الملخص:
عاشت الأمة الجزائرية خلال فترة الاحتلال الفرنسي الذي دام أكثر من قرن صراعا لغويا بين اللغة الأصل(اللغة العربية)، ولغة المستعمر(اللغة الفرنسية)، الذي عمل بكل الوسائل المتاحة له على طمس الهوية العربية الإسلامية من خلال تهميش اللغة العربية في مختلف المراكز التعليمية والإدارية، كما أعلنالعداء المطلق لها؛حيث قام بغلق الكتاتيب القرآنية والجمعيات الدعوية الإصلاحية، وهدم المساجد والمدارس وحولها إلى كنائس وثكنات عسكرية…وغيرها من مظاهر التعسف.
لذلك كان لزاما على علماء الأمة ومفكريها- آنذاك-، وعلى رأسهم جمعية العلماء المسلمينالنهوض للدفاع عن لغتهم ودينهم، فقد كانوا موقنين بأنه إذا رضخ الشعب للسياسة التي دعت إليها إدارة الاحتلال الفرنسي، والمتمثلة في: الإدماج والفرنسة والتجنيس، فستتلف دولتهم(الجزائر)، ويغلبهم عدوهم في عقر دارهم.
الكلمات المفتاحية:
السياسة الاستعمارية ، اللغة العربية، التجنيس، الفرنسة، الإدماج، جمعية العلماء المسلمين، المدارس، المساجد.
1.مقدمة:
لقد تكالبت الدول الأوروبية على احتلال الجزائر، بعد سقوط الدولة العثمانية، لكن الحظ كان حليف فرنسا عام 1830م، فحكمت الجزائر بقوة السلاح والنار، وبقوانينها التعسفية والإرهابية، وعاش الشعب الجزائري محروما من أبسط حقوقه؛ العمل والتعليم.
سعى المستعمر بكل الوسائل إلى طمس الهوية العربية الإسلامية، حيث بدأ بمهاجمة مقومات الأمة المتمثلة في: وحدة اللغة والدين، لكي يثبط من معنويات الشعب الجزائري، فيفقد هذا الأخير كيانه وهويته الوطنية، ثم ينصهر ويندمج في لغة المستعمر، لتزول بعد ذلك لغته العربية إثر زوال هويته.
فجاءت مقالتنا لتسليط الضوء على سياسة الاستعمار ضد اللغة العربية، وكشف موقف جمعية العلماء المسلمين من هذه السياسة، انطلاقا من جملة الإشكاليات المطروحة، منها: ماهي الإجراءات العملية التي لجأت إليها فرنسا بغية تهميش اللغة العربية؟ وعندما لم تنجح هذه الاجراءات، ماهي البدائل السياسية التي اتخذتها إدارة الاحتلال الفرنسي اتجاه اللغة العربية؟ وكيف كان رد جمعية العلماء المسلمين وعلى رأسها عبد الحميد بن باديس والبشير الابراهيمياتجاه هذه القرارات المجحفة في حق الشعب الجزائري ؟.
قبل أن نشتغل في الإجابة على التساؤلات التي طرحناها، لابد أن نشير إلى أن للجزائر رجال غيورين عليها دافعوا عنها بالفكر والقلم من أجل بقائها، ومن أبرزهم: عبد الحميد بن باديس، البشير الابراهيمي، العربي التبسي، مولود قاسم نايت بلقاسم، الطيب العقبي، مبارك الميلي، أحمد توفيق المدني…وغيرهم ممن أسسوا جمعية العلماء المسلمين، فقد »دار صراع بين جمعية العلماء المسلمين وإدارة الاحتلال في الجزائر وقد تبلور الصراع في فترة الدراسة(1933-1939) حول سياسة التجنيس والإدماج، وقانون 08مارس سنة 1938، وقانون 20يناير سنة1938«([1]).
