لا أحد يعجب بالقرية كوسي كما هى.
تقف على السقف و ترشف من الشاي ، و تقضم من الشطيرة و تحرك رقبتها يمنة و يسرة و ترى القرية الجميلة المزهوة بالمناظر الطبيعة الخلابة و المنابت الخضرة الممتدة إلى كيلومترات، تنفستها واستنشقت رائحتها وفرحت كلما رأت الأزهار المحفوفة بالبيوت المجاورة و تنهدت تنهيدة حارة كلما نظرت إلى الفقراء الذين كانوا يعانون من الفقر و البؤس و يجرون المحراث و يحلبون الأبقار و يتعبون أنفسهم لكسب العيش و يعودون إلى بيوتهم فى الأمسية.
ما هذا الفرق بين الطبقات ولو كانت القرية صغيرة!
تفكر وتسأل نفسها…
و الناس يمشون بالأقدام فى القرية و هم مطمئنين و يجيئون يذهبون بالهدوء فى الممرات.
و هناك الناس يلبسون الألبسة الفاخرة و يركبون السيارات المريحة ، و مع ذلك أنهم يقلقون من أجل المعاش.
و فجأة رأت الناس يلبسون الألبسة الممزقة و هم يسيرون فى سبيلهم دون عناء ولا تعب ولا يضطربون فى صدد الثروة والمال لأنهم يعيشون للقمة.
تنظر و ترتل الآية ” و جعل فيها رواسي من فوقها و بارك فيها و قدر فيها أقواتها فى أربعة أيام. سواء للسائلين.”
ماذا ترين يا صديقتى؟
أنا أنظر الناس يختلفون في التعايش و الأديان و يقاومون الأفكار و أفكر فى آية ” و قدر فيها أقواتها”.
لماذا؟
و كانت سعاد صابحة الوجه ، بيضاء حمراء ، و متوسطة القامة ، و بنية العينين و سوداء الشعر ، صدقة الوفاء و واظبة على الصلاة والصيام و التلاوة و دائمة التلازم بالأمور و والواجبات و مفكرة فى الآيات البينة مقارنة بالعيش.
لماذا تفكرى عنها و أنت صاحبة الجاه والمال؟ تكررت سؤالى.
هل أنسى ربى ولا أشكره و هو متعنى بالثروة و الجلال ؟
أجابتنى و أنا متحيرة….
و لكن لا فائدة لها.
فغضبت و سخطت على ….
كيف نسيت ربك و أنت تحيين ؟ سألتني.
كانت تعيش عيشة كريمة هنيئة تحت عطف أبويها و بعد حصول على الشهادة العلمية واصلت فى سير التدريس فى تلك المدرسة حتى قابلت شابا جميلاً الذى كان يكترث بمشيها وكانت سعاد تقضي أوقاتها في عناية بالتدريس غير مبالاة يمنة و يسرة ، و كان ذلك الشاب من اللواذع الذين كانوا يفتنون بمناظر الشابات الجميلات من تلك الحى.
و لفت الشاب إلى سعاد و اغتر و ولع بها ولعا شديدًا ولكنها رفضت والتزمت بالتزكية حتى جاء يوم….
ووافق والدها لزواجها مع الشاب المحاسب المثقف فى قرية أخرى فانتقلت إلى اصهارها بعد ما قضت سنوات مع أبويها….
و تتابعت الأيام….
و كانت تصرف أوقاتها فى ترتيب الأمور حتى أنجبت ثلاثة أبناء فى تلك السنوات فتشغل بتربيتهم دون عناء و تعب و كانت تفضل أن تثقفهم على دين نبيل…
و كانت تهتم بالأمور المنزلية و تسعد بهجتها و كل فرد من أفراد العائلة يعجب و يفرح بها و كانت تعيش ولكنها تشعر بتضيق النفس فى البيت الصغير و تتمنى أن تبنى البيت الكبير المفروش الفاخر .
و لكن كيف؟ يسأل زوجها و كان ذا يد ضيق و مال قليل.
و قضت السنوات على هذا حتى انتقلت أرض أبيها إلى الأراضي الحكومية و حصلت على نقود كبيرة و أرادت أن تكمل أمانيها.
ها هي الشيكات ! قالت :
فماذا أفعل بهذا ؟ سأل زوجها.
استعد نفسك وأبدأ حياتك بالتعميرات الفاخرة…..
فصرخ بالفرح….!
الحمدلله.
و كانت تنتظر سعاد للعمارة الغالية المتزينة بالأثاث الفاخر حتى تسنت لها أن تبدأ….
و قضت سنة….
أعدت لها مبانى رصينة و فكرت أن اضيئت حياتها و أعادت بهجتها و اشترت لها ألبسة ثمينة و أعدت ثياب أبنائها من جديد…
و فرحت و كادت أن تقفز بالفرحة و السرور.
