مقدمة:
كانت العلوم الدينية وعاء حفظ اللغة العربية بوصفها لغة القرآن الكريم والحديث النبوي، واستمر تغلغل اللغة العربية في الثقافة الهندية من دون انقطاع وعززه جمع من العلماء والأدباء والكتاب إلى يومنا هذا. وكذلك ما زالت اللغة العربية تتبوأ مكانة مرموقة في الدوائر التعليمية والبحثية، والمدارس الإسلامية، والمعاهد التعليمية التي قد حافظت عليها، وقامت بتنميتها في شبه القارة الهندية عبر العصور.
وفي بداية القرن العشرين، شعر بعض علماء اللغة العربية الذين حصل لهم الاحتكاك مع العرب حاجة ماسة لوضع المنهج الدراسي الجديد لتعليم اللغة العربية كلغة حية نظقا وكتابة، وكتاب “منثورات من أدب العرب” محاولة جاءت تلبية لهذه الحاجة، فنال رواجا كبير، تم إدخالها في المقررات الدراسية في المدارس الإسلامية، وفي الجامعات والكليات الحكومية على السواء.
درستُ هذا الكتاب عندما كنت طالبا في الجامعة السلفية ببنارس، وكنت في عقد العشرين من عمري، ولم يكن بين أيدي الطلبة كتاب مؤجز يسهل لهم حفظ متونه ومنظومه ما عدا هذا الكتاب الذي نحن بصدده، وكذلك كتاب “مختارات من أدب العربي” الذي ألفه العلامة السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي، وهما كانا من قائمة المقررات الدراسية لنفس الجامعة، وكنت أنا، والطلبة الآخرون تأثروا من محتوياتهما ومتونهما ومنظومهما وبعض مقالاتهما، فحفظناها وألقيناها في الحفلات الأسبوعية للنادي العربي للطلبة.
دراسة استعراضية:
صدرت الطبعة الأولى من كتاب “منثورات من أدب العرب” للشيخ محمد الرابع الحسني الندوي من مؤسسة الصحافة والنشر، بندوة العلماء، لكناؤ في عام 1377هـ/1957م. وفي الطبعات التالية تمت إضافة معلومات مهمة إلى الكتاب بذكر الحواشي في ذيل كل صفحة، فقد اعتنى بعض أساتذة ندوة العلماء الكبار مثل فضيلة الدكتور سعيد الرحمن الأعظمي- حفظه الله-، والسيد الدكتور محمد لقمان الأعظمي بالتعليقات القيمة، وكذلك أضاف الأستاذ آفتاب عالم الأعظمي تراجم أصحاب النصوص المذكورة فيه معتمدا على المصادر والمراجع. وفي رأيي لو تم ذكر الصفحة، ونسخة الطباعة عند ذكر مصدر النصوص لكان خيرا للطلاب في حال الحاجة إلى مراجعة المصدر.
وقد تحدث المؤلف في كلمة الجامع عن أغراض تأليفه فيقول: (ص: 15) “أن تكون جميع القطع الأدبية سهلة ميسورة الفهم للطلبة والدارسين أولا، وأن تكون إسلامية النزعة والفكرة أو بعيدة عن ضدها ثانيا، وأن تكون مفيدة نافعة من أية ناحية من النواحي الأدبية والثقافية والعلمية ثالثا”، وكلمة الجامع يدل على أن المؤلف يتمتع بالخبرة الواسعة والمهارة التامة، يعرف كيف ينتقي اللؤلؤ والمرجان من البحر الذخار والشعاب المرجانية ويضعها في مكانها الصحيح في القلادة حيث يتلألأ أشعتها بين جمهرة الكتب ويستعين بها الطلبة الناشئون من منهله الصافي ويزداد فيهم رغبة القراءة والمطالعة من مكتبات اللغة العربية الخصبة.
وقد اعتنى المؤلف في كتابه بمرحلة الطفولة عناية بالغة ومن ثم بدأ تزويدها بالأفكار الإسلامية البناءة، وغرس فيها قيما إنسانية، فجمع في هذا الكتاب المقالات والمقتبسات المختارة من مصادر اللغة العربية المختلفة والتي تدل على ذوقه الرفيع، وأدبه الرائع واختياره البديع، وكيف لا، فإن المؤلف كان يعد من كوكبة العلماء الذين ساهموا في النهضة الأدبية الإسلامية في شبه القارة الهندية وكان علما من أعلام الخير والتقى، وكان رائدا من رواد الأدب الإسلامي، ورئيسا لرابطة الأدب الإسلامية العالية، وكان أحد أعلامه البارزين الذين كرسوا حياتهم لنصرة الإسلام وخدمة الدين الحنيف.
