+91 98 999 407 04
aqlamalhind@gmail.com

القائمة‎

توهج الابتسامة البريئة
د. محمد سليم

كانت ليلة مظلمة من إحدى ليالي شهر يوليو لعام 1988م، والقرية كلها كانت تغط في نوم عميق تحت وقع طقطقة الأمطار، بينما زأرت الغيوم الكثيفة، وسبق البرق زئيرها فأضاء زريبة الحيوانات وسط عتمة دامسة تحف القرية النائية، وبدا ضوء البرق مثل يراع يلتمع في حلكة الليل ثم يتلاشى فجأة، و”راميش يادو” هيأ عربة الثيران على عجل، وهو موزع الهموم بين أمل يتشبث بخيوطه وخوف يهاب دبيبه، فطفله الوحيد المولود بعد عشر سنين من زواجه مصاب بالحمى، فيحترق جبينه ويتفصد عرقا وقد أفرغ ما في بطنه مرارا حتى خارت عضلاته الناعمة، ونسوة الجيران أتين مهرولات ومفزوعات إلى داره يواسين زوجته “شاكونتلا ديفي” المنتحبة نحيبا متواصلا، وبدأن يجهزنها والطفل، بينما “راميش يادو” صاح في وجه ابن أخيه “كومار” ألا ينسى المظلة المهترئة الوحيدة في الدار فأحضرها له ووثب معه في العربة.

حملتهم العربة يجرّها الثوران وسط شارع ملآن بالوحول عقب هطول المطر سحابة النهار، فاهتزت بها عجلتاها، وقادت بهم العربة في بطء شديد، ما إن مضت بهم خارج القرية حتى بدأت السماء تنهمر، فأفرد “راميش” المظلة فوق رأسي زوجته وطفله الملفوف في ثياب صوفية والنائم في حضنها، وهو يتلوى بين حين لآخر، بينما أمه تتحسس جبينه وتهدهده حتى يغفو أو يغرق في النوم إلى حين وصولهم إلى المركز الصحي القائم على بعد سبعة أميال. واشتد نزول المطر وخار الثوران وصرخا عاليا إذ عانا من سياط الريح والمطر، إلا أنهما واصلا سيرهما وسط ظلام الليل وعتمة السحب الممطرة، وأحس “راميش” تباطؤ الثيران في السير فانهال عليهما ضربا بهراوته فاندفعا اندفاعا اهتزت له العربة اهتزازا، جعل الطفل يصحو من غفوته، ففتح عينيه، وشعرت أمه باصطكاك أسنانه وبرودة جسمه، والتفت “راميش” إلى الوراء فرأى زوجته تبحث عن ثوب إضافي تلبس طفله كي تقيه من البرد، ولم يجد بدا من أن يخلع شاله الصوفي ويعطيها إياه لكي تلبسه طفله.

قطعوا مسافة ميلين عبر الطريق التي سالت بها مياه الأمطار المتساقطة وسط برق السحب ورعدها، ورأوا على جانبي الطريق غابة صغيرة أضاءها البرق فتراءت لهم بعض الحيوانات البرية تحتمي تحت ظل الأشجار فرارا من وقوع الأمطار الغزيرة، وكان يتناهى إلى سمع “راميش” بين حين لآخر كحة خفيفة يسعل بها طفله، فيملأ ذلك قلبه إشفاقا عليه، وابتهالا إلى الآلهة كي تعيد إليه صحته، وكان يتأفف ويتحسر بين فينة وأخرى على ما بدا منه من تصرف تجاه ابنه وزوجته، وقد عقد العزم على عدم ترداد ما بدر منه من تصرف، وعاودته ذكراه إلى عهد طفولته وهو يئن تحت وقع الجروح التي أصابته في إحدى رجليه نتيجة سقوطه من العربة التي كان يسوقها الثوران، فحمله أبوه إلى طبيب قدّم له علاجا استمر لثلاثة شهور، بينما غرق “راميش” في دوامة الذكريات الماضية إذ كلمه ابن أخيه قائلا:

“عمي! أشعر بهزة كبيرة كأن عجلة العربة تكسرت”

ردّ عليه عمه راميش في صوت يقطعه زئير ريح قوية : “ربما كانت في الطريق حفرة وقعت فيها إحدى العجلات فاهتزت لها العربة اهتزازا”

واصلت العربة سيرها، وخفت حدة سقوط الأمطار، فترامت إلى أسماعهم أصوات دوي الطلقات، فاستفسر كومار عمه عن مصدر الصوت، فأجابه قائلا: “إنها أصوات دوي الطلقات النارية يطلقها الصيادون الذين خرجوا بالجرارات يصطادون الأبقار الوحشية”.

