المُلخّص:
ينهل الشّعر الجزائريّ المعاصر من منابعَ الصّوفيّة، ويغترف من رموزها ودلالاتها المختلفة فلقد وظّف الشّعراء الرّمز الصّوفي ّبكثرة في قصائدهم؛ وذلك راجعٌ لثراء منابعه، وقدرته على تقصّي أغوار الذّات الإنسانيّة، والارتقاء بها إلى عالم الرّوح المقدّسة هروبا من عالم مادّي مدنّس.
ونريد أن نذكر من التجارب الصّوفية الشّعريّة المعاصرة تجربة “عثمان لوصيف” الّذي يعدّ من أكثر الشّعراء الجزائريين ونهل من ينبوع الصّوفية، فقد أسّس رؤيته الشّعرية على الرّمز الصّوفي وفتح مجال التّأويل واسعا أمام الباحث، وهويدفعه للبحث معانيه ومدلولاته المتعدّدة، وهذا ما لاحظناه في ديوانه “جرس لسماوات تحت الماء”.
الكلمات المفتاحيّة: الصّوفيّة، الرّمز الصّوفي، مدلولات، جرس لسماوات تحت الماء.
1- التمهيد:
اهتمّ الأدب الصّوفيّ بتصوير أبعاد الذّات الإنسانيّة وتلاحمها مع الذّات الإلهيّة في أسمى صورها وأجلّها ومعانيها ودلالاتها، فقد مال الصّوفيّون إلى بناء تجربتهم الصّوفيّة استنادا إلى رحلة الأديب إلى عالم الرّوح المتسامي وهروبا من واقع دونيّ يقدّس الماديّات والشّهوات. وقد تأسّست هذه التّجارِب على الرّمز لاشتماله على عناصر شعريّة تخلق الإيحاء والدّهشة، وتمثّل عمق المعنى.
فالتّصوّف يقوم على “التّقشّف والزّهد والتّخلّي عن الرّذائل، والتّحلّي بالفضائل لتزكو النّفس، وتسمو الرّوح، وهي حالة نفسيّة يشعر فيها المرء بأنّه على اتّصال بمبدأ أعلى. ويعتقد مذهب الصّوفيّة أنّه بوسع الإنسان بلوغ الحقيقة بغير طريق العقل.”(1)
لقد وظّف الشّاعر “عثمان لوصيف” عديدَا من الشّعور والرّموز الصّوفيّة للدّلالة على الحبّ الإلهيّ وعظمته، ومن بين الرّموز نجد رموز الفراشة والخمرة والمرأة والطّبيعة والأعداد، إضافةً إلى دلالات صوفيّة بثّها الشّاعر في قصائِده.
2- الرّمز الصّوفي وتشكّل الدّلالة في شعر “عثمان لوصيف” – قراءة تأويليّة-
2- أ- الخمرة:
من أبرز الرّموز الموّظفة في ديوان “جرس لسماوات تحت الماء
” نجد رمز العشق الصّوفي الخمرة، حيث توظّف عادةً في الأعمال الأدبيّة المعاصرة وفي فنّ الشّعر خاصّةً، ويستثمر الكتّاب رمز الخمرة للتّعبير عن لوعة العشق والاِحتراق في الحبّ، والاِتحاد مع الذّات الإلهيّة أو الحبيب، فهي من أبرز الرّموز الفنيّة الرّمزيّة في الكتابات الصّوفيّة وتعبّر عن رؤية الكاتب الوجوديّة، فالخمرة توظّف كتجسيدٌ ل “جملة من المواقف كطريقة التّعبير عن الحريّة الفرديّة وقضيّة الاتّحاد والحلول كأساس لحلِّ الأزمة الاِغترابيّة.“(2)
فالخمرة أيقونة العشق تجسّد مشاعرَ الاِشتياق والحنين للحبّ، ذلك الاِشتياق الّذي يتحوّل إلى مرض يفتك الرّوح والجسد والوجدان. ويتمظهر رمز الخمرة في مقاطع عديدة من الدّيوان، إذ يستحضر الشّاعر هذا الرّمز للتّعبير عن عشقه وهيامه، وموطن فرحه وسعادته، حيث يقول:
“هذي أباريقي لكم فيها شفاء
فخذوا.. خذوا من خمرتي
كأسا يعطّرها الصّفاء
وتشرّبوا طعم القداسة كلّكم عندي سواء
فإذا الدّياجي طخطخت وتفحّمت كلّ النّجوم.”(3)
الواضح من خلال هذا المقطع أنَّ الخمرةَ كانت سببًا في شفاء الشّاعر النّفسيّ، وإزالة أحزانه وآلامه وأوجاعه، فالخمرة في هذا السّياق رمز للصّفاء والنّقاء والصّدق، وسبيل للوصول إلى القداسة والعظمة، والتّماهي مع الذّات الإلهيّة. فدلالة الخمرة انزاحت من كونها شرابا للسّكر والتّرويح على النّفس، وأضحت سبيلا للوصول إلى الطّهر. ف “لوصيف” تماهى حميميّا معها، فأضحى ك “النّديم” يقدّم كؤوس الصّفاء للأشخاص الهاربين من جحيم واقعهم، والباحثين عن عالم تملؤه ملائكة النّقاء والصّفاء.
