+91 98 999 407 04
aqlamalhind@gmail.com

القائمة‎

اللفظة الاصطلاحية: شروط وضعها ومظاهر تعليلها عند الدماميني، في تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد
د. عبد الوهاب الشيخ الحطاب الشيخ سعدبوه

تقديم:

اختار المتقدمون لمعانيهم ألفاظا يتوسل بها إلى معرفة علومهم، لتعلمها الأجيال، وتنتقل إلى الأمم  دون أن يقع انقطاع في مباحث العلم. ولكي يتحقق ذلك  كان لا بد من الانطلاق من مرتكزات أساسية تضمن لمتصوراتهم البقاء رغم عادية الزمن، لذا اعتنوا بالمفاهيم أيما اعتناء، فشيدوها على سور منيع الأركان. وخلال تتبع الدراسات اللغوية  يظهر جليا غنى التراث بالمصطلحات العلمية، وبيان أهميتها في العلم، وغاية هذا البحث النظر في اللفظة الاصطلاحية من خلال تجربة أحد أعيان النحاة المحققين المتأخرين، هو الدماميني، بغية الكشف عن تفكيره في القضية الاصطلاحية، وما منحها من مساحة  تتفيأ فيها قيمة العبارة، وتحلّل مضامينها، ثم معرفة الظلال  الذي يفسر فيه شروط وضعها، وتجلّى فيه عللها، وما يتصل بذلك من قضايا تثري دراسة المصطلح، وتأخذ به إلى الكمال العلمي. وقد اشتهر الدماميني بحذق النحو، والتدقيق في قضاياه الخلافية، ساعده في ذلك ذهن وقاّد، ثم ما تهيأ له من الاطلاع على تراث النحاة السابقين، مما حدا به إلى عمق التأمل في الدرس النحو، نقدا وتعقيبا، وتصويبا، وكان كتابه تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد علق نفيس، فكك فيه البنية النصية لكتاب تسهيل الفوائد، فنثر مسائله،  وفتق قضاياه، وبخاصة قضية المصطلح التي تعتبر أهم معين على فهم مجاري العلم، وإشاعته بين العلوم. وقد جاءت هذه المداخلة طامحة إلى دراسة المصطلح عند الدماميني والخوض في أهم جواهره، فكانت بعنوان: اللفظةالاصطلاحيةشروطوضعهاومظاهرتعليلهاعندالدماميني فيتعليقالفرائدعلىتسهيلالفوائد.

وليحقق البحث نتائج علمية انتظم في ثلاثة محاور ، وخاتمة تضمنت أهم النتائج العلمية.

المحور الأول: شروط وضع المصطلح العلمي

لم يكن وضع المصطلح العلمي بالشيء الهين، كما أن ضمان جريانه في مباحث العلم وقبوله  لا يقل صعوبة عن وضعه، ولتذليل مسائل العلم اجتهد العلماء في تقريب متصورات المعرفة مستخدمين آليات إجرائية تعين على تثبيت أصول العلم،  معترين أن أساس ذلك ينطلق من ضبط المصطلح وضرورة تضافر الجهد في ذلك،  إذ المصطلح هو المفتاح الذي يولج به إلى  تفسير ما تخبئه العلوم  من أحكام ومعارف  يدرك بها حقيقة ذلك العلم.

وفي هذا المحور سيكون الحديث عن شروط وضع المصطلح حسب تفكير الدماميني، وذلك في أثناء شرحه لمقول ابن مالك، تفسيرا، ونقدا.

بعد مصاحبة لشرح الدماميني خلص البحث إلى شروط أساسية يجب على واضع المصطلح النظر فيها، ليضمن لمصطلحه البقاء في مباحث العلم، ويحفظه من النقد والتعقيب. وتلك هي:

ـــ شمول المصطلح لكل ما يصدق عليه

ويقصد به إحاطة لفظ  المصطلح لكل  ما يدخل في  محتواه لدي سماعه،  ولا يكون ذلك إلا بعد تحر في انتقاء اللفظ المناسب، لأن أي مصطلح لا يتصف بالشمول ستتناوله أقلام الباحثين والعلماء بالنقد.