استغرب “كومار” إجابة عمه، وتساءل في نفسه لو كان عمه يمتلك حتى جرارة ربما أسرعت بهم الذهاب إلى المركز الصحي، وتملكته الحيرة في أقدار الناس، فرأى أن منهم من يستخدمون الجرارات لاصطياد الحيوانات، ومنهم من لا يقدرون استخدامها وحتى في حالة الطوارئ لنقل مرضاهم إلى المراكز الصحية… ومضت  بهم العربة في تباطؤ وتمهل، وشاكونتلا ديفي تحسس جبين ابنها بين حين لآخر، وتواصل ابتهالها إلى الآلهة مثل زوجها لتعيد إليه صحته، وعبرت بهم العربة بين أصوات الرعد وصياح الحيوانات البرية.

وأخيرا بلغوا المركز الصحي بعد جهود مضنية أرهقتهم، فبلغ منهم التعب مبلغه بيد أنهم لم يشعروا بالتعب إذ شغل بالهم مرض الطفل الذي ألفوه ضعيفا وشاحبا وغارقا في النوم، ودلفوا إلى داخل المركز فوجدوا الخفير يخبرهم أن الطبيب “ريشي شارما” خرج قبل سويعات راكبا دراجته النارية إلى إحدى القرى المجاورة لمداواة رئيس القرية المصاب بالمرض. وكان رئيس القرية شخصا ثريا يمتلك مساحات شاسعة من الأراضي المزروعة على جانبي الشارع الرئيسي، ولذا لم يجد الطبيب بدا من الذهاب إليه وحتى في الليلة الممطرة لعلاجه، وفي الوقت ذاته بدأ “كومار” يتساءل نفسه فيقول لماذا عمه ليس مثل رئيس القرية في الثراء حيث يأتي إليه الأطباء مهرولين بدلا من تجشمه كل هذا العناء والإرهاق. ومرة أخرى وجد نفسه غارقا في التفكير في أقدار الناس الأثرياء مثل رئيس القرية والفقراء المعدمين مثل عمه راميش، واستقر في رأسه الأمر بأن ثراء الناس أو فقرهم يخلق بينهم هوة سحيقة لا يمكن ردمها مهما تشدق الناس بالطيبة والجود واللين.

بينما بقوا ينتظرون عودة الطبيب انتابت راميش مشاعر مزيجة من الذعر والأمل، فطفله يزداد مرضه سوءا، وترتفع درجة حرارة بدنه بالرغم من هبوب النسائم اللطيفة إثر نزول المطر، وواصلت زوجته مسح جبين طفلها ووضع الثوب البارد عليه تبريدا للحمى، وكم كانت تفتقد ابتسامته البريئة التي كانت تملأ قلبها سعادة وسرورا، وأمضوا ساعة في مثل هذه الحال إذ تناهى إلى أسماعهم نبأ وصول الطبيب، فتقدموا نحوه وعلامات القلق المرتسمة على وجوههم حكت له قصتهم، فأسرع  الطبيب الدخول إلى مكتبه، وجس نبض الطفل وتفحصه، وقاس درجة حرارته، ثم حقن الطفل جرعة دواء، وأوجد لهم مقعدا في غرفة العيادة، ولم تمض إلا دقائق حتى بدأ ضوء الفجر ينبثق من الشرق، وبدأت السحب تنقشع، وطار قلب زوجة راميش فرحا لما رأت طفلها يفتح عينيه ويبتسم ابتسامة شاحبة بريئة خالتها امتزجت بابتسامة الطبيعة الحلوة ونقاءها عقب نزول المطر.

1
Leave a Reply

avatar
1 Comment threads
0 Thread replies
0 Followers
 
Most reacted comment
Hottest comment thread
1 Comment authors
د. محمد ميكائيل Recent comment authors
  Subscribe  
newest oldest most voted
Notify of
د. محمد ميكائيل
Guest
د. محمد ميكائيل

القصة رائعة باسلوب شيق. دام مداد كلمات الدكتور محمد سليم.