يوجد هناك أحد، ويبدأ هناك زراعة نسل الشيئين الغريبين عن طريق قطع بضعة عروق منهما ليتكاثر عددهما ويجعل منهما شعبا وينشئ هناك دولة يملكها، ثم يغزو بهم العالم ويعيد اكتشافه من جديد ويعطي الذين ينضمون إلى مملكته عالما أفضل. المتهم يفشل في اشتراع قبعة حماته و كذلك في سرقتها، وهي تبيع قبعته لامرأة وهي الأخرى تبيعها ثم تبدأ سلسلة البيع والشراع بسرعة فائقة من امرأة لامرأة. و يبدو أن شركة ما سرقت موضة هذه القبعة و انتجت قبعات من نفس الطراز لأن الشارع صار مليئا بالقبعات من ذات الطراز، فتجدها في الواجهات، ووراء المنعطفات، وفي الحفلات، وعلى رفوف الخزانات. وفي هذه الحالة لم ييأس المتهم من العثور على زميل الشئ، فحمل الشئ المسكين معه و وقف على الرصيف وأخذا يصفران معا لكل سيدة تضع على رأسها قبعة من ذلك الطراز على أمل أن يبادلهما زميل الشئ الصفير، فحسب الناس أن المتهم يصفر للسيدات و احتجزوه في الحبس بتهمة الإساءة للأخلاق العامة، فتوقف المتهم في الصباح عن الصفير لأنه لا يحب أن يبقى في السجن أو يسجن مرة أخرى بتهمة الإساءة للأخلاق حينما كان هدفه الحقيقي هو تحسين هذه الأخلاق.

السيدة و أمها اللتان حضرتا غرفة المتهم لمطالبة نصف تكلفة إجهاض الجنين تسمعان صوت الشئ الغريب خلال حوارهما الحار مع المتهم، فيسألان ما هذا الذي يتكلم. المتهم يريد في بادئ الأمر أن يغير الموضوع ولكن في صورة عدم نجاحه ولإبعاد الكابوس في صورة مؤقتة يخبرهما عن الشئ الغريب الذي نزل على شرفته من كوكب آخر ويقول لهما “إنه شيئ غريب…إذا عرضناه للبيع فقد يدفعون خمسة آلاف ليرة[12]” ولكن بعد مغادرتهما ينصرف المتهم عن موقفه وعندما ترجع السيدة بعد قليل و يسأل عنها متى يعرضه للبيع يقول “لن أبيعه، إنه صديقي، إنه في الواقع عالمي كله.”[13] ولكن السيدة و أمها تفضحان سر المتهم فتنهال عليه العروض من أطراف العالم ومن مؤسسات الدول الراقية، على سبيل المثال، “من مصنع للألبان المعلبة، وشركة طيران، ومتحف زراعي، ومصنع للطبع على الأنسجة، وكلية الآداب، وقسم الشعر في جامعة أكسفورد، ومشروع السنوات العشر للنزول على القمر، وجمعية تحسين العلاقات الفضائية، وشركة أفلام هتشكوك، ومؤسسة الرفق بالحيوان، والمقر البابوي في الفاتيكان، ودار نشر فرنسية، ودائرة الاستخبارات الأمريكية والروسية والصينية والإنجليزية والفرنسية والألمانية والكوبية، ودار شهيرة لعرض الأزياء، ومختبر الأبحاث الجرثومية، ومليونير سويسري الذي يجمع الطرف واللوحات و خصوصا لوحات بيكاسو و سلفادور دالي، وعروض أخرى أهمها من طفل في الهند ضيع في الأسبوع الماضي مخلوقه الفضائي الخاص الذي كان يربطه بخيط من القنب، و عرض من مصور صحفي ناشيئ يريد ان يحقق انتصارا يضمن مستقبله المهني…وعرض من فرقة الألعاب البهلوانية وترويض الحيوانات المفترسة، وعرض من الحكومة الكندية بمليوني ليرة.”[14] ولكن المتهم-في أول الأمر- يرفض جميع هذه العروض الغالية التي قد تنجيه من الهم وتضمن له المستقبل الباهر وحياة الترف والنعم، ولكنه يشتغل بكتابة الأجوبة لهذه العروض و ينغمس إلى أنه يهمل طلب الشئ الماء مرارا وتكرارا حتى يموت ذلك الشيئ الغريب الذي تتمحور حوله المسرحية. والمتهم يبرأ من اتهام القتل نهائيا بدلائله الفلسفية.