فمن ذلك تعقيب الدماميني على مصطلح بابن مالك في قوله “وتنوب النون عن الضمة في فعل اتصل به ألف اثنين أو واو جمع” قال الدماميني  ” قلت: التعبير بجماعة أولى من التعبير بجمع لشموله لنحو: الزيدون يقومون، وزيد وبكر وعمرو يقومون، بخلاف الجمع فإنه لا يشمل الصورة الثانية اصطلاحا، كما أن التعبير باثنين -مثل ما فعله المصنف- أولى من التعبير بالمثنى، لاختصاص المثنى عرفا بنحو: الزيدان، وشمول الاثنين له ولنحو: زيد وعمرو”[1]. فاللجوء إلى استعمال واو الجماعة ــ كما نبه إليه الدماميني ــ أكسب المصطلح دقة في الدلالة بحيث وسع ما نقص عنه مفهوم واو الجمع، ذلك أن الجمع في سيرورته النحوية يشعر بضم أشياء في صيغة  لغوية واحدة، سواء كان جمع تكسير  أو جمع تصحيح. يشهد لذا قول  “وكذلك إن كانت واو جمع أو ياء نحو: مسلمو القوم ومسلمي الرجل، فإن كان قبل الواو التي للجمع فتحة لم يجز أن يحذف؛ لأنها لا تكون كذا إلا وقبلها حرف قد حذف لالتقاء الساكنين, وهي مع ذلك لو حذفت لالتبست بالواحد”[2].

ولعدم صدق المصطلح على متصوراته الاصطلاحية، انتقد استعمال الخفاء في التقدير الإعرابي المذكور عند ابن مالك “فإن قلت: إنما اصطلاحهم في الخفاء أن يقيدوه بمعرب تعذر ظهور إعرابه كـ (الفتى)، أو استثقل كـالقاضي، فلا تصدق عبارته على جميع الصور التي أجازها الفراء؛ لخروج (إنك وزيد ذاهبان) ونحوه من المبنيات. قلت: ذلك إنما هو في التقدير، وأما الخفاء فلا يعرف لهم فيه هذا الاصطلاح[3]. فمصطلح الخفاء له بعد دلالي غير الذي قصدوا من تقدير الحركات على الاسم المعرب لعلة التعذر  نحو:  الألف في الفتى، أو حذف بعض أجزاء الكلمة كقاض، وماض. ولكي يدفع اللبس في تداول المصطلحات العلمية ينبغي  النظر في دلالتها والتحقق من صلاحيتها في لمّ شمل متصورات دون أن يند عنها شيء.

واتباعا لخاصية التعميم  في المصطلح ارتضى الدماميني اختيار ابن مالكللتلبسومشتقاته بدل الإضافة، لما له  من شمول في متصورات المفهوم” وإنما قال المصنف: (ملتبس)، ولم يقل: مضاف؛ ليدخل  نحو: ملء عين حبيبها. وقال: ما التبس بالخبر، ولم يقل:  ما أضيف إلى الخبر؛ ليدخل نحو: ملء عين[4].

ـــ مراعاة المعنى الوظيفي في وضع المصطلح

في وضع المفهوم ينبغي التركيز على أقرب المعاني التداولية إلى وظيفة المصطلح، حيث يفصح عن انبثاق معنى الاصطلاح عن اللغوي، لما بينهما من وشائج.  وتأكيدا على ذلك راح الدماميني يقدم الحجة في اختيار مذهب البصريين، القاضي بتمييز  مصطلحات الإعراب عن البناء، واستبداد كل بألقابه، وذلك لاختلاف مجرييهما في المنعى والشكل. قال  :”وإنما أكثر البصريين قصدوا الفرق في ألقاب المعربات والمبنيات لا في ألقاب الحركات؛ ولهذا يقول بعضهم: مرفوع ومضموم، أما الأول فللفرق الذي أراده، وأما الثاني فلأنه لم يجد من حيث اللغة أن يسمى ما وجد فيه الضم مضموما وكذا الباقي، ويقول في نحو حيث هو مضموم لذلك. ولم يقل فيه: هو مرفوع، لأن حقيقة قولنا: مرفوع إنه عمدة؛ لأن ذلك إعراب العمد، أي: إعراب ما هو أحد جزئي الجملة، وهذا المعنى منتف في (حيث) ونحوه”[5].  فالمعنى الوظيفي للرفع جعله خاصا بالمعربات لا يجاوزها إلى غيرها هذا على رأي البصريين، “فأما نحاة الكوفة كالكسائي والفراء فقد ذهبوا أنه لا فرق في إطلاق العبارتين، وأن إطلاق كل واحدة منهما سواء، فيجوز إطلاق كل واحد منها بدلا من الأخرى في المعرب والمبني من غير تفرقة بينهما”[6].

