الملخص:
القصة القصيرة من أشهر فنون الأدب وأكثرها حداثة وتطورا وشيوعا في عصرنا الحاضر، وقد أصبحت تحتل مكانة بارزة لاهتمام أصحابها بالإنسان ومشاكله وحياته وواقعه، فهي تستمد حياتها منه ومن المجتمع الذي يعيش فيه الأديب، وتعالج القضايا كما تتطلّع إلى آفاق المستقبل. وفن القصة القصيرة نوع من الأجناس الأدبية يقوم على اختيار جانب من التراث أو الحياة أو من رواية ما، يلحظ المؤلف حادثة بعينها ويراعي في عرضها الناحية الفنية المتناغمة، وهي أقصر من الرواية، وأقل تأزماً وتفصيلاً، وجلبة أشخاص .وهي من الفنون الجديدة التي نشأت في العصر الحديث ولم يختبر العرب هذا النوع من القصة في القرون السابقة وليس لها جذور في التراث القصصي، وفي الواقع تم استعارتها من الأدب الغربي بعد اتصال العرب بالغرب. وتطورت القصة المصرية القصيرة في أعقاب الحرب العالمية الأولى وظهرت مع ظهور العديد من الصراعات في العالم والثورة اللاحقة في عام 1919 بعد فترة من الترجمات الفرنسية والاقتباسات الصريحة للقصص المصرية.
نشأ فن القصة القصيرة في مصر قبيل ثورة 1919 بفترة وجيزة حيث قدم لنا محمد تيمور أول محاولة في هذا المضمارعام 1917 بعنوان ( في القطار )، ثم توالت بعد ذلك كتابة القصة القصيرة على يد الكتاب الشباب الذين كانوا ينادون بالتجديد والثورة على القديم، ولكنها كانت محاولات تتسم بالضعف وعدم استكمال الخصائص الأدبية والسمات الفنية للقصة القصيرة.
ولم يكتمل فن القصة القصيرة في مصر ولم تتحدد ملامحه ولم تتضح سماته إلا بعد ثورة عام 1919 حيث نمت الأعمال وكثر كتاب القصة القصيرة في مصر, ومن بين هؤلاء الكتاب عيسى عبيد وأخوه شحاته عبيد ومحمود تيمور ومحمود طاهر لاشين وأحمد خيرت سعيد ويحيى حقي. تنقسم هذه الدراسة إلى مبحثين رئيسيين، المبحث الأول يتحدث عن مفهوم القصة لغة و اصطلاحا وتعريف القصة وأنواعها وعناصرها، أما المبحث الثاني فهو يتناول تطور فن القصة القصيرة الحديثة فى مصر واتجاهات أدباءها والأعمال القصصية المهمة .
الكلمات المفتاحية: القصة، القصة القصيرة، المفهوم، مصر
المقدمة:
القصة هي فن أدبي مهم معروف للناس في جميع أنحاء العالم لفترة طويلة، فهي وسيلة للناس للتعرف على الأخبار والحوادث والأساطير والتاريخ وغيرها من المعلومات المهمة عن الأشخاص أو الأحداث التي ليسوا على دراية بها وفهمها، وهي واحدة من أكثر أنواع الفنون والأدب شعبية، حيث يروي الإنسان أحلامه وآلامه وتطلعاته، كما يقول الأستاذ حلمي محمد القاعود “يبدو أن فن القصة من الفنون التي لازمت الإنسان منذ القدم، فهو يحن إلى معرفة الأخبار والحكايات والحوادث والأساطير والتاريخ، وكل ما ينبئ عن مجهول يسعى إلى التعرف على كنهه ومحتواه، ويتشوق إلى فهم نتيجته ومغزاه”. [1]
القصة القصيرة أداة قوية لتوجيه الناس وتثقيفهم ومساعدتهم على حل النزاعات وتسلية القراء، ولهذا قالوا عنها إن القصة بلا شك هي أستاذة الكلام المنثور في الأدب العربي الحديث، وقد استخدمها العديد من الكتاب كنموذج للتعبير عن مشاعرهم وعواطفهم وفي مقدمتهم محمد تيمور، محمود تيمور، توفيق حكيم، إبراهيم المازنى، نجيب محفوظ، يحي حقي، يوسف إدريس، يوسف الشاروني وغيرهم كثيرون.
