مقدمة:
هو عالم بارع وإمام نابغ من أئمّة النحو الكبار، لم يسبق له المثيل في علوم اللغة العربيّة كلّها في صوتها ونحوها وصرفها وفقهها وما يتّصل بها لفظيّا ومعنويّا ودلاليّا بجانب حذقه التام في علوم الدين والكلام، وكفاه فخرا وعلوا إذ يقول فيه المتنبّي “هو أعرف بشعري منّي”[1]، نعم هو أبو الفتح عثمان بن جنّي المشهور بـ” ابن جنّي”، ولد في القرن الرابع الهجري بالموصل عام 322هـ، نشأ بها زمن تزعزع الدولة العبّاسية في آخر أيّامها، وتروّى بمناهل أعاظم العلماء من النحاة والأصوليين والمجتهدين في الفقه والشريعة والكلام، فمن أبرزهم أحمد بن محمد الموصلي الأخفش وأبو علي الفارسي وغيرهم من الكبار، وما جعله كوكبا درّيا يتحلّق في بروج السماء هو الصحبة الّتي لا تزال ترويها صفحات التاريخ مدى الأيام مع المتنبي الشاعر المشهور، إلى أن توفّي سنة 392 يترك أثرا غزيرا يفوق الخيال.
ابن جني: النشأة والتعليم
ولد الشاعر زمن الخلافة العباسية تحديدا في عصر الخليفة أبي الفضل المقتدر بالله في حين كانت تواجه الخلافة الاضطراب السياسي من الوجوه المختلفة وقابله الازدهار العلمي والنشاط الثقافي والتزود الفكري الضخم، ففاق علماء هذا العصر من كل العصور السابقة وتولدت مراكز العلوم والفنون بموجة علميّة ضخمة، ولم يبق دار ولا مدينة إلا وأنشئت بها مراكز ومصادر العلوم في مهد العلماء والفضلاء، فانتشرت دور العلم والعرفان في الموصل ومن أبرزها “دار علم الموصل” الّذي أنشأه أبو القاسم الشاطبي سنة 323، وكان الدار مفتوحا لكل من يقصد إليه ليلا ونهارا، وإن ابن جني نشأ في مثل هذه الأحضان العلمية الرفيعة المشجعة[2]، فازداد شغفه باللغة يوما بعد يوم، كان يرتاد مجالس العلم والأدب ويستفيد من الشيوخ والعلماء، حتّىنبغ في دراسة اللغة العربية ونحوها وصرفها واشتغل بالتدريس وهو ما زال شابّا،إذ صادف أن كان ابن جني يدرس بالجامع، يناقش فيه عن قلب الواو ألفا، فزاره أبو علي الفارسيوهو لا يعرفه، لفّت انتباهه إذ رأى المدرس ما زال يافعا، فسأله عن بعض مسائل التصريف فحاول ابن جني أن يجيب قدر استطاعته حتى قال الشيخ ” ما زلت حصرما وتريد أن تجعل من نفسك زبيبا” إشارة إلى أنّه تعجّل في التدريس، فلمّا عرفه ابن جني إذ هو أوحد زمانه في اللغة والتصريف ترك الموصل ولحق به في بغداد عام 337هـ، حتى توثقت الصلات بينهما وتوطدت لمدة سنوات، فنبغ ابن جني في الفن إلى أن أستاذه الفارسي كان يرجع إلى رأيه في بعض المسائل على رغم أن ابن جني قد كان بصريّ المذهب حيث إنّه كثيرا ما كان يواجه قضايا نحوية ذات طرح بغدادي أو كوفي فيحل معقداتها ويثبتها بالدليل بآراءه المستقلّة الفريدة.
