+91 98 999 407 04
aqlamalhind@gmail.com

القائمة‎

أسلوب الالتفات في القرآن الكريم ومقاصده البلاغية
أ/د: عبدالقادر حمراني

الملخص:

تتنوّع أساليب الكلام ومجاريه بتنوّع المقاصد والغايات التي تستدعي ضروبا خاصّة من التعبير. ولمّا كان المبنى وعاء للمعنى وحاضنا له، وجب أن يكون مفصّلا على مقاسه الذي تنتظمه ثلاثة أشياء: لفظ حامل، ومعنى به قائم، ورباط لهما ناظم كما قيل. كلّ ذلك في كنف ما تمدّنا به اللّغة من خيارات تعبيرية ذات دفق دلالي وشحن معنوي. ويعدّ أسلوب الالتفات من أبرز الأنماط التعبيرية الجالبة للاهتمام، المتجاوبة مع متطلبات المقام. و هو ما يتجلّى في توظيف النّص القرآني لهذه الظّاهرة الأسلوبية التي نسعى إلى استجلاء حقيقتها، والتنقيب في أعطافها بغية الوقوف على مقاصدها البلاغية من خلال عيّنات من الذّكر الحكيم.

الكلمات المفتاحية: أسلوب الالتفات، خيارات تعبيرية، شحن معنوي، الأنماط التعبيرية، مقاصد الكلام.

المقال:

الالتفات من أكثر الظواهر الأسلوبية شيوعا في القرآن الكريم، وأساليب العرب نظرا لخاصيته الأسلوبية المتميّزة بطاقتها الإيحائية القائمة على صيغ التنويع في الإحالات. وهو أحد أشكال العدول في مسار التعبير، وتلوين الخطاب تبعا لخصوصية المعنى، ومتطلبات المقام. فهو لا يجري على وتيرة واحدة لأنّه « مقصور على العناية بالمقصود، وذلك المعنى يتشعّب شعبا كثيرة لا تنحصر، وإنّما يؤتى بها على حسب الموضع الذي ترد فيه.»[1]

01- ماهية الالتفات: يدور المعنى اللغوي للالتفات حول الانصراف عن الشيء أو ليّه. وفي اللسان: « لفت وجهه عن القوم: صرفه، والتفت التفاتا، والتلفت أكثر منه، وتلفّت إلى الشيء والتفت إليه: صرف وجهه إليه. قال:

أَرَى المَوْتَ بَيْنَ السَّيْفِ وَالنَّطْعِ كَاِمنًا   **   يُلاحِظُنِي مِنْ حَيْثُ مَا أَتَلَفَّتُ

ولفته يلفته لفتا: لواه على غير جهته. ولفته عن الشيء يلفته لفتا: صرفه. قال الفراء في قوله عز وجلّ: ﴿ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ﴾ يونس من الآية: 87. اللّفت: الصّرف. يقال: ما لفتك عن فلان أي ما صرفك عنه. واللّفت: ليّ الشيء عن جهته كما تقبض على عنق إنسان فتلفته. وأنشد:  وَلَفَتْنَ لَفَتَاتٍ لَهُنَّ خِضَادُ

ولفت فلانا عن رأيه: أي صرفته عنه، ومنه الالتفات.»[2]

 لما كان الالتفات مأخوذا من التفات الإنسان من يمينه إلى شماله، ومن شماله إلى يمينه أشبه هذا الانتقال الحسي الانتقال التعبيري الذي ينتقل فيه المتكلم من صيغة إلى أخرى حسبما يقتضيه المقام. وبهذه العلّة ربطه ابن الأثير في وضع مصطلحه وعدّه من صناعة المعاني. ووقف عنده مطوّلا مبيّنا حقيقته ومغزاه.[3]

أمّا التعريف الاصطلاحي لأسلوب الالتفات عند جمهور البلاغيين فهو:« التعبير عن معنى بطريق من الطرق الثلاثة بعد التعبير عنه بطريق آخر منها.»[4]  والطرق الثلاثة هي: التكلم والخطاب والغيبة. ومن البلاغيين من لم يقتصر على هذا الضرب بل وسّع دائرة الالتفات لتشمل التنويع بين أزمنة الأفعال، وكذا الضمائر.وقد شاع هذا المصطلح – الالتفات- بين الدارسين قديما وحديثا وبه عرف هذا الضرب من الأسلوب . وتذكر المصادر اللغوية أنّ الأصمعي (ت216هـ) أوّل من جاء مصطلح الالتفات على لسانه، فقد روى محمد بن يحيى الصولي عن الأصمعي أنّه قال:« قال لي الأصمعي: أتعرف التفاتات جرير؟ قلت: لا. فما هي؟ قال:

أَتَنْسَى إِذْ تُوَدِّعُنَا سُلَيْمَى   ***  بِعُودِ بَشَامَةٍ ؟ سُقِيَ البَشَامُ

ألا تراه مقبلا على شعره ثمّ التفت إلى البشام فدعا له… وقوله:

طَرِبَ الحَمَامُ بِذِي الأَرَاكِ فَشَاقَنِي *** لا زِلْتَ فِي عَلَلٍ وَأَيْكٍ نَاضِرٍ

 فالتفت إلى الحمام فدعا له.»[5] وقد عبّر أبو عبيدة عن ظاهرة الالتفات باسم المجاز عند حديثه عن قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُور ﴾- سورة فاطر:09.  حيث قال : «  والمجاز ” فسقناه ” مجاز فنسوقه والعرب تضع فعلنا في موضع نفعل قال الشاعر :

إِنْ يَسْمَعُوا رِيبَةً طَارُوا بِهَا فَرَحًا *** مِنِّي وَمَا يَسْمَعُوا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوا

في موضع يطيروا ويدفنوا.»[6] وذكره ابن وهب باسم الصّرف[7] ولعلّه يكون قد اقتبسه من تعريف ابن المعتز للالتفات بقوله: « انصراف المتكلم عن المخاطبة إلى الإخبار، وعن الإخبار إلى المخاطبة وما يشبه ذلك.»[8] وجعله ابن جني من شجاعة العربية وعلّق على هذا التصنيف العلوي بقوله: « والسبب في تلقيبه بذلك هو أنّ الشجاعة هي الإقدام والرجل إذا كان شجاعا فإنه يرد الموارد الصعبة، ويقتحم الورط العظيمة، حيث لا يردها غيره، ولا يقتحمها سواه.»[9] ولعل ورود مثل هذه الموارد يدلّ على فطنة البليغ وطول باعه في التصرف في أساليب الكلام، وإيرادها على وجوه شتّى « كما يتصرف الشجاع في مجال الوغى بالكرّ والفرّ.»[10] و هو من قبيل التوسّع في اللغة.كما عُرِف هذا الضرب من الأسلوب باسم تلوين الخطاب لدى بعض المفسرين أمثال الإمام القرطبي.[11] وأبي حيان الأندلسي وهو من أكثر المفسرين استعمالا لهذا التعبير – تلوين الخطاب- فمن ذلك تفسيره لقوله عزّ و جلّ: ﴿ انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا ﴾- سورة النساء من الآية:50.  حيث قال: « وتلوين الخطاب في ” يفترون ” أقام المضارع مكان الماضي، إعلاما أنّهم مستمرون على ذلك.»[12]  وقال في موضع آخر : «  وتلوين الخطاب ومعدوله في قوله : ﴿ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ – سورة آل عمران من الآية: 36.في قراءة من كسر التاء خرج من خطاب الغيبة في قوله:” فلما وضعتها.” إلى خطاب المواجهة في قوله:” بما وضعتِ.” »[13] وهي قراءة ابن عباس رضي الله عنهما. وبدأ استعمال تلوين الخطاب ينتشر ويكثر عند المتأخرين من المفسرين أمثال الإمام الألوسي.[14] وكان أبو السعود يسمي هذا الضرب من العدول بتلوين النظم. حيث قال:« تلوين النظم من باب إلى باب جار على نهج البلاغة في افتتان الكلام، وسلك البراعة حسبما يقتضي المقام.»[15]

02- دواعي الالتفات و خاصيته الأسلوبية:

إذا كان الالتفات « هو العدول من أسلوب في الكلام إلى أسلوب آخر مخالف للأوّل.»[16]  فإنّ قيمته البلاغية تكمن فيما يحدثه من انكسار في السياق اللغوي يكون بمثابة المنبّه الذي يشغل بال القارئ، ويشدّ انتباهه، فضلا عن شحن الكلام بطاقات دلالية خاصّة تنتج عن ذلك العدول. وقد كانت عناية العرب به كبيرة فكانوا يراوحون بين أسلوب وآخر دفعا للرتابة في الكلام. وتفننا في طرق إخراجه وهم أحرياء بذلك. « ويرون الكلام إذا انتقل من أسلوب إلى أسلوب كان أدخل في القبول عند السامع، وأحسن تطرية لنشاطه، وأملأ باستدرار إصغائه …أفتراهم يحسنون قرى الأشباح فيخالفون بين لون ولون، وطعم طعم، ولا يحسنون قرى الأرواح فيخالفون بين أسلوب وأسلوب. وإيراد وإيراد فإن الكلام المفيد عند الإنسان لكن بالمعنى لا بالصورة أشهى غذاء لروحه وأطيب قرى لها.»[17]

