+91 98 999 407 04
aqlamalhind@gmail.com

القائمة‎

بين البلاغة وتحليل الخطاب – النصّ الجزائري للبشير الإبراهيمي أنموذجا
الدكتورة بختة تاحي

الملخص:

          كانت ولازالت البلاغة تشغل مكانة كبيرة، في مختلف حقول العلم والمعرفة الفلسفية والنقدية والأدبية منذ العصور الأولى التي شهدت هذا العلم، ومرورا بالدراسات العربية في عصورها الذهبية، وصولا إلى الدراسات الأدبية الحديثة، حيث كانت للبلاغة علاقة وطيدة بالنصّ الأدبي، في مختلف أشكاله الفنية والأدبية والتحليلية.

          حيث ارتبطت هي الأخرى بالخطاب، فهي تعتبر فن الخطاب الجيد، ونظام من القواعد التي تقوم مهمتها على التوجّه في انتاج النصّ الأدبي، من حيث الإقناع وسهولة التلقي.

          بما أن البلاغة القديمة تعدّ جوهر الدراسات النصيّة فإنها تطرح نفسها كبديل في تحليل الخطاب، وفق المعطيات التي أقرّها المنظّرون القدماء والمحدثون، وسنتبيّن ذلك من خلال النصّ الأدبي الجزائري، فما المقصود ببلاغة الخطاب؟ وما هي علاقة البلاغة بتحليل الخطاب؟ وكيف تجلّى ذلك في النصّ الأدبي الجزائري؟.

الكلمات المفتاحية:

البلاغة- النقدية- الأدبية- الحديثة- النص الأدبي- الخطاب- النص الأدبي الجزائري.

تمهيد:

          البلاغة هي فن الخطاب، فالخطباء يحتاجون في إلقائهم لخطاباتهم إلى أسلوب فصيح وبليغ، قصد التأثير في الناس ودعوتهم إلى رفع راية الحق، والتحلي بالأخلاق الرفيعة والخصال النبيلة، وكذلك تكثيف الجهود وشحذ الهمم، لتطوير كلّ ما هو نافع وفيه صلاح للعباد والبلاد، فالمجتمع هو دعامة الحياة المستقيمة والهادفة.

مقدمة:

          ظهرت علوم البلاغة عند اليونان والرومانيين القدامى كوسائل لإقناع السامع بما يريده المتكلم ولذلك اقترنت عندهم بالخطابة، التي تفرعت عنهم إلى خطابة تداولية همها اقناع السامع براي أو نحوه، وخطابة قضائية تستخدم أمام القضاء، وخطابة بيانية تعنى بالتقريض والتقريع، وكذلك البلاغة عند العرب وثيقة الصلة بالأدب، ثم ما لبثت شيئا فشيئا أن أصبحت علما مستقلا واضح المعالم، فتشعبت إلى علومها الثلاثة: علم المعاني * ويعرف به ما يلحق باللفظ من أحوال حتى يكون مطابقا لمقتضى الحال، وعلم البيان * وتعرف به الطرق المختلفة لإيراد المعنى الواحد، وعلم البديع* وتعرف به وجوه تحسين الكلام.

          البلاغة كذلك، وسيلة عقلانية للإقناع الفكري، فهي لا تفصل بين العقل والذوق ولا بين الفكرة والكلمة ولا بين المضمون والشكل، فالكلام كائن حي روحه المعنى وجسمه اللفظ، فإذا فصلنا بينهما أصبحت الروح نفس لا تتمثل والجسم جامد  لا يحس، والبلاغة تعنى بالجوانب النفسية لتغذيتها وتهذيبها، فليس المراد من الكلام تغذية الفكر وحده إنما تحرص البلاغة على صحة الافكار والمعلومات ثم عرضها عرضا واضحا ملائما لأحوال المخاطبين[1].

          كما أشار إلى أهمية هذا العلم، “أبو هلال العسكري” بوصفه أحق العلوم التي يمكن للمرء أن يتعلمه وهو أولى بالحفظ، مع معرفة الفصاحة التي عرف بها إعجاز كتاب الله ( القرآن).

فقد اهتمت كتب كثيرة بهذا العلم نظرا لكثرة البيان فيه وتعدد مناهجه، لهذا وجب علينا الإشارة إلى نشأة هذا العلم وأهميته بين العلوم الأخرى.