لقد منح الشّاعر لرمز الخمر دلالة كبيرة وعظيمة، وجعل مكانتها قدسيّة، كيف لا والخمرة هي سبيله نحو الخلاص، والتّلاحم مع الذّات الإلهيّة، فجعل رمز الخمرة دالّا على عالم الرّوح والطّهارة، والقداسة، بعيدا عن دونيّة ودنس العالم الخارجيّ (عالم الجسد المادّي)
يقول الشّاعر:
“فالأزمان سكرى والطّبيعة تنغمس
في عرسها المائيّ
يا مطر القصيدة هيّج الآيات والنّايات
واعتنق القبس
عطشانة روحي.”(4)
لقد أضفى الشّاعر على رمز الخمرة دلالات أخرى أسهمت في تشكيل بنائه العرفانيّ، إذ ربطه بالرّموز الطّبيعيّة الماء والمطر للإيحاء على شدّة المحبّة وكثرة العطاء في العشق، وقد دلّ عليها في قصائد أخرى من خلال الإشارة إلى مفردات ترتبط بالخمرة كالنّدى الّتي تُشير إلى “ما يتعاطاه العرفاء والمحبّون الإلهيون من علوم ومواجيد وأسرار.”(5)
فالنّدى هو الكرم في القواميس العربيّة، إذ شخّص الشّاعر الخمرة في صورة الذّات الإلهيّة، وجعلها جسر وصول للتّلاحم والتّماهي الرّباني، إذ تجعله يبصر الوجود، وتفسح له الطّريق نحو ذلك العالم المتسامي، المنزّه عن الأخطاء ودونيّة الإنسان، والواقع الرّث. إنّها رحلة مدجّجة بمشاعر الحبّ والصّبابة والفناء والاستشهاد في عشق الخالق
“وهرقت عشقك أنجما وحمائما
تنساب في غبش الضّباب
يا أيّها الجرح الإلهيّ اشتعل
وخذ الخطاب
أنت النّدى.. أنت المدى
أنت البداءة والبراءة أنت.. أنت أنا
وأنت قصيدتي تجتاح هذا البرزخ المهجور
جرس.. هو النّبض السّديمي البعيد
هو الهوى الكونيّ وهو المعجزات الألف.”(6)
2- ب- رمز الفراشة:
تعدّ الفراشة من الرّموز الفنيّة الجماليّة الّتي يوظّفها الصّوفيون عادةً من أجل التّعبير عن معاني الشّوق والصّبابة والفناء في عشق المحبوب سواء كان وطنًا أم حبيبًا؛ بل يمكن أن نعدّها من أبرز أيقونات المتصوّفة لرصد حالات الاحتراق في نار العشق، فكلّما اِقتربت هذه الفراشة من الضّوء وبسطت أجنحتها النّورانيّة جسّدت لنا مشهد الموت الصّوفي في الحبّ.
تعدّ تيمة الحبّ من أبرز الّتيمات الّتي كتب فيها الشّاعر “عثمان لوصيف”. هذا الحبّ المتجذّر في كيان الشّاعر، إذ نخر قلبه وجعله أسير رعشة الفناء، ترواغه امرأة ليست ككلّ النّساء، امرأة الغوايات، امرأة المعنى، إذ يبجّلها ويتلاحم مع الفراشات ليخيط من أوردتها حلما شفيفا تسكنه حبيبته، يقول الشّاعر:
“تتراكض الفراشات على صفحة دمي
وتتراقص الفراشات على صفحة روحي.”(7)
فالفراشة أيقونة الحبّ الصّوفي ورمز للالتحام الحميميّ، والانصهار في الحبّ، والتّماهي الجنونيّ فيه
“الأرض سرير من المرايا
النّور بحر رجراج
والمجرّات كلّها تنجذب إليك
تطير فراشة قلبي
تتضمّخ بأنفاسك وتختار وكرها
تحت لبدة شعرك الّتي تشبه لبدة اللّيث”(8)
2- ج- المرأة:
لقد عُني برمز المرأة كثيرا في مختلف الثّقافات والكتب والأساطير، نظرا لمكانتها الهامّة ودورها البارز، وقد أُرتبطت المرأة برموز الخصب والجنس والقوّة كما الشّأن مع رموز “عشتار” ، “إيزيس”، “هيرا”.
