بلغت الحضارة العربية في العصر العباسي الذهبي ذروة زهوها، وأوج إبداعها، ولاسيما في النتاجات الفنية و العمرانية والأدبية، وكثيراً ما نشأت في ظلال هذا التحضر ظواهر خارجة على السرب، تميّزت بمشكلاتها من ذلك ظاهرة التماجن في الأدب ، وقد أخذت هذه الظاهرة في الأدب العباسي أسيقة مختلفة منها ارتقى إبداع أدبي يتصل بصنوف فنية شكلت نوى أولية لتيارات أدبية نضجت بعد قرون.
فكانت تلك التجارب التي حسبت على المجنون جذوراً لها، وهذا ما نبحثه في تجربة أبي العبر الشعرية التي شكلت أصولاً تأسيسية لجوانب من فن الكاريكاتور الشعري، و تماسه مع ظواهر عرفت في عصور تالية بالتيارات السوريالية والدادائية، فضلاً عن تمركز البحث على استقراء القناع السياسي للسخرية بوصفه أداة فنية رمزية، تُفلت الخطاب الشعري من التعبير المباشر عن مواقف ذات حساسية معينة، ثم ندرس جماليات السخرية عنده وفق نظريات علم، وكان أغلب مَن قد قرأ الدارسون هذه الظواهر احتسبها على أنها طفرات شاذة، خارجة على قانون الحضارة وقيمها، ومنهم مَن رأى فيها تعبيراً عن الإفراز الطبيعي لترف الحضارة ، فما رأى فيه إلا صورة للتسلية واللهو، وراح يصنّف هذا الإبداع في مدارج السخرية والطرافة .
حياته
هو ابو العباس محمد بن محمد(250هـ / 864م)، الملقب بحمدون الحامض[1]ابن عبد الله بن عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، ولد بعد خمس سنين خلت من خلافة الرشيد، وعمّر إلى خلافة المتوكل، وهو يلتقي بالنسب مع الخليفة المتوكل، وكان مضحكه[2]، ويبدو أن أبا العبر كتب الشعر مبكراً بحسب ما يروي صاحب الأغاني أنه: ” صالح الشعر مطبوع، يقول الشعر المستوي في أول عمره، ثم ترك الجدّ وعاد إلى الحمق والشهرة به”[3].
البنية السياسية لمواقف أبي العبر
لاشك في أن الحمق، والتحامق اللذين توسلهما أبو العبر منهجاً في الحياة، والأدب يرتدان إلى فلسفة شخصية للحياة التي كان يعيشها، فقد أثرت في تكوينه الشخصي مختلف مظاهر الحياة التي عاشها بما فيها السياسية والثقافية” و شكّلت العوامل الاقتصادية السائدة (جوانب ) من شخصية أبي العبر، لاسيما أنها كانت في معظم تاريخ الأدب حوافز قوية في توجيه أغراضه، وتعدد مذاهبه”[4] فقد ” كسب في الحمق أضعاف ما كسب كلّ شاعر كان في عصره في الجد ونفق نفاقاً عظيماً “[5] لا شك في أن للعامل الاقتصادي دوره، لكنه كان نتيجة حتميةً للسياسي الذي يؤسّسه ويبنيه، ولا يفوتنا هنا أن الحماقة عند أبي العبر لا تنحصر بالتكسب لذاته،لأنه من ذوي قربى الخليفة من جانب، ومن آخر فإن حماقته لم تقف عند الشعر، بل تحولت إلى سلوك حياتي يمارس فيه موقفه الرافض للحياة السياسية القائمة، فقد عاش مرحلة تاريخية هي من أخطر مراحل الاختلاط، والتذبذب العقدي، والاضطراب المبدئي، مرحلة تنوء بتناقضاتها إلى حدّ أفقدها سماتها العامة، فكانت مرحلة تبذير الجراثيم التي أكمنتها نتيجة التلاقح، والتهجين، ، والتعمية، التي وصلت إليها الدولة العباسية في تلك الحقبة.
وكانت هذه المرحلة تعيش فيها الدولة طور انتعاش تفسخها في حوض سلطة العباسيين التي نضحت بما فيها تحت وطأة تدفق تيار الاختلاط الحضاري والثقافي والعقلي الذي اخترق كل الثوابت التي تدعي الدولة الانتماء إليها، و حاول الخليفة المتوكل يقف في وجه طوفان التدمير، لينقذ ما تبقى، لكن الأمور فلتت من عقالها. فشره يتبع سياسة التجميد الآني لحال السلطة لعله يوقف عجلة الخراب القادم حقداً أو انتقاماً أو ثأراً من سلطة طالت سياستها التوفيقية حيناً و القمعية أحياناً كل أطياف المجتمع التي كانت تغلي بحراك شعوبي، مذهبي، سياسي، أكمن القهر كثيراً، وعانى الاستبداد الذي ألغى هوياته المختلفة سياسياً واقتصادياً وفكرياً. إزاء ذلك عمد المتوكل إلى إشاعة طابع التقليد في الحياة على مختلف مستوياتها حداً مرحلياً من شراسة التغيير القادم، فكان التقليد يعوم على سطح الرمال المتحركة نحو تمزيق هوية الدولة، وعاش أبو العبر في هذه الفترة فترة جرح ما قبل العاصفة. فخبر في سامراء مدينة جند الأتراك القادمين ببداوتهم، وجلافتهم من خارج الثقافة، والحضارة جراداً أسود، يسوم حديقة الحضارة العربية التي طغت عليها الطفيليات، واختلط نخلها بحنظلها، وتبنها بشوكها، فنهشوا بهمجية بربرية فاكهتها، وداسوا زهوتها.
تحسس أبو العبر في وسط هذه الحلكة- المنذرة بمطرها الحامض- وجع النعيق القادم، فما كان منه إلا الخروج على العقلانية الجامدة السائدة ، ينتهك صورها مشاكساً مقوماتها، في زمن لم يبق فيه من مفهومات العقل إلا معناه البدائي أي (القيد، العقال) وأدواته المتمثلة بالنظام السلطوي المستبدّ، المختنق بأزماته ؛ وما على الإنسان إلا أن يعقل عقله ويتحامق. وهذا ما تبناه أبو العبر في التعبير عن موقفه السياسي بالحماقة التي اتخذها قناعاً لموقفه السياسي.
مظاهر القناع السياسي في شعر أبي العبر
القناع هو أسلوب فني تطوّر عن الرمز، تحضر من خلاله الذّات، أو الأنا فيما هو غير مجالها، أو هويتها الخاصة؛ أي إلباس الأنا بالأقنعة التي يراها الشاعر مناسبة وفق خبراته وحاجاته الفنية لشعرية يريد بها التعبير بالترميز عن حالات لا يرغب في إظهارها بالطريقة المباشرة، فالقناع هو ضرورة أو وسيلة لإشعاع الأنا، ويراد منه حضور الشيء فيما هو سواه. والقناع لغةً “هو ما تتخذه المرأة من ثوب أو سواه لتتقنع به، وتغطي رأسها ومحاسنها”[6] ومنه الاستعارة[7] المستخدمة في المسرح لإخفاء الملامح، وإبداع نمط آخر يخدم الغرض، وهو في الشعر المعاصر” وسيلة درامية للتخفيف من حدّة الغنائيّة للمباشرة، وهو تقانة جديدة في الشعر الغنائي لخلق موقف دراميّ، أو رمز فني يضفي على صوت الشاعر نبرة موضوعية من خلال شخصية من الشخصيات يستعيرها الشاعر من التراث أو الواقع”[8].