ولا شك في أن اهتم الإسلام بالطفولة والمراهقة اهتماما واسعا، بل لم يسعد الأطفال في العالم كما سعدوا في ظل الحضارة الإسلامية، لأن عناية الإسلام بالنشأة الأولى تفوق كل عناية، باعتبارها حجر الزاوية في بناء المجتمع الإسلامي، والمجتمعات المتطورة مثل الأمم المتحدة قد أعلنت حقوق الطفل الناشيء في منتصف القرن السادس عشر، والإسلام قد قام بإعلانها في القرن السابع أعنى قبل 900 سنة. والجدير بالذكر أن “الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة وشاركه في ثوبه أبوه، وكل معلم له ومؤدب، وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له”. تتجلى فلسفة الإسلام في رعاية حقوق الطفل وطريقة العناية بهم في هذه الفقرة المذكورة أعلاه التي قالها الإمام الغزالي رحمه الله. (إحياء علوم الدين، ص: 72)
إن هذا الكتاب ظهر على منصة الشهود كجزء من سلسلة كتب الأدب العربي التي تكلفت دار العلوم بندوة العلماء، لكناؤ بوضعها وترتيبها ولملء الفراغ للمقرات الدراسية في المدارس الدينية وشقيقاتها وفقا لعقلية الناشئة وطلبة المدارس العربية وقد سلفه كتاب شيخه وأستاذه العلامة أبي الحسن علي الحسني الندوي على غرار كتاب “مختارات من أدب العرب”، وكتاب “منثورات” يأتي قبل كتاب “مختارات”، فقد اختار المؤلف في هذا الكتاب النصوص الأدبية الرائعة نظما ونثرا، وراعي في اختياره السهولة ليدرس الكتاب قبل “مختارات من أدب العرب” باعتبار الارتقاء الأدبي للطلبة، وقد أشار العلامة سبب تأليفه في مقدمته، فقال: “لقد ظلت المدارس العربية – كما طاب لها أن تسمي نفسها – مقتصرة في تدريس اللغة والأدب العربي على بضعة كتب في النثر والنظم، وأصبح الأدب العربي – الذي هو من أوسع الآداب في العالم وأجملها – محصورا في هذه الكتب الأربعة أو الخمسة، محصورا في أسلوب واحد أو أسلوبين وضعت فيهما هذه الكتب، وهنالك ساء الظن بهذه اللغة وآدابها، وضاق البيان وفسدت اللغة وضعف التصنيف، وأصبح ما يكتبه علماء الهند في العربية صورة واحدة لا جدة فيها ولا طرافة، وهيكلا عظيما لا روح فيه ولا دم”. (ص:7-8 )
وصف الكتاب:
إن هذا الكتاب رغم قلة حجمه يشمل نماذج رائعة من الأدب العربي، والقطع الأدبية، والدروس المختارة، مراعيا لمستوى الطلاب، وعقليتهم، وأذهانهم، ومبلغهم العلمي، وشعورهم الديني، ووعيهم الفكري، ولذلك يحتوي على النصوص الأدبية التي تفيد الطلاب وتوقظ الوعي الإسلامي فيهم، وتربيهم تربية دينية، وتزودهم بمعارف إسلامية جمة، وترسخ عقيدتهم وإيمانهم ودينهم وتشعل فيهم حرارة الإيمان وتشحن بطاريتهم من جديد، وقد أشار إلى ذلك أستاذ المؤلف في مقدمته مبينا أهمية الكتاب، وهو يلقي الضوء على منهج المؤلف وكتابه، فقال: “اقتبس (الكاتب) من كتب السيرة، والتاريخ، والأدب، والدين قطعا نابضة، مشرقة الديباجة، واضحة الفكرة، إسلامية النزعة، تغذي الملكة الأدبية، والعاطفة الدينية في وقت واحد، وتمثل الأخلاق العربية الفاضلة، والحضارة الإسلامية المثلى، وقد جمع فيه المؤلف بين النثر البليغ، والشعر الرقيق، والأدب القديم، والأدب الحديث، فجاء كتابه مجموعة جامعة، تغرس في قلوب الناشئة حب اللغة الكريمة التي يدروسنها، وحب الأخلاق والأغراض التي يحملها أدبها، وحب المجتمع الذي عاشت فيه هذه اللغة وآدابها، ويدفعهم إلى تقليد هذه الأسباب الأدبية السهلة الطبيعية، ويرون أن كل ذلك ميسور، فنشأ فيهم الثقة بنفوسهم، وبدينهم، ولغتهم، وقريحتهم”. (ص: 7)