حاز رمز للمرأة على احتفاء كبير في مختلف الآداب والثقافات، إذ ارتبط بالجمال والحبّ والعطاء، لذلك راح الشّعراء يغترفون من ينابيع هذا الرّمز، مضفين على رمز المرأة جوانبًا جماليّة ودلاليّة متعدّدة، والشّاعر الصّوفي اهتم بهذا الرّمز كثرا، ووظفه حسب سياقات مختلفة. ويظهر هذا الرّمز في قصائد الديوان في سياقات كثيرة منها:
“يا جمر امرأة من حلم
يا رخاما هلاميّ الإيقاعات
يا ذباذب الشّفق المغناج
ويا عقودا من أنجم
تتبجّس من سبات الماء
أحنّ إلى هديل ريّاك
وملمس موسيقاك.”(9)
من الظّواهر الصّوفيّة الموجودة في القصائد، والمرتبطة برمز المرأة أيضًا نذكر:
الشّوق والحنين والتوحدّ بها، حيث نلحظ العاطفة الجيّاشة المليئة بمشاعر الاحتراق في الوصال، والوله في المحبوب، وهذا ما يجسّد اتحاد “الإرادة الإنسانيّة مع العاطفة في رغبة ملحّة تدفع بالنّفس إلى تجاوز عالم الحسّ إلى عالم تصل فيه عن طريق الحبّ إلى محبوبها الأوّل الّذي تدركه النّفس ذوقيًّا.“(10)
كما نلاحظ في هذه القصائد فكرة الحياة في الموت، هذه الفكرة الّتي تطرّق إليها متصوّفة كثر نذكر منهم الشّاعر الصّوفي ” الحلّاج”، فالموت عنده “يقين يهب الحياة ولا حياة إلّا به، فالحلّاج يرى حياته في موته، حيث الوصل مع المحبوب لا يتّم إلّا بذلك.”(11)
وهذا ما يتجسّد في سياقات عديدة منها إذ يقول الشّاعر:
“هنا وهناك
وهو الموت كيمياء الولادة تختمر
يتها الخليقة
يا الّتي ينتابها خوف الفناء
تهجّدي بالعشق شعرا.”(12)
فالموت هنا ميلاد جديد للحياة، تلك الحياة المتمّثلة في الحبّ. فالحبّ حياة لمن لا حياة له، والموت امتلاء للحياة، فالشّاعر الصّوفي يرى حياته في الموت في عشق محبوبه، والتّماهي معه بصورة جنونيّة، موت رمزيّ يختزل روح الحياة، ويشعّ بالضّياء والجمال، موت يتجّه صوب المحبوب محمّلا بعتاد الفرح والنّقاء والبهاء، موت يلد الأرواح من جديد
“ما أروع أن يتوضأ العبد المتيّم
بدموع مولاته
الّتي يتعبّدها حتى الموت!”(13)
تعدّ الرّغبة في القتل من أبرز الظواهر عند المتصوّفة، حيث تمثّل علامة من علامات الامتلاء والموت في الحبيب، فلا تعدّ هذه الرّغبة “قنوطًا أو هربًا أو اِنزواءً، بل هي لحظة اِمتلاء بالحياة، ويقين تام بها، إنّ حضور الموت يعني إعادة صياغة جديدة للذّات الّتي تحلم باِتحادّها مع من تحبّ، فالحياة الّتي لا تبدأ بالموت وتنتهي به لا تستحقّ أن تعاش.”(14)
فالاِستشهاد في الحبّ هو أساس الوجود، والحصول على بهجة الحياة وجمالها:
“هذا المساء سربلتني أنفاسك
وسرت رعشة كهربائيّة الوخزات
في عروقي المتيبّسة
أفقت من موتي الألف
وأغواني الهبوب إليك
فخرجت من كهفي المظلم
أتشرّب النّور
المنبعث من مقلتيك الخضراوين.”(15)
إنّ الشّعر الصّوفي قد وظّف رمز المرأة كمعادل للحبّ الإلهيّ، والتّماهي مع الذّات الإلهيّة، فالحبّ الصّوفي حبّ عفيف عذري بعيد عن التّغزّل الماجن، ووصف مفاتن المرأة المثيرة، إذ يكون الحبّ هو الغاية الأسمى للحبّ دون مثيرات أو غايات جنسيّة جسديّة، فالأنثى تتجسّد “بوصفها تجسيدا للحبّ الإلهيّ الّذي يحيل إلى تجلّي العلّو في الصّورة الفيزيائيّة المحسّة، وشيفرة أستيطيقيّة تُوحي بانسجام الرّوحي والمادّي، والمطلق والمقيّد في الأشكال المتعيّنة.”(16)
فالمرأة عند الصّوفيّة هي رمز للحياة، والخصب وميلاد الكون، لذلك راحوا يزاوجون بينها وبين العناصر الطّبيعيّة، فشاكلوا بين المرأة والطّبيبعة، وسعوا إلى بناءه بناءً حسيّا رمزيّا يحمل معاني العفاف، والخلق، والغريزة الجنسيّة، ومن أمثلة ذلك: “يا هذه الأنثى!
