ملخص:
يهدف هذا البحث إلى التعرف على مصدر الإبداع عند الصوفيين، الذي جعل من الروح شعارا له ووعي الذات بغية فتح ونقل التجربة الإبداعية الصوفية التي تجسد المثالية والحيرة والاندهاش، وبذلك يمكن اعتبار الإبداع الصوفي عصارة تجارب الفناء في الحق والبقاء في الحقيقة .
الكلمات الدالة: الصوفية- الحب الصوفي – قضايا روحانية – المحبة الإلهية – الرسالة الروحية – ابن الفارض.
القضايا المعرفية في الشعر الصوفي (تائية ابن الفارض نموذجا):
– يعد البحث في الصوفية أمرا ثريا كونه تخطى الحدود المكانية والزمانية، فحين قراءتنا لقصيدة صوفية مثلا إلا ونجد مصطلحات وإيحاءات رمزية توقع شطحات روحانية في عالم آخر، تأخذنا معها إلى فضاءات تعبر عن أحوال فكرية ووجدانية وجمالية وكذلك ميتافيزيقية، بلغة رهيبة تصف الحب الصوفي والفناء والثبات وغيرها من العلامات التي تحمل طفرتها إنعاشا للروح ولذة للقلب، ولحظات الكشف والتجلي كما يعبر الشعراء الصوفيون لها أجلُّ معنى وأرقى في تعبداتهم ومعالمهم الثقافية مكنونة في صدورهم منطلقها فيض المحبة الإلهية، فجاءت إبداعاتهم عذبة ناطقة عن تجاربهم، فعبرت عن نصاعة مشاعرهم، فأفردت قصائد جمة مزخرفة بلوحات فنية بديعة تبلغ الرسالة الروحية الخالصة والرسالة الفنية الاحترافية.
انطلاقا من هذه المفاهيم وقع الاختيار على قصيدة صوفية ، فأحببت إماطة اللثام عن مكنوناتها وقراءة رسالتها الجمالية، فغصت في عالم فريد مع ابن الفارض الذي بثت معالم الصوفية في غصون قصيدته المعروفة بتائية ابن الفارض الكبرى، الحاملة لقضايا روحانية وفضائل تفيض بالعطايا.
بناء على ذلك يمكن طرح الأسئلة الآتية: ماهي أهم القضايا المعرفية المبثوثة في تائية ابن الفارض؟
هذه الأسئلة وأخرى سيتم الإجابة عنها في ثنايا هذا البحث الموسوم بـ:” القضايا المعرفية في الشعر الصوفي القصيدة الصوفية؟ وماهي مميزات لغة ابن الفارض؟
هذه الأسئلة وأخرى سيتم الإجابة عنها في ثنايا هذا البحث الموسوم بـ” القضايا المعرفية في الشعر الصوفي تائية ابن الفارض نموذجا”.
تائية ابن الفارض الكبرى ” لوائح الجنان ورائح الجنان”
نظم السلوك
سـقتنــــــــــــي حُميَّا الحبِّ راحةَ مقلتـــــي وكأسي محيَّا مَن عنِ الحُسنِ جلتِ
فأوهمتُ صحبي أنَّ شربَ شرابهــــم بهِ سرَّ سرِّي في انتشائي بنظــــــــــــــــرةِ
وبالحدقِ استغنيتُ عنْ قدحي، ومِنْ شمائلها، لا منْ شموليَ ، نشوتـــــــــي
ففــــــــي حانِ سكــــــري، حـــــانَ شكـــري بهمْ تمَّ لي كتمُ الهوى مع شهرتــــــــي
ولمَّا انقضى صحوي، تقاضيتُ وصلها ولمْ يغشنى، في بسطها، قبضُ خشيتي
وقلـــــتُ، وحالي بالصَّبابــــــــــةِ شاهـــــــــــدٌ ووجدي بها ماحيَّ ، والفقدُ مثبتي
هَبي، قبـــــــلَ يفنى الحبُّ منِّي بقيَّةً أراكِ بها ، لي نظرةَ المتلفِّتِ
ومنِّي على سمعي بلنْ ، إنْ منعتِ أنْ أراكِ ، فمِنْ قبلي ، لغيريَ لذَّتِ