  1. بين البلاغة والخطاب:
  • في مفهوم البلاغة:

ولد مصطلح البلاغة الجديدة ذاته عام 1958م، في عنوان أحد الكتب الشهيرة التي وضعها المفكر البولوني المولد البلجيكي المقام ” بيرلمان” (perelman)، تحت إسم { مقال في البرهان: البلاغة الجديدة} ويعتمد هذا الكتاب على محاولة لإعادة تأسيس البرهان أو المحاجة الاستدلالية باعتباره تحديدا منطقيا بالمفهوم الواسع، كتقنية خاصة ومتميّزة لدراسة المنطق التشريعي والقضائي على وجه التحديد وامتداداته إلى بقية مجالات الخطاب المعاصر، وقد عرفت هذه المدرسة فيما بعد بمدرسة:” بروكسل” وتفرعت إلى تيارات عديدة متخالفة في الأعوام التالية، إذ انبثقت من دراسة المنطق القضائي لكنها لم تلبث أن تجاوزته إلى الفلسفة والإيديولوجيا بصفة عامة، حتى انتهت في آخر عقد الثمانينات إلى ما يطلق عليه أزمة الشكلانية والطبيعة الجديدة، ويلاحظ عموما على مبادئها أنها تدور على اعتبار أن منظر الخطاب البرهاني يهتم بدوره بالأشكال البلاغية كأدوات أسلوبية ووسائل للإقناع والبرهان.[2]

          فالبلاغة وثيقة الصلة بالفصاحة، كما قال أحد الحكماء البلاغة إجاعة اللفظ واشباع المعنى، ومن شروطها الفصاحة التي تعتبر عماد الكلام الصحيح المبين.

فإذا كانت البلاغة بالنسبة للأقدمين، هي دراسة التقنيات التي يستخدمها عامة الخطباء للوصول بأسرع ما يمكن إلى النتائج المستهدفة وتكوين الآراء، دون الاجتهاد في التمحيص الجاد، فإن البحث في البرهان لا يمكن أن يقتصر على ما يناسب هذا الجمهور الجاهل، وإذا كان الخطيب مضطرا لكي يكون فعالا ومأثرا، أن يتكيف مع الجمهور، فإن ما يترتب على ذلك هو أن أفضل الخطب ليست بالضرورة هي التي تقنع المفكرين.[3]

حيث اهتم علم النفس بالاتجاهات التي تمارس بشكل كبير هذه التقنيات فالفيلسوف المنطقي، يختلف موقفه عن الآخرين، بما في ذلك الإجراءات المغايرة والمميّزة التي يقوم بها على خلافهم، حيث يعتمد على ناحيتين:

أولا: تحديد خواص الأبنية البرهانية، قبل القيام بأي تجربة.

ثانيا: أن منهج المعمل لا يصلح لتقديم تحديد دقيق لقيمة الحجج المستخدمة في العلوم الإنسانية.[4]

كأي علم من العلوم جذور ضاربة في التاريخ، تستلهم من بعضها البعض مختلف المواد والمعارف، قصد التأثير والتأثر، سواء في البيئة أو حتى المجتمع بصفة عامة، فقد نشأت البلاغة في كنف الجاهلية وأخذت منزلة كبيرة عند الشعراء والأدباء، وأخذت منزلة كبيرة من كتاب الله تعالى.

  • نشأة البلاغة:

بلغ العرب في الجاهلية مرتبة رفيعة من البلاغة والبيان، وقد صوّر الذكر الحكيم ذلك في غير موضع، كما صوّر شدّة عارضتهم وقوتهم في الحجاج والجدل بمثل: ( فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد).

فلقد لقبوا شعرائهم ألقابا تدل على مدى إحسانهم في رأيهم مثل: المهلهل والمرقّش والمثقّب والمنخّل والمتنخّل والأفوه والنابغة، وكأنما كان هناك ذوق عام دفع الشعراء ومن ورائهم من الخطباء إلى تحبير كلامهم وتجويده، مما لا شك فيه أن أسواقهم الكبيرة هب التي عملت على نشأة هذا الذوق، وخاصة سوق عكاظ بجوار مكة.[5]

إذ كان الخطباء والشعراء يتبارون فيها، وكل يريد أن يحوز قصب السبق لدى سامعيه دون أقرانه، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم يستضيئون في خطاباتهم بخطابة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وآيات الذكر الحكيم.