المتربّعة على إيوان الّازورد
المتدفّقة دوما
في مواويل الغسق
الممسكة بصولجان البرق
والنّبوءات..
تلطّفي بهذا النّاسك المتيّم.”(17)
إنّ المرأة عند “لوصيف” امرأة من عوسج وضياء، امرأة متربّعة على غوايات السّحر، امرأة تتقن جيّدا فنون العشق، امرأة إلهة تعلم الغيب وتتجمّل بعطر النبوّة، امرأة تُقام لها طقوس العبادة، يتعبّد الشّاعر في محراب مناسكها بحثا عن رضاها، وكانفصال عن عالم مادّي مدنّس. فالشّاعر في هذا السّياق قد رفع المرأة من مقام المرأة الحسّي إلى مقام قداسيّ، فقد تماهى معها، واندمج في تجاويف روحها لينسل منها ضوءً شفيفا يقوده إلى تبصّر الذّات الإلهيّة في أجلّ صورها.
والجليّ أنّ التّجلّي الإلهي يتضّح من خلال صورة المرأة، إذ يعدّ شوق الصّوفيّ وامتلائه بالمرأة كعلامة على حبّه العميق للذّات الإلهيّة، فالصّوفي يقدّس ويبجّل المرأة لأنّه يرى فيها صورة للرّب، ويشعر بقربه واحتوائه، وهذا أرقى درجات الحبّ، ف”الجوهر الأنثويّ قد أشرب رمزا معرفيّا؛ لأنّه لما كانت الأنثى في التّصوّرات الصّوفيّة تجسيدا للنّفس، ولما كانت معرفة النّفس هي معراج الإنسان إلى معرفة الرّب، لزم أن تكون معرفة المرأة من خلال عاطفة الحبّ المتوّهج موصلة إلى اللّه.”(18)
وتتجسّد الصّور الشّعريّة الجسديّة الإباحيّة في سياقات أخرى، وترتبط بالمناظر الطّبيعيّة لتؤسّس تجربة شعريّة قائمة على حضور الدّال الأنثوي للدّلالة على تحقيق التّلاحم الجنسيّ الّذي يحقّق التّلاحم الرّباني. فالمرأة هي أساس الحبّ والعطف والرّحمة والحياة، لذلك عكفوا على بثّ بعض الصّور الإباحيّة الموحيّة للدّلالة على الحبّ الإلهيّ. فالتّغزّل بجمال وجسد المرأة ما هو إلّا تغزّل باللّه؛ لأنّ المرأة في المخيال الصّوفي حاملة لأرقى وأبهى صور الملكوت والخلق .
