+91 98 999 407 04
aqlamalhind@gmail.com

القائمة‎

شهادة المرأة في الفقه المالكي قديما وحديثا في ظـل مسايـرة الفـقـه للتـطورات الحديـثـة
سيدنا عالي سيداتي امباله

الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.

 أما بعد : فإن الله تعالى حض على أداء الشهادة في غير آية ، فقال جل من قائل : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ } ([1]) ، وقال تعالى : {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } ([2]) ، وأمر بعدم كتمانها بل توعد على ذلك قائلا : { وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } ([3]) .

كما حث رسوله صلى الله عليه وسلم على أداء الشهادة فقال: (ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها) ([4])، ومن المعلوم أن الشهادة لا تقوم إلا بشاهدي عدل، كما قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} ([5])

وقد أجاز الله تعالى شهادة النساء مع الرجال، فقال جل من قائل: {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء} ([6])  .

إلا أن حوادث الزمان كثيرة، وقد تحدث في حال أو زمن لا يوجد فيه الرجال، أو لا يوجد عدد من الرجال ممن تقوم الشهادة بهم، أو يوجد الرجل من الجمع من النساء، أو تنفرد النساء برؤية الحدث، فهل تثبت الحقوق بشهادتهن؟

وإذا غايرت التطورات الاجتماعية الحديثة وخالفت بين علاقتي كل من الرجل والمرأة في بعض المهن والمهارات والأعمال، فأصبحت المرأة أشد علاقة بما كان الرجل أشد علاقة منها به، هل يتبع حكم الشهادة هذا الاختلاف والتطور أم لا؟

حول الإجابة على هذه الأسئلة سيكون موضوع هذا البحث، وقد قسمته إلى ثلاثة مباحث وخاتمة:

المطلب الأول: الحقوق التي لا تقبل فيها شهادة النساء.

المطلب الثاني: الحقوق التي تقبل فيها شهادتهن.

المطلب الثالث، تطور حكم شهادة النساء في ظل التطورات الحديثة.

الخاتمة: تشتمل على نتائج البحث.

المطلب الأول: الحقوق التي لا تقبل فيها شهادة النساء، ويشتمل على ما يلي:

أولا: شهادتهن في الحدود والعقوبات.

اتفق العلماء على عدم قبول شهادة النساء في الحدود والعقوبات، فلا تقبل فيهما إلا شهادة الرجال، وذلك على النحو التالي:

أ. شهادة الزنا لا تثبت إلا بأربعة شهود.

قال في الرسالة: ” ولا يحد الزاني إلا باعتراف، أو بحمل يظهر، أو بشهادة أربعة رجال أحرار بالغين عدول يرونه كالمرود في المكحلة ” ([7])

وقال الشيخ خليل في المختصر: ” وللزنا واللواط أربعة بوقت ورؤيا اتحدا….”([8])  .

ب. الشهادة على بقية الحدود والقصاص لا تثبت إلا بشهادة رجلين ([9])، وإلى هذا أشار في التحفة بقوله:

ففي الزنا من الذكور أربعة        وما عدى الزنا ففي اثنين سعه

 واستدل العلماء على ذلك بالكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب فاستدلوا بقوله تعالى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ} ([10])، وبقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} ([11])، وقال تعالى: {لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} ([12])  .

ووجه الدلالة من الآيات : ” أن لفظ الأربعة يختص بالرجال دون النساء ، ولأن الأربعة إذا كان بعضهم نساء لا يكتفي بهم بالإجماع بل لا بد أن يكون بدل الرجل امرأتان فيصيرون خمسة وهو خلاف النص أيضا .”([13])  وأما السنة فاستدلوا بما رواه أبو هريرة أن سعد بن عبادة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ” أرأيت إن وجدت مع امرأتي رجلا ، أفأمهله حتى آتي بأربعة شهداء ؟ قال : ” نعم ”  ([14]) ، ووجه الدلالة من الحديث : أن جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم على سؤال سعد رضي الله عنه يقتضي عدم ثبوت شهادة الزنا إلا بأربعة شهداء ، وهذه الألفاظ موضوعة للدلالة على المذكر دون المؤنث ([15])  .