ـــ تمييز المعنى اللغوي عن الاصطلاحي/ الصناعي

 أغلب المصطلحات العلمية منقول عن استعمال سابق عهد في اللغة العامة، ذلك أن  كل اختصاص يقتطعون من اللغة ألفاظا يتفقون على تضمينها معاني خاصة، فتكون جارية على دلالة معينة تفهم لدى الاستعمالات في الحقل المعرفي. وقد كان الدماميني يقظا  في تمييز الخاصية التداولية، وذلك خشية تفسير المصطلح على غير مراد النص. فمن ذلك وقوفه على مصطلح المميزان في قول ابن مالك والجزءان المميزان” قال :وفي الكافية الشافية “والجزءان المميزان كالجزأين المضافين” ومثل ذلك بقوله: هما ضخما الرؤوس… ومراده بالتمييز التفسير اللغوي لا التمييز الصناعي بدليل المثال الأول”[7]. فالمميز والتميز لهما دلالتان لغوية واصطلاحية، فعلى الباحث ضرورة الانتباه لذلك، مخافة أن يتيه في معترك الاصطلاحات.

ومما ميز فيه الدماميني بين المجرى اللغوي والاصطلاحي حديثه عن الجمع، وذلك في أثناء كلامه عن الموصولات “قد يرادف التي واللاتي ذات وذوات» في لغة طيئ، وإنما ذكر هنا ذات بيانا للأصل، وإلا فهو في مقام بيان جموع المؤنث، فكان الأصل أن يقول: ذوات. لكن كان ظاهره يقتضي أنها جمع للتي، فذكر مفردها قبلها دفعا لهذا الوهم, ولك أن تقول: قد ذكر الألى في جمع التي فعلم أنه يريد الجمع اللغوي لا الصناعي”[8]. وإذا أراد الجمع اللغوي، كان ذلك دليلا على التأكد من ضبط مجرى المصطلحات باعتماد قرينة السياق، حيث تبرز مقاصد الألفاظ، وتحدد معاني المتصورات، وبإهمال القرينة سيقع الشطط والتحريف في توجيهات النص، وبخاصة إذا كان المصطلحات تعدد دلالاتها في حقول تداولية.

فهذه الشروط مجتمعة تمنح اللفظة الاصطلاحية قيمية تداولية، فتحفظها من الضياع، لأن كل من وضع عبارة اصطلاحية، لم يراع فيها المقومات العلمية سيجد مفاهيمه معزولة عن الاستخدام، محبوسة عليه، وذلك لإساءته للعلم، بإقحامه ما لا تستسيغه الأسرة العلمية. وقد كان الدماميني في أثناء شرحه للتسهيل حريصا على توافر الشروط العلمية للمصطلحات، يلحظ ذلك في  وقفاته العلمية مع مصطلحات ابن مالك، وما كان يوجه له من نقدات وتوجيهات تنبئ عن ضرورة الاعتناء بالعبارة الاصطلاحية.

المحور الثاني: تعليل اللفظة الاصطلاحية عند الدماميني

يعتبر تعليل المصطلح سمة جليلة تربط بين المفهوم والسبب الباعث إلى وضع لقبه، فالعرب حسب ابن الأعرابي وضعت أسماء الأشياء لعلل قد تظهر لنا أواصرها، وقد تغيب عن عقولنا إدراك ذلك ف”الأسماء كلها لعلة خصت العرب ما خصت منها. من العلل ما نعلمه ومنها ما نجهله”[9].

حاول الدماميني أن ينسج علائق بين التسميات وعللها، ليريَ المتلقي البواعث التي حملت الواضع إلى اختيار مصطلحات تستكنه حقيقة ما قصد منها.  وخلال النظر في  تعليق الفرائد لحظت مجريين للتعليل عند الدماميني، وهما على النحو التالي:

أ تعليل التسمية

“تعليل تسمية المصطلح النحوي يكاد يكون عبارة عن توضيح حالة المسمى التي عن طريقها يرتبط المعنى اللغوي بالمعنى الاصطلاحي”[10].