ويحقق الشاعر عبر استعاراته للقناع بلاغة شعرية، تتسم بخصوصيتها المعنوية والنفسية والفنيّة، وهي غايات أخرى للبحث عن الابتكار والاختيارات الفنية التي يأمل فيها الانفراد والاستواء النفسي، أي البحث عن الذات في الآخر، أو تحقيق فنيّة الآخر بالذات، لتعيش تجربته، وتتملّى بأحاسيسه، وخبرته الشخصية لتجسد رؤيته، وتؤدي عبر مرجعيتها ومساحتها في الذاكرة الإنسانية حياة جديدة (بناء جديداً مشاركاً زمنياً،الماضي الحاضر والمستقبل) غير منفكّة تماماً عن حقيقتها، ويتجلّى ذلك بابتكار مزجها بتجارب جديدة، تجعلها تنفتح على أفق عصرها دون أن تخسر موقفها وكينونتها الأصيلة، وفيما يلي سوف نقف عند بعض مظاهر القناع عند أبي العبر .
التحامق و الكاريكاتور الشعري
الحمق سلوك إنساني ينتج عن انفعال حاد يرد فيه الإنسان عن عجزه في مجابهة الواقع وقد أسس التراث العربي لمستوى هذا المفهوم في تمييزه بين العقل و الحمق، فقد جاء في اللسان ” الحمق: ضد العقل.الجوهري: الحُمْق والحُمُق قلة العقل ، حَمُق يحْمُق حُمقاً وحَمقاً وحماقة، وحمق و انحمق و استحمق الرجل فعل فعل الحمقى[9]” أما صيغة التحامق فهي تعني اصطناع الحمق وافتعاله، فهو خلاف الحمق، لأن الأول أصيل في تكوين الإنسان،أما الثاني فهو مكتسب، ومفتعل، ومصطنع، و مقصود لغايات يبغيها مفتعلها، وتدفعه إليه أسباب، وعوامل سياسية، واجتماعية، واقتصادية، ونتجت هذه العوامل عن السياسة الترويضية التي تفرض شوكة سلطانها على كل شيء من دون حكمة، فتمنهج عناصر الحياة بما يخدمها، ويوافق سيرورتها؛ و تدعونا هذه العوامل إلى الحفر في بنية أقنعة الموقف السياسي لأبي العبر في التحامق الذي تلبسه و تمظهر شعره فيه، إذ تبطل دافعية الحاجة أو العوز لافتعال سلوك التحامق، ولاسيما أن الشاعر قريب الخليفة ومن عصبه الأسري؛ وهذا يعني أنه لا يعدم الوسائل الأخرى في تدبر شؤون عيشه، وكان باستطاعته وهو نديم الخليفة أن ينعم بعطاياه وهو بمنأى عن هذا السلوك. وهذا يدل بجلاء على أن الشاعر تقنّع بالتحامق للتعبير عن فلسفته الرافضة للواقع السياسي ، وهو يدل على وعي بالجد والعقل :
لا أَقُولُ اللهُ يَظْلِمُنِي كَيْفَ أَشْكو غَيْرَ مُتَّهَمِ
وَإذا ما الدَّهْرُ ضَعْضَعَنِي لَمْ تِجدْنِي كافِرَ النِّعَمِ
قَنَعَتْ نَفْسِي بِما رزُقِتْ وَتَناهَتْ فِي الْعُلا هِمَمِي
لَيْس لِي مالٌ سِوَى كَرِمِي وَبِهِ أَمْنِي مِنَ الْعَدَمِ[10]
تشرق في هذه الأبيات همة أبي العبر في الحياة عالية ، تنأى عن التصاغر في فم ثعبان المادة المتهيئ لافتراس إنسانه، وهو يعبر عن فلسفة رصينة تؤمن بالجد و العمل، وتنقض هذه القناعة -المتوهجة بوعيها، وشموخها الإنساني- تهمة اصطناع الحماقة بقصد تسويق شعره، و لهاثه وراء التكسب وحسب على أننا لا ننفي استثمارها . ويسند ذلك ما يتلألأ من حقائق تكشف عن حال أبي العبر في سياق حديث الزبير بن بكار: قال عمي: ويحك ألا يأنف الخليفة لابن عمه هذا الجاهل مما قد شهر به نفسه، وفضح عشيرته، والله إنه لعرّ (الجرب والقذر والجنون ) بني آدم جميعاً، فضلاً عن جهله، أفلا يردعه ويمنعه من سوء اختياره فقلت: إنه ليس بجاهل كما تعتقد إنما يتجاهل”[11].
نحن أمام اعتراف واضح أن أبا العبر يتجاهل أي يتحامق و ليس بأحمق، وفي الإجابة عن سبب هذا التحامق تكمن دوافع الشاعر وتجلياتها الفلسفية التي تعني التعبير المقنع عن واقع سياسي مرفوض. وفي هذا السياق علينا ألا نظلم الخليفة (المتوكل ) الذي سعى إلى إعادة الروح العربية للدولة، ودفع عمره ثمناً لهدفه، فكانت مساعيه آخر محاولة جادة لإنقاذ الدولة العباسية العربية، فكيفه وهو على هذه الحال من الإدراك بمآل السياسة أن يتجاهل حمق أبي العبر الذي يعرّ نسبه، ونحن على بينة من حساسية، وقدسية النسب للعرب، ولا سيما خليفتهم.
لا شك في أن الخليفة مقتدر على إثراء الشاعر بلمحة طرف، لكنه كان يدرك البعد العميق لهذا التحامق الذي أصبح آلية دفاع لا شعوري للإنسان، فلا مكان للعقل في زمن تهجّنتعقلانيته بلقاحات أنتجت هجائن لا براء من خبطها العشوائي إلا بالتحامق. وهذا هو انطلاق مدى وعي أبي العبر بالمرحلة وظرفيتها، لأن العقل هو عقل السلطة للإنسان وتقييده .