كان من عادة العلماء القدامى أن يأخذوا العلوم من أربابها مشافهة، فكانوا يفضّلون السماع والأخذ من منبع العلوم لا من آثاره، وكانوا يتجنّبون الأخذ من الكتب والقراطيس، وما كان ابن جني مستثنى عن هذه العادة بل جاب البلدان واحدة تلو الأخرى، وأخذ العلوم من مصادرها، ولكنه أكثر ما تروّى من زاد أبي علي الفارسي، حيث صحبه في أسفاره كله، فكان الفارسي هو أكثر العلماء تأثيرا عليه[3]، حيث لا نكاد نجد كتابا إلا ويذكر فيه عن آراء أستاذه هذا،بل إنه صحبه أربعين سنة على رواية حتّى وفاته سنة 377هـ، وفي هذه الفترة الطويلة قرأ عليه الفارسي سائر الكتب المهمّة من بينها التصريف للمازني، وكتاب سيبويه، وكتاب الهمز والنوادر لأبي زيد، والقلب والإبدال ليعقوب، والتصريف للاخفش، ولم يكف بهذا، بل إنّه قام بتأليف جميع مصنّفاته النحويّة في صحبته مع الموصلي فلو كان بعيدا عنه كان يكاتبه، ولم يحل هذه الألفة والتعظيم أمام اختلاف الرأي مع الأستاذ، وقد أكثر في نقل آراء أستاذه الفارسي، بل نقل أيضا مرويات أستاذه في أغلب الأحايين[4]. كذلك نرى أنّه اتّصل بعدد وافر من الأساتذة الكبار الّذين كانوا كعبة الطلاب الوافدين من شتى نواحي العالم في اللغة والنحو والصرف وما إليها، ومن أبرزهم: أبو صالح السليل بن أحمد بن عيسى بن الشيخ، أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد، وابن دريد أبو بكر محمّد بن الحسن، وأبو جعفر بن محمد، وأبو الفرج الأصفهاني وغيرهم. كان ابن جنّي أمينا في علمه حتّى كان يأخذ اللغة من فصحاء العرب بعد الفحص الدقيق فكان منهم محمد بن العساف العقلي المعروف بابن الشجري، تعرّف عليه وأخذ عنه كثيرا من فصاحة العرب وبلاغته في اللغة. فإنّه لم يستقر بمكان واحد بعد مغادرة الموصل، بل ما زال ينتقل من هذه البقعة إلى ذلك النحو، وغالبا ما كان يصاحب أستاذه أبا علي الفارسي، دخل أوّلا مدينة بغداد ظل فيها مدة بين علماءها العظام ونبغاءها الكرام أمثال ابن مقسم، ثم غادر بغداد وتوجّه إلى الشام حتى دخل حلب وواسط[5] واتصل بالحمدانيين إلى أن توطدت صلاته مع سيف الدولة في حلب وتعرّف على أدباء وشعراء البلاط الحمداني ومن هنا تبدأ صداقته مع المتنبّي،[6] ثم دخل مدينة واسط واستقر فيها مدة من الزمن يدرساللغة والنحو ثم غادر إلى البويهيين واتّصل بهم في شيراز إلى أن يأتي ما بعد بغداد ويخدم في بلاط الخلفاء يلازم الأمراء ويؤدّب أولادهم إلى آخر أنفاسه حتى وافته المنيّة زمن بهاء الدولة[7].
