+91 98 999 407 04
aqlamalhind@gmail.com

القائمة‎

مظاهر الاغتراب في رواية “تلك الرائحة” لصنع الله إبراهيم
محمد أحمد الجعفري

المقدمة:

ليست ظاهرة الاغتراب وليدة العصر الحديث، بل هي موجودة في جميع المجتمعات منذ القدم إلا أنها تختلف أسبابها وألوانها من عهد إلى آخر، كما تتباين مظاهرها من مكان إلى آخر، ونحن اليوم نعيش في العالم الذي يختلف عن العهد الغابر المنصرم اختلافا تاما سواء من حيث المنجزات التقنية، والآلات التكنولوجية التي لم يتخيل ذهن الإنسان الماضى أو من حيث الأفكار والتخيلات الحديثة التي جعلت كل شيء في متناول أيدي الإنسان المعاصر. ولكن من سوء الحظ أن هذه المنجزات لم تتحقق إلا على حساب الإنسانية، فالعالم اليوم يواجه تهديدا عظيما من عدة كوارث كاندلاع الحرب النووية، ونشر الأمراض المهلكة، والاحتباس الحراري والسباق في التسلح وما إلى ذلك من المصائب والنكبات التي لم يتصورها الإنسان في القرون الماضية. ويعاني الإنسان المعاصر في نتيجة هذه التغيرات السريعة والجذرية من أزمات عديدة مثل الفقر والمرض والهجرة الجبرية ولكن أسوأ شيء للشخصية الإنسانية هو الشعور بالاغتراب والغربة والوحشة التي تحاصر الإنسان المعاصر بأربع جوانب كما يشير إليه الدكتور أيمن حماد: “وهذا الرفض للحياة بكل ما فيها من جانب اللامنتمي وشعوره بأن وجوده لا قيمة له – أو أن وجوده زائد على الحاجة – نابع من وعيه بما حدث له من تهميش وإبعاد وإقصاء وغيرها من العوامل التي أوقعته في مصيدة الاغتراب وهو ما يعد موقفا اتخذه إزاء ذلك إنه – كما يقول ولسن – برا أعمق مما يجب؛ فهو قد فقد انتماءه للمجتمع نتيجة إدراكه ما تنهض عليه الحياة الإنسانية من أساس واه، وأن الاضطراب والفوضية هما أعمق تجذرا من النظام الذي يؤمن به قومه”[1]

ما هو الاغتراب؟

الاغتراب رغم أشكاله المتعددة وصوره المختلفة ظاهرة إنسانية واجتماعية وهو ليس مظهر إنساني حديث بل يوجد في مجتمعنا منذ زمن بعيد، وهو يختلف من إنسان إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر، وله العديد من الأسباب مثل الظلم الاجتماعي، والاستبداد السياسي، والاستغلال الاقتصادي للطبقات الضعيفة وفقدان العدالة والكرامة وغياب الأمن والحرية، وعدم الاستقرار في المجتمع وما إلى ذلك من حالات التمزق والتشرذم التي تجبر الإنسان على أن يعيش كأنه أجنبي في مجتمع نفسه مما يدفع الإنسان إلى العزلة والصراع النفسي وشرود الذهن والسلوك السلبي وغيرها “وصحيح أن هذه المشكلات والظروف حديثة، بمعنى أنها تنتمي إلى العصر الحديث، لكن الحق أن بعضاً منها كان موجودا من قبل، في عصور سابقة على عصر الحديث، وإن لم يكن قد بلغ درجة من الحدة والوضوح والنضج مثل ما بلغه في العصر الحديث عامة، والقرن العشرين خاصة”[2]

الاغتراب نوع من الصراع الداخلي أو الخارجي وهو الآن أصبح موضوعا محوريا بين الأدباء والمثقفين ويلعب دورا هاما في تقييم الأوضاع الاجتماعية للإنسان، وهو الآن موضوع مهم في المجالات المختلفة من الفلسفة والأدب وعلم الاجتماع، وكتب على هذا الموضوع العديد من كبار الأدباء والكتاب قديما وجديدا ولا يزال يبقى موضوعا مهما للأكاديميين والنقاد والروائيين في الأقطار المختلفة وكأنه أصبح مظهرا لازما للحياة الإنسانية في العهد الحديث كما تشير إليه العبارة التالية: “وقد بدأ هذا الموضوع في مختلف تنوعاته ينتشر من خلال الفكر النقدي والتحليلي بشكل خاص في مختلف الثقافات البارزة، ولا يستثنى من ذلك الثقافة العربية”[3]

الاغتراب في الرواية العربية الحديثة:

يعد الاغتراب من أبرز الاتجاهات الأدبية في الرواية العربية ، فقد أدت أزمات مختلفة فكرية، وأخلاقية وسياسية واجتماعية إلى وقوع الحوادث التي أجبرت المثقفين والأدباء العرب على أن يتأثروا بها ويدونوا هذا التأثر والانفعال وهذا الواقع المجتمعي في أدبهم، فالروايات العربية الحديثة رغم اختلاف المنطقة والمضمون تتأثر قليلا أو كثيرا بمظاهر الغربة ، لقد تناول العديد من الروائيين العرب في العصر الحديث موضوع الغربة والوحشة في رواياتهم مثل إدوارد الخراط، وتوفيق الحكيم، وسهيل إدريس، والطيب صالح، وطه حسين ، ويحيى حقي، وابراهيم نصر الله، وإبراهيم عبد المجيد، وسعيد بكر، ومحد عرعار وغيرهم كثير من كبار أدباء العرب، ولكل اديب تجربة خاصة تجاه ظاهرة الاغتراب، ولكن هذه الظاهرة تشمل في إطارها ألوانا كثيرة وأشكالا متعددة.