فاستحضار الصّور الشّهوانيّة الماديّة، وانصهار الذّات الشّاعرة في ذات المرأة/ الإله، والمبالغة في التّغنّي بصفاتها الحسّية والمعنويّة يُسهم في تشكيل الرّمز، ويجعله أكثر وضوحا، وُوصل الشّاعر إلى تحقيق لذّته وغايته المطلقة المتمثّلة في الحصول على لذّة الفناء العشقيّ ، يقول الشّاعر:
“لا تخافي! إنّني من جوهر حيّ
ومن شجر إلهيّ
أحبّك أو أحبّ اللّه
صوفيّ.. وأعبد مقلتيك
أقدس القدّوس باسمك
والهوى عندي احتراق بالجميلة والجميل
يا طفلتي هاتي يديك
وسبّحيّ مثلي هياما
ولنضع في بهرجات السّهو
من إغواء هذا الأرخبيل
فإذا سكرت من الغرام
تدثري بطفولتي”(19)
لقد رفع الشّاعر المرأة إلى مقام الرّب، وجعل عبادتها من عبادة اللّه، فهو يسبّح باسمها، ويتعانق حبّه مع حبّ المرأة، فمزج الصّفات المرئيّة للمرأة (العيون، اليد، إغواء، المقلتين…) بالتّعبّد والهيام في العشق إلى درجة الثّمالة والفناء.
إنّ إكثار الشّاعر من إفراد الصّور الجنسيّة للمرأة بوصفها رمزا صوفيّا منفتحا على مدارات الخلاص والفناء وتبصّر الكون، ومعرفة الذّات الإلهيّة جعله يوحّدها مع الطّبيعة، من خلال رسم عديد المظاهر المختلفة، ورسم عبر متخيّله الشّعوريّ حالته العاطفيّة الغارقة في شدّة الشّوق، والوصل، والحنين. فالمرأة عند الصّوفيّة جميلة كذلك الطّبيعة، وكلتاهما يوصلان العاشق المتنسّك إلى تبصّر نور الملكوت، والتّخلّص من عالم عقيم مغترب، غارق في المادّيات وشهوات النّفس. لكن الشّاعر يتجاوز عبر التّخييل الشّعري طابع التّغزّل الماجن للمرأة، ويجعلها لبنة أساسة في تشكيل العالم الصّوفيّ الّذي يحلم به عالم خالص، منزّه عن الشّوائب والنّقائص حيث الحبّ الأبديّ، والشّوق المكرّس لخدمة الرّب، فالشّاعر من خلال إسقاطه للإله في رمز المرأة أفصح عن “جنونه الإلهيّ، ملوّحا بأسماء المعشوقات أو قل بالجوهر الأنثويّ في دلالاته الخصبة إلى حبّه الحقيقي الّذي انتهى فيه إلى مبدأ الوحدة الجوهريّة الشّاملة.”(20)
لقد أكثر المتصوّفون من العواطف الوجدانيّة، وأسهبوا بوصف المرأة بصور استعاريّة بلاغيّة حتى يقرّبونا من التّجليّ الجماليّ للّذات الإلهيّ. فعشق الشّاعر هو عشق منفتح، غير محدّد بقيود أو حدود جغرافيّة؛ بل هي مناجاة كونيّة متصدّعة، متقطّعة الأنفاس تعبر الأرجاء والأكوان، لتكون المرأة رمزا لكلّ الخير، والحبّ، وإزالة اغتراب الشّاعر ورغبته في الخلاص.
“ها! زهرة ياسمين تترك غصنها
وتحطّ على جبينك السّاهي
كما الفراشة البيضاء
وها أنت تختالين مياسة
بين إيماءات المعاني
وإيماصات الحدوس
مثل أميرة تتنزّل
من ملكوت السّماء الثّامنة
تستطيعين فأشغل بعطر الكاميليا”(21)
إنّ امتزاج المرأة بالطّبيعة (الياسمين، الكاميليا…) دلالة على الجمال والبهاء الّتي يشتمل عليها هذان الرّمزان، إذ تدخل هذه الرّموز في تشكيل البناء الشّعريّ الصّوفيّ، وتُسهم في تحقيق الصّور الشّعريّة المتخيّلة، نظرا لما تتوفّر عليه الرّموز الطّبيعيّة من روعة وتصوير بديع يجعل من الحضور الإلهي ظاهرا بصورة أكثر وضوحا؛ لأنّ الصّور الشّعريّة واللّغة الاستعاريّة من شأنها أن تعبّر بعمق عن صورة الإله بارعة الجمال المنتشيّة في جسد الأنثى.
والظّاهر أنّ الشّاعر قد استفاد من تجارب صوفيّة كثيرة أبرزها رحلات “الحلاج”، و”ابن الفارض”، و”المعرّي”، صوب الذّات الإلهيّة بحثا عن التّحرّر من عالم يملؤه السّواد والاغتراب وشروخ الذّات، بحثا عن عالم أبيض، تحيطه ألوان البهجة والفرح والحبّ الحقيقيّ، يشفي جروحه ومواجعه، ويعالج ترهّلات ذاته. كما نلاحظ تأثّر الشّاعر أيضا بالشّعر العذري عند “جميل بن معمر” بدليل وصفه للمرأة وصفا عاطفيّا عفيفا دون الإسفاف في الوصف الجسدي الماجن المنافي لعفّة وصدق وغاية الحبّ الأسمى.