فعندي ، لِسُكري ، فاقةُ لإفاقةٍ لها كبدي ، لولا الهوى ، لمْ تفتّتِ
ولوْ أنَّ ما بي بالجبال ، وكانَ طو رُ سينا بها ، قبلَ التَّجلِّي ، لدكَّتِ
هَوًى ، عبرةٌ نمَّتْ بهِ ، وجَوًى نمتْ به حُرَقٌ ، أدْوَاؤها بي أوْدَتِ
فطوفانُ نوحٍ ، عندَ نوْحي ، كأدمعي وإيقادُ نيرانِ الخليلِ كلوْعَتي
ولولا زفيري أغرقتني أدمعي ولولا دُموعي أحرقتني زفرتي
وحُزني ، ما يعقوبُ بثَّ أقلَّهُ وكلُّ بلى أيُّوبَ بعضُ بليَّتي
وآخرُ ما لاقى الألى عشقِوا ، إلي اَل رّدى ، بعضُ ما لاقيتُ أولَ محْنتي
فلوْ سمعتْ أذنُ الدَّليل تأوُّهي لآلامِ أسقامٍ ، بجسمي أضرَّتِ
لأذكَرَهُ كربي أذى عيش أزمةٍ بمنقطعي ركبٍ ، إذا العيسُ زمَّتِ
وقدْ برَّحَ التَّبريحُ بي ، وأبادني وأبدى الضَّنى مِني خفيَّ حقيقتي
فنادمتُ ، في سُكري ، النحولَ مراقبي بجملةِ أسراري ، وتفصيلِ سيرتي
ظهَرتُ لهُ وصفاً ، وذاتي ، بحيثُ لا يراها ، لبلوى ، منْ جوى الحبِّ ، أبلتِ
فأبدتْ ، ولمْ ينطقْ لساني لسمعهِ هواجسُ نفسي سِرَّ ما عنهُ أخفتِ
وظلَّتْ ، لِفِكري ، أذنهُ خلداً يدورُ بهِ ، عنْ رؤيةِ العينِ أغنتِ
فأخبرَ مَنْ في الحيِّ عنِّي ، ظاهرا بباطنِ أم وهوَ منْ أهلِ خبرتي
كأنَّ الكرامَ الكاتبينَ تنزَّلوا على قلبهِ وَحْياً ، بما في صحيفتي
وما كانَ يدري ما أجنُّ ، وما الَّذي حشايَ منَ السِّرِ المصونِ ، أكنَّتِ
وكشفُ حجابِ الجسمِ أبرزَ سرَّ ما بهِ كانَ مستوراً لهُ ، منْ سريرتي
فكنتُ بسرِّي عنهُ في خفيةٍ ، وقدْ خفتهُ ، لِوَهْنٍ ، مِنْ نحوليَ أنَّتي
فأظهَرَني سُقمٌ بهِ ، كنتُ خافياً له ، والهوى يأتي بكلِّ غريبة[1]
– تعتمد التجربة الصوفية على الذوق والوجدان، وهو يتفاوت من شحص إلى آخر وينضاف إلى نسبية الوجدان والذوق، فتعدد وتنوع ثقافة المتصوفة، واختلاف الطرق والمدارس الصوفية وفقا للمذاقات والمشار، تتميز بالخصوصي الفردية والثراء المعرفي، كما أطلق على الفكر الصوفي بنية العقل العرفاني.[2]
فالعرفان باعتباره معرفة اللّه مباشرة دون وساطة هو نظام معرفي ومنهج في اكتساب المعرفة ورؤية العالم يسمى في اللغة الأجنبية “الغنوص” يميز العرفان أنه من جهة معرفة بالأمور الدينية تخصيصا وأنه من جهة أخرى معرفة يعتبرها أصحابها أسمى من معرفة المؤمنين البسطاء وأرقى من عرفة علماء الدين الذين يعتمد النظر العقلي كما أن العرفان قائم على تجميد الإدارة وليس على شحذ الفكر أي جعل الإدارة بديلا عن العقل.[3]
قراءة في شعر ابن الفارض:
الشاعر الصوفي فنان مبدع، اتخذ من الفن وعاء ومن الإبداع وقاء في التعبير عن التجربة لصوفية فكان الشعر أسرع أنواع الفنون استجابة وأكثرها طواعية وأجلها خدمة لحرمة هذه التجربة، فقد استوعبت القصيدة الصوفية كثيرا من تجارب المتصوف وسلوكهم وأسعفت الكثيرين في التعبير عن عالمهم الداخلي حتى غدت قصائدهم مرآة لتجربة شعرية صوفية وعالما تتجلى فيه خصوصية تجاربهم وبواطن ذواتهم مثل ابن الفارض.[4]
