كان الطابق الثالث من المبنى الشمالي تسوده غربةً ووحشةً؛ كجوِّه الذي يوحي بنكبةٍ ما. ترنيم الطيور فقط هو الذي كان يؤنسه. ماذا أصابني ؟ لِم أنا هنا ؟ وما الذي جاء بي إلى هنا؟!.. استيقظ (الحاج) مسائلا نفسه بعد أن أفاق من غفوته العميقة، حاول العودة للحلم، فلَمْ يفلحْ. ولكن خُيِّلَ إليه أنه كان وحيداً في الحجرة؛ فأين محبوبته التي كانت خير مؤنسة له في وحشته؟ وأين أطفاله الذين كانوا يلازمون مجلسه؟ وأين أمه الحنون التي كانت تتردد عليه حيناً بعد حين؛ كأنها تتأكد من وجوده، وتطمئن على أنه بخير؟. تزاحمت الأفكار في ذهنه، وما إن غاب في مغارة تفكيره؛ حتى لاحت له من بعيد فتاة مرتدية البياض، وهاهي تتقدم، حاملةً بيمناها الأقراص،والأدوات الطبية.
-هل حقاً ما أرى؟!..أم خُيِّلَ إليَّ بأنها ترسلُ لي غمزة مرفقة بابتسامة؟. قام الحاجُ مذعوراً، حدَّقَ فيها بعينيه، ولكن بلا جدوى، كان وجهها مغطى بخرقة من القماش؟.
–“لا تنهض من مرقدك! غطِ وجهَكَ بهذهِ الكمامة”
أحس برأسه يكاد ينفجر مع كل لفظة ينبس بها لسانها، ولمْ يكد يذهب في الغفوة، حتى طالعه الصوت من جديد:
-“سوف نقوم بتعقيمك بينَ حينٍ وآخر، نحن نتكاتف من أجل سلامتك وسلامة الجميع”
إرتعش الحاج، وسَرتْ قشعريرة في جسده، لكن سرعان ما هدأ هلعُه، عندما أحس بنعومةِ اليد التي ترفعه برفق، وصوت رقيق يلف أذنيه. ولكن الحاج لم ينبس لسانه ببنت شفة، هل نسي أم تناسى؟. لزِمَ سريرَهُ مندهشاً ومتسائلاً.. ولكن الأيامَ تتابعُ دورتَها بلا توقف.
-“بعد يومين يمكنك أن تعود إلى بيتك بصحة أفضل“، تمتمتْ إحدى الفتيات بعد دخول الغرفة. نظر الحاج إليها كأنه يريد أن يبوح بمشاعره نحوها..
-“نعم، أكيدْ يا حاج“، قالت الفتاة، بل شاركت معها الفرقة الطبية ناطقة خلفها، وثغورهن تفتَّرُ بابتسامات مكتومة، وأكَّدنَ له مرة أخرى:
-“نعم، أكيد يا حاج. لا تنسَ أن تتناول الأدوية بالدقة الموصوفة، ولا تخرج من البيت لفترة محددة ”
أطرقَ الحاجُ رأسهُ، وتابعَ بنبرةٍ تعبرُ عن مشاعره:
-“ أنا لا أدري كيف أعبر عن شكري لحضراتكن“، تلجلجَ لسانه في حلقِه، وجحظت عيناه. أرسل الحاج نظرة دامعة إليهن وتابع:
-“ولكن.. جهودكن المضنية، وأياديكن الرحيمة، وقلوبكن النقية..وفوق كل ذلك تضحيتكن بالابتعاد عن أسركن وأقاربكن؛ لا تقدر بثمن، فكيف تمضين أوقاتكن بعيداً عنهم، لا بد أن لكُنَ آباءاً وأمهاتٍ وأطفالا؟
– “نعم، أبي قد ودَّعَ العالم، ورحل إلى الله قبل أيام. ولكنني بلطفِ اللهِ حظيتُ بكَ كأبٍ جديدٍ لي، فَلِماذا أقلق؟“، جذبت الانتباه إليها وفغرت أفواه الممرضات معاً، وهن يرددن معها:
-“نعم، كنتَ خيرَ أبٍ لنا في هذهِ الأيام”.