ابن جني والمتنبي في برج واحد
يقول المؤرّخون أنّه انتقل مع شيخه الفارسي إلى حلب “عاصمة الحمدانيين” وأقام هناك لمدة خمس سنين طويلة، إذ اتصل مع أبي الطيب المتنبّي وتولّدت بينهما علاقة وطيدة حتّى عدّ المتنبّي أحد أساتذة ابن جني وطالت صحبتهما دهرا طويلا[8] معظمها في بلاط سيف الدولة حيث كان يناظره في النحو وكان هو يقرأ عليه ديوانه، والتقى به أبو الفتح مرّة ثانية بشيراز في بلاط عضد الدولة أيضا[9]، كانت بينهما صداقة صديق حميم واحترام أستاذ وشيخ، حتّى قال عنه المتنبّي: “هذا الرجل لا يعرف قدره كثير من الناس”[10]، ولم يكتف المتنبّي بهذا حتّى قال: “هو أعرف بشعري منّي”، وإذا كان يُسأل عن النحو والصرف في شعره كان يقول ” عليكم بالشيخ الأعور ابن جنّي فسلوه، فإنّه يقول ما أقول وما لم أرد”[11]، وبنفس الدرجة كان يقابله ابن جنّي من الاحترام والتقدير ويكن له الحب حتّى كان يدافع عنه نقّاده، وكثيرا ما كان يعبّر عنه بقوله “شاعرنا” كما يقول في الخصائص: “وحدّثني شاعرنا وما عرفته إلّا صادقا…”[12]،وهو أوّل من قام بشرح ديوانه بشرحين مسمّيين بالشرح الصغير والشرح الكبير، كان ابن جنّي يتابع أخبار المتنبي من علي بن حمزة البصري حتى إذا بلغه نعي المتنبّي سنة 354هـ رثاه بقصيدة طويلة أوّلها:
غاض القريض وأودت نضرة الأدب *** وصوّحت بعد ري دوحة الكتب
مكانته العلميّة تأليفا وتلميذا
بلغ الشيخ من الجلالة ما لم يبلغه إلا القليل، وقد تعمّق في كل الفنون الّتي خاض فيه، وهذا ما يبدو صريحا في مصنّفاته وأبحاثه ومستخرجاته وجزئيّاته بالاستقصاء والتعمّق في التحليل وتصريف الكلام والإبانة عن معانيه حتّى عد من بين فيلسوف العربيّة، فإنّه فتح في العربيّة أبوابا لم يتسنّ فتحها ما بعد إلّا بعض من مجالاته، لما أنّه واضع كثير من القواعد والأصول في الاشتقاق والألفاظ للمعاني لكن من الأسف البالغ أنّه لم يأت بعده من يناظره ويعادله في العلم والمعرفة والتعمّق نحوا وصرفا وبلاغة.
بدأ ابن جنّي التدريس وهو في ريعان عمره في الموصل ثم غادر ورافق أستاذه أبا علي الفارسي إلى أن صاحبه لمدّة أربعين سنة، فكان يدرّس في بعض الأحيان بعد تعمّقه في اللغة والنحو الصرف حينما بلغ سنّا مناسبة إلّا أنّه لم يتفرّغ للتدريس إلّا بعد وفاة شيخه الفارسي سنة 377هـ، فاجتمع ما بعد عدد من الطلاب معتكفين حوله ليلا ونهارا، وهكذا يتلمّذ على يديه عدد وافر من العلماء والأدباء المشهورين من بينهم عمر بن ثابت الثمانيني اللغوي، وعبد السلام الحسين البصري، وأبو الحسن السمسمي والشريف الرضي الشاعر المشهور مؤلّف “نهج البلاغة” وغيرهم من الكبار[13].
ألّف ابن جنّي عددا كثيرا من الكتب، كلّها تمتاز بالدور البارز في الدراسات اللغويّة ما بعده، وأغلبها تتمحور في اللغة والنحو والصرف والقراءات والتفسير، اهتمّ العلماء بعده بالاعتكاف على كتبه شرحا ونقدا وتفسيرا وتحليلا واستخراجا وتحقيقا، أمّا إن عدد مؤلّفاته يقارب التسعين غالبا، وصل إلينا منها تسعة وعشرون مخطوطا وطبع منها عشرون كتابا[14]، فمن أبرز هذه الكتب:كتاب الخصائص، وسرّ صناعة الإعراب، والمحتسب، وغير ذالك، “يقول ابن كثير عن مؤلّفاته: “صاحب التصانيف الفائقة المتداولة في النحو واللغة”[15].