2- د- الطّبيعة:
تعدّ الطّبيعة بمظاهرها الجميلة النّابضة بالحياة والجمال والخصب والعطاء محور للأعمال الشّعريّة، الّتي افتتنت بمظاهرها، فأضحت مادّة دسمة للإبداع، وقد ظهر الاهتمام برسم وتصوير الطّبيعة في المتخيّل الشّعري مع الشّعر الرّومانسي والشّعر الصّوفيّ، نظرا لكونها “زاخرة بالحياة والجدّة الباعثة على دهشة طفوليّة، ومن ثمّ لم تكن الطّبيعة في تصوّره شيئا هامدا ساكنا وإنّما بدت له على نحو ذاتيّ متشخّص مفعم بالوجدان، فمثلما أدرك الطّبيعة حيّة عاملة تفرح وتأسى وتغضب وترضى، ومن ثمّ كشفت الطّبيعة عن نفسها في الأساطير القديمة بوصفها حضورا مستحوذا وتجسيدا مجابها، أتاح للإنسان أن يتصل بها، وأن يقيم معها علاقة ديناميّة نشطة.”(22)
وقد كان للطّبيعة حضور كبير جدّا في الأساطير الإغريقيّة، نظرا لما تحمله من دلالات ومعاني توحي بالبعث والنّماء، والخصب والعطاء، والقوّة والملك، وهذا ما خلق داخل الشّعراء رغبة جامحة في خلقها في متخيّلهم الشّعري، مضفين عليها مشاعرهم وعواطفهم، وصفات خارقة تصل إلى درجة الألوهيّة والعبوديّة، كما الشّأن مع رموز “القمر”، “الشّمس”، الماء”.
إنّ الطّبيعة عند الصّوفيّة أساس التّفكير الوجوديّ، والالتحام الذّاتي مع اللّه، إذ يتجرّد الصّوفي من مشاعره وعواطفه، لينزاح بفكره وتفكيره إلى عالم الملكوت، حيث النّقاء والصّفاء، بعيدا عن ما يشوّه صورة الواقع في عينيه، فالطّبيعة خلاص من أسر الواقع المزيّف، وتماهي جنوني في عشق إلهيّ مقدّس، وتسامي بالجسد من دونيته وهشاشته إلى القداسة والجلال، وارتقاء بالفكر، وتجلّي الحياة في أرقّ وأبهى صورها.
فالشّاعر الصّوفي – لا ريب- أن يبالغ في الوصف والتّصوير، متوسّلا شتّى الأدوات اللّغويّة والشّعريّة ليجعل من الطّبيعة ملاذه وحلمه الأكبر، ويبني من رموزها رؤيته الصّوفيّة، عن طريق الإيغال في التّأمّل، فقد “انتهى الصّوفيّة في دور متأخّر إلى إرساء تصوّر عرفانيّ للطّبيعة، نظفر به مكتملا فيما عرف بوحدة الوجود الّتي آلت لديهم إلى نسق نتبيّن فيه، سريان الحياة، والوجود الإلهي في الطّبيعة جامدها وحيّها، ومحاولة لاستبطان العلوّ المحايث على هيئة مفارقة لا تدرك إلّا بالكشف العرفاني، وتحليلا للعلاقة بين الوحدة والكثرة وبين اللّه والطّبيعة.”(23)
في ديوان “جرس لساوات تحت الماء” للشّاعر “عثمان لوصيف” نجد التّفاعل الجمالي لعناصر الطّبيعة مع الشّعر، وتوظيفها لبناء التّجربة الصّوفيّة القائمة على فلسفة العشق، عشق كلّ شيء يؤدّي إلى معرفة الخالق عبر خَلقه الكون.