هذه ألبستي الكريمة الجديدة يا أخواتى !
و أريد أن ألبسها بعد أن أدخل البيت الجديد.
أنظروا إلى بيتى !
هذه العمارة المفروشة الغالية تحيط بجوانب الحجرات الكبيرة و فخامة البهو تحس بشذى الزهور الطازجة و جدرانها تزهو بالإضاءات الشمعية تجذب أنظار أفراد القرية.
فهم يتحسرون لذلك…
و جاء يوم الإنتخابات الأهلية و لقى الناس بعضهم ببعض فلم يمض أيام و كانت تنتظر لنقلها إلى البيت الجديد قبل رمضان حتى أصيبت بالحمى و السعال.
يفتح الباب و يدخل الغرفة و هى مستلقية على السرير و هى تكح.
ماذا أصابت بك يا حبيبتي؟ سأل زوجها.
لا أحس بالراحة. و أشعر بضيق التنفس. أجابت:
لا تقلقى يا حبيبتي !
أنا سأجيئ بك إلى المستشفى الكبير …
و كان يسعى ماشيا بالأقدام كالمجنون.
و كان يركب الدراجة النارية…
و كان يذهب و يجئ لدخولها إلى مستشفى فى مديرية مئو ولكنه لم يستطع..
و مضى نصف يوم حتى يتسنى له أن يجئ بها إلى مستشفى حكومي على بعد كيلومترات من مديرية و أدخلها.
و ينتظر أفراد العائلة لشفائها العاجلة كما أنها محبوبة لدى الأسرة و كانت تنظر إلى شخوص الأسرة و فاضت الدموع.
تفتح عينيها بصعوبة و تجوب نظراتها المعذبة جدران الغرفة الزرقاء ، لا يوجد أحد بجانبها يؤاسيها ، سوى أصوات الأجهزة التى ترن و تطن فى أذنيها.
و تعود إلى ذكريات أيام قريبة قادتها إلى حيث هى الآن.
هل أنا سأبرئ من المرض ؟ تسأل الأطباء…
لا تحزني و سوف تشفى…. قوي نفسك و اعتمدي بثقتك.
وكانت تتحسر للشفاء الكامل و تفكر فى الآية :” و قدر فيها أقواتها ..”
و تتمنى للدخول في العمارة الفاخرة….
و ترى هذا الاختبار لها من الله ، ليري هل تنجح أو تفشل … و تفكر أن النجاح هنا يكمن فى الصبر و الإيمان.
فهل أعدت لها البيت فى الجنة أو ….؟ تسأل ضميرها…
سكتت شفتاها و عبرت الدمع و لم تنبس بكلمة.
فكرت في الأولاد و البيت الكبير و تحيرت …. ولكنها رحلت إلى الدار الخالدة.
ماذا أصابك يا سعاد؟
يحرك زوجها جسدها و يسعى من هنا إلى هناك كأنه مجنون و يحتاج إلى أحد من يعطف عليه ولكن من يعطف عليه و هو فى مستشفى الكورونا.
سارت صاحبتها فى سبيلها و كان يتخبط أن أعددت بيتك يا سعاد!
علينا أن ندخلها معا و كان يمسك بجسدها و يلتصق و يهمهم …. أن البيت لك ….. و يصرخ ….. البيت …. و يعلو نبرة بكاءه بكلمة ” البيت “.
سوف أحرق البيت …. صرخ زوجها بشدة البكاء.
و الناس ينظرون إليه بالحسرة و اليأس و يأخذون العبرة بالبيت….
و كانت سعاد ملفوفة بالثوب الأبيض و بوليشين و الناس يتذكرون بيتها و يؤاسون ، و بعضهم ينصحون أن لا تضعوا أوقاتكم فى الدنيا و اعتصموا بحبل الله و بعضهم يتكلمون أن لله حكمة فى كل ما يفعل…
و أبناء سعاد يعولون كطبخ القدر و يصرخون …
البيت يا أمى …. البيت يا أمى…
* النزيل : آراضى باغ ، أعظم كره
البيت.. هاهي الشيكات.. البيت الجديد.. الدار الخالدة.. لله حكمة.. البيت يا أمي..
رموز ملفتة عن حقيقة نغفل عنها، في قول الرسول عليه الصلاة والسلام: وليسعك بيتك، أيما كان هذا البيت. وحقيقة قوله تعالى: وللدار الآخرة هي خير وأبقى.
أؤمن أن الطمأنينة هي البيت..
قصة مؤثرة تحكي حيرة الكثيرين وتدل إلى الحل: “وقد فيها اقواتها”..