فقد تفطنت جمعية العلماء المسلمين لسياسة فرنسا فحاربتها بالدين واللغة لأن بقاء الأمة مرهون ببقاء لغتها ودينها، وقد أشار الإمام أبو محمد بن حزم إلى العوامل التي تؤثر في اللغة نحو الاندثار، فقال:»إن اللغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط دولة أهلها…وأما من تلفت دولتهم، وغلب عليهم عدوهم…فمضمون منهم موت الخواطر، وربما كان ذلك سبب لذهاب لغتهم«([2])، لأن اللغة هي أساس وحدة الأمة، والعربية هي لغة القرآن الكريم قبل أن تكون لغة شعوب الأمة الإسلامية.
- هدم مؤسسات اللغة العربية:
قام الاحتلال الفرنسي بهدم مؤسسات اللغة العربية كالزوايا والمساجد والمدارس التي كانت تلعب دورا كبيرا في نشر الدين، والمحافظة على اللغة العربية، بل كانت مركزا لتكوين ووعظ وإرشادوتوعية الشعب الجزائري ضد سياسة التجهيل التي كانت تمارسها فرنسا ضده،حيث»كانت ترمي إلى نشر ثقافتها بين الجزائريين المشوهة الدعاية والادعاء، من أجل إدماجهم بالإضافة إلى أن الكثير من هذه المؤسسات الثقافية قد اندثرت على أثر هذه السياسة فأغلقت الزوايا التي كانت بمثابة جامعات «([3])، لكن المصير الذي تعرضت له كل من الزوايا والمساجد والمدارس لم يمنع الأئمة والعلماء والمعلمين وحتى عامة الناس من تعلم لغتهم العربية، ومن إعلان كلمة الجهاد ضد الاحتلال الفرنسي الغاشم.
وهنا لابد من بيان أن سياسة الاحتلال الفرنسي كانت تسعى بالدرجة الأولى إلى محاربة الدين واللغة العربية بواسطة حملاتها العسكرية التي كانت تشتت جموع الطلبة في جميع النواحي: الشرقية والغربية، وكذا الناحية الوسطى والشمالية، وحتى الناحية الجنوبية التي كانت تعج كغيرها من النواحي بالزوايا القرآنية والمساجد. يقول ديشيDuchu المسؤول عن التعليم العمومي بالجزائر–أثناء فترة الاحتلال-: »لم نعد نشاهد من المؤسسات التعليمية الموجودة في الماضي غير بعض المدارس التي تعلم تعليما ناقصا للغاية، كما وأن الدراسات الدينية التي لا يمكن تناولها إلا بالتفسير الذي يتطلب فهمه معرفة جيدة باللغة العربية، قد أهملت بدورها «([4]).
تعد مقولة ديتشي دليل قاطع على النوايا الخبيثة لحملات هدم مؤسسات اللغة العربية، التي تم تحويلها إلى ثكنات عسكرية أو مكاتب تابعة للإدارة الداخلية أو إلى كنائس، وأحيانا إلى مرافق عامة، والمتمثلة في:القضاء على اللغة العربية، ومواجهة العلماء والفقهاء والمعلمين، ووصل بهم الأمر إلى اغتيالهم في صمت تام، حتى لا يجد الشعب من يعلمه دينه ولغته، فمدينة الجزائر وحدها كانت تضم أكثر من 112 مسجدا لم يبقى منها إلا أربعة مساجد بأوامر المسؤولين الفرنسيين، والأدهى والأمر أن الجزائريين أجبروا على دفع مصاريف الهدم([5]).ومن أبرز تلك المساجد والجوامع التي طالها الهدم والتخريب في العديد من المدن الجزائرية”جامع السيدة”، جامع عبدي باشا، ومسجد كاتشاوةالذي حوله الاحتلال إلى كتدرائية، بالإضافة إلى مسجد صالح باي…الخ.