النحو في بلاط ابن جنّي
ولد ابن جنّي في العصر الّذي برز فيه عدد لا يحصى من النحويين البغداديين على الأخص، إذ كانت بغداد مركز الدراسات النحويّة ومسرح المناظرات فيما بين النحاة، ومن أبرزهم أبو علي الفارسي وأبو سعيد الصيرفي وغيرهم، كان لابن جنّي آراءه المستقلة في النحو غالبا ما يتمحور حول أصول النحو والنحو التطبيقي، نظرا لآراءه المستقلة رآه المجددون متمرّدا على النحو التقليدى مقارنا مع ابن مضاء القرطبي. وقد اختلف العلماء فيما بعده حول مذهبه النحوي، فالبعض نسبه إلى المدرسة البصرية بينما رآه أغلب العلماء منتسبا إلى المدرسة البغدادية الّتي تمزج بين آراء المدرسة الكوفيّة والبصريّة من بينهم ابن النديم وشوقي ضيف[16] ومحمد النجار وعبده الراجتحي قديما وحديثا، وقد وضعه بعض النحاة في ميزان النحوي المستقلّ مذهبا.
قام ابن جنّي بالمساهمات المتتالية في المجالات المختلفة، ما يجدر الذكر هو إسهاماته الجليلة في علم أصول النحو مما يتعلّق بالقياس والتعليل، فإنّ ابن جنّي هو أوّل من وضع هذه الموضوعات استنادا من علم أصول الفقه الحنفي على وجه التحديد، وقد حاول العلماء والنحاة قبله أن يضعوا هذا العلم لكنهم فشلوا بالمفهوم الصحيح كأبي البكر بن السراج والأخفش الأوسط وغيرهما، ولكن ابن جنّي هو الّذي وضع هذا الفنّ على وجه الصواب وهذا ما يؤكَّد عندما يقول: “وذلك أنّا لم نر أحدا من علماء البلدين تعرّض لعمل أصول النحو على مذهب أصول الكلام والفقه”، إن السماع أصل من أصول النحو العربي وقد خصّص الإمام ابن جنّى أبوابا له في “الخصائص”، فإنّ مذهبه فيه أنّه يعتدّ بالكلام المنقول عن الفرد المحافظ على عربيّة صحيحة وسليقة لغويّة خالية من التأثيرات الخارجية، ثم إنّ موقف الإمام ابن جني في نظرية العامل يتّفق على الأغلب مع ابن مضاء القرطبي ولو أنّه لم يسر مساره في التساهل بالإعراب.
ترك ابن جني أثرا لا يمحى في أكثر الفروع اللغوية، وهو في أغلبها ممن يعد من السابقين الأوّلين في كثير من الفنون، كما أنّه يعدّ من أعظم الصرفيين لمساهماته الفعّالة إذ استقل الصرف ما بعده ولو أنّه يتفاعل معه[17]، فله مؤلّفات ورسالات عديدة مفقودة أو محفوظة في علم الصرف، كما أنّه أيضا وضع علم الصوتيّات كفنّ مستقلّ من جميع الفنون، فسمّى دراسة الأصوات علما، وألّف فيه كتابا اسمه “سرّ صناعة الإعراب”، كما أنّه لم يتخلّف أيضا في دراسة علم الدلالة بل ناقش فيه اللفظ ومعانيه وتشابهاته وما يتّصل به من الأمور المتّصلة به[18].
“الخصائص” في مسرح التحليل
هذا من بين أشهر كتب ابن جنّي، ويعدّه العلماء أيضا من بين أفضل كتب في فقه اللغة والتراث العربي، هو جامع شامل لكثير من قضايا اللغة والنحو والتصريف، وما يجعل الكتاب أكثر فعّالا في نفوس القارئين هو الأفكار اللغوية اللامثيلة المبثوثة، حيث يتحدث فيها عن خصائص اللغة ومشتقاتها وتصاريفها ولهجاتها وأصواتها ونشوءها بأسلوب علمي ممتع[19]، ألّف ابن جنّي هذا الكتاب بعد وفاة أستاذه أبي علي وأهداه إلى بهاء الدولة البويهي، حيث يوجد له اليوم خمس مخطوطات متناثرة في الأمكنة المتعددة.