بعد ان انتهينا من تلخيص المسرحية و سرد قصتها بإيجاز، نتطرق الآن إلى تحليلها عن طريق الكلام في الموضوعات، والقضايا، والتساؤلات، التي تحتوي عليها هذه المسرحية.

البحث عن عالم أفضل:

البحث عن عالم أفضل، حيث تسود السعادة، والعدل، والمساواة، والسعة، والذي بدأ في رجال في الشمس في صورة محاولة المغادرة إلى الكويت، وظهر في مسرحية “الباب” في صورة “الجنة الأرضية” يستمر في مسرحية القبعة والنبي كما يظهر من خلال الحوار التالي:

“الشئ: أنت نبي حقيقي، ولكن ما أدراني أنك تجعلنا نتكاثر حتى تبيعنا بالأقفاص فيما بعد؟

المتهم: هراء ينبغي أن تكون قد وثقت بي وقد رأيت بنفسك ما حدث! عدني بالجنة التي أريدها أعدك بأن لا تمضي عمرك تعيسا.

الشيئ: ماذا ستعطي أولئك الذين سينضمون إلى مملكتك؟

المتهم: “عالما أفضل.”

فالعالم الأفضل هو حلم غسان المفقود، الحلم الذي يمكن تحقيقه بتقديم القرابين في سبيل الحرية، الحلم الذي يتحقق عن طريق طرد الاستعمار الغاشم، وعن طريق الحصول على الاستقلال من براثن الاحتلال. يلقي بسام سفر الضوء على حلم غسان فيقول “يمضي حلم غسان في البحث عن الجنة الأرضية، عالم أفضل مما يعيشه الناس في زمانه..و هذا حلم أرضي و ليس حلما سماويا له علاقة بالشروط الإنسانية الحياتية في كل زمان و مكان. و البحث المستمر عن عالم أفضل مما يعشيه الإنسان عملا جوهريا في حياة كل إنسان سواء عبر المدينة الفاضلة في مسرحية الباب أو كما عرفناه في مسرحية القبعة والنبي في محاولة إيجاد عالم أرضي أفضل.”[15]

المقاومة في هذه المسرحية:

في هذه المسرحية تظهر المقاومة في شخصية المتهم الذي رغم فقره، و أشد حاجته إلى المال، يقاوم جميع العروض المنهالة عليه من أنحاء العالم، و كذلك يقاوم إغراءات حبيبته، و أمها، رغم أنها كانت أحب شيئ إليه في الحياة كما يقول المتهم بنفسه “كنت أشعر أنني أفقد آخر شيئ لي في العالم..بل إلهي كم صرت تعيسا.[16]” فشخصية المتهم رمز للمقاومة، و رفضه لإغراءات حبيبته، و للعروض من المؤسسات العالمية لم يكن إلا إظهارا لاستمرار المقاومة الفلسطينية أمام التحديات، و المشكلات، و الإغراءات، و التهديدات الكثيرة التي يواجهها الفلسطينيون من الداخل و من الخارج و بصفة خاصة الذين يحاربون من أجل تحرير بلادهم. ففضح سر المتهم من جانب حبيبته و أمه و مساعيهما لإغرائه يدل على المشاكل التي يواجهها المقاومون الفلسطينيون من الداخل، و العروض المنهالة تدل على مساعي الإغراء الخارجية.

نقد على القوانين الوضعية:

تظهر من خلال هذه المسرحية مساعي غسان كنفاني لفهم القوانين الوضعية، والبحث عن أسباب تخلفها في تناول شؤون الحياة المتطورة كل لحظة وفي العالم المتغير دائما، فنجده ينقد على القوانين الوضعية نقدا لاذعا، ويركز على عدم مواكبتها للتطور الزماني والرقى الازدهاري، و قصورها في تسلية القضية رغم وجود ذكاء حاد لدى القاضيين اللذين يسكتان المتهم من حين لآخر، حينما يبدو المتهم أذكى منهما فيجبرهما على بدء المحاكمة، وعلما بأن القانون غير قادر في تناول مثل هذه القضايا، يسرع القاضيان في إصدار حكم الشنق على المتهم، والانتهاء من المحاكمة بدون بدأها، ولكنهما يضطران إلى الإفراج عنه بعد المناقشات الطويلة والحوار الجرئ مع المتهم، ورغم إصرار المتهم على محاكمته بموجب كل قوانين الأرض:

“رقم 1: أنت برئ. أنت حر.