إذا كان الالتفات لا يلجأ إليه إلاّ لغرض من القول فإنّه لا« ينبغي أن يقتصر في ذكر علّة الانتقال من الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى الخطاب بما عادة توسّط أهل النظر أن يفعلوه، وهو قولهم: إنّ فيه ضربا من الاتساع في اللغة لانتقاله من لفظ إلى لفظ، هذا ينبغي أن يقال إذا عري الموضع من غرض معتمد، وسرّ على مثله تنعقد اليد.»[18] ويرى الزمخشري أنّ بلاغة الالتفات كامنة في مبالغته وتنشيطه ذهن المتلقي. وجعله ينصرف إلى ما يلقى عليه بشغف و اهتمام. وقد شرح هذا المقصد بقوله: « وهو فنّ من الكلام جزل، فيه هزّ وتحريك من السامع، كما أنك إذا قلت لصاحبك حاكياً عن ثالث لكما: إنّ فلاناً من قصته كيت و كيت، فقصصت عليه ما فرط منه ، ثم عدلت بخطابك إلى الثالث فقلت: يا فلان من حقك أن تلزم الطريقة الحميدة في مجاري أمورك ، وتستوي على جادّة السداد في مصادرك ومواردك . نبهته بالتفاتك نحوه فضل تنبيه ، واستدعيت إصغاءه إلى إرشادك زيادة استدعاء، وأوجدته بالانتقال من الغيبة إلى المواجهة هازاً من طبعه ما لا يجده إذا استمررت على لفظ الغيبة، وهكذا الافتنان في الحديث والخروج فيه من صنف إلى صنف، يستفتح الآذان للاستماع، و يستهش الأنفس للقبول.»[19] هذا مع إمكانية تحقيق مقاصد بلاغية أخرى تستفاد من سياق الكلام.وكان الزمخشري حريصا أشدّ الحرص على إبراز بلاغة الالتفات في القرآن الكريم لأنّ العدول في الذكر الحكيم لا يخلو من لطيفة بلاغية أو درّة بيانية.

تجمع كتب البلاغة على أن الغرض العام من الالتفات كامن في تنشيط السامع وشد انتباهه إلى ما يلقى عليه. لأنّ الكلام إذا حدث فيه التفات وتنوّع حرّك الخواطر وحثّ الأفهام على تدبّره، غير أنه لا ينبغي أن يحصر الغرض من الالتفات في تطرية نشاط المتلقي، وشدّ انتباهه. لأنّ ذلك من شأنه أن يلقي الستار على كثير من المقاصد البلاغية، وتمثّل الأحوال النفسية التي تعتري منشئ الخطاب. وقد تنبّه السكاكي إلى هذه النكتة وهو يكشف عن سرّ العدول في قول امرئ القيس:  تطاول ليلك بالإثمد. والجدير بالذّكر أنّه لا يخلو موضع من مواضع الالتفات في القرآن الكريم من غرض خاص كما قرر ذلك الزمخشري بقوله: « وقد تختص مواقعه بفوائد.»[20] وقد حوى تفسيره إشارات لطيفة في هذا المجال وتخريجات ذكية تنبئ عن ذوق سليم، وإدراك عميق لمقاصد الالتفات. كما هو الحال في قوله تعالى:﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾- سورة الفاتحة:05. حيث قال:« وممّا اختصّ به هذا الموضع: أنّه لما ذكر الحقيق بالحمد، وأجرى عليه تلك الصفات العظام، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالثناء وغاية الخضوع والاستعانة في المهمات، فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات. قيل: إياك يا من هذه الصفات صفاته نخصّك بالعبادة والاستعانة، لا نعبد غيرك ولا نستعينه، ليكون الخطاب أدلّ على أنّ العبادة له. لذلك التميّز الذي لا تحق العبادة إلا به. »[21]

إنّ المعاني الناجمة عن هذه المنبّهات الأسلوبية قد يدقّ مرماها. ويغمض عن غير ذوي الألباب مغزاها نظرا لما تمتاز به من اللطائف التي « قلما تتّضح إلا لأفراد بلغائهم. أو للحذاق المهرة في هذا الفن والعلماء النحارير. ومتى اختص موقعه بشيء من ذلك كساه فضل بهاء ورونق، وأورث السامع زيادة هزة ونشاط، ووجد عنده من القبول أرفع منزلة ومحل، إن كان ممن يسمع ويعقل.»[22] وقد ربط السكاكي بين اختيار وسائل التعبير التي يوفّرها النحو لإخراج العبارة عن حيادها والعدول بها عن أصلها، وبين الحالة النفسية للشاعر من خلال توضيحه وتبريره للالتفات في قول امرئ القيس :

تَطَاوَلَ لَيْلُكَ بِالإِثْمِدِ *** وَنَامَ الخَلِيُّ وَلَمْ تَرْقُدِ

وَبَاتَ وَبَاتَتْ لَهُ لَيْلَةٌ *** كَلَيْلَةِ ذِي العَاثِرِ الأَرْمَدِ

وَذَلِكَ مِنْ نَبَإٍ جَــاءَنِي*** وَخَبَّرْتُهُ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ[23]

فلو لم يلجأ امرؤ القيس إلى الالتفات وساق الكلام على الحكاية لقال: «  تَطَاوَلَ لَيْلِي بِالإثْمِدِ *** وَنَامَ الخَليُّ وَلَمْ أَرْقُدِ

وبتّ وباتت لنا ليلة …الخ . أو أن يلفت نوعا واحدا فيقول : وبت وبات لكم، وذلك من نبإ جاءكم وخبرتم عن أبي الأسود. ولكنه لما أراد تهويل الخطب واستفظاعه في النبإ الموجع المحرق للقلب عمد إلى الالتفات فنبّه بالتفاته الأول على أنّ نفسه – وقت ورود النبإ عليها- ولهت كالثكلى فأقامها مقام المصاب لا يتسلى فأخذ يخاطبه:” تطاول ليلك” تسلية أو تنبيها على أنّ نفسه لفظاعة شأن النبإ واستشعارها معه بالكمد أبدت قلقا وكمدا شديدين. وكان من حقها أن تتثبت وتتصبر. فحين لم تفعل ذلك شكّكته في أنّها نفسه، فأقامها مقام مكروب قائلا له: تطاول ليلك.»[24]

أسلوب الالتفات مستفحل في كلام البلغاء الذين كانوا يستحسنونه لما يجدون فيه من لذّة فكريّة، وراحة نفسية تدفع عنهم السآمة. وتجلب الاهتمام.« وكلام العرب كثير الانحرافات، ولطيف المقاصد والجهات. وأعذب ما فيه تلفّته وتثنيه.»[25] ولأهل اللغة عناية بأسلوب الالتفات لما يحويه من لطائف معنوية ، وأسرار بلاغية تتجلى على محور الانكسار اللغوي ذي الأساليب المتنوعة بتنوّع المقاصد والغايات. و قد أشار الزمخشري إلى قيمته الجمالية بقوله: «  وهو فنّ من الكلام جزل، فيه هزّ وتحريك من السامع… وهكذا الافتتان في الحديث والخروج فيه من صنف إلى صنف، يستفتح الآذان للاستماع، ويستهشّ الأنفس للقبول.»[26]

إنّ توظيف هذا الأسلوب العدولي يتطلّب مهارة في التعبير، ودراية بأحوال النفس وخصائص اللغة . فهو يجود في موضعه المستحقّ له. وينبو في غيره. وكان ابن الأثير قد نبّه إلى هذه الفكرة بالقول « واعلم أيها المتوشح لمعرفة علم البيان أنّ العدول عن صيغة من الألفاظ إلى صيغة أخرى لا يكون إلا لنوع خصوصية اقتضت ذلك. وهو لا يتوخاه في كلامه إلاّ العارف برموز الفصاحة والبلاغة الذي اطلع على أسرارها وفتّش عن دفائنها. ولا تجد ذلك في كلّ كلام فإنه من أشكل ضروب علم البيان وأدقّها فهما وأغمضها طريقا.»[27]ولا يزال البلاغيون تباعا ينبّهون إلى خطورته، وعلوّ شأنه جاعلين إيّاه «  من أجلّ علوم البلاغة. وهو أمير جنودها والواسطة في قلائدها وعقودها.»[28] إنّ ما ينطوي عليه أسلوب الالتفات من طاقات تعبيرية وخصائص فنية بوّأه هذه المكانة وجعله فنّا كلاميا تتجلّى على أصنافه معالم الإبداع.