قدم الدماميني تحليلات لطيفة بيّن فيها علل بعض  تسميات المصطلحات النحوية،  يدرك ذلك في المفاهيم التالية:

لا التربئة    وقد علل الدمامني لقبها بقوله “ويقال لها: التبرئة،  كأنه مأخوذ من قولك: برأت فلانا عن كذا، إذا نفيته عنه، فهي مبرئة للجنس، أي: نافية له”[11].

التمكن  وهو سمة تخص الاسم المعرب خلا أنه يشتق منه مصطلحان لتضييق الدلالة، قال الدماميني معلقا على قول ابن مالك “تمكن”  “لكن إن كان الاسم الذي ثبت له هذا التمكن منصرفا سمي ذلك الاسم أمكن، وإن كان غير منصرف سمي غير أمكن، لنقصه من جهات التمكن الجر بالكسرة”[12].  فتعاقب الحركات على الاسم المعرب يحدد المصطلح المناسب للاسم، فإذا جارت عليه الحركات كلها كان أعرق في باب الاسمية لخلوصه من المشابهة التي قد تمنعه من استحقاق بعض مميزات الاسم،  أما إذا نقص الاسم حركة ما، لسبب جعله يشابه الفعل، فحينئذ يفقد تلك الميزة التي لا توجد في المشابه، لذا لا يظهر على الممنوع من الصرف الجر، لأن” ما كان مشابها للفعل في ثقله، حرم التنوين لأن الفعل لا ينون، وحرم الجر بالكسرة، لأن الفعل لا يجر أصلا”[13].

التكسير   عرض الدماميني لعلة تسمية التكسير بقوله :” سمي بذلك لتغيير بنيته تشبيها بتكسير الإناء[14]. فتكسير الأبنية اللغوية هو تغاير يحصل بين المفرد وجمعه، سواء كان ذلك بزيادة أو نقص، نحو: رسول، ورسل، وبناء وأبنية. وقد أوضح أبو البركات  الشبه بين التكسيرين: في الآنية والمعنى النحوي، حيث افترض سائلا يستفهم عن سبب التسمية “إنقالقائل: لمسميجمعالتكسيرتكسير؟قيل: إنماسميبذلكعلىالتشبهبتكسيرالآنية؛لأنتكسيرهاإنماهوإزالةالتئامأجزائها؛فلماأزيلنظمالواحدفكنضدهفيهذاالجمع؛فسميجمعالتكسير[15].

همزة النقل يقصد بها الهمزة الطارئة على الفعل لتضيف إليه معمولا لم يكن  موجودا قبل دخوله،  وقد ذكر الدماميني وظيفتها فقال :”وهي التي تنقل الفعل عما كان عليه من لزوم وتعدّ إلى واحد واثنين إلى التعدي إلى واحد والتعدي إلى اثنين وإلى ثلاثة، فمن ثم سميت: (همزة النقل)، وتسمي أيضاً: (همزة التعدية) لذلك”[16]. فالتسمية منبعثة من الوظيفة النحوية التي حملتها الهمزة إلى البنية، لذا لقبت بوظيفتها.

 المقصور  وهو الاسم الذي في آخره ألف، وعن علة تسميته يذكر الدماميني احتمالين قائلا : “سمي الأول مقصورا، لأنه قصر عن ظهور الإعراب فيه، وقيل لأنه لم يمد”[17]. والعلة الأولى أكثر وجاهة، لأنها انطلقت من الشكل الخارجي للاسم، فالمقصور للزومه الألف تعذر ظهور الحركات عليه، فكان قصره يقصد به حبسه عن الحركات الظاهرة، وهذا خلاف ما عليه أكثر الأسماء المعربات، إذ تبدو على أواخرها حركات تفصح عن مواقعها من الإعراب. أما العلة الثانية، “لأنه لم يمدّ” فقائمة على  تلازمية المتضادين، فقولنا الاسم الممدود يفهم منه تلقائيا أنه غير مقصور، لذا أمكننا أن نعلل المقصور بذكره ضده، أي  ليس ممدودا.

المنقوص وهو “كل اسم آخره ياء خفيفة قبلها كسرة”[18]. والدماميني يلتمس لعلة تسميته أحد أمرين “وسمي … منقوصا لذهاب يائه مع التنوين، وقيل: لذهاب ضمته وكسرته من اللفظ”[19].والثاني أحسن تعليلا، لأنه دائر مع المنقوص في حالتي الرفع والجر، سواء كان منونا، أم مقرونا بأداة التعريف. وإذا حللنا وحدات التعليل الأول وجدناه ناقصا، لخروج المنقوص المعرف عنه، نحو القاضي، والمقتضي. فكان اعتماد التعليل الثاني أقرب إلى استكناه حقيقة المصطلح.