القصة من حيث اللغة:
إن القصة هى مشتقة من مادة ق،ص،ص وهو اسم القص أصله القطع ، كما يقول عبد العزيز عبد المجيد فى هذا الصدد:
“Qissa is a noun from the verb qaşşa which belongs to a group of cognate and onomatopoetic verbs whose primary meaning is “to cut”. Examples of these are qadda, qata’a, qaṭama, qaşama, etc [2].” .
جاء في لسان العرب: القص: فعل القاصّ إذا قص القصص . يقال: في رأسه قصة يعني الجملة من الكلام، ونحوه قوله تعالى: “نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ” أي نبين لك أحسن البيان.[3]
يقصد بالقص فى اللغة العربية كما ورد في مختلف المعاجم قص الأثر أى تتبع مساره ورصد حركة أصحابه، والتقاط بعض أخبارهم، ومن هذا المعنى قوله تعالى في سورة الكهف: “قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا”.[4]
وجاء فى لسان العرب أيضا : القاص الذي يأتي بالقصة على وجهها كأنه يتتبع معانيها وألفاظها، ويقال قصصت الشيء إذا تتبعت أثره شيئاً بعد شيء، ومنه قوله تعالى: “وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ”.[5]
هذا يعني أن القصص يدل على تتبع الأثر بنمطيه الحسي والمعنوي، فإن قصّ الشيء بتتبع أثره شيئاً بعد شيء مصداق واضح على الدلالة الحسية، كما أن تتبع القصة بمعانيها وألفاظها بسرد القاص لها، مصداق واضح على الدلالة المعنوية.
القصة من حيث الفن:
عرّف النقاد والكتاب القصة الفنية الحديثة بطرق مختلفة، وهناك من يعرّف القصة بشكل عام فيقول:”هي حكاية تروى نثراً وجها من وجوه الحركة والنشاط في حياة الإنسان”. أو “هي حكاية تتسلسل أحداثها في تتابع واطراد، وهذا التتابع يعني تطوراً لأحداث يتنظمها الزمن”. أو “هي عبارة عن سرد أحداث مرتبة في تتابع زمني مع وجود الحبكة، أي سلسلة الحوادث التي يجري فيها التأكيد على الأسباب والنتائج”.[6]
يرى الكاتب الكبير يوسف نجم أن “القصة مجموعة من الأحداث يرويها الكاتب، وهي تتناول حادثة أو عدة حوادث، تتعلق بشخصيات إنسانية مختلفة، تتباين أساليب عيشها وتصرفها في الحياة، على غرار ما تتباين حياة الناس على وجه الأرض. ويكون نصيبها في القصة متفاوتا من حيث التأثر والتأثير. وتختلف عن الأقصوصة في أنها تصور فترة كاملة من حياة خاصة أو مجموعة من الحيوات، بينما الأقصوصة تتناول قطاعًا أو شريحة أو موقفا من الحياة. ويحاول كاتب القصة عرض سلسلة من الأحداث الهامة، وفقًا للتدرج التاريخي أو النسق المنطقي، يسعى كاتب الأقصوصة الى إبراز صورة متألفة واضحة المعالم بينة القسمات لقطاع من الحياة بحيث تؤدي إلى إبراز فكرة معينة. ولا تعتمد الحياة الداخلية التى ينتظمها إطارها، على الأحداث و الشخصيات ، و تفاعلها بعضها مع البعض الآخر، بل على ما ينتظم بين الشخصيات من علاقات، وعلى مدى تأثرها بالبيئة التى تكشفها”.[7]
هكذا يتجلى لنا بهذه الأقوال المختلفة والنظريات المتنوعة والتعريفات الشتي للأدباء والكتاب أن القصة الفنية هي انعكاس للعواطف البشرية والمجتمعات الواقعية والمعتقدات الدينية والسياسية والفلسفية وهى حكاية حوادث وأعمال، وتصوير شخصيات بأسلوب مشوّق ينتهي إلى غاية مرسومة، وغرض مقصود.