يقول ديشيDuchu في هذا الصدد : »كانت المساجد توجد بكثرة، ويتردد إليها تلامذة كثيرون، وكان التلميذ يحفظ القرآن عن ظهر قلب ينتقل إلى المدرسة بعدها يحمل لقب طالب…لكن منذ الاحتلال اختفت بعض المساجد من جراء انعدام الصيانة وتم تحويلها إلى مصانع عمومية…«([6])، نلاحظ أن الاحتلال الفرنسي قد تفطن إلى الأغراض الدينية والدنيوية التي كانت تؤديها المساجد من خلال حلقات العلم والارشاد التي كان ينظمها العلماء لتعليم الطلبة سائر العلوم العقلية والنقلية، والتي كانت تلقى تزاحما، وإقبالا لا مثيل له.
وفي ذات السياق نشير إلى أن المدارس هي الأخرى لم تسلم من هجمات الاحتلال الفرنسي، الذي أدركأهميتها، فهي التي»يقع عليها عبء تعليم أبناء الأمة وتربيتهم تربية مقصودة، تهدف إلى تكوين شخصياتهم تكوينا علميا سليما في إطار الشخصية القومية للجماعة، بكل مقوماتها الثقافية، واللغوية، والتاريخية، والدينية، والوطنية، لذلك فإن التعليم بمختلف مراحله يلعب دورا هاما في بعث وازدهار الشخصية القومية لكل جماعة من الناس، ثم المحافظة عليها في إطار من الإصالة والتفتح «([7])، وبناء على ذلك فإن السلطات الاستعمارية لم تكتفي بهدمالمدارس التي كانت تعتبرها حجر عثر أمام تطبيق سياستها المتمثلة في: الادماج والفرنسةوالتجنيس، بل سعت جاهدة لغرس الأمية بين أفراد المجتمع الجزائري، ومنعتهم من تعلم اللغة العربية وطاردت متعلميها بحجة معارضتهم للغزو الثقافي الوافد من الحضارة الغربية.
وحتى تتضح الرؤية أكثر نشير إلى أن فرنسا عمدت إلى تطبيق بدائل سياسية تعليمية لدحض الثقافة العربية، تمثلت هذه السياسة في إدماج وفرنسة وتجنيس الفرد الجزائري، من خلال تأسيس مدارس فرنسية عربية في مختلف مراحل التعليم تحت سيطرة الحكم الفرنسي، فأصبح التعليم في الجزائر فرنسي الطابع بمعنى؛ اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية للدولة الجزائرية، وتم تهميش اللغة العربية واعتبارها لغة ثانوية،يقول دومال:»لقد ارتكزنا في الجزائر واستولينا على المعاهد العلمية وحولناها إلى دكاكين وثكنات ومرابط الخيل واستحوذنا على أوقاف المساجد والمعاهد وبذلك قضينا على العربية«([8])، من خلال فرضهملسياسة البديل الثقافي بالقوة على الشعب الجزائري، وإصدارهملقرارات تنص على عدم فتح مدارس عربية إلا بترخيص من الهيئة الفرنسية، لكنأعضاء جمعية العلماء المسلمين وقفوا بالمرصاد ضد هذه القرارات المجحفة التي أصدرتها السلطات الفرنسية في حق الشعب الجزائري، والتي تهدف إلى تفشي ظاهرة الجهل والأمية بين أبناء الجزائر.
3.السياسة الاستعمارية ضد اللغة العربية:
لقد اعتمدت الإدارة الفرنسية على مجموعة من البدائل السياسية للقضاء على اللغة العربية وفرض اللغة الفرنسية كلغة رسمية للدولة، بعدما فشلت سياسة الهدم والتدمير الكامل لمعالم تعليم اللغة العربية، ومن بين هذه السياسات:
1.3 سياسةالإدماج:
تنص هذه السياسة على أن الجزائر إقليم فرنسي يتكون من مقاطعات ومديريات تابعة للإدارة الفرنسية، وأي تمييز بين الجزائر وفرنسا هو تمييز غير شرعي، والجزائريين فرنسيين يتمتعون بنفس الحقوق التي يتمتع بها الفرنسيين([9])، فسياسة الإدماج هي سياسة معادية للغة العربية أولا، وللثقافة المحلية ثانيا، وتعد أحد الوسائل التي تمنع الجزائريين من مطالبتهم بالاستقلال والحرية.