ابن الفارض سيرته الذاتية وتجربته الروحية :
هو عمر بن علي بن مرشد بن علي الحموي الأصل المصري الدار والوفاة(576-632ه)، نشأ في بيت علم وورع واشتغل في شبابه بفقه الشافعية وأخذ الحديث وأخذ عنه ثم حبب إليه طريق الصوفية فتزهد وتجرد وجعل يأوي إلى المساجد المهجورة في خرابات القرافة بالقاهرة وأطراف جبل المقطع وجاء أبوه من حماه بسوريا إلى مصر فسكنها وصار يثبت الفرض للنساء على الرجال بين يدي الحكام ثم ولى نيابة الحكم فغلب عليه التلقيب بالفارض.[5]
ب. تجربته الروحية : انقطع ابن الفارض في جبل المقطع للتبرك والعبادة وهذا الجبل الشديد الوعورة والصعوبة في الوصول إليه يوازي سيرة الرسول صلى اللّه عليه وسلم في الانقطاع عام الخلائق للتعبد، مستسلما إلى خلوته في غار حراء، بعيدا عن الأغيار والأهواء بغية الوصول إلى الحق عبر الكشف والمشاهدة،[6] كان ابن الفارض في خلوته ينتظر الفتح، وستدل ذلك بقول الفارض: “فحضرت يوما من السياحة إلى المدينة ودخلت المدرسة السيوفية، فوجدت شيخا بقالا على باب المدرسة يتوضأ وضوء غير مرتب، فقلت له: يا شيخ أنه في هذا السن في دار السلام على باب المدرسة بين فقهاء المسلمين، وأنت تتوضأ وضوءا خارجا عن الترتيب الشرعي، فنظر إلي وقال يا عمر: أنت ما يفتح عليك في مصر، وإنما يفتح عليك بالحجارة في مكة شرفها الله، فقصدها فقد آن لك وقت الفتح”. [7]
أهم المعالم المعرفية في شعره:
اخترت تائية ابن الفارض قصد دراستها كنموذج للشعر الصوفي، ونظرا لصداها الكبير فقد روى الشاعر أن أول اسم سميت به هو” أنفاس الجنان، ونفائس الجنان ثم كان اسمها الثاني” لوائح الجنان، وروائع الجنان”، ثم إن الشاعر رأى النبي صلى الله عليه وسلم في رؤية أمره فيها أن يسمي التائية الكبرى باسم” نظام السلوك” وهو الاسم الذي اشتهرت به بعد ذلك [8]، تميزت هذه القصيدة بما يلي:
1.الحب الإلهي:
الحب عند الشاعر الصوفي فطرة إنسانية وهبة ربانية قامت بين العبد وربه بإرادة الرب، مختار العبد مجلى له، فالله تجلى في خلقه حبا، لكنه كان أكثر بهاء وأكثر جمالا وظهورا حين ظهر في الإنسان[9] لكن ابن الفارض أخلها بين الحب الإلاهي وشعر الغزل الإنسان الحسي، ما جعل صعوبة التمييز بينهما فاستهل قصيدته بقوله:
سقتني حميا الحب راحة مقلتي وكأسي محيا من عن الحس جلت
فأوْهمتُ صحبي أن شُرب شرابهم به سر سري في انتشائي بنظْرتي
نقل وعبر في الأبيات الأربعة الأولى عن تجربته الشعرية التي تأسست حول موضوعي الحب والخمر، فقد ربط الحب والخمر كلاهما يغير حالة الإنسان وينقله إلى عالم الخيال، وهنا السكر محور لصفات الذات ورفع بين الحجب الاختيار والتصرف، أما الحب فهو فناء لآنية الذات في آنية الأعلى وبقائه، وكلمة السكر التي وردت عند الصوفيين معناها الغيبة بوارد قوي، في مجلسه مع أحبته حتى ارتوى وسكر.