03- أنواع الالتفات وبلاغته في القرآن الكريم:  لم يعرف الالتفات تقسيما موحّدا بين البلاغيين. فقد تضيق دائرته عند من حصره في المخالفة بين الضمائر، وتتسع عند من أضاف إلى ذلك التنويع بين صيغ الخطاب والتكلم والغيبة. وكذا التنويع بين أزمنة الأفعال. ويمكن حصره في ثلاثة أضرب، هي :

ا- الضرب الأوّل: التنويع بين صيغ الخطاب والتكلّم والغيبة.

-01- الالتفات من الغيبة إلى الخطاب: ذهب الرازي إلى أنّ « الانتقال في الكلام من لفظ الغيبة إلى لفظ الحضور يدلّ على مزيد التقرب والإكرام. وأمّا ضدّه وهو الانتقال من لفظ الحضور إلى لفظ الغيبة يدل على المقت و التبعيد.»[29]  إلاّ أنّ هذا الحكم نسبيّ لا يمكن اتخاذه قاعدة ولا تعميمه على كلّ الحالات. فقد يكون الانتقال من الغيبة إلى الخطاب يتضمّن شدّة الإنكار والتوبيخ والتقريع. ومن أمثلة هذا النوع  قول الله سبحانه وتعالى:﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ﴾- سورة مريم:88-89. حكاية عن اليهود والنصارى ممّن نسب إلى الله جلّ جلاله الولد. تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. وهو« ردّ لمقالتهم الباطلة وتهويل لأمرها بطريق الالتفات المنبئ عن كمال السخط وشدّة الغضب المفصح عن غاية التشنيع والتقبيح، وتسجيل عليهم بنهاية الوقاحة والجهل والجراءة.»[30]  أصل الكلام في هذا أن يؤتى بضمير الغائب فيقال ” لقد جاؤوا ” على نسق ” قالوا ” لكنّه عدل عن ذلك قصد التوبيخ. ويكون ذلك أبلغ مع صيغة الخطاب التي تقتضي مواجهة الخصم لإفحامه، وإلزامه الحجة،  والزيادة في تبكيته، لذلك ورد هذا النوع من الالتفات بكثرة في مقام التشنيع والزجر والوعيد والتوبيخ. والانتقال من الغيبة إلى الخطاب شائع في الأسلوب القرآني نحو قوله سبحانه و تعالى:﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ  الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ  مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ  إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾- سورة الفاتحة:01-05. ومن ألطف ما قيل في تعليل هذا الالتفات قول الزركشي: « ومن لطائف التنبيه على أن مبتدأ الخلق الغيبة منهم عنه سبحانه، وقصورهم عن محاضرته ومخاطبته، وقيام حجاب العظمة عليهم، فإذا عرفوه بما هو له، وتوسلوا للقرب بالثناء عليه، وأقروا بالمحامد له، وتعبدوا له بما يليق بهم، تأهلوا لمخاطباته ومناجاته فقالوا: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾.»[31]

وقد جاءت المغايرة بالعدول عن الغيبة إلى الخطاب في قوله جلّ جلاله:﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾- سورة آل عمران:28. حيث ورد النهي أولا بصيغة الغيبة، ثم جاء الاستثناء «على صيغة الخطاب بطريق الالتفات استثناء مفرغ من أعمّ الأحوال والعامل فعل النهي معتبرا فيه الخطاب ، كأنه قيل: لا تتخذوهم أولياء ظاهرا أو باطنا في حال من الأحوال إلا حال اتقائكم ” منهم ” أي من جهتهم.»[32] لقد حكت الآية ما يجب على المؤمنين من تحريم اتّخاذ الكافرين أولياء، ثمّ عدلت عن الغيبة إلى الخطاب ترهيبا لهم من عدم الامتثال إلى ذلك النهي، وتذكيرا لهم بأنّ مآل الأمور إلى الله عزّ وجلّ الذي يحاسب على كلّ صغيرة وكبيرة. وهذا النوع من التعبير في غاية البلاغة « لأنّه لما كان المؤمنون نهوا عن فعل ما لا يجوز جعل ذلك في اسم غائب فلم يواجهوا بالنهي ، ولما وقعت المسامحة والإذن في بعض ذلك ووجهوا بذلك إيذانا بلطف الله بهم وتشريفا بخطابه إياهم.»[33]

ومن هذا الضرب من الالتفات قول الله عزّ وجلّ:﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ y﴾- سورة البقرة من الآية:220. حيث التفت عن الغيبة في قوله:﴿ وَيَسْأَلُونَكَ ﴾  أي: هم إلى الخطاب في قوله: ﴿ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ ﴾ لما في ذلك من الترغيب في إتيان ذلك الفعل قال أبو حيان: «وحكمة هذا الالتفات ما في الإقبال بالخطاب على المخاطب ليتهيأ لسماع ما يلقى إليه، وقبوله والتحرّز فيه.»[34] وهذا النّوع من الالتفات كثير في الشعر ومنه قول عنترة:

شَطَتْ مَزَارَ العَاشِقِينَ فَأصْبَحَتْ *** عَسِيرًا عَلَيَّ طِلاَبُكِ اِبْنَةَ مَخْرَمِ[35]

وقد علّق ابن جنّي على هذا العدول بقوله: « وكما بالغ في ذكر استضراره خاطبها بذلك لأنّه أبلغ، فعدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب، فقال : ” طلابك ”  فافهم ذلك، فإنّه ليس الغرض فيه وفي نحوه السعة في القول، لكن تحت ذلك ونظيره أغراض من هذا النحو فتفطّن لها.»[36]

-02- الالتفات من الخطاب إلى الغيبة: يحمل هذا النوع من العدول في قسم منه معاني التوبيخ والتقريع لما يتضمّنه فعل الإعراض عن المخاطب من المواجهة إلى الغيبة استهجانا لفعله، وصرفا له من مقام الحضور إلى التغييب على نسق قوله عزّ من قائل:﴿ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ﴾- سورة النور:12.  وقد كشف صاحب الكشاف سرّ هذا العدول بقوله: « فإن قلت هلاّ قيل: لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيرا وقلتم. ولِمَ عدل عن الخطاب إلى الغيبة، وعن الضمير إلى الظاهر؟ قلت: ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات، وليصرّح بلفظ الإيمان، دلالة على أنّ الاشتراك فيه مقتض أن لا يصدّق مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول عائب ولا طاعن. وفيه تنبيه على أنّ حقّ المؤمن إذا سمع قالة في أخيه أن يبني الأمر فيها على الظنّ لا على الشكّ. وأن يقول بملء فيه بناء على ظنّه بالمؤمن الخير.»[37]ومن أمثلة هذا النوع قول الباري جلّ جلاله:﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ Î ﴾- سورة الأنبياء:92-93. في الآية الأولى تأكيد على وجوب وحدة الأمّة واتحادها. وذلك هو أمر الواحد المعبود الذي قبّح التحزّب والتشرذم الذي يعصف بالأمّة ويذهب ريحها. وهو ما يفهم من الالتفات من الحضور إلى الغيبة  حيث نعى عليهم حالهم لغيرهم، وسوء صنيعهم. وهو ما يستوجب الإعراض عنهم تغييبا لهم من شرف الخطاب، إلى مقام الصّد والعتاب.