أما في عصر بني أمية فقد كانت الخطابة بجميع ألونها من سياسة وحفلية ووعظية تزدهر ازدهارا عظيما وفي كل لون من هذه الألوان يشتهر غير الخطيب، أما في السياسة فيشتهر من ولاة بني أمية زياد والحجّاج، وفي خطباء الشيعة زيد بن الحسن بن علي، ومن خطباء المحافل سحبان وائل، ومثله صحار العبدي.[6]

لقد ارتبط علم البلاغة بالخطابة كونها الفن الذي تعنى به، فقد ركز الخطباء والأدباء في كتاباتهم على البلاغة والفصاحة، قصد التأثير في الناس، وإقناعهم بالحجة والدليل والبرهان، ولا يكون ذلك إلا باجتماع البلاغة والخطابة.

ما لمقصود اذا بالخطاب، وبما تميز في نشأته، وما علاقته بعلم البلاغة؟.

  • في مفهوم الخطاب:

إن لفظ الخطابة ومشتقاته لا يمر على ذهن المستمع العربي العادي دون أن يثير احساسا بالزيف وتجاوز الواقع فنسمع” دعه يخطب”، كفى خطابة إلى آخر ما هنالك من العبرات.

          فقد حصر أفلاطون في محاوراته على الخطابة لاهتمامها الكبير بالإقناع، بدل البحث عن الحقيقة، فقد كان سبب اهتمام الفلاسفة والبلاغيين الغربيين ببلاغة الخطاب، راجع إلى قناعتهم بأهمية الدور الذي تلعبه في توجيه الرأي وبلورة الفكر المعاصر.[7]

          لمصطلح تحليل الخطاب دلالات مختلفة بالنسبة للباحثين في شتى مجالات الدرس اللغوي، ففي نظر عالم اللغة الاجتماعي مثلا، يتصل هذا المصطلح أساسا بنية التفاعل الاجتماعي كما تتجلى في الحوار اللغوي، وهو في نظر عالم اللغة النفسي ذو صلة بالطريقة التي يتم بها فهم النصوص القصيرة المكتوبة.

          ويعتبر تحليل الخطاب بالضرورة ( تحليل اللغة) في الاستعمال، لذلك لا يمكن أن نحصره بعيدا عن الأغراض والوظائف التي وضعت للتعامل بين الناس وإن محلل الخطاب ملزم بالبحث في ما تستعمل تلك اللغة من أجله، فالخطاب لا يمكن أن يمثل بنصوص مكتوبة وأخرى محكية.[8]

حيث يرمي تحليل الخطاب إلى إعطاء النص قراءة مضبوطة يتفق عليها عدد كبير من القراء، وهذا بالإمساك مبدئيا بمقاصد الكاتب الإبلاغية أولا، ثم بالمقاصد الأخرى التي تخرج من يد الكاتب إلى يد القارئ، الذي يقوم بعملية التفكيك والتركيب، أو بتعبير سيميائي، للكشف عن بنية النص بإنتاج بنية أخرى قابلة للاختراق والتجاوز في أية لحظة، وهذا من خلال البناء على القراءة الأولى للوصول إلى قراءات اعلامية متولدة بعضها من بعض، وتتأسس حيث تنتهي القراءة السابقة.[9]

          فالغاية من تحليل الخطاب هو الوقوف على دلالات النص الأكثر عمقا، واعطاء النص القراءة الدلالية الأدق، حيث تفرع فن الخطاب إلى أقسام متعددة.

  • أقسام الحطاب:

لقد نظم “بروك روس” ( Brook ros) كتابه بحسب انتماء  الاستعارة إلى أقسام الخطاب المختلفة: الفعل، الوصف، الظرف، الاسم، النداء، فعل الكون، فعل الجعل ( tomake) والإضافة وتنظيم المؤلف هذا مبني على طبيعة اللغة التي تدرس استعارتها وهي الإنجليزية، فكل قسم من الأقسام التي ذكرها يمكن أن يمثل له بالعربية في غير ما عسر، على أن فعل ” الجعل” tomake قد يشير إلى بعض الأشكال ولكن هذا الفعل، في الاستعمالات عربية كثيرة مجازي أيضا، إذ جعل تعني: قال وصنع.[10]

هناك أقسام أخرى للخطاب تمثلت كالآتي:

  • الإخبار من أب الأشياء تكون التصديقات: يعني اخراج ما هو صحيح مما هو خاطئ.
  • ذكر التي تستعمل في الألفاظ: يعني بحسب المقام أو السياق.
  • كيف ينبغي أن ننظم أو ننسق أجزاء القول[11].