وأما الإجماع فقد انعقد على اشتراط أربعة من الذكور على شهادة الزنا ([16]).

ثانيا: ما ليس بمال ولا يؤول إليه وليس بعقوبة:

كالعتق، والإسلام، والردة، والنكاح، والطلاق، والرجعة، والنسب، والتعديل، والتجريح، والكتابة، والتدبير، ونقل الشهادة فيما ليس بمال … ([17]). فهذا يشترط فيه شهادة رجلين، ولا تجوز فيه شهادة النساء.

 قال ابن رشد في البيان والتحصيل : ” وفي كتاب الشفعة من المدونة أن النساء لا تقبل تزكيتهن في وجه من الوجوه لا فيما تجوز فيه شهادتهن، ولا فيما لا تجوز فيه، لا يزكين الرجال و لا النساء، وإنما لم يجز أن يزكين الرجال فيما تجوز شهادتهن فيه على القول بأن شهادتهن جائزة فيما جر إلى المال، كالوكالة على المال وشبه ذلك، لأن الشاهد إذا زكى شهد في المال وغير المال، فيؤول ذلك إلى إجازة شهادتهن في غير المال، وقد قيل : إنهن يزكين الرجال إذا شهدوا فيما تجوز شهادتهن فيه، وهو قول ابن الماجشون وابن نافع في المبسوطة، وأما تزكيتهن النساء فكان القياس أن تجوز على قياس قول مالك؛ لأن شهادتهن تجوز في الوكالات على الأموال وما جرى عليها، لأن النساء إذا زكين لا يشهدن على عتق ولا طلاق، فلا تؤول تزكيتهن النساء إلى إجازة شهادتهن فيما لا تجوز فيه شهادة النساء على حال، والفرق عنده بين الموضعين أن التزكية يشترط فيها التبريز في العدالة، وهي صفة تختص بالرجال لنقصان مرتبة النساء في الشهادة ، إذ جعلت شهادة امرأتان كشهادة رجل واحد، ولم تجز في عتق، ولا طلاق، ولا نكاح، ولا حد ” ([18]) .

وقال في المختصر: ” ولما ليس بمال ولا آيل له كعتق ورجعة وكتابة عدلان ” ([19])

المطلب الثاني: الحقوق التي تقبل فيها شهادتهن: ويندرج تحته:

أولا: ما تجوز شهادتهن فيه مع الرجال باجتماع وانفراد.

 ذهب المالكية إلى قبول شهادة النساء في المال كالبيع والرهن والصلح والشفعة، وما يؤول إلى المال كعوض الخلع، وجرح الخطإ، وجرح العمد الذي لا قصاص فيه كالجائفة، قال في المختصر عاطفا على ما ليس بمال ولا آيل له: ” وإلا فعدل وامرأتان او أحدهما بيمين كأجل وخيار وشفعة وإجارة وجرح خطإ أو مال وأداء كتابة وإيصاء بتصرف فيه، أو بأنه حكم فيه …” ([20]) ، وإليها أشار في التحفة بقوله :

ورجل بامرأتين يعتضد         في كل ما يرجع للمال اعتمد

   وقال في المرتبة الثانية من مراتب الشهادة:

ثانية توجب حقا مع قسم      في المال أو ما أل للمال تؤم

شهادة العدل لمن أقامـــــــــــه       وامرأتان قامـــــــــــــتا مقامــــــــــــــــــــه

وقال في الرسالة: ” ولا تجوز شهادة النساء إلا في الأموال، ومائة امرأة كامرأتين، وذلك كرجل واحد، يقضي بذلك مع رجل أو مع اليمين فيما يجوز فيه شاهد ويمين. “([21]) .

واستدلوا بقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } ([22])، فنص على ذلك في السلم وقيس عليه المال وكل ما يقصد به المال، أما غير المال فلا تجوز شهادة النساء فيه ، لأن الله لم ينص على شهادتهن إلا في الأموال. ([23])

ثانيا: ما يخصهن في الشهادة.