وما يمكننا أن ننوه إليه هو أن فرنسا سعت من خلال هذه السياسة إلى »إحلال النظم الفرنسية محل النظم الإسلامية القائمة، وجعل اللغة الفرنسية هي اللغة السائدة. ومن ثم كان هدفهم هو الوصول إلى نقطة الاندماج حتى يصبح المجتمع الجزائري مجتمعا متفرنسا لغة ودينا ونظما«([10])، وبالتالي تبقى الجزائر مستعمرة فرنسية بأي شكل من الأشكال، وبالتحديد تطمس الهوية الثقافية للشعب الجزائري، ويُسلب حرية التعبير باللغة العربية، فتندثر مع مرور الأيام لغته لعدم توفر الوسط الذي يساهم في ديمومتها.
فجاء الرد مدويا من طرف العلامة عبد الحميد بن باديس على هذه السياسة، قائلا : »لا تنتظم العلاقات ولا ينمو الود إلا إذا تعاملنا بصفاء مع قاعدة أنت أنت، وأنا أنا، أما أن تصبح أنت أنا، أو أنا أنت، فذلك عين المستحيل«([11])، فهو يرى بأن سياسة الإدماج تمس المقومات الذاتية للفرد الجزائري، المتمثلة في: الدين واللغة والوطنية.
ويقول كذلك »لا رابطة تربط ماضينا المجيد بحاضرنا الأغر والمستقبل السعيد، إلا هذا الحبل المتين: اللغة العربية، لغة الجنس، لغة القومية، لغة الوطنية المغروسة. إن هذا اللسان العربي العزيز الذي خدم الدين وخدم الإنسان، هو الذي نتحدث عن محاسنه منذ زمان ونعمل لإحيائه منذ سنين، فليحقق الله أمانينا«([12]).
ويدعم البشير الابراهيمي أقوال العلامة ابن باديس قائلا: »وما فرنسا والجزائر إلا كالماء والزيت لا يمتزجان إلا بقوة الضخ، وسرعان ما يفترقان عندما بسكن الرج، فالماء ماء والزيت زيت«([13]). لقد حاربت جمعية العلماء المسلمين وعلى رأسها ابن باديس والبشير الابراهيمي سياسة الإدماج، بغية المحافظة على مقومات الأمة الجزائرية.
2.3 الفرنسة:
اتبعت فرنسا سياسة الفرنسة منذ أن وطأة أقدامها الجزائر عام 1830م، وسعت بأساليب عديدة للقضاء على اللغة العربية، منها: حظر استعمال اللغة العربية كلغة رسمية في مختلف الإدارات الجزائرية، فأضحت بذلك الوثائق الإدارية تكتب باللغة الفرنسية، بل صارتكل المراكز مفرنسة في كل صغيرة وكبيرة،دون أن ننسى أن هذه السياسة شملت حتى أسماء المدن والقرى التي تغير اسمها من العربية إلى أسماء فرنسية على سبيل المثال لا الحصر: الجزائر صارت ألجي، وهران أصبحت أوران، بجاية بوجي، قسنطينة كونستنطين، ولم تكتفي إدارة الاحتلال بهذا الفعل المجحف، بل غيرت حتى أسماء الشوارع العامة التي باتت تحمل أسماء زعماء وجنيرالات فرنسيين، مثل: باسكال، ديزلي…الخ.