كما أن الشاعر في هذه الأبيات يشبه عينه الباصرة بكف من سقته خمر المحبة، شربها بيد عينه فسرت في عروقه وأعضائه، فالساقي هو الله تعالى والحسن هو أثر الجمال والجمال ما كان بالذات، والحسن ما كان بالعرض وكونه وجه المحبوبة كأسه إشارة إلى ما ورد بأن الله كتب الحسن على كل شيئي لقوله عز وجل:﴿ الّذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيء خَلْقَهُ﴾[10]
فهنا الشاعر اعتمد الإيهام بجمال صورة العشاق فتوهموا أن السر من الحسن ولم يعلموا أن له في مشاهدة الحسن مشاهدات أخرى منتهية به إلى مشاهدات الذات الذي يظهر جليا في الأبيات الأربعة أن الحب الإلاهي عند ابن الفارض يتمثل في المعاناة التي يكايدها نتيجة عدم الوصال بالمحبوبة “الحقيقة” وشعوره الجارف بعناء الانفصال عنها، فهو بذلك يعبر عن موته الاختياري الذي يسعى إليه في تجربة الحب الإلاهي، فهو موت السالمين الساعين إلى الغناء في المحبوبة والبقاء[11].
- الضمير: (التقابل في الشعر الصوفي)
نلمح عند قراءتنا القصيدة وجود ضميرين هما “الأنا” الذي يحيل على الشاعر الصوفي، والضمير “هي” العائد على المحبوبة وهي ” الحقيقة” التي تساوي في تجليها المجازي “هن” المحبوبات (لبنى، عزة، بثينة)، والانا الشاعرة “هو” تساوي في حضورها “هم” العشاق (قيس، كثير وجميل) وبذلك تصبح هو وهي وهن وهم حقائق يتجلى بعضها في بعض وجود ظاهري مجازي الاستعمال[12]، في حين لا تساوي المحبوبة “الحقيقة” فريدة الجوهر مع “هن” النساء الفعليات، كما لا تساوي “هو” الصوفي كأناة شاغرة بهم العشاق وهذا الأمر يؤكد الاصطفاء والخصوصية، فورد في قصيدة تقابل للأنا الشاغرة في الشعر الغزلي العذري، والأنا الشاغرة الصوفية الخاصة عند ابن الفارض وهكذا يمكن تمثيله بالمخطط الآتي:[13]
هي =هن هن هي هي = هو فإن هن= هم
هو=هم هم هو
العلاقة بين المحبوبة “هي” “الحقيقة”، الله و الأنا الشاعرة هو ابن الفارض الصوفي علاقة تكامل وتساو لسمو الغاية ويدل على ذلك من شعره قوله:
ومَنْ على سَمعي يلن، إن منعت أن أراك فمِنْ قَلبِي، لغيري لذت
هُبي، قبل يَفني الحبُّ مني بَقِية أراك بها، إلى نظرة الملتَفِت
3.إحالة الحسي إلى المجرد:
كشفت أبيات ابن الفارض عن سمة فنية تكشف عن قيمة جمالية ناتجة عن تضايق الحسي والمجرد في مجموعة من العلاقات التي تحيل فيها الحسي إلى المجرد يظهر ذلك في قوله:
وأبثثتُهَامابي، ولم يكُ حاضري رقيب لها، حاظ بخلوة جلْوَتي
والمقصود من هذا البيت أنه لما تقاصت وصلها وأظهرت ماحل بي من المحن والبلايا وأسقام العشق في الخلوة التي تجلت فيها المحبوبة لي، والحال فإنه لم يكن حاضرا عندي حظ رقيب حظ الرقيب هو بقاء حظي، أما الجلوة فهي ما يظهر للقلب من أنوار الغيوب فسكر الشاعر طلب وصل محبوبته، فأخذ يتسامرها ويشكو إليها واستعار لفظ الرقيب لبقاء الحظ لأن الرقيب يمنع المحب عن المحبوب[14] وهنا خلق تناعم حسي مجرد من خلال غياب المحبوبة مثل: سقتني، شكائلها، وصلها، بسطها….إلخ.