ب تعليل اختيار مصطلح على غيره

تعدد تسميات بعض المصطلحات النحوية، حيث يطلق على مفهوم نحوي أكثر من لفظ، وذلك راجع إلى تعدد الواضعين ، فقد يضع الأول مصطلحا فيشيع لدى أهل الاختصاص، ثم يبرز للمصطلح لفظ آخر مماثل له في الدلالة فيتساندان في الاستعمال دون أن يقع ارتباك أو خلط لدى المتلقين في تداولهما. وهذه الظاهرة عرفت في التراث النحوية منذ فجره الأول.

وبالرغم من قبول العلماء لظاهرة التعدد المصطلحي إلا أن ذلك لم يمنع من انتقاء بعض المصطلحات على مرادفتها، لأنها أحق بالتداول من غيرها، وذلك لاعتبارات علمية ومنطقية.

ضمير الفصل/ العماد

حاول الدماميني تقديم علل لاختيار بعض المصطلحات على بعض، حيث  جاء في سياق حديثه عن مصطلحي الفصل والعماد “فالفصل أخص إذ كل ما وضع للفصل كتاء التأنيث والإعراب قد اعتمد به على المراد منه، وليس كل ما يعتمد به في شيء يكون فصلا، ألا ترى أن زيدًا من (زيد قائم) معتمد عليه في المراد منه, ولم يفصل شيئًا من شيء؟ . وإذا كان الفصل أخص كانت التسمية فصلًا أولى. لخصوصه؛ لأن الأخص يكون مشتملًا على الأعم ضرورة عدم تحقق الأخص بدون الأعم, فيكون أكثر فائدة, فيكون أولى”[20] . وتقوية لهذا التصور لجأ إلى ذكر قول ابن الحاجب “وقد قرر ابن الحاجب في شرح المفصل وجه الأولوية على طريقة أخرى فقال: تسمية أهل البصرة له فصلًا أقرب إلى الاصطلاح؛ لأن الشيء يسمى باسم معناه في أكثر الألفاظ، ولما كان المعنى في هذا الضمير الفصل كان تسميته فصلًا أحرى من تسمية الكوفيين، فإنهم سموه باسم ما يلازمه ويؤدي إلى معناه, فكانت تسمية البصريين أظهر”[21].

ضمير الشأن/ ضمير المجهول

 وهذه التسمية مذهبية ف”ضمير الشأن عند البصريين، وضمير المجهول عند الكوفيين. وعن تعليل التسمية يقول الدماميني عن المجهول “لأنه لا يدرى عندهم على ماذا يعود، وتسمية البصريين أولى؛ لأنهم سموه بمعناه،  والكوفيون إنما سموه باعتبار وصفه”[22]. والتعليل بالمعنى أقرب إلى روح المفهوم، لأنه يعمد إلى ثبت قرائن ملازمة للشيءقد تفصح عن حقيقته ، أما الوصف فقد يتعدد مما يدفع إلى ضعف التفسير به، علاوة إلى تخلفه في بعض الحالات .

المحور الثالث: بعض مجاري المصطلح العلمي

بعد أن رأينا الشروط العلمية التي تسهم في ضبط معطيات المصطلح لتجعله قادرا على السيرورة في الحقول المعرفية، لأنه أحرز المقبولية، فكان سائغا للطالبين.

وقد بدا الدماميني متمسكا بقيود وضح المصطلحات العلمية، لما لها من قيمة علمية وتداولية في تقريب متصورات العلم،  ولأجل ذلك انبرى الدماميني منبها على بعض الظواهر  التي قد يتوهم أنها تصادم شروط المصطلح، وتجلب له الفوضى، غير أنه لشيوع تلك ومعرفة العلماء بمجاريها تحولت إلى إثراء للمصطلح.  واستنادا إلى مناقشات الدماميني حصر الباحث تلك المظاهر في الآتي:

التجوز في استخدام المصطلح

الأصل في المصطلحات العلمية أن يعمد في وضعها على الدقة، بحيث يحتوى في اللفظ المضمون المتعارف عليه لدى أصل الاختصاص، لأن ذلك يجعل الطريق سهلا إلى فهم المتصورات، فكل متلق لها يدرك حقيقتها دون حاجة إلى مرشد كالسياق ، أو التعريفات الإجرائية.  بيد أن النحاة قد يتخلّون عن الدقة في استخدام المفاهيم، وذلك عند ما يأمنون حدوث اللبس في التداول، فيميلون بالألفاظ الاصطلاحية إلى مجار غير مجاريها.