المتهم: لا! لا أيها السادة! اتوسل إليكم بكل قوانين الأرض، يجب أن تجدوا طريقة ما لمحاكمتي.”[17]

فكأن المتهم يضحك على عدم قدرة القوانين لمحاكمته، ويمزح من القوانين الوضعية، ويسخر من عدم تطورها، وعدم مواكبتها للزمان المتطور.

السماع بإسم الفضول:

“رقم 2: القانون ضدك. يجب أن تعترف بذلك.

المتهم: اعترف..ولكن يجب أن تستمعا إلى..

رقم1: بإسم أي شيئ يجب أن نستمع إليك؟ بإسم القانون؟

المتهم: لا.. بإسم الفضول أيها السادة

رقم1: الفضول؟

رقم2: (ينظر بتواطؤ إلى رقم 1) إن وجهة نظره صحيحة..بإسم الفضول.

رقم1: إنني إذن أسمح لك بالكلام بإسم الفضول…ولكنني سأنبهك مسبقا إلى أن هذا لن يغير شيئا من الحكم..إن الفضول شيئ رائع ولكنه غير قانوني.”[18]

يبدو من الحوار المذكور أعلاه كأن المحاكمة تبدأ بإسم الفضول لا بإسم القانون، فالقاضيان الذان كان يقصدان الانتهاء من إصدار الحكم بدون إجراء المحاكمة لم يرضيا أن يستمعا إلى المتهم بإسم القانون بل بإسم الفضول. وهذا الفضول يبدو كأنه هو روح هذه المسرحية، فالمسرحية التي كانت على وشك الختام في البداية، تنشط و تبدأ من جديد بإسم الفضول.

شيئان غريبان في صورتى القبعة والنبي:

نورد هناك بعض الاقتباسات التي تتعلق بالنبوة، والنبي، لفهم عنوان المسرحية، و لفهم رسالة هذه المسرحية، و القضية التي تعرضها، والألغاز التي تحاول حلها.

“المتهم: أنت لا تستطيع أن تفهم..أنني ها هنا افتح مصاريع عالم يولد لأول مرة. ملئ بالدهشة. اكتشفه حبة حبة مثلما يكتشف الطفل أصابعه اصبعا اصبعا. دونك سيرتد هذا العالم إلى الغبار والصدأ، و سيتداعى من جديد ركاما متعفنا وراء بكارة مزقها جيش من الرواد. إنك من حيث لا تدري تمنحني النبوة.

الشيئ: أنت نبي مضحك إذن، لم تستطع رسالته الرائعة أن تمتد إلى أكثر من شخص واحد!……إن نبوتك لم تتجاوزك بعد. إن الشخص الوحيد الذي ينضوي تحت لواء رسالتك هو أنت نفسك أيها التعيس.”[19]

“المتهم: ها أنت تتحدث عنه كأنه قبعة فعلا!

الشيئ: قبعة، أو نبي..أنت لا تعرف كم يجعل الناس منهما شيئين متشابهين..إن أكثر الناس يفضل أن يضع النبي على رأسه من الخارج، مثل القبعة..مثل يافطة ضخمة ملونة مضيئة على واجهة دكان فارغ.”[20]

“الشئ: صرت نبيا يفتش عن قبعة!

المتهم: بالضبط..هل تدري؟ أنني اعبد حماتي الآن..لقد جاءت إلى هنا تحمل الحل على رأسها.”[21]

المقتطفات المذكورة أعلاه، و التي اقتبسناها من مسرحية “القبعة والنبي” تثير سؤالا حول نوع النبوة المتواجدة في هذه المسرحية، ودور “النبي” فيها، ون هو النبي؟ هل المتهم الذي يحصل على النبوة من الشيئ نبي؟ أو القبعة التي تزين رأس السيدة؟ و ما هي رسالة النبي السامية؟ و قد تكلم غنام عن النبوءة في هذه المسرحية فقال “مسرحية القبعة والنبي حملة نبوءة تحول الفكرة النبيلة بعد قتلها عطشا، و بسبب من عدم معرفة قيمتها إلى مجرد قبعة، تزين الرأس أو مجرد مادة مطلوبة للاختبار والاتجار من كافة القوى الثورية، و الاستعمارية أو من قوى اليمين إلى قوى اليسار، إلى العلماء والتجار وعلى حد سواء.”[22]