و جعل أبو العبر التحامق مادة لصورة شعرية تماثل فن الكاريكاتور الذي ألفناه في الرسم، ويراد به:” التعبير عنحدث أو فكرة باستخدام موهبة الرسم والتفكير المنطقي القادر على تحويل الأفكار إلى رموز مكتوبة ومفهومة، بقصد لفت الانتباه إلى أمر محمود ينبغي دعمه، أو تسليط الضوء على سلبية معينة ينبغي العمل على معالجتها، و يثير الضحك بتحريف الملامح الطبيعية أو خصائص ومميزات شخص أو حيوان أو جسم ما “[12]، وهو في الشعر يرسم بالكلام حادثة أو موقفاً أو شخصية تتقصد إثارة السخرية والتهكم والنقد عبر تحريف الطبيعة والخصائص و الأشكال، وهذا ما نلمحه في هذه اللوحة الشعرية التي ترسم ملامح تحامقه الأولى وفيها
أدرك أبو العبر مبكراً كساد العقل ( الحيوي ) الذي حل محله العقل السلطوي، بمعنى القيد السياسي، وتحسس وسط ظلمة الواقع مأساته، فعبر عنها بقناع السخرية الضحكة السوداء التي رسم بها لوحة هزلية للخليفة المهزول فاضحاً بتحامقه سخف الحال الذي آل إليه رمز الخليفة:
ويأمرُ بي المـــَـــــــــــــــــلكْ
فيطرحُني فـــــــــــــــــــــــــــــي البــــُـــرَكْ[13]
ويصطادُني بالشَّــــــبَكْ
كأني من الســــَّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــمَكْ
ويضحكُ ككككككــــك
كككككككككككـــــكك[14]
وذلك أن المتوكل ” كان يرميه بالمنجنيق في الماء وعليه قميص حرير، فإذا علا في الهواء صاح الطريق الطريق، ثم يقع في الماء فتخرجه السباح، وكان المتوكل يجلسه على الزلاقة، فينحدر فيها حتى يقع في البركة، ثم يطرح الشبكة فيخرجه كما يخرج السمك”[15]
يرسم أبو العبر هذه الحادثة بمشهد كاريكاتوري لنفسه وللخليفة معاً، هازئاً من حاليهما ولاسيما الخليفة الذي دعاه عجزه إلى التعالي عن إنسانيته في لهوه الماجن المنتهك للإنسان، ولم تكن هذه الواقعية التسجيلية إلا إيحاء بالعجز السلطوي، ومزاجه المخترق لكل الحرم الإنسانية، فلا يفتأ ينقلب إلى مهرج يداري عجزه بسخرية صارت عند الخليفة نفسه قناعاً؛ ويوحي بذلك غمزه بقوله:” كأني من السمك” وعلى الرغم من أن المشهد يدل عليها، فإنه يوثقها كي يوخزنا بها ويوجعنا بوجعه، و يشدد الشاعر سخريته بتقطّع ضحكه المخزي المبكي.
وإذا طال ضحك أبي العبر شخص الخليفة، فلاشك في أنه سيتعداه إلى مختلف مفاصل بنية السلطة ورموزه، فكان للقضاء بوصفه رمز العدالة وأعلى مراتب هيبتها، فيهجو في تصوير كاريكاتوري قاضيين معروفين في زمانه “حيان بن بشر، وسوار بن عبد الله ” كاشفاً من ما آلت إليه الدولة[16]:
رَأَيْتُ مِنَ الْعَجائِبِ قاضِيَيْن
هُما أَحْدوثَةٌ فِي الْخافِقَيْنِ[17]
هُما اقْتَسَما الْعَمَىِ نَصْفَيْنِ فَذًّا
كَما اقتْسَمَا قَضاءَ الجْانِبَيْنِ
هُما فَأْلُ الزَّمانِ بُهلْكِ يَحْيَى
إذا افْتُتِحَ الْقَضاءُ بِأَعْوَرَيْنِ
وَتَحْسِبُ مِنْهُما مَنْ هَزَّ رَأْساً
لِيَنْظُرَ فِي مَوارِيث وَدَيْنِ
كَأَنَّكَ قَدْ جَعَلْتَ عَلَيْةِ دَنَا
فَتَحْتَ بُزالَهُ مِنْ فَرْدِ عَيْنِ[18]
أظهر أبو العبر في لوحته القاضيين نادرة يتداولها الناس هزءاً وتندراً مخزياً لما صار عليه حال المجتمع، فقد قام على القضاء قاضيان أعوران، فتقاسما العمى كما تقاسما القضاء بين الفرقاء، فكانت أحكامهما مدعاة سخرية وعبث وسخط، وسخر الشاعر من صورتيهما وهما يهزان رأسيهما كما الدن يبزل من عين واحدة.
ولا نستطيع- في هذه اللوحة الهازئة – تجريد القاضيين لذاتهما، لأن القاضي معين بقرار من الخليفة، وهو ممثله، وصورته في العدالة الاجتماعية، لا يخرج على سلطته وتوجيهاته، وهذا يعني أن هجاء القاضيين هنا ممتد إلى هجاء الحكم والسلطة، فالشاعر يريد أن يغمز من السفه الأخلاقي والعقلي الذي تدنت إليه السلطة، وما كان لأبي العبر من سبيل إلى فضح ذلك إلا بالهزل والسخرية، مديناً النهج السلطوي في الحكم، وإدارة الدولة.
وهكذا ينكشف تحامق أبي العبر بوضوح عن موقفه السياسي إزاء الدولة وسلطتها المنجرفة نحو الهاوية، والانهيار، والتفكك، فلا سبيل للشاعر في مرحلة بهذه الصورة من المجابهة المباشرة، وهذا يدلنا على أن جدية المناهضة والوعي الناضج بها هما اللذان يدفعان الشاعر إلى الابتكار الفني للقناع الساخر ليكون سلاحاً يناضل به مهما ضعف، وذلك هو تحامق أبي العبر.
التصادم
احتذى أبو العبر منهجاً أدبياً، وسلوكياً تصادمياً مع ذوق المجتمع وقيمه وتقاليده ومسالكه، وكان يرمي من ذلك بناء فاعلية سياسية من خلال مصادمة المؤسسات المكونة للسلطة،واستباحة منظومة القيم القوانين السارية في المجتمع، كونها مؤسسات السلطة-( ذاكرة، وحاضراً) – التي تدعم وجودها، وفيها يأخذ مداره السلطوي الحيوي، فكان أبو العبر يقتحم بنية هذه المؤسسات مصادماً السلطة في نسيجها التكويني. ولم يكن أبو العبر منفصلاً في قوله عن فعله، فقد كان يمارس في حياته سلوكاً غريباً عن بيئته مصادماً منظومته، وهذا ما تحكيه مجالسه في سامراء حيث كان يعيش في هذا المجلس حالاً اجتماعياً خاصاً به يفرض عليه غرائبيته، وهو يومئ بمجالس السلطة المفرطة في تسلطها، حيث كان يستعيدها بالتشخيص التمثيلي، إذ يستبدلها تمثيلاً بمجتمع دوني يقلد المجتمع السلطوي الفوقي بانياً تصادماً ذاتياً بين التقاليد الشعبية و السلطوية من خلال تحميق النظام وتقاليده بصورة كاريكاتورية تشرح هزله وسخفه. من ذلك ما يرويه صاحب الأغاني:” كان أبو العبر يجلس لسبر من رأى في مجلس تجتمع عليه المجان، يكتبون عنه، فكان يجلس على سلم وبين يديه بلاعة فيها ماء و حمأة وقد سد مجراها، وبين يديه قصبة طويلة وعلى رأسه خف، وفي رجليه قلنسوتان،ومستميله في جوف بئر، وحوله ثلاثة نفر يدقون بالهواوين حتى تكثر الجلبة، ويقل السماع، ويصيح مستمليه من جوف البئر: من يكتب عذبك الله ؟ ثم يملي عليهم، فإن ضحك أحد ممن حضر، قاموا فصبوا على رأسه من ماء البلاعة إن كان وضيعاً، وإن كان ذا مروءة رش عليه بالقصبة من مائها، ثم يحبس في الكنيف إلى أن ينفض المجلس ،ولا يخرج منه حتى يغرم درهمين، وكانت كنيته أبا العباس فصيرها أبا العبر، ثم كان يزيد فيها في كل سنة حرفاً حتى مات ، حتى صارت: أبو العبر طرد طيل طلير ي بك بكبك “[19] .