كما »أقامت منظومة تربوية جديدة على أنقاض المنظومة التربوية العربية الإسلامية الجزائرية، مفرنسة فرنسة كاملة حيث استولت على المدارس والمعاهد العلمية والزورايا الكبرى التي كانت متمحضة للعلم والتعليم وحولت لغة التعليم فيها من العربية إلى الفرنسية، وطبقت النظام التعليمي الفرنسي الموجود في فرنسا على النظام التعليمي الذي أقامته في الجزائر، ونتيجة سياسة الفرنسة، طردت اللغة العربية والثقافة العربية الإسلامية بطريقة شاملة من كل معاهد العلم والتعليم«([14])، وهدفهم أن لا تجد اللغة العربية مكانا لها في ثقافة الشعب الجزائري، خاصة مع الأجيال اللاحقة، لذلك قد وجهت فرنسا أنظار سياستها”الفرنسة” نحو الأطفال- بعدما فشلت في تطبيقها على الشباب الذين نشأوا تنشئة عربية إسلامية-لتنشئتهم تنشئة فرنسية، بغيةبناء جيل يتقن اللغة الفرنسية نطقا وكتابة، ولا يفقه من لغته العربية شيئا.
ومازاد الطينة بلة، القانون الذي أصدره “كاميل شوطان Camille Chautemes” وزير الداخلية الفرنسيعام 1938م، والذي يعتبر فيه اللغة العربية لغة أجنبية في الجزائر، ومنع من تعليمها، وحرم تعلمها([15])، وهذا القانون دليل واضح على أن فرنسا كانت تجند كل وسائل التخويف والتهديد وقرارات السجن لمحاربة لغة القرآن “اللغة العربية”، قصد طمس هوية الشعب الجزائري.
ولعلنا لا نحيد عن جادة الصواب إذا قلنا أن الهدف الأول للمستعمر هو فرض لغتهعلىشعوب الدول المستمرة، وإذا حدث له ذلك يُذل الشعب وتفرض عليهثقافة المستعمر بالقوة، فيسحق هذا الشعب عن بكرة أبيه، وهذا الفعل تفطنت له جمعية العلماء المسلمين فحاربت سياسة المستعمر بكل قوة، فهذا عبد الحميد بن باديس يقول: إنني لمسرور جدا حينما أرى الشباب لافتا نظره إلى دينه ولغته، وأمته ووطنه، ويحن على الجميع، لأن له يوما قريب يسلم له زمام الأمة، فينبغي أن يفكر في قيادتها من الآن.
وفي ظل تلك الظروف خاطب عبد الحميد بن باديس ضمير معلمي الفرنسية الأحرار في مقولة واضحة ليوقظهم من سباتهم، قائلا: »…أنتم يا رجال التربية والتعليم أعلم الناس بفضل التربية، والتعليم على الأمم، …وإذا كان لبعضكم منازع لادينية في التربية، والتعليم، أو منازع سياسية في لغة التعليم، فلا تنسوا أن في الأمم جانبا وجدانيا لا يمكن انتزاعه وهو الدين واللغة العربية التي تعبر عن حقائق ذلك الدين… وأنتمتعلمون كذلك أن الأمة الجزائرية أمة إسلامية الدين، عربية اللسان يستحيل أن تتخلى عن ذلك الدين، ويستحيل أن تفهم حقائق ذلك الدين إلا باللسان العربي«([16]).
3.3 التجنيس:
لا يخفى على أحد أن الاستعمار الفرنسي حارب»العروبة وهو عدو لدود للعرب وعروبتهم ولغتهم ودينهم الإسلامي، لأن الاستعمار الفرنسي الصليبي منذ أن احتل الجزائر وهو يسعى إلى محو الدين الإسلامي ومحو اللغة العربية لأنها لسان الإسلام، ومحو الثقافة العربية لأنها دعامة الإسلام، وقد استعمل جميع الوسائل المؤدية إلى ذلك«([17])،فقد لجأ إلى تجنيس الشعب الجزائري العربي المسلم كرها وظلما بعد إصداره قانون” السيناتور كونسولت” عام 1865مالذي يعتبر أن أي مسلم جزائري خاضع للقانون الإسلامي، بإمكانه أن يتمتع بالحقوق الفرنسية، وتطبق عليه الأحكام السياسية الفرنسية، إذا خرج عن القانون الإسلامي([18]).