  وقد كان الدماميني حازما في تناول المصطلحات، يقظا لاستخداماتها، لا يغض الطرف عن اصطلاح خالف المتعارف عليه.  وهذا ما حدا به إلى لحظ بعض تجاوزات  ابن مالك في تداول المصطلحات العلمية.

ورد في كلام ابن مالك عن معمولات إنّ “يجوز رفع المعطوف على اسم “إن ” و” لكن ” بعد الخبر” وقف الدماميني على مصطلح المعطوف، مبينا قصد ابن مالك منه، ومعللا له. قائلا :لكن المصنف- على تقدير كونه يقول: هو من عطف الجمل على ما هو الصحيح- سماه معطوفا، فإنه شريك في المعنى، وواقع بعد عاطف، وليس بعده اسم آخر يكون خبرا عنه، فلما اشبه المعطوف من هذه الأوجه سماه معطوفا على سبيل التجوز”[23]. فاستخدام  ابن مالك لمصطلح المعطوف خرج عن دلالته الأصلية، ومن ثم راح الدماميني يعلل سبب ذلك ليمنح المفهوم وجها سائغا في انزياحه عن الأصل. ولما كانت القرينة السياقة لها حضور في كشف مسار المصطلح وما يكتنفه من دلالات مستحدثة،  الأمر الذي أدى إلى قبول التجوزات في التداول الاصطلاحي، لأنها تحدّد للمتلقي معنى المصطلح داخل النص.

ومما استعمل فيه المصطلح في غير موضع على سبيل التجوز، حديث الدماميني عن مصطلحي الجواب ودليل الجواب، قال : “فإن قيل: لو أطلق لدخل تحت المنع نحو: زيد إن جاء رأس الشهر أكرمه، برفع (أكرمه). قلنا: لا،  فإن المرفوع ليس جوابا بل دليل الجواب، وتسميته جوابا تجوّز من قائله”[24]. وربما سمّى التجوز توسعا  ورد في حديثه عن شروط الفاعل أن يسبق بفعل “تام» احترازا من الناقص، نحو كان، فليس المرفوع بها فاعلا، وتسمية سيبويه له بذلك من باب التوسع”[25]. وقد يلقبه بالمسامحة  قال معلقا على قول ابن مالك في اسم الإشارة “يقصران ” ف”قوله: (يقصران) مسامحة بالنسبة إلى الاصطلاح؛ إذ المقصود عندهم ما كان حرف إعرابه ألفا لازمة، وأولاء مبني، فالألف التي هي آخره ليست حرف إعراب,، بمعنى أنها محل للإعراب, وإنما الذي في محل الإعراب الكلمة بأسرها” وقد يقال: إنما يتم هذا أن لو أطلق لفظ المقصور, وهو لم يطلقه وأما مثل قولك: تقصر الكلمة، أي لا تمد ألفها، فلا نسلم أن فيه مسامحة، بل استعماله عندهم شائع.”[26].

الترادف في المصطلح

تعددت في التراث العربي بعض تسميات المصطلح لمعنى واحد، وهذا الإجراء رغم المآخذ عليه، لما يسبب من تشتيت لذهن المتلقي ، فضلا عن عدم إضافته شيئا جديدا على اللفظ الأول، خلا أن العلماء المتقدمين قبلوه وفتح نوافذ الحرية للمؤلفين في اختيار اللفظ المناسب لما يعتمل في فكرهم، قال قدامة : “والأسماء لا منازعة فيها؛ إذ كانت علامات، فإن قنع بما وضعت فذك، وإلا فليخترع لها كل من أبى ما وضعته منها ما أحب، فليس ينازع في ذلك”[27].

ونظرا لما حفل به النحو من تعدد في ألقاب المفهوم الواحد لم يجد الدماميني ما يمنع من اتباعهم في قبول الترادف، والقول بجوازه.