تكشف لنا مثل هذه الحكايات عن نوادر أبي العبر منهجه في إبداع مسلكية حياتية مصادمة بعنف للمجتمع وقيمه، وأعرافه، مبطناً هذه المسلكية موقفه السياسي الرافض لخطى الدولة العباسية نحو الهاوية، و مصيرها الحالك كون هذه السيرورة تجلياً لسياسة السلطة القائمة.
و يسعى أبو العبر إلى اختراق السلطة، بشعرية ناقدة تخترق المعايير الاجتماعية والسياسية، وتقلبها، ونقل سخريته هذه إلى أدق حالات الوجدان التي ينتفي معها الهزل، فهو- مثلاً – يتغزل على طريقته الخاصة الساخرة من زيف العواطف التي طالتها جرثومة الخراب بفعل حركة المجتمع المسيّسة باضطراب واصطدام[20]:
باضَ الْحُبُّ فِي قَلْبِي فَواَوْيلِى إذا فَرَّخْ
وَما يَنْفَعُنِي حُبِّي إذا لَمْ أَكْنُسِ الْبَرْبَخْ[21]
يعكس هذا الشعر فظاعة اضطراب الأحاسيس وخلل المشاعر الذاتية السامية التي طرأت على الحياة في تلك المرحلة، وتكشف عن عمق مأساة ذوبان القيم الإنسانية، ونستطيع أن نتخيل وجع المسحة المأساوية المخيمة على حياة هذا المجتمع الذي انتهك أسمى عواطفه (الحب) الذي تحول التغني به إلى تندر كاريكاتوري شديد التجويف للحياة ومعانيها .
التماجن وجذور الدادائية
سادت في أواسط العصر العباسي ظاهرة المجون التي تعني ممارسة سلوكي حياتي مرفوض اجتماعياً ودينياً ، وفيه أن الماجن يرتكب المقابح و الفضائح المخزية لا يمضه عذل عاذل ولا تقريع من يُقرّعه[22]، وهو لا يكاد ينقطع هذيانه وليس لقوله وفعله حدّ ولا تقدير. ومنه مجن الشيء: صلب،ومنه: الماجن: لصلابة وجهه[23]. ولأن المجون ظاهرة شاذة طارئة على القيم الإنسانية تنأى عن أخلاقهم وعاداتهم فقد قالوا عن من سلكه ليس بعربي خالص[24]، تبرءاً منه،
فالتماجن هو افتعال المجنون واصطناعه، ويبدو أن أبا العبر برع في التطبع بسلوك التماجن بصفته رد فعل على الواقع الذي يرفضه، واتخذ الضحك الأسود سبيلاً إلى ذلك، فلم يقف عند السخرية من توقيعة إشراق الوجود ، ونافذة إشعاعه( الحب)، فامتداد إلى أوجع المناطق الإنسانية شذوذاً من خلال المغايرة الجنسية في الحب (المثلية ) وذلك بلجوئه إلى الغزل بالمذكر ، فيقول مقيماً الذكورة مكان الأنوثة[25]:
هَوًى دَفِينٌ وَهَوًى بادِي
اظْلمْ فَجازِيكَ بِمِرصْادِ
يا واحِدَ اْلأُّمَّةِ فِي حُسْنِهِ
أَسْرَفْثَ فِي هَجْرِي وَإبْعــــادِي
قَدْ كِدْتُ مِمَّا نالَ مِنِّي الْهَوَى
أَخْفَى عَلَى أَعْيِنُ عُوَّادِي
عَبْدُكَ يَحْيَى بِأَخْذِهِ قُبْلَةً
يَجْعَلُها خاتِمَةَ الزَّادِ
ينطوي الغزل بالمذكر على شعور معقّد، غارق بشذوذ لا إنساني، ولّدته تحولات اجتماعية مختلطة المعايير،عاشت ذروة غابيتها ، فتفسّخت قيمها نتيجة الخلل السياسي الذي أحاق بالمجتمع. ولا شك في أن الشعراء الذين أتوا هذا النوع من الشعر انطلقوا من رد فعل لا أصالة راسخة في قعر نفوسهم المظلمة، إنما راحوا يعبرون عن الانقلابات العميقة في المجتمع ومبانيه من جهة، ومن جهة أخرى أفلتوا شعورهم الباطني المقنّع بالتذكير ليدينوا طغيان الذكورة التي هي معنى أصيل من معاني المجتمع السلطة القمعية الأبوية الممثلة لديهم بدكتاتورية السلطة ، وتعسّف سلوكها، وقد وارى أبو العبر هذا الشعور في بناء شعريته مقنّعاً السلطة بالتذكير،لأنها تتّصل بفعلها الإجرائي ووحدانية السلطة ، فليس الخليفة إلا واحدَ الأمة، والناس عبيده، وأدنى عطائه يحيي، وأقل غضبه يميت، ذاك هو شعور العشاق بمحبوباتهم.