كذلك للخطابة نبرة مميزة يستعملها المخاطب أو القائل، تكون نبرة اقناعية منسجمة ومكونات النص الخطابي وتكون عامة للناس.

  • أنواع الخطاب:

ينقسم الخطاب إلى نوعين كبيرين هما:

خطاب مباشر، وآخر غير مباشر، ويعتبرون أن ادخال كلمات القائل في صيغة الخطاب بشكل مباشر يعد أقصى درجة من الموضوعية بقدر ما يلتزم عموما بالنقل الحرفي دون تحريف، حتى أن بعضهم يعتقد أنه يمكن أن يصل الخطاب الذي يستخدم هذه الطريقة إلى نسبة 100% من الموضوعية، لكن مع ملاحظة أن هذه الموضوعية في حقيقة الأمر لا تتوقف على درجة مطابقة الخطاب المذكور للأصل فحسب، وإنما تتوقف أيضا على ما إذا كان يوجد أم لا تدخل في المعنى أو تحريف له من قبل الذي يذكره بكلماته.[12]

كما قسمها ارسطو إلى ثلاثة أجناس ألا وهي: مشوري، مشاجري، تثبيتي.

  • المشير: منه إذن ومنه منع.
  • المشاجر: فمنه شكاية ومنه اعتذار.
  • المري أو المثبت: فمنه مدح ومنه ذم.

يعني هذه الأجناس تعمل بالتناقض مع مختلف هذه الأنواع الثلاثة .

          فالغاية من هذه الأنواع الثلاثة:

الأول: المشير منه النافع ومنه الضار، فالذي يشير بإذن في التي هي أفضل، يمنع بإذن في التي هي مضرّة وقد تعني أيضا: العدالة أو الجائزة، أو الصالحة ….وغيرها من المعاني المفيدة.

الثاني: وهو المشاجري فهو يعنى بالعادلة أو الجائزة، كذلك الذين يمدحون ويذمون لا ينظرون كثيرا في أنه فعل فيما ينفع أو يضرّ، ولكن يهتمون أكثر بالتي بها المدح.

ثالثا: الذي يرى أو يثبت بمعنى ثبت أم لم يثبت، كان أم لم يكن، ويكون أو لا يكون.[13]

ثم إن جميع المتكلمين يمدحون  ويذمون، ويأذنون ويشعرون ويشكون ويعتذرون، بل ويبينون كذلك أن الخير أو الشر عظيم أو يسير أو حسن أم قبيح، ولا بد في ذلك أن تكون لهم قضايا متخصصة.

نظرا لأهمية البلاغة في مختلف العلوم، فإنها ارتبطت ارتباطا وثيقا بفن من فنون القول ألا وهو الخطابة كما كان لهذا الأخير أهمية كبيرة في عصر الاسلام، حيث كانت الخطباء العرب يستضيئون ويستنيرون بخطابات النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لبلاغتها وفصاحتها، ولما لها من البيان والإقناع.

  1. علاقة البلاغة بالخطاب:

لقد تفرعت البلاغة إلى ثلاث تيارات، اتجاه العلاقات الداخلية للدراسات البلاغية الجديدة، والثاني البلاغة الجديدة ولكن ما يهمنا في بحثنا هو: التيار الثالث:

تحليل الخطاب: الذي يعتمد المنهج الوظيفي، مجاوز للاتجاه البنيوي ويعتمد كذلك على السميولوجيا من ناحية والتداولية من ناحية أخرى، وقد تحول إليه في نهاية السبعينات بعض أنصار التيار الثاني كما فعل ” تودروف” الذي اعترف عام 1979م، بأن السميولوجيا يمكن أن تفهم باعتبارها بلاغة معاصرة وقد اتضح أن مفهوم بلاغة الخطاب مرهون بالاعتداد بها كعلم لكل أنواع الخطاب، علم عالمي في موضوعه وفي منهجه، مهما اختلفت الأسماء التي تطلق عليه، إذ أننا نجد من يسميه ” النحو العالمي للخطاب” في مقابل من كان يحصره في الخطاب القضائي أو الأدبي، وبالرغم من تنوّع الخطاب إلا أنه  سيضل هناك فن شكلي عام، قابل للتطبيق على مختلف الأنواع[14].