ومن هذا المبدأ يتضح لنا أن سياسة “التجنيس” هي تكملة لسياسة الإدماج، لأن التجنس بالجنسية الفرنسية يعني؛ الاندماج في الكيان الفرنسي والتخلي عن المبادئ العربية، والهدف منه هو سلخ الجزائريين عن هويتهم العربية، فهذه السياسة تمس بالتحديد اللغة العربية لكي تصبح هذه اللغة في طور الزوال والاضمحلال، لكن هذا القرار لم يلقى صدا عند الجزائريين ذوي التاريخ العريق، والانتماء العربي، وعارضالرجال الجزائريين الشرفاء هذا القانون بشدة.
والجدير بالذكر أن تجربة “سياسة التجنيس” التي طبقتها فرنسا على شراذمة اليهود المنتشرين في العالم والتي لاقت استقطابا منهم، قد دفعها للاعتقاد بنجاح هذه التجربة مع أي شعب، لكنخاب أملها، ولم تلقى هذه السياسة صدا لدى الجزائريين الذين لم يقبلوا بأي مساومة أو سمسرة عبر تاريخ أجدادهم الطويل ([19])، وهذا الفضل-بطبيعة الحال-يعود بالدرجة الأولىللعلماء والمفكرين، خاصة رجال جمعية العلماء المسلمين، الذين وقفو صفا واحدا ضد هذه السياسة، وأصدروا فتوى شرعية تكفر كل من يتجنس بالجنسية الفرنسية، ومنعه من الزواج من الجزائريات، وتحريم الصلاة عليه عند وفاته.
ومن هذا المبدأ فإن جمعية العلماء المسلمينسعت بكل ما أوتيت من وسائل إلى نشر الثقافة الإسلامية بين الجزائريين، من خلال بث روح الاعتزاز بالانتماء للتراث العربي الإسلامي، ودعت إلى ضرورة إحياء اللغة العربية التي صممت فرنسا على محوها، وكلّ تلك المعطيات السالف ذكرها تحيلنا إلى الدور البارز لجمعية العلماء المسلمين في حرصهم على ارجاع اللغة العربية لمركزها ومجدها وتعميم استعمالها بين أفراد الشعب الجزائري،وفي مختلف القطاعات.
- الخاتمة:
وفي ختام بحثنا توصلنا إلى النتائج التالية:
-إن إدارة الاحتلال الفرنسي لم تكتفي بشن حرب عسكرية توسعية داخل التراب الجزائري، بل سعت إلى طمس شخصية الشعب الجزائري، ومحو جذوره الانتمائية؛ من خلال تغيير عقيدته وتغريب لسانه،وإبعادهم عن لغتهم وثقافتهم، خاصة بعد قرار سياسة الإدماج والتجنيس والفرنسة الذي أصدرته في حق الأمة الجزائرية، بعدما فشلت سياسة القوة المتمثلة في: هدم الزوايا والمساجد والمدارس وتحويلها إلى كنائس ومراكز عسكرية.
-وبناء على المعطيات التي ذكرناها في بحثنا، أدركنا أن الشعب الجزائري كان واعيا للسياسة التي تتبعها الإدارة الفرنسية، فهي لا توفر لهم المدارس والتعليم بدون هدف، لذلك اضطر العديد من الجزائريين العزوف عن التعليم في المدارس الفرنسية العربية، وفضلوا الجهل على التعليم المفرنس، الذي يهدف إلى تفريغ العقل الجزائري من الفكر العربي الإسلامي، وتعبئته بالفكر الغربي.