وهو ذا واقع الناس مع خلفائهم، وإذا كان أبو العبر يصادم القيم السائدة في ظاهرها إنما يناغمها في تشكلها العميق، ويجابهها بالتماجن و التفاضح، ونجد أن أبرز صور التماجن التي اتبعها أبو العبر هي انتهاك الذاكرة الثقافية في مبانيها ومعانيها، إذ راح يقدم لنا شعراً يصادم ما هو معمول به اجتماعياً، يمكن تفسيره بالرؤيا الدادائية[26] التي ” تستخف بالدساتير الأخلاقية، والمواضعات الاجتماعية وكذلك بالقواعد الفنية، حيث أن مراعاة القانون نوع من المراءاةالمتعمدة، ينافي الصدق والأمانة الداخلية، وهما صفتا الأديب[27]“، وهذا ما لمسناه في شعر أبي العبر، بل إن شاعرنا يسبق المذهب الدادائي، ويؤسس حتى طرق ممارسة الإبداع، فقد كان الدادائيون يبشرون” بانهيار النظم القائمة، وانهيار الحضارة؛وكانت ثورته ضد كل ما هو عقلاني واجتماعي[28]“. وهذا ما جسده أبو العبر بالتماجن والتحامق، بل سبق أبو العبر رواد الدادائية التي نشأت من فكرة الاحتجاج على الأنظمة السياسية بطرق الكتابة الدادائية، إذ كانوا يكتبون تداعياتهم على أوراق، ثم يمزقونها، ويضعونها في قبعاتهم، ويخلطونها، ثم يكتبون ما تجمّع لديهم على شكل قصيدة، وهذا ما فعله قبلهم بأكثر من ألف عام أبو العبر، يروي صاحب الأغاني طريقة أبي العبر في الكتابة: ” أخبرني عم أبي عبد العزيز فقال: سمعت رجلاً سأل أبا العبر عن هذه المحاولات التي لا يُتكلم بها أي شيء أصلها قال: أبكر فأجلس على الجسر، ومعي دواة ودرج، فأكتب كل شيء أسمعه من كلام الذاهب والجائي، والملاحين والمارين، حتى أملأ الدرج من الوجهين، ثم أقطعه عرضاً وطولاً، وألصقه مخالفاً ، فيجيء منه كلام ليس في الدنيا أحمق منه[29]“. ومن هذا الشعر الذي يحسب سبقاً إبداعياً بمقياس الدادائيين ، قوله[30]:
أنا أنا أنت أنـــــــــا أنا أبو العبرنــّــــــه
أنا الغني الحمقوقـــــــو أنا أخو المجنـّــــــــه
أنا أحرر شــــــــعري وقد يجي بردنّــــــــه
فلو سمعت بشعــــــري في الدس والوترنّـــــــه
لسقر قر سقر نفـــــــر وما تارنـّـــــــــــه
لكنت تضحك حتــــــى تمسك البطنــــــــــة
يحقق هذا الشعر، وطريقة كتابته صورة طبق الأصل لما اعتبره التالون بعد ألف عام مدرسة أدبية سميت( الدادائية )، وقد ردّ عبد الله العذري[31]هذه الحالة الشعرية المتمثلة بأبي العبر إلى مصطلح الكولاجية، تلك المدرسة التي ابتدعت منهجاً غريباً للتعبير عن موقفها السياسي الرافض للسلطات السياسية، والاجتماعية ، والأدبية السائدة، كما ردّها بعضهم إلى السريالية، حيث رأوا أنه نستطيع أن نلتمس أساساً متيناً للسريالية في شعر أبي العبر، هذا المذهب الأدبي الذي يقوم على “التعبير بأية طريقة على العمل الواقعي للفكرة، وهي إملاءات فكرية في غيبة كل رقابة يفرضها العقل، بعيداً عن كل انشغال جمالي وأخلاقي”[32]. وكان شعر أبي العبر ممثلاً بقوة لهذه المساري الفكرية المنطوية على موقف سياسي رافض، يتجلى في ” تمّرده على الأدب الرسمي، والسلطة التقليدية، حيث يقيم فيها علاقات لغوية، أو دلالات معنوية تتسم بالتفكك وعدم الترابط ، وكأنه بذلك يثور على اللغة والمعنى والصور والألفاظ والقواعد في نزعة تحطيمية سريالية”[33]، يمارس عبرها موقفه السياسي :
أقرَّ الشــــــعراء أني ومرّوا في الحرمــــرم[34]
فقطعت الرأس منهــــم ثم جلد القد مـــــــــــدم
فعملنا منه طبــــــلاً من طبول الخد مــــدم
فضربنا به دمــــــدم ثم دمدم ثم دمــــــدم
عجباً يا قوم منـــــي كنت فيكم كالملمـــــم
اتصل أبو العبر- في ممارسة هذه المصادمة الاجتماعية، الثقافية، السياسية – بتفريد خطابه الشعري، وإن وجود هذه الظاهرة الإبداعية المتقدمة عند أبي العبر إنما يعني ملكته الحية في إنتاج اللاوعي الذي يرى فرويد أن الشعراء اكتشفوه قبل الجميع[35]، وإنما هو خزين الحدس والحس اللذين يكشفان عن المواقف الواعية المضمرة.
التصعلك
انتهج أبو العبر في رسم مواقفه السياسية و رؤاه الفنية الفكرية سلوك الصعلكة التي تعني في هذا السياق: الانتماء إلى الهامش الاجتماعي وقاعه والتعبير عنه وفق هذه الهامشية والقاعية؛ أي تسفيل وقار السياسة والفن و الفكر، ممتهناً السفه في ممارسة وعيه واللامبالاة في سنها. و التصعلك في مقام أبي العبر يحمل على رغبة تقويض القيم والأنظمة، وانتهاك المحرمات الاجتماعية وهي حال شقيقة للتماجن والتحامق، وصورة من صورها الهدامة، ولا يقتصر إبداع أبي العبر لجوانب من السوريالية في شعره على طريقة الكتابة، بل نلاحظ التقاء جلي بين مقولات أبي العبر مع مقولات السريالية الذائعة من حيث آلية تجسيدها، وفهمهم الصوري للأشياء، لقد قال السورياليون : “الفيلة معديةـ اضرب أمك وهي ما تزال شابة[36]“.
هذه عبارات تجسد اللاوعي الموارى في الكلمات التي تعني حدساً سياسياً مهماً، يتفسّر بالانهيارات، وهذا ما أبدعه قبلهم أبو العبر، ويتجلى لنا ذلك بقراءة مجالسه ، يروى ” أن أحدهم سأله : يا أبا العبر لِمَ صار دجلة أعرض من الفرات، والقطن أبيض من الكماة ؟ فقال : لأن الشاة ليس لها منقار، وذنب الطاووس أربعة أشبار، وقال آخر: لِمَ صار العطار يبيع اللبد، وصاحب السقط يبيع اللبن ؟ فقال: لأن المطر يجيء في الشتاء، والمنخل لا يقوم به الماء، وقال آخر: لِمَ صار كل خصي أمرد، والماء في حزيران لا يبرد؟ فقال: لأن السفينة تجنح والحمار يرمح “[37] .
لابدّ من الإشارة في هذا السياق إلى أننا لم نقاطع بين مذاهب أبي العبر بالتحامق والتيارات الفكرية الغربية إلا لنعاين مصداقية الموقف السياسي المقنّع بالتحامق لدى أبي العبر الذي أُخذ بظاهره على أنه استطراف ونوادر ، بينما كان في جوهره سبيلاً فنياً لأبي العبر في تمرير موقفه السياسي وبناء مداميك الرمز في شعره فنياً، ومن ذلك جوابه لإسحاق بن إبراهيم الذي سجنه حيث قال:”- هو فيما أرىـ مجنون: فقال أبو العبر:لا هو امتخط حوت ( امتخط : مج، وحوت : نون) فتصبح مجنون ، وقال إسحاق: إيش هو امتخط حوت..ففهم”[38].