          ويهتم بشكل كبير في تحليله للنصوص بـ: بلاغة البرهان، وبلاغة النص البنيوية العامة، وكذلك الداخلية.

          فلقد اخترنا كنموذج للقراءة والتحليل، نص للبشير الإبراهيمي، وذلك لتبيان دور الخطاب والبلاغة في توعية الشباب الجزائري.

  • نموذج من النص الجزائري للتحليل : “للبشير الإبراهيمي” بعنوان ” الشباب الجزائري”:

من المعروف عن ” البشير الإبراهيمي” أنه رائد من رواد الإصلاح في الجزائر، كان مطلعا مثقفا، آخذا عن علماء الجزائر مغترفا من مكتباتها، وكان من مؤسسي ” جمعية العلماء المسلمين” مع رفيقه في الكفاح ” عبد الحميد بن باديس”، ومن بين أهم اهتماماته نجده شغوفا محبا لدعم ونصح الشباب الجزائري ومهتما بقضيته، فهم بمثابة عماد الأمة الجزائرية ومحرروها من قيود الطغاة، وهذا النص بين أيدينا يبين مساعي ومرامي الإبراهيمي وتأملاته في الشباب الجزائري.

النص:

  • أَتَمَثَّلُهُ متساميا إلى معالي الحياة، عِرْبيدَ الشباب في طلبها، طاغياً عن القيود العائقة دونها، جامحا عن الأعنَّة الكابحة في ميدانها، متقيّد العزمات، تكاد تحتدم جوانبه من ذكَّاءِ القلب، وشهامة الفؤاد، ونشاط الجوارح، أتَمَثَّلُهُ مقداما على العظائم في غير تهوّرٍ، محجاما عن الصغائر في غير جبن، مقدّراً موضع الرِّجْلِ قبل الخطو، جاعلا أوّل الفكر آخر العمل.
  • أتَمَثَّلُهُ واسع الوجود، لا تقف أمامه الحدود، يرى كلّ عربي أخًا له أخوَّة الدّم، وكل مسلم أخا له لأخوّة الدّين، وكلّ بشر أخا له أخوّة الإنسانية، ثم يعطي لكلّ أخوّة حقّها فضلا وعدلا.
  • أتَمَثَّلُهُ حِلْفَ عملٍ لا حليف بطالةٍ، وحِلْسَ معملٍ لا حِلْسَ مقهى، وبطل أعمال، لا ماضغ أقوال، ومرتاد حقيقةٍ لا رائد خيال.

أتمَثَّلُهُ مقبلاً على العلم والمعرفة والنّفع، إقبالَ النّحل على الأزهار والثّمار لتصنَعَ الشّهد والشّمع، مقبلا على الارتزاق إقبال النّمل، تجدّ لتجدَ، وتدّخر لتفتخر، ولا تبالي، ما دامت دائبةً، أن ترجع مرّة مُنْجِحَةً، ومرّة خائبةً[15].

  • أحبُّ منه ما يحبُّ القائل:

أحبُّ الفتى ينفي الفواحشَ سمعُهُ * * * كأنَّ به عن كلّ فاحشةٍ وقراَ

وأهوى منه ما يهوى المتنبّي:

وأهوى من الفتيان كلَّ *سَمَيْدَعٍ * * * أَرِيبٍ كَصًدْرِ السَّمْهَرِيّ المقوَّمِ

خَطَتْ تَحْتَهُ العِيسُ الفَلاَةَ وخَالطتْ * * * بهِ الخَيْلُ كَبَّاتِ الخَمِيسِ *العَرَمْرَمِ

وآخر كلمة يختم بها الإبراهيمي نصّه هي:

” يا شباب الجزائر …كونوا …أو لا تكونوا”.

تحليل نصّ البشير الإبراهيمي:

          الأديب البشير الإبراهيمي يدعوا في هذا النصّ، الشباب الجزائري إلى القيم والمبادئ: بها يستضاء بها في طريقه لإحياء أمته وبنائها.

          ومن هذه القيم والمبادئ: طلب المعالي في شجاعة وتعتّل: قصد الوصول إلى أعلى درجات الرفعة والمجد في مختلف الميادين الحياتية ( اجتماعية ….سياسية …إلخ).

          بالرغم من العقبات التي تعترض طريقة ولا يكون ذلك إلا ببذل جهود كبيرة، بالعمل المتواصل والعزيمة الثابتة، والإرادة القوية، وقلبا جريئا.