 عنون ابن مالك لمصطلح الذي يخلف الفاعل عند حذفه بقوله النائب عن الفاعل” وهذا المصطلح نادر في الدراسات السابقة على ابن مالك، حتى قال أبو حيان “هذاالاصطلاحفيبابالمفعولالذيلميسمفاعلهبالنائبلمأراهلغيرهذاالمصنف،وإنماعبارةالنحويينفيهأنيقولوا: بابالمفعولالذيلميسمفاعله”[28].  أما الدماميني فكان لا يرى بأسا بتعدد ألقاب المفهوم، لذا اكتفى بالتنبيه على الاستعمال الثاني للمفهوم، قال معلقا على قول ابن مالك :” باب النائب عن الفاعل»وبعضهم يترجم هذا بـ (باب المفعول الذي لم يسم فاعله)، ولا مشاحّة في الاصطلاح”[29].

ومن أمثلة قبوله لظاهرة الترادف ما ورد في حديثه عن علاقة الجملة بالكلام قال معقبا على قول ابن مالك :«وجملة» ولا إشكال في تعريفها بما يعرف به الكلام إذا جعلت مرادفة له، وأما إذا جعلت أعم – لصدقها دونه على الصلة مثلا من قولك: الذي قام أبوه زيد – فيحتاج إلى إفرادها بتعريف”[30].فاستخدام التعريف قد يفرز العلائق بين المفاهيم، ويبين مدى تطابقها، أو تنافرها لاستقلال كل بخصائص معينة.

الفروق بين مصطلحات يتوهم ترادفها

يذكر النحويون في سياق حديثهم عن ظن وأخواتها أن مفعولاتها قد تحذف، كلها أو بعضها، وقد استشهد الدماميني على ذلك بقول الشاعر:

لقد نزلت فلا تظني غيره مني بمنزلة المحب المكرم

أي: فلا تظني غيره واقعا” ثم نبه على أن الحذف يعتوره مصطلحان ينبغي الانتباه إلى فروقهما الدلالية، لما يترتب على ذلك من أحكام : واعلم أنهم يسمون الحذف لدليل: اختصارا. ولغير دليل: اقتصارا”[31].فالقرينة هي الرمز الفارق بين المصطلحين، إذ تحدد نوع التسمية للمصطلح. وتبعا للفروق الدلالية بين المصطلحين حدقت عيون النحاة إلى عناصر الجملة المكونة للنص، حضورا وغيابا، وذلك ما عبّر عنه الدماميني، حيث قال في حذف المفعولين :”فأما حذفهما اختصارا فلا خلاف فيه، وأما اقتصارا ففيه مذاهب :أحدهما: المنع مطلقًا، وهو ما أورده المصنف في المتن. قال في الشرح وهو مذهب سيبويه والمحققين ممن تدبر كلامه”[32].

الانتباه لحمولة المصطلح العامة

ومما تجدر الإشارة إليه في دراسة مفاهيم العلوم الانتباه إلى حدود استعمال اللفظ، فقد يكون للمصطلح  في حقل واحد، مفهوما موّسعا، لكن شهرة إطلاقه على معين قد غيّبت عن الدارس الدلالة العامة، وذلك لتعارف القوم على تداول المعنى الخاص.

ففي قوله ابن مالك  عن أفعال الظن «وتسمى» الأفعال المتقدمة على (صير) قلبية» قال الدميني مفسرا معنى القلبية “لقيام معناها بالقلب، ولا تختص هذه التسمية بها، بل يسمى بها كل فعل تعلق معناه بالقلب وإن لم يكن ناصبًا لمفعولين نحو: عرف وفكر”[33]. فمصطلح فعل القلب حسب الدماميني يصدق على كل فعل صدر من القلب، فدلالته على الفعل الناصب لمفعولين من باب إطلاق العام على جزئه.

خاتمة البحث

درس البحث موضوعا ذا أهمية في الماضي والحاضر، حيث  تناول قضية المصطلح العلمي، فكشف عن شروط وضعه، باعتبار الوضع هو صمام أمان المفهوم، لأنه مفتاح استكناه حقائق العلم، فإذا أحسن فيه حسنت موائد العلم، وإن أسيء الوضع ساءت مباحث العلم، ولم يفلح تداوله في الساحة العلمية، وقد أفصح الدماميني عن شروط وضع العبارة الاصطلاحية وما لها من قيمة، إذ تشقّ  للعلم مكانة سامقة في البناء الاصطلاح العام، لتحرك  عجلة المصطلحات وتثبتها، إعانة للعلم على السير قدما حتى يتمكن من حجز مكانة في مصافّ العلوم. كما عرّج البحث على أعلاق نفسية تتصل بالمصطلح، كالبحث عن علل تسميات المفاهيم، واختيار بعضها على بعض، وكذا خاصية الترادف وما ينشأ عنها من إبداع للمصطلحات العلمية.