وذلك فيما لا يطلع عليه في غالب الحال الرجال، كالولادة والاستهلال والرضاع… فإن شهادة امرأتين في هذا النوع تقوم مقام شهادة الرجلين، قال في المختصر: ” ولما لا يظهر للرجال امرأتان، كولادة وعيب فرج واستهلال وحيض ونكاح بعد موت، أو أسبقيته..” ([24]) .

     وقال في الرسالة: ” وشهادة امرأتين فقط فيما لا يطلع عليه الرجال من الولادة والاستهلال وشبهه جائزة”([25]). وهذا ما أشار إليه في التحفة بقوله:

وفي اثنتين حيث لا يطلع           إلا النساء كالمحيض مقنع

      قال في البهجة : ” وذلك كالحيض والرضاع والاستهلال والولادة والحمل وإرخاء الستر وعيوب الفرج ، فإن كان العيب في غير الفرج مما هو عورة ففي نفي الثوب عن محله لينظره الرجال أو يكتفي بالمرأتين قولان، واقتصر الباجي على الأول ، وهو ظاهر النظر فيفيد أنه المعتمد، وأفهم قوله : بامرأتين ان الواحدة لا تكفي ، وهو كذلك، إذ الواحدة لا تجوز شهادتها في شيء ، كما في المدونة إلا في الخلطة على القول باشتراطها في توجه اليمين ، وظاهر قوله : حيث لا يطلع …الخ ، أن المولود إذا مات ودفن ، تجوز شهادتهما لذكوريته، أو أنوثيته، إذ لا يطلع على ذلك غالبا إلا النساء ويورث ويرث بالجهة التي شهدتا بها ، وهو كذلك على قول ابن القاسم ، لكن مع يمين ، وقيل لا تجوز لأنه يصير نسبا قبل أن يصير مالا، ويورث على أنه أنثى ، قاله أشهب وسحنون وأصبغ.”[26]

وما تناولناه في هذين المطلبين ذكره ابن رشد الحفيد بإيجاز مشيرا إلى مذاهب المخالفين، فقال : ” وأما النظر في  العدد والجنس، فإن المسلمين اتفقوا على أنه لا يثبت الزنا بأقل من أربعة عدول ذكور، واتفقوا على أنه تثبت جميع الحقوق ما عدا الزنا بشاهدين عدلين ذكرين ما خلا الحسن البصري فإنه قال : لا تقبل بأقل من أربعة شهداء تشبيها بالرجم، وهذا ضعيف لقوله سبحانه : { وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ }[27] ، وكل متفق على أن  الحكم يجب بالشاهدين من غير يمين المدعي ، إلا ابن أبي ليلى فإنه قال : لا بد من يمينه.

      واتفقوا على أنه تثبت الأموال بشاهد عدل ذكر وامرأتين لقوله تعالى: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء}[28] واختلفوا في قبولهما في الحدود، فالذي عليه الجمهور أنه لا تقبل شهادة النساء في الحدود لا مع الرجل و لا مفردات، وقال أهل الظاهر، تقبل إن كان معهن رجل وكان النساء أكثر من واحدة في كل شيء على ظاهر الآية، وقال أبو حنيفة، تقبل في الاموال وفيما عدا الحدود من أحكام الأبدان مثل الطلاق والرجعة والنكاح والعتق، ولا تقبل عند مالك في حكم من أحكام البدن.

واختلف أصحاب مالك في قبولهن في حقوق الأبدان المتعلقة بالمال، مثل الوكالات والوصية التي لا تتعلق إلا بالمال فقط، فقال مالك وابن القاسم وابن وهب، يقبل فيه شاهد وامرأتان، وقال أشهب وابن الماجشون: لا يقبل فيه إلا رجلان.