- المحو: (الفناء):
فاستعمال الضمير أنا من قبل الشاعر الصوفي هو مسعى لمحو الوجود، فالأنا فارقت شهودها، وقامت في ذات المحبوبة[15] في حال كونها ماحية وجودها غير مثبت له، يظهر المحو في قوله:
وآخر ما ألقى الأولى عشقوا ال ردى بعض ما لاقيت أول محنتي
ومعنى هذا البيت يتلخص في أن الهلاك الذي ما إليه العاشقون في المحبة من المحن والبلايا وجده الشاعر في أول عشقه وهواه[16]، فالفناء في المتطور الوفي هو إثبات عند الله لقول الشاعر:” والفقد مثبتي”.
4.المنطوقات الاخبارية والمنطوقات الانشائية:
إن المنطوقات الاخبارية في القصيدة تستهدف نقل الانفعال الشعوري العميق للذات الشاغرة داخل النسيج الشعري بكل خيوطه المتداخلة أفقيا وعموديا والأمر بالنسبة للمنطوقات الانشائية، فالأمر مثلا: “هبي قبل يفنى الحب” يحمل في طياته مبالغة وتجاوز، وكشف عن عاطفة قوية، أو انفجار الشاعر في الحديث فجأة وبعنف، فهنا يؤسس كيانا بوصفه صوتا شعريا أمريا[17].
5.الرمز:
استخدام ابن الفارض رمز الأنثى للحقيقة، وهي رمز الخلق كذلك، فالأنوثة خالقة، والكون الذي تعيش فيه هو الآخر مخلوق، إذ هناك رحم كونية خلقته، فالمرأة هي حجر الزاوية في العالم المادي، ووسيط الرجل إلى العالم الخارق وحبها يمنع تجربة التواصل مع الخارق وهي الأرض الأم[18].
- أداة المعرفة الصوفية:
يعد القلب أداة المعرفة الصوفية، فهو عندهم موطن الروح، والروح الإنساني الكامل هو خليفة الله في الأرض، وهذا القلب الروح هو موطن التجليات الإلاهية التي تعتبر مادة للمعرفة الصوفية التي تتنزل على قلوب العارفين، فتمنحهم نعما كثيرة، منها تأويل الكون، واكتشاف أسراره وحقائقه[19]، ويستدل على ذلك من خلال شعر ابن الفارض في قوله:
وقلت، وحَالي بالصبَابَة شَاهِد ووجدي بها ما حي، والفقْدُ مُثَبِتي
فالحال هنا في هذا الموضع معناها ما يرد على القلب بمحض الموهبة من غير تكلف ولا اجتلاب كحزن أو خوف، أما الوجد ما يصادف القلب من الأحوال النفسية له عن شهود، أما المحور رفع أوصاف العادة، وقيل إزالة العلة، أما الإثبات فيعني إقامة أحكتم العيادة بطلب الشاعر في هذا البيت من محبوبته أن تهب له نظرة الملتفت إلى شيىء[20]
- الخيال:
القصيدة التي بين أيدينا ينقل فيها الشاعر تجربته الخيالية فخياله عبر المبادئ التي تعتنقها الصوفية، حمله هذا يردم الهوة بين الحلم والواقع، ويصنع نموذجا إنسانيا أعلى، جامع للبطولة والقداسة والكلية، والخيال عند الشاعر لا يتعرض للعقل والمنطق، بل يقف تحت لواء الانعتاق والحرية والنبوغ والعبقرية ، كونه يود تأكيد ذاته، وكل النشوات التي يعلن وصوله إليها، وخلال تجربته الخيالية والروحية والنفسية، وبذلك يعد الخيال أهم المفاتيح لدخول مذهب الصوفية، فهو وسيلة للانتقال من الآني الزائل إلى الأبدي الخالد.