هوامش البحث:

[1]تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد (1/ 160)

[2]الأصول في النحو (2/ 366)

[3]تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد (4/ 85) 84.

[4]تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد (3/ 73)

[5]تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد (1/ 134)

[6]ــ المنهاج،ج2، ص:181.

[7] تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد (1/ 288)

[8]تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد (2/ 197)

[9] ” المزهر في علوم اللغة وأنواعها (1/ 314)

[10] خالد حوير الشمس، تعليل المصطلح النحوي دراسة في إجراء التسمية،  مركز الكتاب الأكاديمي، عمان، الأردن، ط1، 2021، ص: 16.

[11]تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد (4/ 93)

[12] تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد (1/ 131)

[13]معاني النحو (3/ 284)

[14] تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد (1/ 214)

[15]أسرار العربية (ص: 70)

[16] تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد (4/ 208)

[17] تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد (1/ 254)

[18] اللمحة في شرح الملحة (1/ 175)

[19] تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد (1/ 254)

[20]تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد (2/ 128)

[21] تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد (2/ 128، 129)

[22]تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد (2/ 120)

[23]تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد (4/ 84)

[24]تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد (4/ 277)

[25]تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد (4/ 218)

[26] تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد (2/ 318)

[27]نقد الشعر، قدامة بن جعفر، تحقيق وتعليق: د. محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتب العلمية، بيروت ــ لبنان. ص:68.

[28] التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل (6/ 225)

[29]تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد (4/ 251)

[30]تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد (3/ 77)

[31]تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد (4/ 133)

[32] تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد (4/ 133)

[33] تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد (4/ 159)

مصادر البحث

أحمد محمد أمين هزايمه، مصطلحات الإعراب والعامل النحوي، دراسة في فقه المصطلح، مجلة مجمع اللغة العربية على الشابكة، بمكة المكرمة، العدد (13) 2017م.

أبو حيان الأندلسي، التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل ، تحقيق: حسن هنداوي، دار القلم – دمشق، الطبعة: الأولى.

خالد حوير الشمس، تعليل المصطلح النحوي دراسة في إجراء التسمية،  مركز الكتاب الأكاديمي، عمان، الأردن، ط1، 2021م.

 عبد الرحمن بن محمد، كمال الدين الأنباري (ت: 577هـ) أسرار العربية، دار الأرقم بن أبي الأرقم، الطبعة: الأولى 1420هـ- 1999م.

عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (ت: 911هـ) المزهر في علوم اللغة وأنواعها، تحقيق: فؤاد علي منصور، الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى، 1418هـ 1998م.

فاضل صالح السامرائي، معاني النحو،دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع – الأردن، الطبعة: الأولى، 1420 هـ – 2000 م.

محمد بن حسن، ابن الصائغ (ت: 720هـ) اللمحة في شرح الملحة، تحقيق: إبراهيم بن سالم الصاعدي، عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1424هـ/2004م

قدامة بن جعفر، نقد الشعر، ، تحقيق وتعليق: د. محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتب العلمية، بيروت ــ لبنان.

محمد بدر الدين بن أبي بكر، الدماميني (827 ه) تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد، تحقيق: محمدبن عبد الرحمن بن محمد المفدى، الطبعة: الأولى، 1403 هـ – 1983م.

محمد بن السري بن سهل النحوي المعروف بابن السراج (ت: 316هـ) الأصول في النحو تحقيق: عبد الحسين الفتلي، مؤسسة الرسالة، لبنان – بيروت.

يحيى بن حمزة العلوي، المنهاج في شرح جمل الزجاجي  دراسة وتحقيق، د. هادي عبد الله ناجي. مكتبة الرشد ناشرون. الرياض،  الطبعة الأولى، 143هـ. 2009م.

*جامعة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ــ موريتانيا

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of