يقول ابن الأثير:« الأصل في تقطعوا تقطعتم ، عطف على الأول، إلا أنه صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة على طريقة الالتفات، كأنه ينعى عليهم ما أفسدوه إلى قوم آخرين، ويقبح عندهم ما فعلوه، ويقول : ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله تعالى، فجعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا، وذلك تمثيل لاختلافهم فيه وتباينهم ثم توعدهم بعد ذلك بأن هؤلاء الفرق المختلفة إليه يرجعون، فهو مجازيهم على ما فعلوا.»[38]

ومن صرف الكلام عن الخطاب عن الغيبة قوله الحق تبارك وتعالى:﴿ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ  ﴾- سورة يونس عليه السلام:22. بدأت الآية الكريمة بأسلوب الخطاب ” يسيّركم – كنتم ”  ثمّ عدل عن ذلك إلى الإخبار عنهم بظهر الغيب ” وجرين بهم ” حكاية عن حالهم الداعية إلى التعجب من كفرهم والتشنيع عليهم وهو حال موجب للإعراض عنهم بسبب سوء صنيعهم وكفرهم بأنعم الله عزّ وجلّ. « ومن بديع الأسلوب في الآية أنها لما كانت بصدد ذكر النعمة جاءت بضمائر الخطاب الصالحة لجميع السامعين، فلما تهيأت للانتقال إلى ذكر الضراء وقع الانتقال من ضمائر الخطاب إلى ضمير الغيبة لتلوين الأسلوب بما يخلصه إلى الإفضاء إلى ما يخص المشركين فقال: ﴿ وَجَرَيْنَ بِهِمْ ﴾ على طريقة الالتفات ، أي وجرين بكم . وهكذا أجريت الضمائر جامعة للفريقين إلى أن قال:﴿ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ فإنّ هذا ليس من شيم المؤمنين فتمحض ضمير الغيبة هذا للمشركين، فقد أخرج من الخبر مَن عدا الذين يبغون في الأرض بغير الحق تعويلاً على القرينة لأنّ الذين يبغون في الأرض بغير الحق لا يشمل المسلمين. وهذا ضرب من الالتفات لم ينبه عليه أهل المعاني وهو كالتخصيص بطريق الرمز.»[39] ويبرّر الزمخشري سبب هذا العدول بقوله: «  فإن قلت : ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة؟ قلت : المبالغة ، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجّبهم منها ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح.»[40] على ما أتوه من البغي بعدما أنجاهم من الهلاك المحقق. وفي ذلك جحود كبير لنعم الله سبحانه وتعالى،  ومقابلة الإحسان بالإساءة.

هذا النوع من الالتفات  الذي يراد منه التقريع والتوبيخ فاش في الأسلوب القرآني لما له من أثر عقابي على النفس التي تستشعر ذلك الطرد والإبعاد مثلما يتجلّى ذلك في قوله سبحانه وتعالى:﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾- سورة البقرة من الآية:88. خاطبهم المولى تبارك مذكّرا إيّاهم بسوء تصرفاتهم تجاه أنبيائهم، ثمّ أعرض عنهم مبعدا إيّاهم من حضرة خطابه إلى الحديث عنهم بظهر الغيب صابّا عليهم نقمته وجام غضبه، حيث أنّهم استحقوا اللعنة بسبب كفرهم وعنادهم. وفي الالتفات من الخطاب إلى الغيبة إشارة إلى إبعادهم عن حضرته، وإقصاء لهم من رحمته. وقد تكون الغاية من هذا الضّرب من الالتفات الثناء والمدح نحو قوله سبحانه وتعالى:﴿ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴾- سورة الروم:39.  ذكر الزمخشري أنّه « التفات حسن، كأنّه قال لملائكته وخوّاص خلقه فأولئك الذين يريدون وجه الله بصدقاتهم  هم المضعفون. فهو أمدح لهم من أن يقول: فأنتم المضعفون.»[41]  ففي هذا العدول نوع من المباهاة بهؤلاء الذين يبتغون وجه الله في صدقاتهم.

ومن هذا النسق الذي يراد منه الثناء والتشريف والتكريم قول الله سبحانه و تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾- سورة الأحزاب من الآية:50.  قال أبو حيان:« عدل عن الخطاب إلى الغيبة في النبي ﴿ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ ﴾ ثم رجع إلى الخطاب في قوله ﴿ خَالِصَةً لَكَ ﴾ للإيذان بأنه ممّا خص به وأوثر، ومجيئه على لفظ ” النبي ” للدلالة على أنّ الاختصاص تكرمة له لأجل النبوة، وتكريره تفخيم له، وتقرير لاستحقاقه الكرامة لنبوته.»[42] وداعي التكريم والتعظيم للرسول صلى الله عليه وسلّم ماثل في أسلوب الالتفات في مواطن عدّة منها قول الله جلّ جلاله:﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ﴾- سورة النساء من الآية:64. فلم يقل: “واستغفرت لهم” على نسق “جاؤوك” بل عدل عن ذلك إلى أسلوب الغيبة للحديث عنه باسم الرسالة تشريفا له عليه الصلاة والسلام، وتفخيما لشأنه، وبيانا لتعظيم استغفاره وشفاعته.

-03- الالتفات من التكلم إلى الخطاب: لمّا كان هناك تقارب شديد بين صيغتي التكلّم والخطاب اللتين تمثّلان مجال الحضور الذي تتماثل فيه المشاهد أو تكاد، فقد قلّ ورود هذا الضرب من الالتفات لحدّ الندرة. وممّا ذكره البلاغيون كمثال لذلك قول الباري جلّ في علاه:﴿ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾- سورة يس:21-22.  وكان مقتضى الظاهر أن يقول وإليه أرجع لكنّه عدل عن التكلّم إلى الخطاب بضمير الجمع. وعُدّ هذا التعبير من باب الالتفات لأجل التعريض بالمخاطبين، ويكون المعبّر عنه في الصيغتين واحد. لكنّه وجّه لهم الخطاب لتحذيرهم من مغبّة الشرك والعناد. وتقريعهم على التفريط في جنب الله. وقد جمع في هذه الآية بين الإقرار بنعمة الإيجاد التي توجب الشكر، وبين التذكير بالمعاد الذي يوجب الزّجر لكلّ من خالف الأمر، ولم يرج لقاء ربّه. ومن البلاغيين من ربط بين الآيتين ليقرر أنّ الالتفات كان من الخطاب الذي تضمّنته الآية السابقة إلى التكلّم الذي ورد في صدر الآية اللاحقة. وكان مقتضى الظاهر أن يقول: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم وإليه ترجعون. لكنّه أبرز الكلام بإيراده في معرض المناصحة لنفسه تلطّفا بهم, ولكي يبيّن لهم أنّه حريص عليهم يحبّ لهم ما يحبّ لنفسه. وذلك أدخل في إمحاض النصح، ودفع العناد.[43]

04- الالتفات من الخطاب إلى التكلم: هذا النوع من الالتفات قليل الاستعمال هو الآخر لقرب المسافة بين الخطاب والتكلّم كما سلف ذكره. وممّا ورد منه في القرآن الكريم قول الله جلّ جلاله: ﴿ قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ﴾- سورة يونس من الآية: 21. ففي الآية عدول عن خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى التكلّم بصيغة الجمع إذ لم يقل إنّ رسله على نسق الصيغة السابقة وفي ذلك« من المبالغة ما لا يوصف ، وتلوينُ الخطاب بصرفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم للتشديد في التوبيخ.»[44] وممّا جاء منه شعرا قول علقمة:

طَحَا بِكَ قَلْبٌ فِي الحِسَانِ طَرُوبُ *** بُعَيْدَ الشَّبَابِ عَصْرَ حَانَ مَشِيبُ

يُكَلِّفُنِي لَيْلَى وَقَدْ شَطَّ  وَلْيُهَا ***  وَعَادَتْ عَوَادٍ بَيْنَنَا وَخُطُوبُ[45]

والجدير بالذّكر أنّ ضمير الخطاب في ” بك ” يعدّ التفاتا عند السّكاكي . لا لأنّه مخالف لأسلوب سابق له، بل لأنّه مخالف لما ينبغي أن يكون عليه أصل الحديث، وهو التعبير بضمير المتكلّم حيث ساق الحديث بأسلوب الخطاب. وهو بذلك يكون قد وسّع من دائرة الالتفات لتشمل البعد التقديري للّغة، وهو ما يُعبّر عنه بالبنية العميقة في الاصطلاح اللّساني. وقد وضّح السبكي هذه الفكرة بالاعتماد على قول علقمة حيث قال: « وفي قوله “طحا بك ” – على رأي السكاكي – جرّد من نفسه حقيقة مثّلها وخاطبها، فالضمير واقع في محلّه، فهو التفات وتجريد، وعلى رأي غيره هو تجريد فقط. وفي قوله: ” تكلّفني” التفات على القولين… وبهذا علمنا أنّ الالتفات في ” بك ” – على رأي السكاكي – أوضح من الالتفات الذي في “تكلفني” على قولهما، لأنّ في ” بك ” خروجا عن ضمير المتكلّم إلى شيء لا وجود له بالكلية، وفي ” تكلّفني ” خروج عن الحقيقة المجرّد عنها. فهو عدول إلى الأصل. و” بك ” عدول إلى الفرع. والعدول إلى الفرع أبلغ من العدول إلى الأصل.»[46] والمراد بالأصل هنا هو ضمير المتكلّم، وعليه فقوله: ” تكلفني ” رجوع إلى الأصل، بينما عدوله عن هذه الصيغة إلى الخطاب في ” بك ” هو عدول إلى الفرع.