أنواع القصة:
وكان النقاد والكتاب قد اختلفوا في تحديد مفهوم القصة بشكل عام، وراح بعضم يضع لها معياراً من حيث الطول والقصر أو زمن القراءة أو المفردات التي تتكون منها .
وأما من حيث الشكل والمظهر فأشهر أنواع القصة أربعة :
الرواية Novel :
القصة : Nouvelle
الحكاية: Narrative
القصة القصيرة أو الأقصوصة: tale
مفهوم القصة القصيرة:
القصة القصيرة ليست مجرد قصة تقع في صفحات قلائل بل هي لون من ألوان الأدب الحديث ظهر في أواخر القرن التاسع عشر وله خصائص ومميزات شكلية معينة[8] وقال الدكتور محمد زغلول سلام فى كتابه المسمى بـ”دراسات فى القصة العربية الحديثة” أنه “يقسمون القصة إلى أنواع: منها القصة القصيرة وتسمى بالفرنسية Conte ويعالج فيها الكاتب جانبا أو قطاعا من الحياة، ويقتصر فيها على حادثة أو بضع حوادث يتألف منها موضوع مستقل بشخصياته ومقوماته، على أن الموضوع مع قصره ينبغى أن يكون تاما ناضجا من وجهة التحليل والمعالجة، وهنا تتجلى براعة الكاتب، فالمجال أمامه ضيق محدود يتطلب التركيز”.[9] يعنى فن القصة القصيرة نوع من النثر الفني القصصى أو الحكائي الذي يقرأ بشكل مناسب فى جلسة واحدة ومن حيث الطول فإن هذا النوع الأدبي يقع فيما بين القصة القصيرة جداً التى لا تقل كلماتها من 2000 كلمة وبين النوفليتة أو القصة القصيرة الطويلة التي يصل عدد كلماتها إلى 15 ألف كلمة.[10]
أما القصة القصيرة فقد بدأ الاهتمام بها في القرن التاسع عشر حيث أصبحت نوعا أدبيا متميزا ذا خصائص محددة بارزة المعالم، وفيما يلي بعض هذه الخصائص المهمة:
1- أن تعالج القصة القصيرة موضوعا واحدا فقط
2ـ أن تقتصر على حادثة واحدة أو حلقة محددة أو وضع معين.
3- أن تلتزم بطول محدد (وإن اختلفت الآراء حول مقدار هذا الطول)[11]
عناصر القصّة القصيرة:
القصّة القصيرة تتكوّن من عناصر مهمّة وهذه العناصر هي: الشخصيّات، الحوادث، السرد، البناء، الزمان، المكان، الفكرة. ولا نذكر تعريف هذه العناصر في هذا المقال خوفا من الطول.
تطور القصة القصيرة فى مصر:
وقد عرفت القصة القصيرة كلون أدبى حديث فى أواخر القرن التاسع عشر، يعنى بدأ تاريخ القصة القصيرة أو الأقصوصة كفن مستقل خاص بظهور الكاتب الروسي نيكولاي غوغول الذي عاش من سنة 1809م إلى 1852م ، فهو الذي يعتبره الغربيون أول من كتب هذا النوع الجديد من الأدب ؛ وإليه يعود الفضل في خلق القصة من وقائع الحياة اليومية العادية، ومن سلوك الشعب الساذج المبني على الخرافات والأوهام أحياناً، ومما يجري من الحوادث التافهة في المصنع والمزرعة والسوق والمنزل أدبا تصويرياً حياً يشف عن البواعث النفسية والغرائز والوجدان التي تضبط السلوك، وذلك في أسلوب قصصي، وفي قالب القصة القصيرة. ومن غريب المصادفات أنه بينما كان غوغول يكتب أقاصيصه هذه كان الكاتب الأميركي إدغار ألن بو المعاصر له (1809 – 1849م) قد اهتدى إلى هذا الفن نفسه. وصار ينشر أقاصيصه بالإنكليزية تتوافر فيها العناصر الفنية الأدبية التي أشرنا إليها، دون أن يكون بين الكاتبين صلة أدبية أو اتفاق على إنشاء هذا الفن، وكان بو ناقداً أدبياً كذلك ، فنشر عدداً من المقالات في أدب الأقصوصة وما يجب أن يتوافر فيها ، ونقد ما ظهر في أيامه من أقاصيص غير محكمة الصياغة، ومن روسية وأميركية انتقل فن إنشاء الأقصوصة إلى فرنسا، فظهر كتاب برزوا في كتابتها من أمثال موباسان وفلوبير، ومن فرنسا وأمريكا انتقل الفن إلى إنكلترة فظهر كيبلنغ وآرثر کونان دويل صاحب مخاطرات شارلوك هولمز وغيرهم. وقد وجد كتاب الأقصوصة منبراً ينشرون منه فنهم في المجلات والصحف وأخيراً الإذاعة. فاحتلت الأقصوصة مكاناً فيها لا يتيسر عادة للقصة الطويلة أي الرواية. وبذلك صارت الأقصوصة فنا أدبياً في متناول كل قارىء للصحف. ووجدت من القراء إقبالاً عظيماً ![12]
أما تطور القصة في الأدب العربي بشكل عام، فتحديد زمن وجودها بشكل مجال جدل واختلاف فمن المرجح أن وجودها سبق المقامات التي عادة ما تعتبر النماذج الأولى للقصة. ولا شك أن القصة بمفهومها العام قد نشأت مع الإنسان العربي في مجتمعه الأول، حيث ظهرت في الأدب الجاهلي وبرزت بشكل أوضح فى القرآن الكريم وحديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وقد تم نقل كثير من القصص فيالعصر العباسي كثير من قصص الأمم الأجنبية، ومن أشهرها كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة. ثم يجئ بديع الزمان يقدم لنا مقاماته. وأما ظهور القصة كنوع أدبى متميز يلتزم بمبادىء وتقنيات القصية القصيرة التي ظهرت في الغرب فلم يبدأ بشكل واضح إلا مع بداية القرن العشرين. وقد عرفت مصر فن القصة القصيرة قبل أن تعرفه البلدان العربية الأخرى ودخلت القصة القصيرة مرحلة جديدة على يد محمد تيمور الذي أحس المقدرة على خلق هذا الأدب.
ولقد كانت هناك أسباب حضارية هيأت البيئة العربية إلى بعث هذا الشكل الأدبي وتطويره وشتل بعض قوالبه فيها، ومجمل هذه الأسباب انتشار التعليم مما خلق جمهوراً قارئًا وعدداً من الكتاب، ثم ظهور الصحافة التي احتاجت إلى القصة القصيرة كما احتاجت القصة القصيرة إليها، ثم سفور المرأة الذى جعل التقاء الرجل بالمرأة ممكنا في الحياة الاجتماعية مما خلق مواقف عاطفية كانت محوراً من أهم المحاور القصصية، والدافع وراء كتابتها وقراءتها معا، وأهم من ذلك كله نمو الطبقة الوسطى من الناحيتين العددية والاقتصادية بحيث أصبحت قادرة على التعلم من ناحية وعلى شراء وقراءة الصحيفة والمجلة من ناحية أخرى، فخرج منها جمهور القراء كما خرج كتاب القصة يتناولون أساسا قضايا طبقتهم مما ضمن لكتاباتهم الرواج والتجاوب بين أفراد الطبقة نفسها التي منها خرجوا ومنها استلهموا ما كتبوا وإليها وجهوا أقلامهم.