– حاربت جمعية العلماء المسلمين هذه السياسة منذ بوادر نشأتها، وعاقبت كل رجال الفكر المزيفين، من طرقيين ومعلمين ورجال الدين المضللين الذين تواطأوا مع الاحتلال، لأنهم كالسوس ينخر في جسم المجتمع، فالمساهمات التي قدمتها أعضاء جمعية العلماء المسلمين- على اختلاف توجهاتهم الفكرية-من خلال مؤلفاتهم ومحاضراتهم الدينية والفكرية، التوعوية والإرشادية حالت دون حدوث أي شرخ في المقومات الثلاث: اللغة والدين والهوية، وبالتالي فشل الاستراتيجية الاستعمارية.
- الهوامش:
([1]) تركي رابح عمامرة، جمعية العلماء المسلمين التاريخية(1931-1956)ورؤسائها الثلاث، ط1، الجزائر، 2009م، ص:78.
([2]) عبد الكريم خليفة، اللغة العربية والتعريب في العصر الحديث، دار الفرقان، ط1، 1992م، ص:11 وبعدها.
([3])محمد مجاود، الأبعاد الحضارية للثورة الجزائرية، دار الغرب، وهران، 2005م، ص:74.
([4]) عبد الحميد زوزو، نصوص ووثائق في تاريخ الجزائر المعاصر(1830-1900)، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1984م، ص:207-208.
([5]) ينظر: محمد الهادي الحسني، من وحي البصائر، دار لأمة، 2010م، ص:19.
([6]) عبد الحميد زوزو، نصوص ووثائق في تاريخ الجزائر المعاصر(1830-1900)، المرجع السابق، ص:205.
([7]) محمد مجاود، الأبعاد الحضارية للثورة الجزائرية، دار الغرب، وهران، 2005م، ص: 74.
([8])ينظر: بوضرياسة بوعزة، سياسة فرنسا البربرية في الجزائر(1830-1930)وانعكاساتها على المغرب العربي، دار الحكمة، 2010م، ص:129-130.
([9]) ينظر: أحمد بن نعمان ، وضع اللغة العربية في عهد الاحتلال، مجلة اللغة العربية، ع12، 2005م،ص:231.
([10]) أبو قاسم سعد الله، تاريخ الجزائر الثقافي، دار الغرب الجزائري، ج6، الجزائر، 1998م، ص:179.
([11])البشير الابراهيمي، رحلتي إلى الأقطار الإسلامية، مجلة البصائر، ع197، 1952، ص: 133.
([12])عبد الحميد بن باديس، اللغة العربية، مجلة الشهاب، ع2، 1939م، ص: 28.
([13])محمد الحسن فضلاء، الشذرات، من مواقف الإمام عبد الحميد بن باديس، دار هومه، الجزائر، 2010م، ص108.
([14])بوضرياسة بوعزة، سياسة فرنسا البربرية في الجزائر(1830-1930)وانعكاساتها على المغرب العربي، المرجع السابق، ص: 256.
([15])ينظر: محمد الهادي الحسني، من وحي البصائر، دار الأمة، الجزائر، 2010م، ص:251.
([16])محمد الحسن فضلاء، الشذرات، من مواقف الإمام عبد الحميد بن باديس، المرجع السابق، ص:91.
([17])تركي رابح عمامرة، جمعية العلماء المسلمين التاريخية(1931-1956)ورؤسائها الثلاث، المرجع السابق، ص: 204-205.
([18])محمد الحسن فضلاء، الشذرات، من مواقف الإمام عبد الحميد بن باديس، المرجع السابق، ص:129.
([19])ينظر: عبد الجليل مرتاض، الوضع الاجتماعي في الجزائر خلال العهد الفرنسي، مجلة اللغة العربية، ع12،ـ 2005م، ص:453.
*جامعة عبد الحميد بن باديس-مستغانم-الجزائر.
البريد الالكتروني: com.khadidja0608@gmail
Leave a Reply