05- الالتفات من الغيبة إلى التكلم: من المواطن القرآنية التي تمثّل فيها هذا النمط العدولي قوله عزّ وجلّ:﴿ z سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ  ﴾- سورة الإسراء:01.  تضمّنت هذه الآية عدولا عن الغائب المفرد في ” أسرى” إلى ضمير جمع المتكلم في ” باركنا ” بنون العظمة الدالة على عظيم سلطانه. « والالتفات هنا امتاز بلطائف منها : أنه لما استُحضرت الذات العلية بجملة التسبيح وجملة الموصولية صار مقام الغيبة مقام مشاهدة  فناسب أن يغير الإضمار إلى ضمائر المشاهدة وهو مقام التكلم ومنها : الإيماء إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام عند حلوله بالمسجد الأقصى قد انتقل من مقام الاستدلال على عالم الغيب إلى مقام مصيره في عالم المشاهدة.»[47] وفي العدول من التكلّم إلى الغيبة ﴿ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ  ﴾ ما يدحض زعم الرازي السالف الذّكر إذا قدّرنا عود الضمير إلى الله عزّ وجلّ وهو رأي جمهور المفسرين[48]  والظاهر – والله أعلم- أنّ قوله :﴿ إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ عائد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بناء على أن الضمير يعود على أقرب مذكور، وهو ما يؤذن بأنه عليه الصلاة والسلام  قد رأى ما رأى من آيات ربه الكبرى. وسمع ما سمع من سنيّ الخطاب ليلة أسري به، لذلك جاء قوله عز وجلّ : ﴿ إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ مؤكّدا لذلك مثلما يقتضيه السياق. إضافة إلى أنّ المشركين لا ينازعون في كون الله عزّ وجلّ سميعا بصيرا بل أنّهم لم يسلّموا للرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يكون قد أسري به ثم عرج وحصل له ما حصل ممّا سمعه ورآه.

ومن العدول عن الغيبة إلى التكلّم قوله عزّ وجلّ:﴿ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ﴾- سورة فاطر :09.  وكان مقتضى الظاهر أن يقول: فساقه، لكنه عدل إلى التكلّم بصيغة الجمع لأنّه «  لما كان سوق السحاب إلى البلد إحياء للأرض بعد موتها بالمطر، دالا على القدرة الباهرة، والآية العظيمة التي لا يقدر عليها غيره، عدل عن لفظ الغيبة إلى التكلم، لأنه أدخل في الاختصاص، وأدل عليه وأفخم.»[49] ويرى محمد أبو موسى أنّ علّة العدول ونكتته في هذه الآية الكريمة كامن في إحداث اليقظة واللّفت « عند هذا المقطع المهمّ من مقاطع المعنى لأنّ سوق السحاب إلى الأرض الميتة فتحيا ضرب من قسمة الأرزاق فناسب أن ينقل الإسناد إلى ضمير ذي الجلالة سبحانه… فالالتفات هنا يشير إلى أنّ الله سبحانه يسوق السحاب بذاته العلية ويقسمه رحمة ورزقا بيديه، ولا يدع ذلك لأحد من خلقه. »[50]

ونظير هذا قول الحق سبحانه وتعالى:﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾- سورة الأنعام من الآية:99.  ولإظهار كمال العناية والتنبيه إلى أنه الخالق المتفرد بالإيجاد « اقتضى ذلك التوجه إليه حتى يخاطب واختيار ضمير العظمة دون ضمير المتكلم وحده لإظهار كمال العناية أي فأخرجنا بعظمتنا ذلك الماء مع وحدته.»[51] وفسر أبو حيان الأندلسي ذلك بالتنصيص على إسناد الإنبات إليه سبحانه وتعالى حيث قال: « وهذا التفات من الغيبة إلى التكلم بنون العظمة دالّ على اختصاصه بذلك، وأنه لم ينبت تلك الحدائق المختلفة الأصناف والألوان والطعوم والروائح بماء واحد إلا هو تعالى، وقد رشح هذا الاختصاص بقوله:﴿ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا﴾- سورة النمل من الآية:60. ولما كان خلق السماوات والأرض وإنزال الماء من السماء لا شبهة للعاقل بأن ذلك لا يكون إلا بالله، وكان الإنبات مما قد يتسبب فيه الإنسان بالبذر والسقي والتهيئة وسوغ لفاعل السبب نسبة فعل المسبب إليه بيّن تعالى اختصاصه بذلك بطريق الالتفات وتأكيد ذلك بقوله: ﴿ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا ﴾ ألا ترى أن المتسبب لذلك قد لا يأتي على وفق مراده ؟ ولو أتى فهو جاهل بطبعه، ومقداره، وكيفيته، فكيف يكون فاعلا لها؟»[52]

وممّا جاء شعرا من هذا الضرب من العدول قول المخبّل السعدي:

ذَكَرَ الرَّبَابَ وَذِكْرُهَا سُقْمُ *** فَصَبَا وَلَيْسَ لِمَنْ صَبَا حِلْمُ

وَإِذَا أَلَمَّ خَيَالُهَا طَـرَفَتْ *** عَـيْنِي فَمَاءُ شُؤُونِهَا سَجْمُ

كَاللُّؤْلُؤِ المَسْجُورِ أُغْفِلَ فِي *** سِلْكِ النِّظَامِ فَخَانَهُ النَّظْمُ[53]

أسند الشاعر الفعل إلى الغائب وهو يريد نفسه. وهذا التفات على طريقة السكاكي لعدوله عن الأصل الذي هو التكلّم إلى الغيبة. وفي ذلك إشارة إلى انقسامه على نفسه، وعدم تمكنه من السيطرة عليها بعدما أصبح الأمر خارجا عن إرادته بفعل ما استبدّ به من الهيام، وما انتابه من الذّهول الذي غيّبه عن واقعه، وزجّ به في هواها. ثمّ يعود إلى طريق التكلّم ليقرّ بأنّ مجرّد مرور خيالها تطرف له عينه، وتفيض مدامعه. ليظلّ مُعنًّى بها عميدا في حالة الغيبة والشهود.

06 – الالتفات من التكلم إلى الغيبة:  أساليب هذا اللون من الالتفات لا تخلو من نكت بلاغية ولطائف معنوية علاوة على القيمة الفنية في تلوين الخطاب الذي يكتسب به روعة وحسنا فمن هذا القبيل قول الله سبحانه و تعالى:﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾- سورة الأعراف:158. تضمّنت هذه الآية انكسارا غير متوقّع عند قوله:﴿ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ﴾ وكان مقتضى الظاهر أن يقول: فآمنوا بالله وبي… عطفا على قوله: ﴿إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ إلاّ أنّه لا يحسن سرد تلك الصفات التي نسبت إليه عليه الصلاة والسلام وفق هذه الطريقة. وهو ما نبّه إليه الزمخشري حين قال : « عدل عن المضمر إلى الاسم الظاهر لتجري عليه الصفات التي أجريت عليه، ولما في طريقة الالتفات من مزية البلاغة، وليعلم أنّ الذي وجب الإيمان به و اتّباعه هو هذا الشخص المستقل بأنّه النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته، كائنا من كان، أنا أو غيري، إظهارا للنصفة وتفاديا من العصبية لنفسه.»[54] ومن هذا النسق في العدول قوله سبحانه وتعالى:﴿ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ  وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾- سورة الأنبياء: 31-33. حدث التفات في الآية الثالثة لمّا عدل عن صيغة التكلّم في ” جعلنا ” المشيرة إلى تلك المرئيات الدّالة على قدرة الخالق وعظمته إلى صيغة الغيبة في ” خلق ” التي استدعتها عقلانية الاستدلال على حدث غيبي خفيّ لا يعلمه إلاّ الله جلّ جلاله المتفرّد بالخلق والإيجاد.

– ب- الضرب الثاني:   التنويع بين أزمنة الأفعال.

ألحق جماعة من البلاغيين مخالفة مقتضى الظاهر في صيغ الأفعال بباب الالتفات كونه يمثّل عدولا عن أسلوب في الكلام إلى أسلوب آخر مخالف للأوّل. حيث تحدث المغايرة في التعبير بين صيّغ الأفعال في الأزمنة الثلاثة، فيعبّر بالماضي عن الحاضر أو المستقبل، أو العكس. ومن شأن ذلك العدول أن يجلب دلالات إضافية. ويحقّق مقاصد بلاغية. وهذا ما يتجلّى من خلال النماذج الآتية:

-01- الالتفات من الماضي إلى المضارع: تكاد تشترك دلالة العدول من الماضي إلى المضارع في استحضار الصورة المعبّر عنها، وتجدّد الحدث الذي يدلّ عليه الفعل، والاستمرار فيه. مثال ذلك قول الحق تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ﴾- سورة الحج من الآية:25. الأصل الافتراضي في هذا أن يقال: إنّ الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله إلاّ أنّه عدل عن التعبير بالماضي إلى المضارع للدلالة على تكرارهم لذلك الفعل واستمرارهم فيه حتى صار ذلك دأبهم. ولمّا كان الصدّ منهم كالدّائم « اختير لهم يفعلون، كأنّك قلت: إنّ الذين كفروا ومن شأنهم الصّدّ.»[55]

ومن هذا الصنف توبيخ الحقّ تبارك وتعالى لليهود بقوله : ﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾- سورة البقرة :87. قال الزمخشري: « فإن قلت: هلا قيل وفريقا قتلتم، قلت: هو على وجهين، أن تراد الحال الماضية لأنّ الأمر فظيع فأريد استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب، وأن يراد وفريقا تقتلونهم بعد لأنّكم تحومون حول محمد صلى الله عليه وسلّم  لولا أنّي أعصمه منكم لذلك سحرتموه وسممتم له الشاة.»[56] ويمكن الجمع بين استحضار تلك الصورة الفظيعة، وبين تطلّعهم إلى قتل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى جانب رعاية الفاصلة لتتحقق بلاغة المعنى وحسن المبنى.