وعن طريق الصحافة وحدها، استطاعت القصة أن تتسرب قليلا قليلا فيما كان يكتبه المصلحون الاجتماعيون بصفة خاصة، في أواخر القرن الماضى وأوائل هذا القرن، من مقالات إصلاحية اجتماعية، ينقدون فيها المجتمع المصرى، وسياسة الحكام الذين كانوا يسوسون البلاد آنذاك ويقارنون بين التقاليد الموروثة : تقاليد المجتمع الشرقي الاسلامي، وتقاليد المجتمع الغربي التي كان يحاول بعض المصريين ممن اتصلوا بأوربا من قريب أو من بعيد محاكاتها وتمثلها، فإن الصحافة الشعبية منذ ظهرت طلائعها في مصر، وهى تكاد تكون منبرا عاما لرجال الإصلاح من أمثال محمد عبده، وعبد الله النديم، وابراهيم المويلحي، ومحمد المويلحي، والسيد على يوسف وأحمد لطفى السيد، ومصطفى كامل، وغيرهم، وقد سعى كل منهم إلى أن يضع يده على الداء أو على طائفة الأواء التي كان يشكوا منها المجتمع المصرى آنذاك، حتى أصبح الإصلاح حديث العام والخاص كما نرى فى ” التنكيت والتبكيت ” لعبد الله النديم 1845م – 1896م ، و علم الدين ” لعلى مبارك سنة 1883م ، و” حديث عیسی بن هشام ” لمحمد المويلحي سنة 1898م، و ” شيطان بنتاؤر ” لأحمد شوقي سنة1901م، و ” ليالي سطيح ” لحافظ إبراهيم سنة ١٩٠٦م ، و” وادى الهموم ” لمحمد لطفى جمعة سنة 1905م ، ومجموعة مصطفى لطفي المنفلوطي كـ”النظرات” و”العبرات” وغيرها.[13]
في هذا الجو المهيأ اتخذ التأثر بالقصة القصيرة الغربية اتجاهين : اتجاه حاول أن يوفق أو يجمع بين الأشكال الغربية الحديثة والشكل القصصي كما عرفه التراث العربي، أما التيار الآخر فلم يلتفت كثيراً إلى هذا التراث، ولم يدرس كثير من أصحابه الأدب العربي، وحتى الذين ألموا بهذا الأدب كان أكثرهم لا علم لهم بالقصة العربية لإهمالها في الدراسة التقليدية. ويمثل التيار الأول المويلحي والمنفلوطي، وهما يتفقان في الشكل والموضوع من ناحية ويختلفان فيهما أيضا من ناحية أخرى. فكلاهما معتز بالشكل اللغوى والأسلوب العربي، وكلاهما متأثر بدعوة الإصلاح التى أثارها جمال الدين الأفغاني وحمل رسالته تلاميذه من بعده ، وهما يختلفان بعد ذلك . المويلحي تأخذ كتابته شكل المقامة، ومن هنا يمكن أن نطلق اسم القصة/ المقامة على كتابه “حدیث عیسی بن هشام”، أما المنفلوطى فيسترسل متحررا من قيود السجع، وإن كانت قصصه أقرب إلى المقال، ومن هنا يمكن أن نطلق اسم القصة المقال على ما جاء في كتابيه : العبرات ، والنظرات .[14] ولقد بدأ المنفلوطي حياته القصصية بإعادة صياغة قصص مترجمة عن الفرنسية ، فقد مصر (الفضيلة) أو (بول وفرجينى) لبرناردان ده سان بيير، و( ماجدولين ) أو ( تحت ظلال الزيزفون) لألفونس کار، و(الشاعر) أو (سيرانو دى برجراك) لرومان رولان، وأعاد كتابة مسرحية فرانسوا كوبيه المسماة (فى سبيل التاج) فصورها قصة ومصر كذلك ( غادة الكامليا ) لدوماس، وقدم فى العبرات قصص الشهداء – الذكرى – الجزاء – الضحية ، وفى النظرات ، قدم الكأس الأولى – الشهيدتان – قتيلة الجوع.[15]