يشف هذا الجواب عن دلالة واضحة على وعي أبي العبر للترميز، والتقنيع، وحيوية توظيفهما شعرياً . و هو لا يخف ضجره من السلوك الفضولي المعتدي على حرية الفرد ، فهو يرشدنا إلى طرق التخلص من الحالات الفاقعة، على سبيل المثال يقول:” إذ حدثك إنسان بحديث لا تشتهي أن تسمعه فاشتغل عنه بنتف إبطك حتى يكون هو في عمل وأنت في عمل [39]“.
إنه أسلوب المشاغلة والإيهام، وحسن التخلص هذا الذي ينتهجه أبو العبر في حياته وشعره، وهذا يعني أن التحامق عنده وسيلة للتعبير عن موقفه السياسي الرافض، وإن كان لا يرتد إلى مرجعية حزبية واضحة، مما كان سائداً آنذاك إلا أنه ينطلق من وعيه الثاقب للنهايات الفظيعة التي باتت تجنح إليها سلطة الخلافة نتيجة مناهجها التعسفية في انتهاك الإنسان، وتبديد حيوية الحياة الإيجابية من أجل فوزها بالسلطة الديكتاتورية وحسب.
هذا يدلنا على أن أبا العبر كان صاحب موقف سياسي عفوي حرّ، قوامه التصعلك الثائر الساخط، يدعو إلى حياة خارقة للقوانين و السلطة، وذلك من دون التظلل بستائر الانتماء الحزبي المنظم على ما في أرائه تقاطع مذهبي مع تيارات سلطوية؛ لأن الأحزاب جميعها انتهت إلى عقيدة سلطوية تتوارى بمطالب ودعاوى مزيفة، لكنّ أبا العبر دفع حياته ثمناً لتصعلكه السياسي المعلن الذي لم يبح به لو كان أصحابه محصّنين بسلطة قائمة، أعلى نبرة هجومه لمن ظن أن الزمن لا يحالفهم على معاقبته، لقد أزرى بأبي العبر نزقه السياسي، وتشبّعه بالمناوأة التي لا تخلو من صعلكة مزاجية حادة شأنه شأن رواد التغيير الثوري الصاخب . ويروي صاحب الأغاني: ” كان أبو العبر شديد البغض لعلي بن أبي طالب عليه السلام، وله في العلويين هجاء قبيح، وسبب ميتته أنه خرج إلى الكوفة ليرمي في البندق مع الرماة من أهلها في أجامهم، فسمعه بعض الكوفيين يقول في علي قولاً قبيحاً استحل به دمه فقتله في بعض الآجام وغرقه فيها” [40] .
هكذا قضى أبو العبر صريع مواقفه السياسية التي لم يحسن ختامها، لأنه جاهر بجزء منها مستخفاً بأصحابها القابعين خارج السلطة، فخدعه أمانه الذي حماه طويلاً بدرع الحمق من السلطان الأقوى .
القيمة الجمالية للضحك الأسود
طبعت السخرية حياة أبي العبر، وصبغت أحاسيسه وروحه بألوانها القاتمة، فلم يكن في حياته ما يثير الفرح الحقيقي سوى غبطة تلك اللحظات الهجينة من اللهو، أو نشوته النفسية في الانتقام لقهر بتكوين لوحة كاريكاتورية، تنزّ ضحكاً أسود، تثأر له من الواقع، هي سبيله في التعبير عن القبح المقيت في الشكل والتفاهة في المواقف والعلاقات والقيم”، وهي طريقة تحرّض وتعمل على تكوينه بصفته تعبيراً قوياً عن الإحساس بالتناقض والقبح والمخالفة للمرغوب والجميل اجتماعياً”[41]، فتبدو العلاقة المشتركة بين الساخر والمضحك، وهذه العلاقة المشتركة يشعر بها كل إنسان في خبرته الجمالية ، وإن الاختلاف بينهما، يرجع إلى أسباب نشوء كل منهما وإن اختلفت سمات كل منهما، ففي حين يكون المضحك ظاهرة نفسية يكون الساخر هو ظاهرة جمالية”[42].
و لاشك في أن السُخْرية بصفتها قيمة جمالية يكوّن الضحك عبر بناء الشعور بالسُخْرية والهزْلية، لكن الضَّحِك لا ينشأ عن الإحساس بالسرور والسعادة. و صاغ أبو العبر صوراً ساخرة لأناس، أراد هجاءهم، فقدّمهم عبر مشاهد مبنية على المضمون الجمالي للساخر” الذي يوجد بصورة مستقلة عن أشكاله التعبيرية الانفعالية في خضم الصراع بين الواقعي والمثالي, فالساخر يتحدد من خلال عاملين أساسيين؛ العامل الأول من خلال المقياس الموضوعي لانعدام الانسجام في الواقع السلبي مع الأفكار المثالية للإنسان, والعامل الثاني من خلال المقياس الذاتي لهذا الرفض أو أيّ موقف تخلقه الظاهرة السلبية عند الإنسان”[43].
و جسّد أبو العبر هذا المفهوم للسخْرية في لوحاته الشعرية التي ذكرناها ، ونستطيع أن نتبيّن القيمة الجمالية لهذه السخرية الشعرية بدراسة جملة الألفاظ التي أثارت الشعور بالسخرية، وسنذكرها بالترتيب وفق ما وردت في الأبيات الواردة هذه الدراسة :
ألفاظ شكلت معانيها الشعور بالسخرية :
متَّهَمِ، ضَعْضعَنِي، يأمرُ، المـلكْ، فيطرحُني، البرَكْ، يصطادُني، بالشبَكْ، السمَكْ، يضحكُ، الْعَجائِبِ، أَحْدوثَةٌ، الْخافِقَيْنِ، اقْتَسَما، الْعَمَىِ، نَصْفَيْنِ، اقتْسَمَا، قَضاءَ، الجْانِبَيْنِ، فَأْلُ، بُهلْكِ، بِأَعْوَرَيْنِ، تَحْسِبُ، هَزَّ، رَأْساً ،جَعَلْتَ، دَنَا، فَتَحْتَ، بُزالَهُ،ْ فَرْدِ، عَيْنِ، باضَ، الْحُبُّ ، فَواَوْيلِى، فَرَّخْ، أَكْنُسِ، الْبَرْبَخْ، يَطْرَح، اْلأَصْلَعُ، خُرْجَيِهْ، الْمَطْبَخْ،ْ كِدْتُ أَخْفَى عَبْدُكَ، خاتِمَةَ، الزَّادِ، لسقر، الدس، تضحك، تمسك، البطنـة، جلد، طبـلاً، طبول، دمدم، ثم دمدم، ثم دمـدم. |
ألفاظ بلا معنى أثار إيقاعها وغرابتها الشعور بالسخرية :
ككككككـككككككككككككـكك العبرنه، الحمقوقـو، بردنّـه، الوترنّــه، قر، سقر، نفر، تارنـّـه، الحرمـرم. |
شكلت هذه الكلمات البنية اللفظية الرئيسة التي كونت الشعور بالسخرية، وهي ألفاظ لم توجد معجمياً للدلالة على السخرية في أساس التواضع عليها، بل أخذت هذه الصفة من خلال توظيفها السياقي، و قد وزعها الشاعر في أبياته لبناء الشعور بالسخرية من خلال تصوير شكلاً مضحكاً، أو سلوكاً مضحكاً أو خُلُقاً مضحكاً، وأدت هذه الألفاظ الأوصاف التي تكون صورة ساخرة تبعث على الضحك، والهزل سواء من شكل إنسان مفارق للشكل الطبيعي السوي المرغوب جمالياً أو من سلوك بشري مخالف للمعايير الاجتماعية الجمالية المتواضع عليها، أو من خُلُق مرفوض إنسانياً، غير منسجم مع منظومة أخلاق المجتمع .