ومن هذا الضرب قول الله سبحانه و تعالى:﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾- سورة الحج:63. صُدِّرت الآية باستفهام تقريري داع إلى التأمّل في عجيب صنع الله الذي أتقن كلّ شيء. وإيثار صيغة المضارع للتعبير عن اخضرار الأرض لأنّها أقدر الصيغ على استحضار المشاهد وتصويرها. يضاف إلى هذا ما في هذه الصيغة من دلالة على تجدّد فعل الإنزال الذي به قوام حياة الإنسان لطفا من الله عزّ وجلّ بعباده.وعلّل الزمخشري هذا العدول بقوله: « فإن قلت : هلا قيل : فأصبحت؟ ولِمَ صرف إلى لفظ المضارع؟ قلت: لنكتة فيه، وهي إفادة بقاء أثر المطر زماناً بعد زمان، كما تقول: أنعم عليَّ فلان عام كذا، فأروح وأغدوا شاكراً له. ولو قلت : فرحت وغدوت؛ ولم يقع ذلك الموقع.»[57]

02- الالتفات من المضارع إلى الماضي: أما الالتفات عن المضارع إلى الماضي ففائدته تأكيد حدوث الفعل ، لتنزيله منزلة الواقع. وأنه كائن لامحالة كما في قول الحق تبارك و تعالى:﴿ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ﴾- سورة النمل:87. حيث عبّر بالفعل “فزع” وهو ماض عاطفا إياه على المضارع ” ينفخ” للدلالة على تحقق حدوث الفعل وأنّه واقع لا محالة. إضافة إلى أنّ هذا الحدث من الأمور المستعظمة التي تشغل بال السامع وتبهره. لذلك قال ابن القيّم: « الفعل الماضي يخبر به عن المضارع إذا كان الفعل المضارع من الأشياء الهائلة التي لم توجد، والأمور المتعاظمة التي لم تحدث، فتجعل عند ذلك فيما قد كان ووجد ووقع الفراغ من كونه وحدوثه.»[58] والقرآن الكريم يقصّ علينا كثيرا من مشاهد القيامة ويعرضها بصيغة الماضي ليؤكّد حتمية وقوعها حتّى لكأنّنا نراها رأي العين. ومن هذا اللون التعبيري قول الله عزّ وجلّ: ﴿ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ﴾- سورة الكهف:47. حدث الالتفات من المضارع ” نسيّر ” إلى الماضي ” حشرنا ” وهو عدول يفسّره ما بين هاتين الصيغتين من فارق معنوي، يتمثّل في الدلالة على تحقّق وقوع فعل الحشر الذي ينكره الكافرون. وقدبرّر الزمخشري هذا الالتفات بقوله: « فإن قلت: لم جيء بحشرناهم ماضياً بعد نسير وترى؟ قلت: للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير وقبل البروز، ليعاينوا تلك الأهوال العظائم، كأنه قيل : وحشرناهم قبل ذلك.»[59] على هذا النسق من العدول يجري الأسلوب القرآني في تصوير مشاهد الآخرة والإخبار عن أحوال يوم القيامة عامّة، وما يتعلّق بها من بعث وحشر ونشر يُخبر عنه بصيغة الماضي للدلالة على تحقق وقوع ما يخبر به.وممّا وقع فيه الالتفات من الماضي إلى الحاضر ثمّ العدول عنه إلى الماضي مجدّدا قول الحق تبارك وتعالى:﴿ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ﴾- سورة فاطر:09. حيث جاء التعبير عن إرسال الرياح بصيغة الماضي الدّال على إيجادها من العدم، ثمّ حدث الالتفات إلى المضارع للتعبير عن إثارة السحاب. وفي ذلك حكاية للحال واستحضار لتلك الصّورة الدّالة على قدرة الخالق جلّ وعلا. ثمّ حدث الالتفات مرّة ثانية إلى الماضي “فسقناه” بنون العظمة التي تعكس القدرة الإلهية.[60]

-03- الالتفات من المضارع إلى الأمر: هذا الضرب من الالتفات قليل الاستعمال وعليه جاء قوله جلّت قدرته على لسان هود عليه السلام:﴿ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾- سورة هود :54. هذه الآية الكريمة ردّ من سيدنا هود عليه السلام على قومه الذين كذّبوه وسخروا منه ورموه بالمسّ.  وقد تضمنت هذه الآية عدولا عن المضارع إلى الأمر ” واشهدوا ” للدلالة على الفرق الحاصل بين الشهادتين. وقد علّل الزمخشري هذا العدول بقوله: « فإن قلت : هلا قيل : إني أشهد الله وأشهدكم؟ قلت : لأنّ إشهاد الله على البراءة من الشرك إشهاد صحيح ثابت في معنى تثبيت التوحيد وشدّ معاقده. وأمّا إشهادهم فما هو إلا تهاون بدينهم ودلالة على قلة المبالاة بهم فحسب. فعدل به عن لفظ الأوّل لاختلاف ما بينهما، وجيء به على لفظ الأمر بالشهادة. كما يقول الرجل لمن يبس الثرى بينه وبينه اشهد علي أنّي لا أحبك، تهكما به واستهانة بحاله.»[61]

صفوة القول فيما سبق أنّ العدول عن صيغة من الفعل إلى غيرها زمنيا لا تكون إلاّ لفارق معنوي، واقتضاء دلالي. وفي ذلك سعي إلى توجيه نظر الإنسان وفكره بغرض التدبّر والاعتبار المفضي بصاحبه إلى جادّة الصّواب.

 -ج- الضرب الثالث:  التنويع بين الإفراد والتثنية والجمع.

من مجاري العرب في كلامهم تلوين الخطاب وتنويع الأسلوب بين الإفراد والتثنية والجمع والعدول عن أحدها إلى الآخر تحقيقا لأغراض فنية ومقاصد بلاغية. وللأسلوب القرآني نسق خاص في تلوين الإحالات، وربطها بالمقاصد والغايات. مثلما يتجلى في النماذج الآتية:

 01- الالتفات من المفرد إلى المثنى: قد تقتضي بلاغة الكلام الانتقال من خطاب الواحد إلى خطاب الاثنين تماشيا مع الغرض المراد. من ذلك قوله تعالى:﴿ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ﴾- سورة يونس:78. أُفرِد موسى عليه السلام بالخطاب بداية كونه صاحب الرسالة وعلى يديه ظهرت المعجزة. وهو الذي حاجّ أولئك القوم وأفحمهم. ثمّ أشركوا معه أخاه هارون سعيا منهم إلى تيئيسه من الإيمان بدعوته أيّا كان مصدرها. قال أبو السعود: « وتثنيةُ الضمير في هذين الموضعين بعد إفرادِه فيما تقدم من المقامين باعتبار شمولِ الكبرياءِ لهما عليهما السلام، واستلزامِ التصديقِ لأحدهما التصديقَ للآخر ، وأما اللفتُ والمجيء له فحيث كانا من خصائص صاحب الشريعة أسند إلى موسى عليه السلام خاصة.»[62] ومن هذا الضرب قول الحق سبحانه وتعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾- سورة النساء:135. أصل الكلام أن يقال: فالله أولى به، لعود الضمير على اسم يكن المضمر. وتقدير الكلام: إن يكن المشهود عليه غنيا أو فقيرا. ويمكن أن يكون الضمير عائدا عليهما مجموعين معا. قال الزمخشري: « فإن قلت : لم ثنى الضمير في ﴿ أَوْلَى بِهِمَا ﴾ وكان حقه أن يوحّد ، لأن قوله :﴿ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا ﴾ في معنى إن يكن أحد هذين؟ قلت : قد رجع الضمير إلى ما دل عليه قوله : ﴿ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً ﴾ لا إلى المذكور ، فلذلك ثنى ولم يفرد ، وهو جنس الغنيّ وجنس الفقير ، كأنه قيل : فالله أولى بجنسي الغنيّ والفقير، أي بالأغنياء والفقراء ، وفي قراءة أبيّ : فالله أولى بهم وهي شاهدة على ذلك.»[63]