وينكشف الخيال في القصيدة من خلال قول الشاعر:
كأن الكرام الكاتبين تنزلوا على قلبه وحيا بما في صحيفتي
فهنا استخدم الشاعر خياله للتعبير عن تنزل الملائكة على قلب الرقيب بما ثبت في صحيفة قلبه، وانتقش على سبيل المثال الوحي والإلهام حتى عرف الرقيب كل ما يخطر بباله.
9- التناص:
حاول الشاعر التوحد بمضامين القرآن الكريم والتأدب بآدابه، وتمثل معانيه معتمدا في استبطان هذه المعاني من الكتاب الكريم بواسطة الاعتماد على آيات الذكر الحكيم.
ويظهر التناص في قصيدة ابن الفارض في البيتين13 و14في قوله:
وطوفان نوح عند نوحي كأدمعي إيقاف نيران الخليل كلوعتي
وحزني ما يعقوب بث أقله وكل بلا أيوب بعض بليتي
ففي البيت الثالث عشر شبه الطوفان بأدمعة ونيران الخليل عليه السلام بحرقته ولوعته للمبالغة وأيضا نار المحبة روحانية ونار الخليل جسمانية والروجانية أشد تأثيرا من الجسمانية فوجود التشبيه في البيت كان بمثابة الحاجز الذي يحافظ على حدي التشابه والفعل بين المشتبه والمشبه به يقف حاجز بينهما ومناك بعد أثر تضيفه دلالة وجود قصص الأنبياء في النص القراني: التي مثل الحالات الجزئية في السلم المعاناة وعليها تقاس معاناة الآخرين
ولو أن ما بي بالجبال وكان طول رسنياء بها قبل التخلي لذلك
هنا في البيت قد عبر عن استدعاء التجلي الإلهي في جبل سيناء لقوله تعالى :﴿فَلَمّا تَجَلَه رَبّهُ جَعَلَه دَكّا وَخَرّ مُسَى صَعقًا﴾[21]
10-المحسنات البديعية :
نلاحظ في القصيدة وجود الكثير من المحسنات البديعية أضيفه بهاءا وصوتا رنانا نطقت به غصونها، فمركز التشبيه حاضر لامحالة في ثنايها يتردد في كلمات الشاعر كأدمعي، كالوعي وكما نلمح وجود ترادف مثل كــ دموعي ولوعي، حزني وبليتي .
وطباق بين النار والماء، سمعي ونظري وسكري وآفاقي وآخر وأول وظاهر وباطن، وكذلك استعمال لرموز طبيعية تعتمد على ثنائيات متقابلة فلدلالة على النار منها( نيران، الخليل أحرقني، زفيري) ففعل النار يقابله فعل الماء وهذه الرموز كلها مستوحات من الطبيعة اعتمدها كي يشير وينقل تجربته الصوفية.
11-مقام الصبر عند ابن الفارض في تائيته:
المقام من قام يقوم قوما وقياما وقومه وقامه وقام أي ثبت ولم يبرح ومنه قولهم أقام بالمكان بمعنى الثبات وقيل: المقام: هو المنزلة الحسنة وأقام الشيء واستقام :اعتدل واستوى وأما المقام عند الصوفين فهو مفهوم مجازي بمعنى إقامة في حالة من حالات السلوك وترويض النفس وكأن تكون تدريب النفس على الزهد أو التوكل أو الورع وغيرها والمقام ما يتحقق به العبد بمنازله من الأدب مما يتوصل إليه بنوع من التصرف ويتحقق بضرب تطلب ومقاساة تكلف فمقام كل واحد في موضع إقامته عند ذلك وماهو مشتغل بالرياضية له[22]وشروط أن لا يرتقي من مقام إلى آخر المكان يستوفي أحكام ذلك المقام[23]
يظهر مقام الصبر في تائهة ابن الفارض في قوله:
ويحسن إظهار التجلد للعدى ويقبح غير العجز عندا الأحبة
فصبري أراه،تحت قدري، عليكم مطاقا، وعنكم، فاعذروني، فوق طاقتي[24]
يظهر في البيتين أن صبر ابن الفارض متلون بأنفاس المحبة والشوق، مدركا رهافة الفرق بين الصبر «عن” والمحب الصادق لا طاقة له على تحمل احتجاب محبوبه [25]
12- الأحوال في القصيدة:
تميزت القصيدة تائية ابن الفرض بظهور لمعات ترد ثم تغادر أثر على مراكز الشعور والإدراك الوجداني وتعبر عن ذوق المعاني المجردة فأثر التأملات من قبل العقل والوجدان من قبل العقل والوجدان معا. فالأحوال المذكورة في القصيدة مكونات للتجربة الصوفية ومحطات للوجدان الشعوري والمعرفي، فبرزت في التائية معاني: المحبة والقرب والشوق والأنس والعبد والبسط والسكر والغيبة والفناء[26]….الخ وكلها تنتمي إلى حقل دلالي ألا وهو الإحساس والشعور الذي أكسب القصيدة طاقة إيجابية رهيبة فقفزت ما وراء اللغة فلامست روح القارئ.