أما التيار الآخر المتأثر بالغرب فقد انتظم فيه صف طويل يبدأ بمحمد تيمور وأخيه محمود تيمور والأخوين عيسى، وشحاته عبيد، ثم محمود طاهر لاشين، وكان تأثر هؤلاء بالآداب الأجنبية مباشرة يقرءونها في لغاتها. ومن هنا فإن الترجمة لم يكن لها ذلك التأثير الذي نجده اليوم فى تطوير القصة القصيرة المصرية، أما تأثير الترجمة فقد جاء بعد ذلك حين نشأ، من ناحية، كتاب قصصيون لا يعرفون اللغات الأجنبية، أو يعرفونها ولا يقرءونها لأنهم يستسهلون الترجمة باللغة العربية، وحين وجدت، من ناحية أخرى، ترجمات قصصية كثيرة زحمت سوق المكتبات. المستشرق الروسي “كراتشوكوفسكي”، والألماني “بروكلمان”، والفرنسي “هنري بيرس”، يرون أن قصة في القطار هي أول قصة بهذا المعنى الفنى، ويؤيد هذا الرأى المرحوم عباس خضر في كتابه «القصة القصيرة فى مصر».[16]
و شغف بكتابة القصة القصيرة كتاب لامعون في فنون أخرى مثل إبراهيم عبدالقادر المازني وتوفيق الحكيم كما ظهرت مجموعات قصصية تشتمل على مجموعات من القصص مثل مجموعة إحسان هانم (لعيسى عبيد) التي ظهرت عام ١٩٢١ كما ظهرت مجموعة (ثريا) لـ(عيسى عبيد) عام 1922 تلك المجموعة التي تضم قصة قصيرة واحدة بعنوان ( حديقة الأسماك ) بالاضافة الى رواية وتمثيليتين. كما ظهرت مجموعة (درس مؤلم) لـ ( شحاته عبيد) عام ۱۹۲۲ وكذلك ظهرت تسع مجموعات لمحمود تيمور هي :
(الشيخ جمعة) وقد ظهرت سنة 1925م، (عم متولي) وظهرت عام 1927م، (الشيخ سيد العبيط) وقد ظهرت عام 1928م، (الحاج شلبي) وظهرت عام 1928م، (الاطلال) وظهرت سنة 1934م، (ابو علي) وظهرت عام 1934م، (الشيخ عنا الله) وظهرت سنة 1936م، (قلب غانية) وظهرت عام 1937م، (فرعون الصغير) وظهرت سنة 1937م ..كما ظهرت مجموعة لمحمود تيمور أيضا بعنوان الأطلال سنة 1928م تضم قصة متوسطة بعنوان (المحكوم عليه بالإعدام) كما ظهرت في تلك الفترة مجموعتان قصصيتان لمحمود ظاهر لاشين، المجموعة الأولى تحت عنوان (سخرية الناي) وقد ظهرت أواخر عام 1926م، والمجموعة الثانية بعنوان (يحكى أن) وقد ظهرت سنة 1929م كما ظهرت ثلاث مجموعات للمازني في هذه الفترة وهي مجموعة ضمنها كتابه (صندوق الدنيا) وقد ظهر في عام 1929 ومجموعة ثانية ضمنها كتابه (خيوط العنكبوت) وظهر في عام 1935م، و مجموعة ثالثة أصدرها بعنوان (في الطريق) وظهرت سنة 1937م. ولتوفيق الحكيم هذه الفترة مجموعة أصدرها بعنوان (عهد الشيطان) وظهرت في عام 1938 وإلى جانب هذه المجموعات القصصية ظهرت قصص عديدة في الصحف والمجلات ولم تجمع في مجموعات، فقد اتسمت هذه الفترة باهتمام الصحف واحتفاء المجلات بفن القصة حتى أن بعض هذه الصحف كانت تمنح القصص المكانة الاولى مثل مجلة (الفجر) التي ظهرت عام 1925 واستمرت الى عام 1937 وكان يصدرها أحمد خيري سعيد بمساعدة اصدقائه أنصار المدرسة الحديثة مثل محمود طاهر لاشين وحسين فوزي .[17]
وحول هذه الأعوام كان آخرون كثيرون يكتبون القصة، هوايـة وتفضلا، دون أن يلتزموا بقواعد القصة وأصولها، ينشرونها في الصحف والمجلات دون أن يجمعها كتاب، كما فعل أحمد خيرى سعيد وآخرون. وبعضهم جربوا كتابة القصة، وكتبوا فيها قليلا، ثم انصرفوا عنها إلى غيرها حين وجدوا أنفسهم يتفوقون في مجالات أخرى، ومن هؤلاء سلامة موسى، وأحمد أمين، وإبراهيم المصرى، وإسماعيل مظهر، وحسين فوزى، ومحمد شوكت التونى وآخرون أقل أهمية. ومنهم من كتب عدداً من القصص، ودخل التاريخ من باب آخر كتوفيق الحكيم، أو كتب فيها كثيراً ولكنه كان أقرب إلى المقالة القصصية منه إلى القصة القصيرة، كفن له أصول محددة، مثل إبراهيم المازني.