أما الطريقة الفنية الأبرز في تشكيل الشعور بالسخرية، فقد تجلت بجملة المظاهر الحسية والمعنوية التي كونت لوحة السخرية وذلك من خلال مجموع الصور الفنية و التراكيب الشعرية التي أدت هذه الوظيفة الفنية، وسنكشف عن أهم ملامحها في الجدول الآتي :
المظاهر الحسية للسخري | دلالاتها |
وَإذا ماالدَهْرُ ضَعْضَعَنِي | شكل :هزيل . |
فيطرحُني في البرَكْ ويصطادُني بالشَّبَكْ
كأني من السَّــمَكْ |
شكل : مضحك، هزيل، تافه ،ضئيل. |
ويضحكُ ككككككــــك | شكل : مضحك ، تافه. |
هُما اقْتَسَما الْعَمَىِ نَصْفَيْنِ فَذًّاكَما اقتْسَمَا قَضاءَ الجْانِبَيْنِ | شكل : غير منسجم ، مضحك.
خلق: مخزي ، مهزء. |
إذا افْتُتِحَ الْقَضاءُ بِأَعْوَرَيْنِ | شكل: مضحك ،غير سوي. |
كَأَنَّكَ قَدْ جَعَلْتَ عَلَيْةِ دَنَا فَتَحْتَ بُزالَهُ مِنْ فَرْدِ عَيْنِ | شكل : غير طبيعي ، مستهزأ. |
فقطعت الرأس منهـم ثم جلد القد مـــدم | سلوك : غير سوي ،تافه ، ضعيف. |
فعملنا منه طبــلاً من طبول الخد مــدم | سلوك :غير طبيعي ، سخيف. |
عجباً يا قوم مني كنت فيكم كالملمـــم | شكل : وضيع ، هزيل. |
المظاهر المعنوية للسخري | دلالاتها |
كَيْفَ أَشْكو غَيْرَ مُتَّهَمِ | سلوك : ضعيف همته، تواكل. |
ويأمرُ بي المــــلكْ | سلوك: تافه ، هوان منزلته الاجتماعية. |
رَأَيْتُ مِنَ الْعَجائِبِ قاضِيَيْن هُما أَحْدوثَةٌ فِي الْخافِقَيْنِ | خلق: سفيه، دعي. |
هُما فَأْلُ الزَّمانِ بُهلْكِ يَحْيَى | خلق : بغيض . |
باضَ الْحُبُّ فِي قَلْبِي فَواَوْيلِى إذا فَرَّخْ | خلق : مستهزأ ، تافه . |
وَما يَنْفَعُنِي حُبِّي إذا لَمْ أَكْنُسِ الْبَرْبَخ | خلق : وضيع ، شاذ. |
قَدْ كِدْتُ مِمَّا نالَ مِنِّي الْهَوَى أَخْفَى عَلَى أَعْيِنُ عُوَّادِي | سلوك : شاذ ، دوني. |
عَبْدُكَ يَحْيَى بِأَخْذِهِ قُبْلَةً يَجْعَلُها خاتِمَةَ الزَّادِ | خلق : وضيع ،شاذ. |
تثير هذه المظاهر التي شكلت صورة المهجو الشعورَ بالسُخْريّة، وتبعث على الضَّحِك من أفعاله التافهة ومنظره المشوّه القبيح، وأخلاقه الشاذة الدونية، وفي هذه الحال تكون الظاهرة الجمالية للسخْرية ظاهرة نفسية للضَّحِك. ولقد أوحت المظاهر الحسية والمعنوية للسخْرية في هذه اللوحة بوعي أبي العبر للقيمة الجمالية للساخر، فجسّدها بتناوله صوراً سلبية في الحياة منافية لأذواق المجتمع وقيمه، فعكس الشاعر موقفه منها، وجعلها تنبض بحيوية تجربته الشخصية التي رفض صاحبها في سلوكه هذه السلبية ومظاهرها في المجتمع.
ومزج الشاعر في تناوله هذه الظاهرة الجمالية بين السُخْرية والهَزْليّة التي تظهر بالتعبير” “عن ظاهرة اجتماعية, أو فعل، وسلوك، أو عادات خلقية غير متمشية مع التطور الموضوعي لموقف ما”[44]، فصوّر قيمة الهَزْليّة في أبياته ليبني عليها قيمة السُخْرية، وذلك بتناوله حالة اجتماعية غير منسجمة مع قيم المجتمع سواء كانت فعلاً، أو سلوكاً، فقد هجا القاضين على ماهما فيه من مكانة سلطوية، متلذّذاً بالسُخْريّة من شكليهما وطريقة قضائهما،قاصداً الحط من شأنهما الذي يزري بمقام السلطة و الدولة .
ونشأت السخرية في لوحات أبي العبر من المفارقة المثيرة للهزل و الضحك التي قدمها عبر صورة هزلية تعبّر عن تفاهة الموقف و الشكل وبلادتهما، فسفه من أراد السخرية منه، وأزرى به، حاطاً من قدره.
وتلك هي سمات القيمة الجمالية للسخرية والهَزْليّة وفق التمييز الجمالي الذي يرى:” أن الهَزْليّ التافه والهَزْليّ الغبي أو البليد، هو نقيض السامي بالطبع، أمّا الهَزْليّ السُخْريّ والهَزْليّ القبيح فهو نقيض الرائع والسامي”[45].
خاتمة
تدلنا هذه الدراسة على أن أبا العبر أقام الاتصال بالجمالي عبر السياسي، إذا كان السخري عنده هو نتاج سياسة عامة، و قام بناء الإحساس بالسُخْريّ والهَزْليّ لديه على تجسيد رؤيته الجمالية لهذه القيمة والشعور المباشر بها، فأظهر بحسه الجمالي المفارقات في سلوك الناس وأفعالهم، كما لاحظ المظاهر الطبيعية المشّوهة في السلوك والمواقف التي لا تنسجم مع مقاييسه الجمالية، أو أعرافه ، سواء في الإنسان أوالبيئة، بل أدرك ما في واقعه الشخصي من مظاهر تدلّ على الهَزْليّ والسُخْريّ، فلم يلق عليه الظلال، بل قدمها ساخراً من نفسه، ولا سيما أنه صار أداة للهو يصطاد بالشبك كالسمك .