مصادر الكتاب:
إذا ألقينا نظرة عابرة على الكتاب وجدنا أن المؤلف بدأ كتابه بالأحاديث التي وردت في صحيحي البخاري ومسلم، ثم أتبع بمقالات المؤرخين والأدباء النابغين في زمانهم، واختار من بينها خاصة المواد التي تحتوي على غذاء فكري وعلمي وأدبي، من سيرة ابن هشام، و”الأمالي” لأبي القالي، و”العقد الفريد” لإبن عبد ربه، و”الأغاني” و”رنات المثالث والمثاني” لأبي الفرج الأصبهاني، و”وفيات الأعيان” لإبن خلكان، و”صفوة الصفوة” لإبن الجوزي، و”كليلة ودمنة” لعبد الله بن مقفع، و”الإمامة والسياسة” لإبن قتيبة الدينوري، و”المحاسن والمساويء” للإمام البيهقي، وديوان حسان بن ثابت الأنصاري، و”الحماسة” لأبي تمام الطائي وغير ذلك من الأدباء والمؤرخين القدامى، كما قدم فيه نماذج مختارة من الشعر الرقيق لنوابغ الشعراء والحكماء في عصرهم. فإذا قرأ أحد جميع النصوص التي يحتوى عليها الكتاب فإنه يطلع على الأدباء الكبار الجدد في العصر الحديث الذين ساهموا في نهوض اللغة العربية وآدابها حينما درست ملامحها في القرون الوسطى وضاعت صياغتها وحيويتها وفطرتها السليمة وتعبيراتها الرصيفة تحت ضغط المحسنات اللفظية والبديعية مثل الدكتور طه حسين، وبطرس البستاني، والأمير شكيب الأرسلان، ومصطفى لطفي المنفلوطي، وأحمد أمين، وجرجي زيدان، والشيخ علي الطنطناوي، والدكتور مصطفي السباعي، والشيخ شاه ولي الله الدهلوي والشييخ عبد الحي الحسني وغير ذلك من الكتاب والأدباء الذين أثروا بنصوصهم ودروسوهم تأثيرا عظيما في سلوك الطلبة وسيرتهم وعاداتهم وأخلاقهم.
جملة القول:
ألف سماحة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي الذي وافته المنية يوم الخميس 21/رمضان المبارك 1444هـ الموافق 13/ابريل 2023م – تغمده الله برحمته- العديد من الكتب والمقالات التي تتناول الأدب العربي لاسيما في فهم النصوص الأدبية الكلاسيكية وتفسيرها، ومن أهم تأليفاته “الأدب العربي بين عرض ونقد”، و”تاريخ الأدب العربي (العصر الإسلامي)، و”الأدب الإسلامي وصلته بالحياة”، و”الأدب الإسلامي: فكرته ومنهاجه”، وكل هذه الكتب قد ساهمت في تطوير اللغة العربية ونهوضها في شبه القارة الهندية. أما كتابه “منثورات من أدب العرب” الذي نحن بصدده فيعد من بين نوادره، فقد جعله بُراقا سافر به عبر الخط الزمني للعصور الأدبية كلها قبل أن تستقر لفظة الأدب على ما هي الآن. والكتاب حظي بقبول واسع بين الأوساط العلمية في المدارس والجامعات وكذلك أصبح جزءا مهما من المقررات الدراسية في أنحاء البلاد.
وخلاصة القول أن الكتاب مفيد جدا للطلبة الناشئين، ونجح الكتاب في مهمته وفاز بمطلوبه وبذلك نجحت ندوة العلماء في مسارها نجاحا بارعا، فقد أنجبت في مدة قليلة رجالا أكفاءا، وتخرجت فيها كثير من الأدباء والكتاب البارعين في اللغة العربية الذين نبغوا في العلم والأدب وبرعوا في تربية النشئة الإسلامية وساهموا في ثقافة البلاد وآدابها وإنتاجها العلمي والأدبي وظهر فضلهم في حقل الدعوة والإرشاد والتأليف، وهذه الكلمات المذكورة أعلاه إن دلت على شيء فإنها تدل على مكانة الكاتب الإسلامي الشيخ محمد الرابع الحسنى الندوي – رحمه الله – من الناحية العلمية والأدبية، وخير شهادة على فضل المؤلف ونبوغه وكماله في العلم والأدب الإسلامي.
Leave a Reply