كتاب “الخصائص” واحد من أبرز الكتب الّتي فتح أبوابا من العلوم ليباحث القادمون عن موضوعاته فيما بعد أما مؤلّفات سابقيه فلم تتناولها أبدا، وتناول قضايا فقه اللغة وعلمها وناقش في بنية اللغة ونظامها العام برؤية علميّة وصفيّة وظيفية[20]، نرى كيف يركّز البحث على الدراسات اللغوية إذ يتجلّى في الكتاب المبحث التواصلي البراغماتي برؤية ابن جنّي العبقرية عن اختلافات الأساليب واللهجات، إذ هي تنعكس بين الطبقات الاجتماعية، ويتناول كذلك عديدا من القضايا الدلالية، فيما يركّز على علاقة اللفظ بالمعنى وعلاقة اللفظ باللفظ الآخر المماثل دلاليا، وعلاقة الحروف بعضها ببعض، على سبيل المثال: كلمة “هزّ” هي أصل لكلمة “أزّ” ما يعنى بها الشديد في الهز، يبحث المصنّف عن هذه الكلمة دلاليا بين الحقيقة والمجاز بدقّة[21]، وبالتأكيد إن ابن جني يقف موقف المنظّر للغة العربية فيما يغرز فيه أعمدة اللغة العربية وأركانها وخصائصها بدقة،ولم يكتف بهذا بل يدرس فيه ابن جنّي عن علم الأصوات فيما يتحدّث حول تأثير النغمات على المعنى وعلاقة الحركات بالحروف وغيرها من الجوانب غير أن مباحث الصوتيات قليلة لما أنّ كتابه “سر صناعة الإعراب” يغنيه عنه، ثم إنّ هذا الكتاب أكثر ما يركّز على أصول النحو كالسماع والإجماع والقياس كما يتناول قضية التعليل والتعليل النحوي والضرورة الشعرية وغيرها من الموضوعات[22]، أما موضوعات الصرف فقد جاءت قليلة مختلطة أو مستقلة في مواضع مختلفة، فهذا الكتاب ليس مجرّد حامل للمعارف كالموسوعات بل يجعل القارئ عالما باللغة على الأكمل ويفتح أمامه مجالا مشيدا بفقه اللغة لكل ما حواه الكتاب من أصول اللغة ومباحثها بأسلوب فلسفي منطقي لامثيل.
يتألّف الكتاب على ثلاثة أجزاء هامّة، متناولا على ما يقارب الألف ومائتين صفحة، ومقسّما على خمس وأربعين بابا، كل هذه الأجزاء مختلطة بعضها ببعض أو تتمة لما قبله من الموضوعات، فالجزء الأوّل منه يبحث عن الكلام والقول واللغة وعللها وما يتصل بها من الموضوعات، ثم الجزء الثاني أيضا تتمة وتوضيح لما في السابق من الكلام مع التركيز الخاص على الفصاحة في اللغة والاشتقاق الأكبر، وأما الجزء الثاثث منه فهو يشتمل على فلسفات لغوية أكثر، يتطرّق فيه إلى ذكر موضوع الاستخفاف في اللفظ وإضافة الإسم إلى المسمّى إلى أنّه يختم بذكر الثقات ممن يروى بهم في الكلام.