     وأما شهادة النساء مفردات – أعني: النساء دون الرجال – فهي مقبولة عند الجمهور في حقوق الأبدان التي لا يطلع عليها الرجال غالبا مثل الولادة والاستهلال وعيوب النساء. ولا خلاف في شيء من هذا إلا في الرضاع فإن أبا حنيفة قال: لا تقبل فيه شهادتهن إلا مع الرجال؛ لأنه عنده من حقوق الأبدان التي يطلع عليها الرجال والنساء.

     والذين قالوا بجواز شهادتهن مفردات في هذا الجنس اختلفوا في العدد المشترط في ذلك منهن ، فقال مالك : يكفي في ذلك امرأتان، قيل : مع انتشار الأمر ، وقيل : وإن لم ينتشر ، وقال الشافعي : ليس يكفي في ذلك أقل من أربع؛ لأن الله عز وجل قد جعل عديل الشاهد الواحد امرأتين ، واشترط الإثنينية ، وقال قوم : لا يكتفي بذلك بأقل من ثلاث ، وهو قول لا معنى له، وأجاز أبو حنيفة شهادة المرأة فيما بين السرة والركبة، وأحسب أن الظاهرية أو بعضهم لا يجيزون شهادة النساء مفردات في كل شيء كما يجيزون شهادتهن مع الرجال في كل شيء وهو الظاهر .

      وأما شهادة المرأة الواحدة بالرضاع، فإنهم أيضا اختلفوا فيها لقوله عليه الصلاة والسلام في المرأة الواحدة التي شهدت بالرضاع: ” كيف وقد أرضعتكما ” وهذا ظاهره الأنكار، ولذلك لم يختلف قول مالك في أنه مكروه.”[29]

المطلب الثالث:  تطور حكم شهادة النساء في ظل التطورات الحديثة

أما شهادة المرأة في ظل التطورات الحديثة فلا يمكن أن تقيد بالفقه المالكي، بل هي مسألة معاصرة يفتح المجال في البحث فيها أمام جميع العلماء المعاصرين، وقد تناولها البعض منهم بالدراسة، من بينهم العلامة محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله، حيث قال: “ما يبدو لكثير من الناس من أن الشريعة الإسلامية لم تقم لأهلية المرأة الوزن الذي أقامته لأهلية الرجل، ودليل ذلك أنها جعلت شهادة المرأة بنصف شهادة الرجل في كثير من الأقضية التي تحتاج إلى شهادة، وفي ذلك غض من مكانة المرأة وإساءة إلى حقوقها.

وسوء الفهم في هذه المسألة يبدو من جانبين اثنين:  

الجانب الأول: ما يجب أن نعلمه من أن الشهادة يتم الاعتماد عليها في الشريعة الإسلامية، في مجالين اثنين، أولهما مجال التحقيق، ثانيهما مجال النظر في النطق بالحكم. أما مجال التحقيق، فإن شهادة المرأة تساوي شهادة الرجل في هذا المجال في سائر القضايا المختلفة ودون أي تمييز بين ذكورة وأنوثة. ذلك لأن المحقق إنما يتخذ من الشهادة وغيرها، قرائن تدنيه من معرفة الحقيقة وتعينه على التخلص من غبش الشكوك والاحتمالات. ثم يأتي دور الحكم القضائي بعد ذلك. وإذا تذكرنا أن القوانين الوضعية تعتمد على الشهادات غالبا في مرحلة التحقيق، ولا تعتمد عليها وحدها – على الغالب – في مرحلة القضاء والحكم، علمنا أن الشريعة الإسلامية لا تختلف عن القوانين الوضعية السائدة في العالم اليوم في هذه المسألة قط.

الجانب الثاني: يتمثل في أن الشريعة الإسلامية تجعل من الشهادة – بقيود وشروط معينة – مستندا يستقل بالحكم، أي: تكون لها من القيمة القضائية ما يكون للإقرار والوثائق القطعية الدامغة. وفي هذه الحالة لا بد من أن تضبط الشهادة بالقيود والضوابط الاحتياطية التي ترقى بها إلى مستوى تلك الوثائق الدامغة. وتعود جملة هذه الضوابط والقيود إلى شرطين اثنين لا دخل لجوهر الذكورة والأنوثة فيهما قط.