فلسفة غسان عن الحب:

نجد غسان في هذه المسرحية يعلق على الحب من حين لآخر، من كونه سلاحا في جانب و من كونه ضعفا في جانب آخر، فإنه سلاح إذا وجد الصدق فيه و يشجع العاشق على قطع أصعب الطريق، و المرور مرور الكرام في أقسى حالة من أحوال الفقر، و في جانب آخر إنه يشكل أكبر ضعف في حياة إنسان إذ يجعل الحياة قاسية، و يعرقل مسيرتها إلى الأمام، فقول غسان “”الحب وحده لا يستطيع مهما بلغت حرارته أن يخبز رغيفاً” يشير إلى الضعف الذي يعترى على العشيقة التي تفضل الراحة الظاهرية للحياة على معاناة الحب، فكأنها لا إلمام لها باللذة التي توجد في الحب والعشق، وكأن حبها لم ينبع من القلب بل من المال، وكذلك يشير قول غسان “هل هناك ماهو أكثر رعباً في حياة إنسان كان يخبئ الحب في جيبه كسلاح أخير للدفاع عن نفسه؟” إلى اليأس الذي يحصل للعاشق من عدم إخلاص العشيقة للحب، و من عدم معرفتها بالحب الحقيقي.

سمات الواقع المعايش والمتخيل:

نجد في هذه المسرحية سمات الواقع المعايش والواقع المتخيل بآن معا، فنجد في المتهم، والأم، والسيدة تصويرا حقيقيا للواقع المعايش، وفي الجسم الفضائي، والعروض المنهالة نجد تصويرا للخيال، الخيال الذي يدفع الإنسان في بعض الأحيان إلى أن يعيش رغم قساوة الحياة، و رغم عدم قدرته على تحمله مشاكل الحياة.

الخاتمة:

وهكذا هذه المحاولة الأدبية لغسان غساني في مجال المسرح العربي كانت ملحمة قيمة في موضوعها، ومضمونها، وحملت رسالة سامية، وقامت بتصوير الواقع المعاش رغم ظهورها في صورة تشبه مسرح العبث والغرائبي واللامعقول.

هوامش المقال:

[1]  كنفاني، غسان، القبعة والنبي، ط3، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1998، صـ 9.

[2]  كنفاني، غسان، القبعة والنبي، ط3، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1998، صـ 9.

[3]    رابعة حمو، مقاربة في الأسلوب المسرحي بين غسان كنفاني و برتولد بريخت، الملحق لجريدة رمان، يوليو 2011، ص7

[4]  جريدة الغد الاردني’ في عددها10/07/2010

[5]  Martin, Esslin, The Theatre of the Absurd, Pelican Books, London, 1972, P.no. 23-24.

[6]  M.H. Abrams, A Glossary of Literary Terms, E7, Prism Books Pvt. Ltd, Bangalore, 2003, p.n. 1

[7]  ‏M.H. Abrams, A Glossary of Literary Terms, E7, Prism Books Pvt. Ltd, Bangalore, 2003, p.n. 1

[8]     VNR AG, McGraw-Hill Encyclopedia of World Drama, Volume 1,E2, P.N.284-286

[9]  مجدي قرقر، قراءة في مسافر ليل، جريدة الشعب الجديد، في يوم 23 يوليو، 2013.

[10]  كنفاني، غسان، القبعة والنبي، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط3، 1998، صـ 38-39.

[11]  نفس المصدر، صـ 40.

[12]  كنفاني، غسان، القبعة والنبي، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط3، 1998، صـ 39.

[13]  نفس المصدر، صـ 42.

[14]  نفس المصدر، صـ 71-73.

[15]  بسام سفر، قرأة في مسرح غسان كنفاني، ص4

[16]  كنفاني، غسان، القبعة والنبي، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط3، 1998، صـ 24.

[17]  كنفاني، غسان، القبعة والنبي، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط3، 1998، صـ 80

[18]  كنفاني، غسان، القبعة والنبي، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط3، 1998، صـ 24

[19]  كنفاني، غسان، القبعة والنبي، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط3، 1998، صـ 46-47.

[20]  نفس المصدر، صـ 48.

[21]  نفس المصدر، صـ 59.

[22]  غنام، الحرية في مسرح غسان كنفاني.

*الكاتب رئيس تحرير مجلة أقلام الهند.

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of