يبدأ المصنّف كتابه ببيان الفروق بين الكلام والقول، هذا التفات ذكي من المصنّف إذ يقوم مدار سائر الأمور على هذين الأمرين، كما أنّه يقوم بالعمليّة الجراحية على بيان القول والكلام فيأتي بتفصيل دقيق عن مادّة “قول” ويقول مثلا: “إنّ معنى “ق و ل” أين وجدت. كيف وقعت. من تقدّم بعض حروفها على بعض وتأخّره عنه، إنّما هو للخفوف والحركة، وجهات تراكيبها الستّ مستعملة كلّها لم يهمل شيئ منها. وهي “ق و ل” “ق ل و” “وق ل” “ول ق” “ل ق و” “ل و ق”. الأصل الأوّل: ق و ل وهو القول، وذلك أنّ الفم واللسان يخفّان ل ويقلقان ويمذلان به، والأصل الثاني: “ق ل و” منه: القلو: حمار الوحش وذلك لخفّته وسرعته..”[23]، وهكذا نرى كيف يبيّن الاشتقاق والأصول الناشئة لسائر المصطلحات كما يبحث للكلام أصولا خمسة ويقول أنه للدلالة على القوة والشدّة، وإنّه بعد الخلاص من ذكر التفصيل والتقصّي يأتي ببيان الفرق بينهما قائلا ” أما الكلام فكلّ لفظ مستقلّ بنفسه مفيد لمعناه، وهو الّذي يسمّيه النحويون الجمل، نحو: زيد أخوك، ومه، وأمّا القول: فأصله أنّه كل لفظ مذلّ به اللسان تامّا كان أو ناقصا”[24]، ثمّ يأتي المصنّف بتعريف اللغة، نعم التعريف الّذي ما زال إلى اليوم تضج في صفحات كل من النقاد والأدباء وكان الأكثر شيوعا، وهو “فإنّها أصوات يعبّر بها كل قوم عن أغراضهم” [25]، كذلك يتضمّن عددا من الفوائد منها أن النحو كلّ وأن الإعراب فرع تابع له، فالنحو عنده هو “انتحاء سمت العرب في تصرّفه من إعراب وغيره”، وكذلك ما بعد يمرّ إلى مناقشة “اللغة إلهام أم اصطلاح”، هذه من بعض القضايا الّتي ناقش فيها العلماء قديما وحديثا إلى أن الجامعات الأوروبيّة تخلّت عنه اليوم، لكن ابن جنّي أثبت بتوقيفها بالدلائلة الساطعة وأجاب عن “علّم آدم” يقتضي دلالة “الإقدار”، هذا غيض من فيض، أمّا إنّه ما بعد يغوص في عمق مسائل اللغة ببيان القضايا الكبرى من الاطراد والشذوذ، والقياس والسماع، والاستحسان والعلل والحقيقة والمجاز، والتقديم والتأخير، واختلاف المعنيين في الحروف والحركات والسكوت إلى أن يختم الكتاب بذكر أغلاط العرب وسقطات العلماء، فإنّه يخوض سائر الحقول ويفتحها ويخرج منها كنزا غاليا لا يبلى حتّى نرى أنّه يفكّك الأمور من الجذور والأصول وينبت منها شجرة مثمرة أو يعصر العنب فيتخذ منه شرابا يشفي الغليل ويطعم المسكينوالعليل.
كتاب “الخصائص” بجملتها دراسة في النظام والبنية والوظيفة، كتاب لامثيل بسائر نوعيّاته، يستدعي فيه الكاتب آراء شيوخه بجلّ واحترام ثم يخالف أو يوافق بذكر آراءه المنطقيّة، فهو يقطع كل العبور في بيان المصطلحات من الجزئيات إلى العموميات ويجعل الأمر أكثر سهلا للقارئ، فالكتاب جامع شامل لنظام اللغة العربية الذي يحفظها فيجب لكل من محبّي اللغة العربية ومتخصّصيها أن يحافظ على مطالعتها.