هذه الدراسة تتناول بيئة الغربة والوحشة كما تنعكس في رواية تلك الرائحة لصنع الله إبراهيم وتستهدف ان تمعن النظر في الطرق والمشاعر التي استعملها صنع الله إبراهيم في التعبير عن الغربة التي تنعكس في هذه الرواية بدءا من الصفحة الأولى حينما يذهب بطل الرواية إلى بيت أخيه وصديقه بعد الخروج من السجن حيث يقول: “وذهبنا إلى بيت اخى. وقال لى أخى على السلم إنه مسافر ولا بد أن يغلق الشفة. ونزلنا وذهبنا إلى صديقى. وقال صديقى: أختى هنا ولا أستطيع أن أقبلك. وعدنا إلى الشارع”[4]

الاغتراب ظاهرة إنسانية لا تزال تساير الإنسان بالتدريج والاستمرار، وينقسم الاغتراب الى مختلف الأقسام حسب مختلف الكتاب والأدباء مثلا: الاغتراب عن الذات والاغتراب من الأشخاص الآخرين والمجتمع وتقاليده وثقافته، والاغتراب من الأفعال الخاصة التي تصدر على يد الإنسان، ولكن ما يغلب على رواية صنع الله ابراهيم هو الاغتراب السياسي النفسي الذي يعاني منه البطل والشخصيات الروائية الاخرى وفي نتيجة هذا الاغتراب السياسي يضطر البطل الى ان يشعر بالغربة والوحشة من المجتمع الذي يتميز بالقمع السياسي الذي لا مجال فيه لرفع أي صوت احتجاجي ضد النظام الاستبدادي، كما يشير إليه حليم بركات في كتابه “الإغتراب في الثقافة العربية”: ” وكما الإنسان الفرد والشعب ،وهكذا أصبح المجتمع عاجزا، إذ فقد الكثير من سيطرته على وظائفه الحيوية وموارده المادية والروحية في علاقته بالدولة التي تخضع بدورها لإرادة القوى الخارجية، وخاصة الامريكية منها، من هنا أن المجتمع يعجز عن تجاوز أوضاعه وإعادة بناء نفسه من جديد، فتتسع الفجوة وتتعمق بين واقعة الهزيل وأحلامه الضائعة…أن مثل هذا الوعي العميق بالاغتراب عن الذات والمجتمع والدولة والمؤسسات الأخرى هو في صلب المعضلة الكبرى التي تفاقمت خلال ما يزيد على قرن من الزمن”[5]

من الممكن أن يقال إن بطل هذه الرواية يمثل مظاهر الاغتراب التي توجد في كتابات كارل ماركس، و فريدريك هيغل، وملفين سليمان، وإميل دوركايم، لكن لهذا الاغتراب لونا خاصا ومشاكل جديدة وحلول جديدة، أما نظرية الاغتراب التي قدمها كارل ماركس فهي تركز على علاقة الطبقة العاملة بالسلعة التي تنتجها، وماركس ايضا يشير الى احساس الغربة الذي يغلب على ذهن العمال خلال العمل وعملية الإنتاج مما يؤدي إلى قطع الطبقة العاملة من الإنسان الذي يعيش في داخلها.(6)

أما العالم الاجتماعي ملفين سليمان فينظر إلى هذا الاصطلاح من منظور سيكولوجي واجتماعي وهو الأقرب إلى المجتمع المعاصر ، ويشير سليمان إلى مختلف مظاهر الاغتراب مثل عدم القوة والضعف، وعدم المعنى للحياة التي يعيش فيها الإنسان لكن بدون أي هدف، ومع العزلة والانفراد، واحساس الوحشة من ذاته، وأخيرا الاغتراب من حالة الفوضى التي لا يوجد فيها أي عرف.