          كذلك يدعوا الشباب إلى التربيث في الأمور، والتدبّر في شأنها، يريده ألا يتهيّب الصعب منها، ولا يقدّم على شيء دون التفكير فيها، ولا يلتفت لصغائر الأمور ولا يفعلها ولا يشعر بأن البعد عنها والهرب منها جبن أو هزيمة، وعلى الشباب الواعي أن يتأمل ويتدبّر كل عمل يقدم عليه قبل البدء به، وإذا بدأه فعليه أن يظل يقضا.

          متدبّرا إلى أن يفرغ منه، أي أنه يجب عليه أن يفكر قبل البدء في عمل ما ويواصل تفكيره فيه إلى أن ينتهي منه.

          وفي قسم آخر يشيد الكاتب البشير الإبراهيمي إلى ضرورة تحرر الشباب من قيود العصبية، وترفع نظرته في العلاقات الإنسانية، بحكم قرابة الدم في المجتمع العربي، والمجتمع الإسلامي أخوة الدين، والمجتمع الإنساني أخوة البشرية، وفي ظل كل هذه العلاقات يفرض عليه، واجبات لابد من التزامه بها، قصد تحقيق وجوده في المجتمع الذي يعيش فيه.

          وفي جزء آخر من النصّ ينتقل الإبراهيمي إلى حثّ الشباب على العمل والعلم وعدم تضيع الوقت عبثا في المقاهي والطرقات أو منغمسا مع رفقاء السوء، وأن يكونوا إلى الحياة نظرة واقعية في تقديرهم وتعاملهم مع الأمور، وأن يكونوا جادّين في طلب العلم والمعالي، واستثمارها في فعل الخير والأمور النافعة التي فيه صلاح لنفسه ومجتمعه، وأن يقبلوا على تحصيله في نهم وشغف، قصد سعية إلى غايات نبيلة دون توقف.

          وفي القسم الأخير من نصّ الإبراهيمي، يركّز على أهمّ الصفاة التي يتمنّى أن يراها في الشباب الجزائري والتي سبق وأن اتّصف أجداده وأسلافه بها، من استقامة الخلق والبعد عن كل ما هو قبيح من أقوال وأفعال ومن شجاعة القلب، ورصانة العقل.

          ويختم نصّه بنصيحة يشوبها التهديد: يقول ألا إن تمسكهم بهذه المبادئ السامية، والأخلاق العالية حققتم وجودكم في هذه الحياة إذا لم تعملوا بها فلا وجود لكم ولا حياة.

أسلوبه:

          يتميّز أسلوب الابراهيمي بثقافة عربية أصيلة واسعة، وذلك من خلال قدرته على التعبير الجميل عما يريد بعبارات جزلة قوية وواضحة لا غموض فيها.

  • أمّا الألفاظ فكانت مختارة ملائمة لمعانيها موحية بها، من ذلك قوله ” عربيد” وهي وصف للشباب المتطلع استخدمها للدلالة على طلب الشباب للمعالي وهي في الحقيقة تعنى في اللغة العربية شيء آخر وهو السكير المدمن.
  • كذلك لا يخلو نصّ الابراهيمي من الصور البيانية والمحسنات البديعية فهو مليء بها من ذلك قوله:” جامحا عن الأعنّة”، ” متقّد العزمات “: فها فهاتان استعارتان مكنيتان: فمثلا يقصد بالقول الأوّل: تشبيه الشباب بالفرس وحذف المشبه به، وأبقى ما يرمز إليه: ” جامحا” وفي ذلك تشخيص لقوّة تمرّد الشباب على الصعاب والعقبات.
  • ومنه كذلك ألوان البديع: في قوله: مقدرا موضع الرجل قبل الخطو ومن المحسنات كذلك: السجع في قوله: ” واسع الجود، لا تقف أمامه الحدود” .

الجناس في قوله: ” تجد لتجد” فهما حسنا الجانب اللفظي، وأحدثا نغم جميلا مأنوسا إليه.

     فالبشير الابراهيمي في هذا النصّ متأثّر بمدرسة “الصنعة” التي تولي عناية كبيرة لاختيار الألفاظ، وتزيين العبارة بألوان البيان والبديع دون أن تهمل جانب المعنى.