-02- الالتفات من المفرد إلى الجمع: من الأساليب القرآنية التي تجسّد فيها العدول عن الإفراد إلى الجمع قول الحق سبحانه وتعالى:﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾- سورة الإسراء:01.  حيث عبّر بالمفرد الغائب ” أسرى ” . ثم قال الذي باركنا بلفظ الجمع ولو جاء الكلام على نسق واحد لكان سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله ليريه من آياته إنه هو السميع البصير. « والالتفاتُ إلى التكلم لتعظيم تلك البركات والآيات.»[64] وقد ذكر العلاّمة الطاهر بن عاشور جملة من اللطائف التي يعكسها هذا الالتفات    « منها : أنه لما استُحضرت الذات العلية بجملة التسبيح وجملة الموصولية صار مقام الغيبة مقام مشاهدة، فناسب أن يغير الإضمار إلى ضمائر المشاهدة وهو مقام التكلم. ومنها: الإيماء إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام عند حلوله بالمسجد الأقصى قد انتقل من مقام الاستدلال على عالم الغيب إلى مقام مصيره في عالم المشاهدة. ومنها: التوطئة والتمهيد إلى محمل معاد الضمير في قوله :﴿ إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾، فيتبادر عود ذلك الضمير إلى غير من عاد إليه ضمير ( نريه ) لأن الشأن تناسق الضمائر، ولأن العود إلى الالتفات بالقرب ليس من الأحسن. فقوله :﴿ إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ الأظهرُ أن الضميرين عائدان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقاله بعض المفسرين، واستقرَبَه الطيبي، ولكن جمهرة المفسرين على أنه عائد إلى الله تعالى. ولعل احتماله للمعنيين مقصود.»[65] والأنسب في هذا- والله أعلم- أن يحمل عود الضمير على أقرب مذكور، فيكون الرسول عليه الصلاة والسلام هو المعني بهذا الوصف الذي يتناسب وحادثة الإسراء والمعراج أين رأى من آيات ربه الكبرى عجبا. وسمع خطاب ربه جلّ وعلا كفاحا. وهو ما نازعته فيه قريش. ولم تصدّقه فيما أخبر. لأنه خارق للعادة ومتصل بعالم الغيب. والمشركون لا ينازعون في كون الله تبارك وتعالى سميعا بصيرا لأنّ ذلك معلوم بالضرورة. إنّما ينكرون ما ذكر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج من تلك المشاهد العجيبة التي أكّدها المولى جلّ في علاه بقوله:﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾- سورة النجم:17. و ردّ عليهم إنكارهم لما رآه بالقول: ﴿ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ﴾- سورة النجم:12. وأظنّ أنّ هذا السياق كاف للتدليل على أنّ الرسول صلى الله عليه وسلّم هو المقصود بهاتين الصفتين.

03- الالتفات من المثنى إلى المفرد: يكثر العدول عن المثنى إلى المفرد فيما يخصّ العضوين المتلازمين كالأذنين والعينين واليدين والرجلين. وقد استغنوا بذكر أحدهما طلبا للتخفيف، وللعلم بتلازمهما في حدوث الفعل كالسمع والبصر ونحوهما. فمن ذلك قول الشاعر:       فَالعَيْنُ بَعْدَهُمْ كَأَنَّ حِدَاقَهَا *** سُمِلَتْ بِشَوْكٍ فَهيَ عُورٌ تَدْمَعُ[66]

أفرد العين وهو يقصد العينين. وكذا قول كعب بن زهير:

عَيْرَانَةٌ قُذِفَتْ بِالنَّحْضِ عَنْ عُرُضٍ *** مِرْفَقُهَا عَنْ بَنَاتِ الزُّورِ مَفْتُولُ[67]

المراد مرفقيها. أقام المفرد مقام الاثنين. ويكون ذلك طلبا للتخفيف والانسجام مع الوزن.

-04- الالتفات من التثنية إلى الجمع: قد يكون الحمل على المعنى مسوّغا للعدول عن التثنية نحو الجمع، مثلما ورد في قول الله جلّ جلاله:﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾- سورة الحجرات :09. القياس يقتضي أن يكون التعبير بلفظ ” اقتتلتا ” بدلا من ” اقتتلوا ” لكنه وقع العدول عن المثنى إلى الجمع ثمّ العودة إلى المثنى ثانية. « والعدول إلى ضمير الجمع لرعاية المعنى، فإنّ كل طائفة من الطائفتين جماعة. فقد روعي في الطائفتين معناهما أولاً ولفظهما ثانياً على عكس المشهور في الاستعمال. والنكتة في ذلك ما قيل : إنهم أولاً في حال القتال مختلطون فلذا جمع أولاً ضميرهم. وفي حال الصلح متميزون متفارقون فلذا ثني الضمير.»[68]

 قد يقتضي مبدأ الخفّة في التعبير العدول عن المثنى إلى الجمع كما هو الحال في قول الباري جلّ وعلا:﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾- سورة التحريم من الآية:04.  والأصل في هذا قلباكما إلا أنّه عبّر بصيغة الجمع « مستعملة في الاثنين طلباً لخفة اللفظ عند إضافته إلى ضمير المثنى كراهية اجتماع مثنيين، فإن صيغة التثنية ثقيلة لقلة دورانها في الكلام . فلما أُمن اللبس ساغ التعبير بصيغة الجمع عن التثنية. وهذا استعمال للعرب غير جار على القياس.  وذلك في كل اسم مثنى أضيف إلى اسم مثنى فإن المضاف يصير جمعاً كما في هذه الآية.»[69]

-05- الالتفات من الجمع إلى المفرد: قال سيبويه: « وليس بمستنكر في كلامهم أن يكون اللفظ واحدا والمعنى  جميع حتى قال بعضهم في الشعر من ذلك ما لا يستعمل في الكلام.  قال علقمة بن عبدة:

بِهَا جِيَفُ الحَسْرَى فَأَمَّا عِظَامُهَا *** فَبِيضٌ وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ. »[70]

الشاهد في هذا البيت أنّه وضع المفرد ” الجلد ” موضع الجمع ” الجلود ” لأنه اسم جنس يجوز للواحد منه أن ينوب عن الجميع. وقد تكتفي العرب بدلالة الوصف فتضع جنس الواحد موضع الجمع. وعليه يحمل قول الله سبحانه و تعالى:﴿ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ﴾- سورة النور من الآية:31. قال الزمخشري: « وضع الواحد موضع الجمع لأنه يفيد الجنس، ويبين ما بعده أن المراد به الجمع.»[71] ومنه قول الله جلّ جلاله:﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾- سورة الفرقان:74.الأصل في هذه الآية أن يقال:” واجعلنا أئمّة للمتقين ” إلاّ أنّه حدث تقديم وتأخير بين مفعولي جعل وعدول عن المفرد إلى الجمع ليحدث اتساق وانسجام مع فواصل الآي السابقة واللاحقة. وهي من الدلالة اللفظية التي هي جزء من التعبير كالمعنى تماما. والمتمثّلة في « الحفاظ على التنغيم الآخذ، والتوازن الصوتي الذي يشارك مشاركة فعّالة في تحريك القلوب وبعث خوافي الإحساس والشعور، ويدرك هذه الحقيقة من ذاق حلاوة الترتيل، وجمال التنغيم في هذا القول الحكيم.»[72]

وقد برّر الزمخشري هذا الالتفات بقوله: « أراد : أئمة ، فاكتفى بالواحد لدلالته على الجنس ولعدم اللبس ، كقوله تعالى :﴿ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ﴾ أو أرادوا اجعل كل واحد منا إماماً . أو أراد جمع آمّ ، كصائم وصيام . أو أرادوا اجعلنا إماماً واحداً لاتحادنا واتفاق كلمتنا.»[73]

06- الالتفات من المثنى إلى الجمع فالإفراد: قد يستدعي المقام التنويع في الخطاب والالتفات في الأسلوب الواحد بين صيغ الإفراد والتثنية والجمع مثلما جاء في قوله تعالى:﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾- سورة يونس :87. قال الزمخشري : « فإن قلت: كيف نوّع الخطاب فثنّى أوّلا، ثمّ جمع، ثم وحّد آخرا ؟ قلت: خوطب موسى وهارون- عليهما السلام- أن يتبوآ لقومهما بيوتا، ويختاراها للعبادة، وذلك مما يفوّض للأنبياء، ثمّ سيق الخطاب عامّا لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها، لأن ذلك واجب على الجمهور، ثم خصّ موسى -عليه السلام- بالبشارة التي هي الغرض، تعظيما لهما وللمبشر بها.»[74]