وقد مال الشّاعر إلى تشخيص مكوّنات وعناصر الطّبيعة، وأعدّها مصدرا للميلاد والحياة البهيّة، يقول:
“أسطورة الخلق المقدّس شعشعت
فضعي أساور من حروفي
في ربيع المعصم
وارمي جراحك كلّها في مهرجان جهنّمي
من حراك الإغواء في الأجراس فالتهبت
ومن.. من شدّ إيقاعات هذا الكون
فاندلقت خزائن فيضه؟
كانت يبوسات فغمّسها هديل الأنجم
كانت قتامات فذهبت الطّيور هباءها
وتألّق النّسرين والنّردين
في سهو السّماء وفي دمي
هي أحرف وغواية.”(24)
فالظّاهر أنّ غوص الشّاعر وسفره الطّبيعيّ المدجّج بمشاعر الصّبابة والفرح، سفر صوفيّ يعيد إحياء الطّبيعة، وغرس بتلات الحياة في جنباتها، ونفخ روحي في عناصرها الموّات، كما أفردها قوى خارقة، وهذا دلالة على قوة وقدرة اللّه سبحانه وتعالى في الكون.
فالشّاعر متأثّر بشدّة بالفلسفة الطّبيعيّة، والعرفانيّة الصّوفيّة القائمة على “إسقاط الخصائص الإنسانيّة على الكون، بضرب من التّجسيد والتّشبيه، وتوسيع للبيذو الممتزج بالأيروس، بحيث تجاوز المفهوم الحيوانيّ الضّيق إلى مفهوم أكثر انبساطا واستيعابا.”(25)
وهذا ما شاهدناه في سياقات عديدة منها:
“روح أنا والكون روح
يا نحلة طنّانة إنّي أسيح
جرحا تؤجّجه المدائح
والمدى بحر فسيح
الشّمس نبع والنّجوم زنابق
والغيم خبّار وشيخ
وأنا.. أنا جرس يسافر في الدّنى
يلج السّراب مفجّرا أمطاره
متلظّيا.. متشظّيا
متجدّدا.. متعدّدا.. لا يستريخ.”(26)
ج- ه- الأعداد:
اهتمّ الصّوفيّون بالأعداد الصّوفيّة نظرا لارتباطها بوحدانيّة اللّه، والدّلالات الدّينيّة مثل شؤون الكون، وتشكيله، وتدبير اللّه فيه، فالرّموز الصّوفيّة تحمل معاني “الواحديّة والوحدة والتّوحيد بواسطة هذه الرّموز العدديّة، كما عبرّوا على هذا النّحو الرّمزي عن مراتب التّوحيد من حيث تؤول إلى توحيد الذّات وتوحيد الصّفات وتوحيد الأفعال، وأضافوا إلى هذه المراتب ما نعتوه بأنّه علم التّوحيد وعينه وحقّه.”(27)
لقد وظّف الشّاعر رمز سبعة المرتبط بسبع سماوات، وهي دلالة على قدرة اللّه العجيبة في الكون، إذ يقول:
“جسدك
مرآة بسبعة السّماوات
أرض من ذهب يشتعل عب انهمار المطر
جسدك.. هذا الملكوت المترامي
خارج حدود السّاعات
متاهة بلا معالم وبحر بلا سواحل.”(28)
وقد وردت في القرآن آيات قرآنيّة دالّة على عدد سماوات الكون السّبعة مثل قوله تعالى: “وبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا.” [النّبأ: 12]
فالسّماوات السّبع دلالة على تجلّي قدرة اللّه ووحدانيته وتوحيده في الكون، فالصّوفيّون أوغلوا في تصوير ملكوت اللّه في الكون، والإشارة إلى قدرته الفائقة، وتبصّر الوجود.
وتحضر رمز الأعداد في سياقات كثيرة، وتُحيل إلى المعجزات العظيمة للذّات الإلهيّة الّتي لا تعدّ ولا تحصى، فالشّاعر الصّوفيّ مولع مولعًا كبيرا بالذّات الإلهيّة، لهذا يتبنّى المقولات الصّوفيّة مثل: الحلول والفناء والاستشهاد والموت، ومن أمثلة ذلك في الدّيوان نجد:
“جرس.. هو النّبض الكونيّ وهو المعجزات الألف.”(29)
إنّ توظيف رموز الأعداد في العرفانيّة الصّوفيّة يُسهم في الإحالة على القدرة الرّبانيّة، وتسهيل الفهم الإنسانيّ للوجود ومعجزات اللّه في الكون.
الخاتمة:
من خلال قراءتنا التّأويليّة لديوان “جرس لسماوات تحت الماء” للشّاعر “عثمان لوصيف” لاحظنا أنّ توظيف الرّمز أسهم في تشكيل الدّلالات والمعاني المرتبطة بفكرة جوهريّة أساسة تتمثّل في الوصول إلى الحبّ الإلهي والفناء فيه.