هوامش المقال:
[1]محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، البلغة في تراجم أئمّة النحو واللغة، ط1، ص195
[2] عبده الراجحي، التطبيق النحوي، ص189
[3]حسام النعيمي، الدراسات اللهجية، ص13-14
[4]د. حسام سعيد النعيمي، ابن جني عالم العربيّة، ص21-22
[5]محمود حسني محمود، المدرسة البغدادية في تاريخ النحو العربي
[6]خديجة الحديثي، المدارس النحوي
[7]فاضل السامرائي، ابن جني النحوي، ص20-21
[8]محمود حسني محمود، المدرسة البغدادية في تاريخ النحو العربي. ص322-323
[9]الموسوعيّة العربية (باب ابن جنّي)
[10] أبو الفتح عثمان بن جنّي، الخصائص،ص13
[11]محمود حسني محمود، ص323
[12] ابن جنّي، الخصائص، ص14
[13]غانم الحسناوي، التوجيه النحوي للقراءات الشاذة في كتاب المحتسب لابن جني، ص23-26
[14]نيم الينبعاوي، جهود ابن جني في الصرف وتقويمها في ضوء علم اللغة الحديث، ص42
[15]ابن كثير، البداية والنهاية،ص379
[16] شوقي ضيف، المدارس النحويّة، ص268-273
[17]محمود حسني محمود، ص326
[18] مهين زاده، البحث الدلالي عند ابن جني
[19]منقور عبد الجليل، علم الدلالة
[20]حسين الفتلي، أصول التفكير النحوي عند ابن جني في كتابه الخصائص، ص535
[21]بوزيد هادف، الدلالة الصوتية عند ابن جني من خلال كتابه الخصائص، ص104
[22]دوكوري ماسيري، مستويات التحليل اللغوي عند ابن جني من خلال كتابه الخصائص، ص47-54
[23] ابن جنّي، الخصائص ج1. ص36
[24] نفس المصدر ص54
[25]المصدر نفسه، ص76
المراجع والمصادر:
ابن كثير، تحقيق: علي شيري. 1988. البداية والنهاية. دمشق: دار إحياء التراث العربي.
أبو الفتح عثمان بن جني، تح: الشربيني شريدة. 2007. الخصائص. القاهرة: دار الحديث.
بوزيد هادف. 2009- نوفمبر. “الدلالة الصوتية عند ابن جني من خلال كتابه الخصائص.” حوليات التراث 104.
حسام النعيمي. 1990م. ابن جنّي عالم العربية. بغداد: دار الثقافة والإعلام العراقية.
حسين الفتلي. 2013- ديسمبر، العدد: 14. “أصول التفكير النحوي عند ابن جني في كتابه الخصائص.” مجلة كلية التربية الأساسيّة 535.
خديجة الحديثي. بلا تاريخ. المدارس النحويّة. بغداد: دار الأمل.
دوكوري ماسيري. 2013- العدد السادس. “مستويات التحليل اللغوي عند ابن جني من خلال كتابه الخصائص.” مجمع 47-54.
شوقي ضيف. 2019. المدارس النحوية. القاهرة: دار المعارف للنشر.
عبده الراجحي. بلا تاريخ. التطبيق النحوي. طنطا: دار الصحابة للتراث.
غانم الحسناوي. 2009. “التوجيه النحوي للقراءات الشاذة في كتاب المحتسب لابن جني، رسالة دكتوراه.” كلية الآداب، قسم اللغة العربية- جامعة الكوفة ص23-26.
غنبم الينبعاوي. 1995. جهود ابن جني في الصرف وتقويمها في ضوء علم اللغة الحديث. مكة المكرمة: المكتبة التجارية.
فاضل السامرائي. 1969. ابن جني النحوي. بغداد: دار النذير للطباعة والنشر.
مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي. 2000. البلغة في تراجم أئمّة النحو واللغة. مصر: دار سعد الدين.
محمود حسني محمود. 1986. المدرسة البغدادية في تاريخ النحو العربي. بيروت: دار عمار.
منقور عبد الجليل. دمشق. علم الدلالة. 2001: منشورات اتحاد الكتاب العرب.
مهين زاده. 2010. “البحث الدلالي عند ابن جني.” مجلة اللغة العربيّة وآدابها.
Leave a Reply