وحين نتجاوز هذا الجيل من الرواد يتدافع الكتاب على القصة القصيرة، وتخصها كل مجلة أسبوعية، أو صحيفة يومية، بمكان حتى ولو كانت تتحرك في مجال آخر غير الأدب، ويبلغ الاهتمام قمته حين يخصها أحمد حسن الزيات صاحب مجلة الرسالة بمجلة مستقلة حملت اسم (الرواية)، تعنى بشئون القصة والرواية فحسب، إبداعاً وترجمة ونقداً، وصدرت عام 1937م، وظلت تصدر على امتداد أعوام ثلاثة، ثم توقفت مع قيام الحرب العالمية الثانيـة عـام 1939م، وعادت قضايا القصة إلى مكانها من مجلة الرسالة وبين هؤلاء الكثيرين من بدأوا عطاءهم فى تلك الأيام، وداوموا عليه في سخاء، وأصبحوا من أعلام القصة المصرية مثل: يحى حقی، وسعيد عبده و محمود كامل.
ومع الحرب العالمية الثانية خفت صوت الأدب بعامة، عزلت مصر عن العالم، وشغل الناس بالحرب، واستفحلت أزمة الورق وصعب النشر، وقل حجم الصحف، وتمضى سنوات الحرب بطيئة وثقيلة، وفي الظلام المادى والفكري ومع قسوة الحياة، وارتفاع الأسعار، وندرة الكثير من الطعام واللباس، وصرامة الرقابة، وانتشار ألوان الثراء الفاحش والسلوك الفاجر، والسوق السوداء، بدأ الناس يتململون في أعماقهم، ويتشوفون إلى فجر قريب، وما إن وضعت الحرب أوزارها حتى تفجر كل شيء، في مجال السياسة، وفي دنيا الأدب أيضاً، وكان الجديد الذى شهدته الساحة الثقافية ربط الأدب بالحياة، وربط الاستقلال السياسي بالعدل الاجتماعي، ووضع المواهب في تصوير الواقع السيىء، والدعوة إلى إصلاحه، والدفاع عن الطبقات الكادحة في الريف وفى المصانع، ودخل اليساريون المعمعة علناً لأول مرة مبدعين وناقدين، يمثلون اتجاهاً مستقلا، ودفعوا بغيرهم لأن يلقي نظرة على قاع الحياة في مصر تقليداً لهم، أو قطعاً للطريق عليهم، وفى هذه الأيام سوف تلمع أقلام جديدة، كنجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس، ومحمود البدوى، ويوسف جوهر، وأمين يوسف غراب، ومحمد عبد الحليم عبد الله وآخرون كثيرون وكان تدافع الأقلام عنيفاً وصاخباً، أثرى حياتنا بكل ألوان القصص، رمزية وواقعية ورومانسية، وأطل القصاص على كل جوانب الحياة في مصر، وصوروا مختلف طبقاتها، الريف والمدينة، الفلاحین والعمال. الطبقات الدنيا والوسطى والعالية، ولا نكاد نتجاوز هذا العقد، حتى نجد أولئكم الذي تنسمـوا أجواء سابقة، وتكونوا ثقافيا على وهج الصراع فيه فكان لنا يوسف إدريس، ونعمان عاشور، و لطفى الخولي، ويوسف الشاروني، ولو أن بعضهم ترك القصة إلى المسرح، أو إلى السياسة، أو توقف عن الإبداع لسبب أجهله. [18]
كان ثلاثة اتجاهات للقصة القصيرة فى مصر۔1: الاتجاه الرومانسي سيطر الاتجاه الرومانسي على وجدان كتاب القصة القصيرة في ظل رأس المال المحلى، وظهور الطبقة البرجوازية طوال الثلاثينات. اكتفى كتاب هذا الاتجاه بالتعبير عن الطبقة البرجوازية وتمجيدها وتمثل ذلك في قصص “محمود كامل”، و”ابراهيم ناجی” وغيرهما 2: اتجاه التحليل النفسي: اتجهت القصة القصيرة عند بعض الكتاب نحو التحليل النفسى وهؤلاء الكتاب يستندون إلى الثقافة المعاصرة وإلى دراسة علم النفس لمعرفة خبايا النفس الإنسانية ومن أنصار هذا الاتجاه “محمود عزت موسى ” و “ابراهيم المصرى ” وغيرهما 3: الاتجاه الواقعي وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، أخذت القصة القصيرة تتجه نحو الواقع وانتقلت حركة المجتمع إلى المرحلة الجديدة، والاتجاه الواقعى قد بلغ غايته في القصة القصيرة في منتصفات الستينات، وإن بعض كتاب هذا الاتجاه أظهروا الانحياز للريف وفلاحيه في قصصهم مثل “سعد عكاوى” و “أحمد رشیدی صالح و غيرهما [19]