في الختام نتبين من نص الابراهيمي أنه كان يهتم بالدرجة الأولى بالشباب الجزائري ووعيه واخلاقه و شهامته في التعامل مع الأمور، وجديته في العمل، كما لا يغفل على حثه للمضي قدما في سبيل حماية الوطن والحفاظ عليه، فهذا النص مليء بالمحسنات البديعية والبيان والفصاحة والبلاغة والحجج والبراهين التي تأثر في الشباب الجزائري سواء من الناحية العاطفية وحتى العملية، وما أجمل مقولته الأخيرة في نصّه:

” يا شباب الجزائر …كونوا …أو لا تكونوا”.

المصادر والمراجع:

  1. راجي الأسمر : علوم البلاغة، دار الجيل، بيروت، لبنان، 2011م.
  2. صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النص، سلسلة كتب ثقافية شهرية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، عالم المعرفة، الكويت، 1990م.
  3. شوقي ضيف، البلاغة تطور وتاريخ، دار المعارف، الهيئة العامة لمكتبة الاسكندرية، القاهرة، ط9، 1965م.
  4. محمد العمري، في بلاغة الخطاب الإقناعي – مدخل نظري وتطبيقي لدراسة الخطابة العربية، إفريقيا الشرق، المغرب، ط2، 2002م.
  5. جون بول، تحليل الخطاب، ترجمة وتعليق، محمد لطفي الزليطني ومنير تريكي، النشر العلمي للمطابع، جامعة الملك سعود، الرياض، دط، 1997م.
  6. حسين خالفي، البلاغة وتحليل الخطاب، منشورات الاختلاف دار الفارابي، بيروت، لبنان، ط1، 2011م.
  7. محمد مفتاح، تحليل الخطاب الشعري ( استراتيجية التناص)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط2، 1986م.
  8. أرسطو طاليس، الخطابة، الترجمة العربية القديمة، حققه وعلق عليه، عبد الرحمن بدوي، دار القلم، بيروت، لبنان، دط، 1979م.
  9. مأخوذ من كتاب السنة الثالثة ثانوي، شعبة الأدب، الديوان الوطني للمطبوعات المدرسية، دط، 1999م.

[1] – راجي الأسمر : علوم البلاغة، دار الجيل، بيروت، لبنان، 2011م، ص 30.

[2]– ينظر: صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النص، سلسلة كتب ثقافية شهرية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، عالم المعرفة، الكويت، 1990م، ص 65-66.

[3] – المصدر السابق، ص 68.

[4] – بتصرّف: نفسه، ص 69.

[5] – ينظر: شوقي ضيف، البلاغة تطور وتاريخ، دار المعارف، الهيئة العامة لمكتبة الاسكندرية، القاهرة، ط9، 1965م، ص 01.

[6] – المرجع السابق، ص 14.

[7] – ينظر: محمد العمري، في بلاغة الخطاب الإقناعي – مدخل نظري وتطبيقي لدراسة الخطابة العربية، إفريقيا الشرق، المغرب، ط2، 2002م، ص 13.

[8] – بتصرّف: جون بول، تحليل الخطاب، ترجمة وتعليق، محمد لطفي الزليطني ومنير تريكي، النشر العلمي للمطابع، جامعة الملك سعود، الرياض، دط، 1997م، ص هـ-01.

[9] –  ينظر: حسين خالفي، البلاغة وتحليل الخطاب، منشورات الاختلاف دار الفارابي، بيروت، لبنان، ط1، 2011م، ص 26-27.

[10] – ينظر: محمد مفتاح، تحليل الخطاب الشعري ( استراتيجية التناص)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط2، 1986م، ص 96.

[11] – بتصرف: أرسطو طاليس، الخطابة، الترجمة العربية القديمة، حققه وعلق عليه، عبد الرحمن بدوي، دار القلم، بيروت، لبنان، دط، 1979م، ص 181.

[12] – صلاح فضل: بلاغة الخطاب وعلم النص، ص 91.

[13] – بتصرّف: ارسطو طاليس، الخطابة، ص 17-18.

[14] – ينظر: صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النص، ص 65.

[15] – مأخوذ من كتاب السنة الثالثة ثانوي، شعبة الأدب، الديوان الوطني للمطبوعات المدرسية، دط، 1999م، 56-57.

* سميدع: المقصود بها: الشجاع.

* العرمرم: المقصود بها: الجيش الكثير العدد.

*قسم: اللغة العربية- جامعة –الجيلالي بونعامة – خميس مليانة – الجزائر-2022م.

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of