حملّقَ الحاج فيهن برهة، بينما كانت دمعة تتجمعُ في مقلتيه، وأردف:
-” نعم يا بناتي..”، عادت البسمة ترقص على شفتيه، وهو يقول:
-“هو اللهُ الخبير. وهو الذي يراكن، ويرقب أعمالكن؛ فالله يجزيكن جزاءاً مستحقاً”، هكذا رفعَ الحاجُ يديه إلى السماء، كأنه يريد أن يسَّرِعَ اللهُ جزاءهنُ في الحا؛ فأطلقنَ زغرودة غصَّتْ بالعَبراتْ، وامتزجت بالفرحِ والحزنِ معاً.
-“إبني…إبني الحبيب“، ترددَ صدى هذه الكلمات بين جوانب الجدران، يبدو وكانه صوتُ أمٍ ثكلى، فقدَتْ وحيدَها. حاول زوجها تهدئتها:
-” هذا ممنوع يا زوجتي. إهدئي هنا، ولا تسرعي“. ولكن قلبها لا يسمح لها بأن تستريح وتقعد، وألحَّتْ على الممرضة بأن تُريها ابنَها الوحيد:
-” أيتها الممرضة، أريني ابني أرجوكِ، أريد أن أرى ماذا أصابه؟ أليس في قلبكِ ذرة رحمة؟”، وترافق صوتها مع صوت زوجِها، وقالا معاً:
-” أرينا الولد يا ممرضة
–ردَّت عليهما بنبرةٍ حاسمة: “آسفة للغاية، لا يُسمح لأحد بأن يدخل إليه الآن “
-“ماذا تقولين؟..ألا يمكن لنا أن نرى ابننا، فلذة كبدنا؟.. إذا لم نستطع نحن رؤيته، فمن يمكن أن يراه؟! ألّحا على الممرضة، مرة تلو مرة، لكنها أصرت على رأيها:
-“نعم. ممنوع عليكما الدخول الآن، فكيف تجرؤان على السؤال؟ ألم تتابعوا حالات اليوم؟ كادت الجائحة أن تبتلع العالم برُمَّته، ولا نريد بأعمالنا إلا سلامة المجتمع؛ وبالتالي عليكم البقاء في الخارج، والصبر على بعده عنكما”. ولكن لا جدوى للأم من الصبر؛ فقد أردفت، مطلقةً تأوهاتٍ حارقة، تنسّلُ من بين شفتيها، تاركةً زفيراً جارحاً على جدران الصمت:
-“عليكِ أن تُرينا ابننا..وإلا…”، وصرخة الألم لا تزالُ تتوسّدُ ثغرَها الوردي.
أجابتهما الممرضة بنبرةٍ خافتة، وكأنما الكلماتُ تتطايرُ في فضاءِ عقولهم، فلا يبقى منها سوى ألفاظٍ بعينِها، رسَّخَها التكرار عليهم:
-“نعم… أنا أيضاً أمتلكُ أسرةً صغيرةً مثلكما، لو عرفتما حالة أسرتي أيضاً لعذرتماني؛ وقعت أسرتي في قبضة الجائحة. وملاكُ الموتِ لا يقطعُ زياراتهِ عن أسرتنا، ترددَ علينا حيناً بعد حين، قاطفاً أعمارَ من أحببناهم. وقد وقعتْ قرعةُ القدرِ على ولدي الأصغر، وهو يناهز سنتين فقط. وأنا متورطة،ومشغولة هنا، عضَّت على شفتيها، وشهقت بالبكاء،وأردفت:
-“ ربما لم يكن لي حظ أن أراه في لحظاته الأخيرة، بل كان من سوء حظي. وربما قدرُ الله أن لا أربّيهِ حقَ التربية، ولعلَّ وداعَهُ من هنا من أجل أن يعانقني في الجنة؛ فعقدت العزم منذ أن افتقدته على أن أبذل قصارى جهدي كممرضة، حتى لا تحدث لأي أمٍ تحتَ الشمس، مثلُ هذهِ النكبةِ المؤلمةِ أبداً“.. أدارتْ وجهَها، وهي تُخفي دمعة انفلتتْ هاربةً من عينيها.
Outstanding👌