الخاتمة:
على ضوء ما سبق نستنتج ما يلي:
-تظهر تجربة ابن الفارض واضحة في قصيدته فقد نقل مبادئي مذهبه الصوفي باستعماله معاني ورموز رسمت ملامح للصورة الشعرية ولغته الشاعرية كذلك.
-العلاقة اللغوية والتشكيلات الإيقاعية في التائية كلها متضافرة معا صانعة لوحدة وجودية.
-تحدث ابن الفارض مع محبوبته ومع نفسه فجاءت الضمائر متسلسلة من خطاب (استعمال ضمير المخاطبة) إلى التركيز على ضمير المتكلم ، فانتقل من الحوار إلى مونولوج.
-اعتماد على الأوصاف الظاهرية من بدن وأعضاء “ضعفت وتجلت “دليل على تجر بته الروحية فالرب ينظر إليه من الباطن فلا يهم بدنه لأنه ذاق نشوة الحب الإلهي.
-القلب عند الصوفية أداة طبيعية للمعرفة فيه يصل الشاعر إلى مراده.
-الآلام والتحول هي أمارات المحبة وحصول العزم والإدارة عند الشاعر.
-رسم ابن الفارض في قصيدته عالما رحيبا بل كونا مترامي الأطراف لا تحده حدود بمعانيه الناطقة المتغلغلة في باطن الروح ، وكأنه لون لوحة بألوان فسيفسائية عبرت بصدق عمق مساره الذي فتح له بابا واسعا ضمن أرض غناء احتضته، وكأن روحه خرجت من جسده سابحة في البحر نوراني لا يهدى إلا لمن ترفع عن الدنيا، فهو وجد لذة فريدة من نوعها لا تضاهيها لذة حسية مهما بلغت ووصفت.
هوامش المقال:
[1] عبد الخالق محمود عبد الخالق، تائية ابن الفارض الكبرى وشروحها في العربية، الجيزة عين الدراسات والبحوث الانسانية والاجتماعية، ط1،2009،ص:100.
[2] عباس يوسف الحداد، الأنا في الشعر الصفي (ابن الفارض نموذجا)،دار الحوار،ا لكويت، ط1،2005م،ص:23
ينظر: المرجع نفسه،ص:23.
[3]العرفان مصدر معرفي يتأسس على الباطن، وهو كمسمى يميز المعرفة الصوفية بالباطن عن العلم من حيث هو مجرد معرفة بـ” الظاهر” المرجع نفسه، ص:23.
[4] عباس يوسف الحداد، الأنا في الشعر الصوفي،ص:40.
[5] الزركلي، الأعلام، دار العلم للملايين، ط7، 1986م، ج5، ص:216.
- جبل المقطع جبل يقصد للتبرك والعبادة، وقد أشار إليه عبد الغني النابلسي إلى ذلك قائلا:« وفوق القرافة في شرقيها جبل المقطع، وليس له علو ولا عليه اخضرار، وانما يقصد للبركة، وفي سفحه مقابر أهل الفسطاط والقاهرة، والاجماع على أنه ليس في الدنيا مقبرة اعجب منها ولا أبهى ولا أعظم ولا ألطف من أبنيتها وقبابها وحجرها ولا أعجب برية منها» ينظره عبد الغني النابلسي، الحقيقة والمجاز في الرحلة إلى بلاد الشام ومصر والحجاز، تقديم أحمد هريدي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1986م، ص:187.