إذا لم يكن لأسلوب الالتفات من غاية غير تطرية نشاط السامع وإحداث المفاجأة التي تأخذ بمجامع القلوب حين يبلغ الخطاب ذروته في براعة الإخراج، فهو في تحقيق هذا المأرب « غرض معتمد، وسرّ على مثله تنعقد اليد.»[75] فضلا عن أنّه يتيح للأديب إفراغ أحاسيسه في قوالب فنية ذات أبعاد جمالية فنية. والذي يجب الجزم به والاطمئنان إليه هو أنّ أسلوب الالتفات ليس من قبيل التصرف اللغوي الذي يحدث اعتباطا، إنّما يرد لهدف معنوي مركوز في النفس. وصفوة القول في هذا الأمر « أنّ الدلالة المستخلصة من أسلوب الالتفات هي ثمرة التفاعل القائم بين الصيغة الأسلوبية والسياق المخصوص، وما دامت السياقات لاحدّ لها، فإنّ دلالات صوّر الالتفات تندّ عن الضبط.»[76]وتتلوّن بتلوّن المقاصد والغايات، وما يقتضيه السياق من تنويع في نسج التراكيب والعبارات.

  الهوامش:

[1] – المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، ابن الأثير، دار نهضة مصر للطبع والنشر، الفجالة، القاهرة. ط:02،ج: 02/170.

[2] – لسان العرب، محمد بن مكرم بن منظور، دار صادر، بيروت، ط:01، (د ت)، مادة لفت ،ج:13/214.

[3] – ينظر المثل السائر :02/167 وما بعدها.

[4] – الإيضاح في علوم البلاغة، الخطيب القزويني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:01، 1424هـ- 2003م،ج: 02/86

[5] – كتاب الصناعتين، أبو هلال العسكري، مطبعة محمود بك، الأستانة، ط:01، 1319ه ،ج:310-311.

[6] – مجاز القرآن، أبو عبيدة معمر بن المثنى،  دار غريب للطباعة، القاهرة، (د ت)،ج: 02/152.

[7]  – ينظر البرهان في وجوه البيان، ابن وهب، تحقيق: أحمد مطلوب، وخديجة الحديثي، مطبعة العاني، بغداد، 1967م. ص:152.

[8] – كتاب البديع، عبد الله بن المعتزّ، دار المسيرة، بيروت، ط:02، 1402هـ -1982م ص:58.

[9] – الطراز، العلوي، تحقيق: عبد الحميد هنداوي، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، ط:01،2002م،ج: 02/71.

[10] – التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور، محمد الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر، تونس1984 ،ج: 01/180.

[11] – ينظر الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله القرطبي،  دار عالم الكتب،  السعودية، 1423هـ -2003م،ج :14/327.

[12] – البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، دار الكتب العلمية، بيروت،ط:01، 1422هـ – 2001م.ج 03/134.

[13] – المصدر نفسه :02/462.

[14] – ينظر روح المعاني ، السيد محمود الألوسي ، دار إحياء التراث العربي، لبنان.:01/248-397، 02/63-149.

[15] – إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، أبو السعود ، تح: عبد القادر أحمد عطا، مطبعة السعادة، السعودية، ج: 01/25.

[16]– الطراز، العلوي: 02/71.

[17] – مفتاح العلوم، أبو يعقوب يوسف السكاكي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، (د ت)،ص:86.

[18] – المحتسب في تبيين وجوه شواذّ القراءات : ابن جني،  دار الكتب العلمية، لبنان، ط:01، 1998م ، ج:01/240.

[19] – الكشاف، جار الله محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي، دار المعرفة، بيروت، لبنان.ج:01/44.

[20] – المصدر نفسه، ج:01/10.

[21] – المصدر نفسه، ج:01/10.

[22] – مفتاح العلوم، السكاكي،ص: 87.

[23] – ديوان امرئ القيس، شرح : عبد الرحمن المصطاوي، دار المعرفة، بيروت، لبنان، ط:02، 1425هـ – 2004م ،ص:87.

[24] – مفتاح العلوم، السكاكي،ص :88.

[25] – المحتسب ، ابن جنّي: 02/129.

[26] – الكشاف، الزمخشري،ج:01/44.

[27] – المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، ابن الأثير،ج: 02/180.

[28] – الطراز، العلوي:02/71.

[29] – مفاتيح الغيب، الشهير بالتفسير الكبير، محمد بن عمر بن الحسين الرازي، دار إحياء التراث العربي،ج: 17/236.

[30] – إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، أبو السعود،ج:03/606.

[31] – البرهان في علوم القرآن، بدرالدين الزّركشي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1424هـ -2004م.ج:03/376

[32] – إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، أبو السعود،ج:01/463.

[33] – البحر المحيط، أبوحيان الأندلسي،ج: 02/442.

[34] – المصدر نفسه،ج: 02/171.

[35] – شرح ديوان عنترة بن شداد العبسي، الخطيب التبريزي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط:01، 1992م.ص:151.

[36] – المحتسب، ابن جني،ج : 02/277.

[37] – الكشاف، الزمخشري،ج: 03/65.

[38] – المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر،ابن الأثير،ج: 02/178.

[39] – التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور،ج: 11/135.

[40] – الكشاف، الزمخشري،ج:02/186.

[41] – المصدر نفسه،ج:03/205.

[42] – البحر المحيط، أبوحيان الأندلسي،ج:07/233.

[43] – ينظر الكشاف،الزمخشري،ج: 03/283.      وكذا الإكسير في علم التفسير للطوفي:180.

[44] – إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، أبو السعود،ج:02/648.

[45] – ديوان علقمة الفحل، تحقيق: لطفي الصقال، ودرية الخطيب، دار الكتاب العربي، حلب، ط:01، 1969م. ص:33.

[46] – عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح، بهاء الدين السبكي، دار الكتب العلمية، لبنان، ج:01/472-474.

[47] – التحرير والتنوير،الطاهر بن عاشور،ج: 15/21.

[48] – ينظر المصدر السابق،ج: 15/22.

[49] – البرهان في علوم القرآن، الزركشي: 03/368.

[50] – خصائص التراكيب، محمد أبو موسى، مكتبة وهبة، القاهرة، ط:07، 1427هـ -2006م،ص: 255-256.

[51] – روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، الألوسي،ج: 07/238.

[52] – البحر المحيط، أبوحيان،ج: 07/84-85.

[53] – المفضليات، المفضّل الضبي، تحقيق : أحمد محمد شاكر و عبد السلام هارون، ط:06، دار المعارف، القاهرة،ص:113.

[54] – الكشاف،الزمخشري،ج: 02/98.

[55] – معاني القرآن، أبو زكريّا يحي بن زياد الفرّاء، عالم الكتب، بيروت، ط:03، 1403هـ- 1983م،ج: 02/221.

[56] – الكشاف، الزمخشري،ج :01/80.

[57] – المصدر نفسه،ج: 03/38-39.

[58] – الفوائد المشوق إلى علوم القرآن وعلم البيان، ابن القيّم، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط:02،1408هـ -1988م،ص:54.

[59] – الكشاف، الزمخشري،ج:02/392.

[60] –  ينظر نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ، برهان الدين البقاعي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1995م:06/207.

[61] – الكشاف،الزمخشري،ج:02/221.

[62] – إرشاد العقل السليم، أبو السعود،ج:02/698.

[63] – الكشاف، الزمخشري،ج:01/304.

[64] – إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، أبو السعود،ج:03/423.

[65] – التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور،ج: 15/21-22.

[66] – البيت لأبي ذؤيب في شرح أشعار الهذليين، صنعة أبي سعيد الحسن السكري،  مكتبة دار العروبة، القاهرة، ص:01/09.

[67] – ديوان كعب بن زهير، تحقيق: درويش الجويدي، المكتبة العصرية، بيروت، ط:01، 1429هـ- 2008م.ص:128.

[68] – روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، الألوسي،ج:26/104-105.

[69] – التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور،ج: 28/356-357.

[70] – الكتاب، أبو بشر عمرو سيبويه، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان، ط:03،-1990م.ج:01/129-130.

[71] – الكشاف، الزمخشري،ج:03/72.

[72] – خصائص التراكيب، محمد أبو موسى، ص :314

[73] – الكشاف، الزمخشري،ج:03/105.

[74] – المصدر نفسه،ج :02/200.

[75]  – المحتسب، ابن جني،ج:01/240.

[76]  – البلاغة والأصول، محمد مشبال، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء،المغرب،2007م, ص:140.

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of