والظّاهر أنّ الشّاعر قد مال إلى التّصوير الاستعاريّ، وإضفاء طابع قداسيّ من خلال توظيفاته المتنوّعة للرّموز المختلفة (المرأة، الطّبيعة، الفراشة، الخمرة…) وأبرز التّجليّ الإلهيّ عبرها، مؤكّدا على الوجود والوحدانيّة، فتحوّل الرّموز من جانبها المادّي الحسّيّ إلى الرّمزيّ المتخيّل جعل القصائد عميقة بليغة تفيض بالشّاعريّة الطّافحة والفناء في الحبّ الّذي لا يزول.
الهوامش:
(1)- محمّد بوزواوي، معجم المصطلحات الفلسفيّة، الدّار الوطنيّة للكتاب، (د. ط)، 2009، الجزائر، ص75.
(2)- السّعيد بوسقطة، الرّمز الصّوفي في الشّعر العربي المعاصر، منشورات بونة للبحوث والدّراسات، ط2، 2008، عنابة، الجزائر، ص119.
(3)- عثمان لوصيف، جرس لسماوات تحت الماء، جمعيّة البيت للثّقافة والفنون، (د. ط)، 2008، الجزائر ص31.
(4)- المصدر نفسه، ص9.
(5)- عاطف جودة نصر، الرّمز الشّعري عند الصّوفيّة، دار الأندلس، ط3، 1983، بيروت، لبنان، ص367
(6)- عثمان لوصيف، جرس لسماوات تحت الماء، ص12.
(7)- المصدر نفسه، ص81.
(8)- المصدر نفسه، ص129.
(9)- المصدر نفسه، ص75
(10)- عاطف جودة نصر، الرّمز الشّعري عند الصّوفيّة، ص266.
(11)- عبد النّاصر هلال، تراجيديا الموت في الشّعر العربي المعاصر، مركز الحضارة العربيّة، ط1، 2005، القاهرة، مصر، ص25.
(12)- عثمان لوصيف، جرس لسماوات تحت الماء، ص28.
(13)- المصدر نفسه، ص171.
(14)- عبد النّاصر هلال، تراجيديا الموت في الشّعر العربي المعاصر، ص21.
(15) – عثمان لوصيف، جرس لسماوات تحت الماء، ص163
(16)- عاطف جودة نصر، الرّمز الشّعريّ عند الصّوفيّة، ص147.
(17)- عثمان لوصيف، جرس لسماوات تحت الماء، ص155.
(18)- عاطف جودة نصر، الرّمز الشّعري عند الصّوفيّة، ص152.
(19)- عثمان لوصيف، جرس لسماوات تحت الماء، ص42- 43.
(20)- عاطف جودة نصر، الرّمز الشّعري عند الصّوفيّة، ص172.
(21)- عثمان لوصيف، جرس لسماوات تحت الماء، ص112- 113.
(22)- عاطف جودة نصر، الرّمز الشّعري عند الصّوفيّة، ص257.
(23)- المرجع نفسه، ص271.
(24)- عثمان لوصيف، جرس لسماوات تحت الماء، ص20.
(25)- عاطف جودة نصر، الرّمز الشّعري عند الصّوفيّة، ص272
(26)- عثمان لوصيف، جرس لسماوات تحت الماء، ص22- 23.
– عاطف جودة نصر، الرّمز الشّعري عند الصّوفيّة، ص405. (27)
(28)- المرجع نفسه، ص89
(29)- عثمان لوصيف، جرس لسماوات تحت الماء، ص12.
قائمة المصادر والمراجع:
أ- المصادر:
1- عثمان لوصيف: جرس لسماوات تحت الماء، جمعيّة البيت للثّقافة والفنون، (د. ط)، 2008، الجزائر.
ب- المراجع:
1 – السّعيد بوسقطة، الرّمز الصّوفي في الشّعر العربي المعاصر، منشورات بونة للبحوث والدّراسات، ، ط2، 2008، عنّابة، الجزائر.
2- عبد النّاصر هلال، تراجيديا الموت في الشّعر العربي المعاصر، مركز الحضارة العربيّة، ط1، 2005، القاهرة، مصر.
3- عاطف جودة نصر، الرّمز الشّعري عند الصّوفيّة، دار الأندلس، ط3 1983، بيروت، لبنان.
4- محمّد بوزواوي، معجم المصطلحات الفلسفيّة، الدّار الوطنيّة للكتاب، (د. ط) 2009، الجزائر.
*جامعة حسيبة بن بوعلي الشلف – الجزائر
Leave a Reply