[6] ينظر: عباس يوسف الحداد، الأنا في الشعر الصوفي ابن الفارضنموذجا،ص:65.
[7] عبد الخالق محمود، تائية ابن الفارض الكبرى وشروحها في العربية، ص:22.
[8]المرجع نفسه، ص:100.
[9] عباس يوسف الحداد، الأنا في الشعر الصوفي، ص:48.
[10] سورة السجدة، الآية 07، ص:333.
[11] عباس يوسف حداد، الأنا في الشعر الوفي، ص:76،77.
عباس يوسف حداد، الأنا في الشعر الوفي، ص: 79.[12]
[13] ينظر: المرجع نفسه، ص:79.
[14] محمد بن محمد القصيري، شرح تائية ابن الفارض الكبرى، اعتنى به، أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1435ه/2004م، ص: 4.
[15] عباس يوسف الحداد، الأنا في الشعر الصوفي ، ص:83.
[16]المرجع نفسه،ص:83.
[17] ينظر: محمد زايد، أدبية النص الصوفي بين الإبلاغ النفعي والإبداع الفني، عالم الكتب الحديث، الأردن، ط1432ه/2011م، ص: 166.
[18] وضحي يوسف، القضايا النقدية في النثر الصوفي حتى القرن السابع الهجري، منشورات اتحاد كتاب العرب، دمشق ، دط، 2006، ص:44، وينظر: محمد زايد، أدبية النص الصوفي بين الإبلاغ النفعي والإبداع الفني، ص:177،178.
[19]ينظر: وضحي يونس، القضايا النقدية في النثر الصوفي، ص:57.
[20] مهدي محمد ناصر الدين، ديوان ابن الفارض، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط2،2005م، ص:28.
[21]سورة الأعراف، الآية:143.
[22]ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، ط3، 2004، مادة :قوم،ج :12ص 498،497.
[23] ينظر: أمين يوسف عوادة، تجليات الشعر الصوفي قراءة في الأحوال والمقامات، دار الفارس، الأردن،ط1،2001 م، ص:23.
[24]مهدي محمد ناصر الدين، ديوان ابن الفارض، ص:50.
[25]أمين يوسف عوادة، تجليات الشعر الصوفي قراءة في الأحوال والمقامات ص:128.
[26]ينظر المرجع نفسه ص:163.
قائمة المصادر والمراجع:
القرآن الكريم
- أمين يوسف عودة، تجليات الشعر الصوفي قراءة في الأحوال والمقامات، دار الفارس، الأردن، ط1، 2001م.
- عبد الخالق محمود عبد الخالق، تائية ابن الفارض الكبرى وشروحها في العربية، الجيزة، عين للدراسات و البحوث الإنسانية والاجتماعية، ط12009م.،
- الزركلي، الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت ،ط :7 ،1986م.
- عباس يوسف الحداد، الأنا في الشعر الصوفي (ابن الفارض نموذجي )، دار الحوار، الكويت، ط1،2005م.
- عبد الغاني النابلسي، الحقيقية والمجازية في الرحلة إلى بلاد الشام ومصر والحجاز، تقديم: أحمد هريدي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة ، 1986م.
- محمد بن محمد القيصري، شرح تائية ابن الفارض الكبرى، اعتنى به أحمد فريد المزيدير، دار الكتب العلمية بيروت، ط1،1435ه/2004م.
- محمد زايد، أدبية النص الصوفي بين الإبلاغ النفعي والإبداع الفني، عالم الكتب والحديث، الأردن ،ط1، 1432/2011م.
- ابن منظور، لسان العرب، دار صادر ، بيروت ،ط3 ،2004م.
- مهدي محمد ناصر الدين، ديوان ابن الفارض، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط،2005،2م.
- وضحي يونس، القضايا النقدية في النثر الصوفي حتى القرن السابعة الهجري، منشورات اتحاد الكتاب العرب،دمشق، ط، 2006م.
* جامعة الشلف، الجزائر.
Leave a Reply