و حضر الهَزْليّ و السُخْريّ في أغلب الحالات التي عبّر بها أبو العبر عن سواد واقعه وعبودية الإنسان تحت سياط سلطة مضطربة، وأسهم استغراقه في الحديث عن الاضطهاد السياسي في ارتقائه بفنه إلى حالة متقدمة من بلاغة الرمز، و التقنيع وهما ظاهرتان فنيتان تبلغان ذروة فنية إبداعية تصبح خصيصة فنية جمالية.
و إذا اقتصرت دراستنا الجمالية على بنية قيمة السخرية من خلال الألفاظ و المظاهر المعنوية والحسية، فإن ذلك يعني دراسة القناع بصفته تجلياً فنياً متقدماً لكنه ليس أساساً بنيوياً في تكوين قيمة السخرية .
ثبت المصادر و المراجع
- الكتب :
1- أساس البلاغة : أبو القاسم جار الله الزمخشري ، دار الكتب المصرية ، القاهرة ، مصر ، 1922.
2- أشعار أولاد الخلفاء وأخبارهم: أبو بكر الصولي ، دارصادر ، بيروت، لبنان، د.ت.
3- – الأغاني: أبو الفرج الأصفهاني ، شرحه وكتب هوامشه : عبد علي مهنا وسمير جابر ، ط2 ، دار الكتب العلمية ، لبنان، بيروت، 1992 .
4- جمهرة اللغة: محمد بن الحسن بن دريد,(ت321هـ), تحقيق رمزي بعلبكي, ط , دار العلم للملاين, بيروت, لبنان, 1987.
5- جوانب من الأدب والنقد في الغرب: د.حسام الخطيب ، ط4 ، مطبعة دار الكتب، دمشق ،سورية، 1990 – 1991.
6- – دراسات فنية في الأدب العربي : د . عبد الكريم اليافي، ط1، مكتبة لبنان ناشرون ، بيروت ، لبنان ، 1996.
7- طبقات الشعراء : عبد الله بن المعتز، تح: عبد الستار أحمد فراج ، ط2 ، دار المعارف ، مجموعة ذخائر العرب ، 20، القاهرة ، مصر، 1968.
8- علاقات الفن الجمالية بالواقع: ن . غ . تشر نيشفسكي، تر: د. يوسف حلاق, وزارة الثقافة سورية , دمشق، 1983.
9- في النقد الجمالي – رؤية في الشعر الجاهلي- : د . احمد محمود خليل, ط1 , دار الفكر, سورية, دمشق , دار الفكر المعاصر , لبنان , بيروت,1996.
10- كولاج:سميح القاسم، دار الحوار، اللاذقية ،سورية، 1984.
11- لسان العرب: أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظورالإفريقي المصري، (ت 711 هـ)، دار صادر، بيروت،لبنان، د.ت.
12- مفهوم الجمال في الفن والأدب،د.عدنانالرشيد،كتاب الرياض، العدد101، يصدر عن مؤسسة اليمامة الصحفية ، الرياض ،السعودية،إبريل ، 2002.
13- الموسوعة الفلسفية: لجنة من العلماء ، بيروت ، دار النشر،مغفلة ، د.ت.
- الدوريات :
14- أدب الفئات الهامشية في العصر العباسي:أحمد الحسين، مجلة التراث العربي ، عدد75، السنة التاسعة عشر ، نيسان ،دمشق ، سورية ، 1999.
15- القناع في الشعر: د. خليل موسى ، مجلة الموقف الأدبي، ع 199، دمشق ، سورية، 1996 .
16- مفهوم الكاريكاتور: مجلة الجزيرة ، العدد 72، الثلاثاء 22 صفر، 1425 هـ .
1- الأغاني: أبو الفرج الأصفهاني ، ج:23 ، ص:205
2- دراسات فنية في الأدب العربي: د . عبد الكريم اليافي، ص:358.
[3]– الأغاني ، ج:2 ، ص20:5:.
[4]– دراسات فنية في الأدب العربي ، ص:209.
[5] – الأغاني ، ج:2 ، ص:205.
[6]– لسان العرب: ابن منظور، مادة: قنع.
[7]– القناع في الشعر: د. خليل موسى ، مجلة الموقف، ص: 56.
[8]– نفسه، ص: 56.
[9]– لسان العرب ، مادة: حمق .
[10]– الأغاني ، ح23 ، ص:206.
[11]– نفسه ، ص:206.
[12]– مجلة الجزيرة ، العدد: 72.
[13]– الأغاني، ح23: ، ص: 206 .
[14]-ويروى البيت الثالث : ( ويضحك لي هك هك )
[15]– أشعار أولاد الخلفاء وأخبارهم: أبو بكر الصولي، ص:559.
[16]– الأغاني، ج:23 ،ص:212.
[17]– الخافِقانِ: المَشْرِقُ والمَغْرِبُ .
[18]– البُزالُ: المَوْضِعُ الذي يخرُج منه الشيء المَبزُولُ. الدّنُّ: ما عَظُمَ من الرَّوَاقِيْدِ، وجَمْعُه دِنَانٌ.
[19]– الأغاني، ج:23 ، ص:208.
[20]– أشعار أولاد الخلفاء وأخبارهم ، ص: 552و553.
[21]– البربخ : منفذ الماء ومجراه ، أو البالوعة من الخزف.
[22]– لسان العرب ، مادة: مجن.
[23]– أساس البلاغة ، مادة: ماجن.
[24]– رجل ماجن كأنه أَخذ من غلَظ الوجه وقلّة الحياء، وليس بعربيّ محض، انظر :
جمهرة اللغة، محمد بن الحسن بن دريد،مادة: مجن.
[25]– أشعار أولاد الخلفاء وأخبارهم ،ص: 561.
[26]– جوانب من الأدب والنقد في الغرب: د.حسام الخطيب، ص:272.
[27]– نفسه ، ص:272.
[28]– نفسه ، ص:273.
[29]– الأغاني ، ج:23 ، ص:209.
[30]– طبقات الشعراء: عبد الله بن المعتز، ص:343.
[31]– كولاج : سميح القاسم ، ص:9.
[32]– جوانب من الأدب والنقد في الغرب ، ص:276.
[33]– أدب الفئات الهامشية في العصر العباسي :أحمد الحسين ،ص:76.
[34]– طبقات الشعراء ، ابن المعتز ، ص:343.
[35]– جوانب من الأدب والنقد في الغرب ، ص: 279 .
[36]– نفسه ، ص: 279.
[37]– طبقات الشعراء ، ابن المعتز ، ص:343.
[38]– الأغاني ج23 ، ص213.
[39]– الأغاني ج23 ، ص212
[40] – نفسه ، ص:213.
[41]– في النقد الجمالي – رؤية في الشعر الجاهلي- : د . احمد محمود خليل، ص: 160.
[42]– مفهوم الجمال في الفن والأدب: د.عدنان الرشيد، ص: 141.
[43]– نفسه ،ص: 142.
[44]– الموسوعة الفلسفية: لجنة من العلماء ، ص: 559.
[45]– علاقات الفن الجمالية بالواقع: ن . غ . تشر نيشفسكي، ترجمة د. يوسف حلاق، ص: 56.
Leave a Reply