الخاتمة:
لقد وصلت الباحثة إلى أن القصة القصيرة الحديثة ظهرت في الأدب العربي في العقد الثاني من القرن العشرين، وذلك حينما حصل احتكاك العرب بالغرب، وأثرت وتأثرت كل منهما بالٱخر. ظهرت أولا في شكل الترجمة ومن ثم مصرت حتى وصلت إلى النضج، وأول من قام بكتابة القصة القصيرة الحديثة بمعنى الكلمة هو محمد تيمور في قصته “في القطار”. واستقلت القصة القصيرة الحديثة في الأدب العربي من الٱداب الأخرى، لها حدودها وعناصرها. ثم ظهر كثير من الأدباء في مصر خاصة وفي البلدان العربية الأخرى عامة الذين ساهموا مساهمة حية في تطوير هذا الفن، واستخدموا هذا الفن في جميع مشاكل المجتمع والإنسان، ولقد لعبت المجلات والصحف والإذاعة دورا ملموسا في تطوير هذا الفن.
هوامش المقال:
[1] قاعود، محمد حلمی، النقد الأدبي الحديث ، ط1، دار النشر الدولي للنشر والتوزيع ، الریاض ،2006، ص322.
[2] Abdul Maguied, Abdul Aziz,The Modern Arabic Short Story, Its Emergenc Development And Form , Dar-ul- Ma’marif, Cairo, p11.
[3] ابن منظور، محمد بن مكرم ، لسان العرب ، الجزء السابع، دار صادر، بیروت، 1955م،ص 388
[4] قنديل،فواد، فن كتابة القصة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة ، 2002، ص26
[5] المرجع السابق ، ص388
[6] المرجع السابق ، ص 324
[7] نجم،محمد يوسف، فن القصة، دار بيروت، بيروت، 1956، ص9
[8] رشدى، رشاد، فن القصة القصيرة، ط2 ، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1964، ص1 [9] سلام، محمد زغلول، دراسات فى القصة العربيةالحديثة،ط1، منشأة المعارف ، إسكندرية ، ص 5
[10] شاكر، عبد الحمید، سيكولوجية الإبداع الفنى فى القصة القصيرة: العملية الإبداعية في القصة القصيرة، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2001، ص25
[11] ثورنلى، ولسن، كتابة القصة القصيرة، ترجمة. الجهينى، مانع حماد، ط1، النادي الأدبي الثقافي بجدة، جدة، 1992، ص 6
[12] ابو سعد، احمد، فن القصة، دار الشرق الجديد، بيروت، 1959، ص33ص33
[13] النساج، سيد حامد، تطور فن القصة القصيرة في مصر،ط 2، دار المعارف،القاهرة،1982، ص،53 و سواها
[14] الشاروني، يوسف، القصة تطورا و تمردا،ط2، مركز الحضارة العربية ، القاهرة، 2001، ص71
[15] المرجع السابق ، ص72
[16] المرجع السابق ، ص 74
[17] ابراهيم ، مجدى محمد شمس الدين ، نشاة القصة القصيرة فى مصر من خلال محاولات عيسى عبيد و شحاتة عبيد، دار الشؤون الثقافية العامة، العراق، ص8
[18] مكى، الطاهر احمد ، القصة القصيرة دراسة و مختارات،ط8، دارالمعارف ، القاهرة، 1999، ص 123
[19] خضر ، عباس، القصة القصيرة فى مصر : منذ نشأتها حتى سنة 1930،الدار القومية للطباعة والنشر،1966، ص 77-78
*قسم اللغة العربية وآدابها، الجامعة الإسلامية عليكره، الهند
Leave a Reply