   الشرط الأول: عدالة الشاهد وضبطه، وأن لا تكون بينه وبين المشهود عليه خصومة تبعث على اتهامه فيما يشهد عليه به، وأن لا تكون بينه وبين المشهود له قرابة تبعث على اتهامه بالتحيز إليه.

 الشرط الثاني: أن تكون بين الشاهد والواقعة التي يشهد بها صلة قوية تؤهله للدراية بها والشهادة فيها. وانطلاقا من هذا الضابط الثاني، فإن الشارع يرفض شهادة رجل ثبت أنه عاطفي النزعة رقيق المشاعر مرهف الحس والوجدان، في وصف جناية قتل ارتكبت وبيان كيفية ارتكاب الجاني لها ، كما يرفض شهادة المرأة أيضا في ذلك .

إذ الأرجح أن أيا منهما إن صادف عملية سطو على حياة بقتل ونحوه، فسيفر من هذا المشهد ما وسعه السبيل إلى ذلك. هذا إن لم يقع هو أو هي في غيبوبة تفقدهما الوعي … مع العلم بأن شهادة كل منهما مقبولة في مرحلة التحقيق يعتمد عليها في مجال التحقيق والاستئناس، دون فرق بينها وبين شهادات الآخرين.

   وعلى العكس من هذا المثال، الشهادة في أمور الرضاع والحضانة ونحو ذلك. فإن الأولوية الشرعية فيها لشهادة المرأة. إذ هي أكثر اتصالا بهذه المسائل من الرجل، بل روي عن الشعبي – وهو من أجل فقهاء السلف – أنه قال: إن من الشهادات ما لا يجوز فيها إلا شهادة النساء.

    وكما أن أولوية شهادة المرأة فيما هي أكثر اطلاعا عليه، لا يعد انتقاصا لحق الرجل في أهليته التي يتمتع بها، كذلك أولوية الرجل فيما هو أكثر اطلاعا عليه، لا يعد انتقاصا لأهلية المرأة.

   ومقتضى هذه القاعدة أن التطور الاجتماعي إذا غاير وخالف بين علاقتي كل من الرجل والمرأة في بعض المهن أو المهارات والأعمال، فأصبحت المرأة أشد علاقة بما كان الرجل أشد علاقة منها به، أن يتبع حكم الشهادة هذا الاختلاف، ويتطور مع تطور هذا الأمر.

إذن، فقد تبين أن جوهر الأنوثة، كجوهر الذكورة، لا أثر لأي منهما في رفع قيمة الشهادة أو خفضها. “[30]

 وفي خاتمة هذا البحث يمكن أن أصل إلى الخلاصات التالية:

أهمية الشهادة في تقرير الحقوق فهي تعتبر من وسائل الإثبات المهمة بدليل اعتناء الشارع بها والحث عليها وعدم كتمانها.

 ـ اتفاق العلماء على عدم قبول شهادة النساء في الحدود والعقوبات، فلا تقبل فيهما إلا شهادة الرجال.

 ـ اتفاقهم على جواز شهادتهن في المال أو ما يؤول إليه.

 ـ أن النساء ينفردن بالشهادة فيما لا يطلع عليه غالبا غيرهن.

 ـ أن حكم الشهادة يتطور حسب التطور  الاجتماعي.

ـ أن وصف الأنوثة بحد ذاتها لا مدخل له في التقليل من قيمة الشهادة، ووصف الذكورة بحد ذاته لا مدخل له في دعم هذه القيمة، ولكن الذي يجب أن يراعى في الشهادة أمران هما:

أ ــ عدالة الشاهد وضبطه.

ب ــ أن يكون بين الشاهد والواقعة التي يشهد بها صلة تجعله مؤهلا للشهادة فيها فمن تخشى عدالته أو لم يثبت كامل وعيه وضبطه لا تقبل شهادته رجلا كان أو امرأة.      

هوامش المقال: 

[1]  ـ سورة المائدة: الآية 8

[2]  ـ سورة الطلاق: الآية 2

[3]  ـ سورة البقرة: الآية 283

[4]  ـ صحيح مسلم بشرح النووي: كتاب الأفضلية – باب خير الشهداء – جزء 12 / 17

[5]  ـ سورة الطلاق: الآية 2

[6]  ـ سورة البقرة: الآية: 282

[7]  ـ أحمد بن محمد بن الصديق الغماري، مسالك الدلالة في شرح مسائل الرسالة: ص 349.350.

[8]  ـ مختصر خليل: ص 275.

[9]  ـ أحمد بن غنيم بن سالم النفراوي الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني: جزء 2 ص 244؛ وأبو البركات أحمد بن محمد الدردير، الشرح الصغير: جزء 4 ص 265.

[10]  ـ سورة النساء: الآية 15.

[11]  ـ سورة النور: الآية 4.

[12]  ـ سورة النور: الآية 13.

[13]  ـ مسالك الدلالة: ص 350.

[14]  ـ صحيح مسلم: كتاب اللعان، جزء 10، ص 130

[15]  ـ فخر الدين عثمان بن علي الزيلعي الحنفي، تبيين الحقائق: جزء 4، ص 208

[16]  ـ أبو بكر بن محمد بن إبراهيم بن المنذر، الإجماع: ص 87

[17]  ـ التسولي البهجة في شرح التحفة، جزء 1 ص 178.

[18]  ـ ابن رشد البيان والتحصيل: ج 9 ص 460 .461

[19]  ـ مختصر خليل: ص 265

[20]  ـ مختصر خليل: ص 265.

[21]  ـ مسالك الدلالة: ص 364. 365.

[22]  ـ سورة البقرة: الآية 28.

[23] ـ مسالك الدلالة: ص 385.

[24]  ـ مختصر خليل: ص 265.

[25]  ـ مسالك الدلالة: ص 365.

[26]  ـ البهجة في شرح التحفة ج 1ص 180 .181

[27]  ـ سورة البقرة: الآية 28.

[28]  ـ سورة البقرة: الآية 28.

[29]  ـ ابن رشد بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ج 2 ص 465.

[30] ـ قضايا فقهية معاصرة للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، القسم الثاني، (نشر: دار الفرابي، سنة: 1427هـ ـ 2006م) ص 127

 

قائمة المصادر والمراجع:

  1. القران الكريم.
  2. ابن رشد، البيان والتحصيل، نشر: دار الغرب الإسلامي، سنة: 1986ه.
  3. ا التسولي، البهجة في شرح التحفة، نشر: دار الكتب العلمية، ط أولى 1998هـ
  4. أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي الشهير بابن رشد الحفيد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، (مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر الطبعة: الرابعة، 1395هـ/1975م)
  5. فخر الدين عثمان بن علي الزيلعي الحنفي، تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق، نشر: مطابع الفاروق الحديثة، دار الكتاب الإسلامي. ط / ثانية، بدون/ ت.
  6. أبو بكر بن محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، الإجماع، تحقيق وتقديم: أبو حـمَّاد صغير أحمد بن محمد حنيف، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، ط / أولى، 1402هـ – 1982م.
  7. أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، صحيح مسلم، للإمام، مع شرح النووي، نشر: المطبعة المصرية، بدون/ ت
  8. أحمد بن غنيم بن سالم النفراوي، الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، نشر: دار الفكر، بيروت، بدون/ ت
  9. محمد سعيد رمضان البوطي، قضايا فقهية معاصرة، القسم الثاني، تشر: دار الفرابي، سنة1427ه 2006
  10. أحمد بن محمد الدردير، شرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك، تشر: دار المعارف، القاهرة، بدون/ ت.
  11. أحمد بن محمد بن الصديق الغماري، مسالك الدلالة في شرح مسائل الرسالة: تشر:/ دار الكتب العلمية، ط 2 / 2006م
  12. خليل بن إسحاق المالكي، مختصر خليل، نشر: دار الفكر، بدون/ ت

*أستاذ الفقه وأصوله بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of