صنع الله إبراهيم:

صنع الله إبراهيم روائي مصري شهير، ولد في القاهرة عام 1937 من الميلاد وكان ميالا إلى الأدب منذ الطفولة حيث حاول ترجمة الكتب القصصية وعمره لم يتجاوز ثلاثة عشر عاما، ولوالده دور مركزي في تشكيل شخصيته الأدبية حيث وفر له عدة كتب أدبية في صغر سنه، ودرس إبراهيم الحقوق في بداية عهد شبابه ثم التفت إلى الصحافة، وانضم إلى الحركة الشعبية اليسارية التي كانت تسمى “الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني” [حدتو] وفي عام 1959 من الميلاد اعتقلته حكومة جمال عبد الناصر بتهمة الانتماء إلى تنظيم شيوعي وبقي في السجن لمدة خمس سنوات، وبعد الخروج من السجن التحق بوكالة الأنباء المصرية عام 1967، ثم سافر إلى ألمانيا وبدأ العمل لدى وكالة الأنباء الألمانية وقضى فيها ثلاث سنوات وعاد إلى مصر عام 1971، ثم غادر إلى روسيا ودرس فيها التصوير السينمائي ورجع عام 1974 ، ثم عمل لدى دار نشر لمدة أقل من سنة، وفي عام 1975 فرغ نفسه للكتابة [7]

أدبه ومؤلفاته:

صنع الله إبراهيم كاتب يهتم بالطبقة الوسطى والطبقة المستضعفة ويتناول من خلال رواياته قضايا وأزمات الإنسان العادي ويغلب على أعماله لون النزعات التجريبية وهو كاتب لا ينفصل موقفه الفكري والسياسي عن أدبه بل يتميز أدبه بتشابك قوي بين اتجاهاته الفكرية وحياته اليومية ورواياته مزيجة جميلة بين الواقع والخيال وبين الأدب والسياسة. كتب صنع الله إبراهيم في السنوات الخمسين الماضية حول الموضوعات المتنوعة والقضايا الاجتماعية والسياسية الحساسة وفيما يلي أقدم أهم رواياته حسب الترتيب الزمني.

رواياته:

تلك الرائحة 1966، إنسان السد العالي 1967، اللجنة 1981، بيروت بيروت 1984، ذات 1992، وغير ذلك الكثير.

تلك الرائحة:

ترسم الرواية حياة الرجل الذي أطلق من السجن بعد قضاء خمس سنوات لنشاطاته السياسية، وهي تشابه تجربات صنع الله إبراهيم نفسه الذي أيضا خرج من السجن في عام 1964م والذي اعتقل بتهمة المؤامرة السياسية في عام 1959م مع الشيوعيين المصريين الآخرين.

تم الحظر على رواية “تلك الرائحة” فورا بعد نشرها في عام 1966م التي أغضبت الكثير من النقاد العرب، وأثارت محتوياته الجنسية نوعا من الضجة والجدل بين الأدباء في جانب، وأهاج التصوير السلبي للدولة أركان الحكومة في جانب آخر، وجاءت طبعة كاملة للرواية في عام 1986م في القاهرة: ” ولم تنشر الطبعة الكاملة إلا سنة 1986 في الخرطوم. وفي نفس السنة نشرت كاملة أيضا في القاهرة والدار البيضاء ،في مجلد يضم القصص القصيرة”[8]

تبدأ الرواية بالرجل الذي لا اسم له وهو يخرج من السجن بعد عدة سنوات، ثم يبقى تحت الإقامة الجبرية في المنزل في أعقاب إطلاق سرحه، ثم ينهمك في أفكاره وتخيلاته ويفكر عن الأيام التي أمضى في السجن كما يقول: ” هذه هي اللحظة التي كنت أحلم بها دائما طوال السنوات الماضية ، وفتشت في داخلي شعور غير عادي،فرح أو بهجة أو انفعال ما ،فلم اجد. الناس تسير وتتكلم وتتحرك بشكل طبيعي كأنني كنت معهم دائما ولم يحدث شئ”[9]

تبرز في “تلك الرائحة” نظرية الاغتراب الماركسية ونظرية الاغتراب السيكولوجية الاجتماعية في نفس الوقت حينما نلقى نظرة على البطل الكاتب الذي يعاني من الوحشة والغربة بسبب وظيفته الكتابية في جانب، والتعبير الطبيعي الصريح عن الجنس واللقاءات والتجربات الجنسية في آخر.

من أجل فهم هذه الرواية، يبدو من المهم أن ننظر في الأهمية السياسية والاجتماعية للروائي في ذلك الوقت الذي كتبت فيه هذه الرواية، وفي هذه السطور التمهيدية نتناول الخلفية التاريخية للتغيرات الاجتماعية في مصر في عهد جمال عبد الناصر، وأيضا تقدم هذه المقدمة الموجزة لبيئة الاغتراب التي كانت سائدة في المجتمع المصري عند كتابة هذه الرواية مثلما نشاهد في العبارة التالية: ” كانت السنوات الأولى من الستينات بالغة الخصب، في السياسة والفن والحياة. كانت فترة الصعود لطبقة متوسطة فتية في مصر وبلدان العالم الثالث أمكنها أن تكيل ضربات قاطمة الاستعمار القديم المتهاوي، مستفيدة من توازن عالمى ملائم للقوى، وأن تصوغ حلما للعدالة الاجتماعية لم يقدر لها أن تتمكن من تحقيقه”[10]

ألفت هذه الرواية في اللحظة التاريخية التي شهدت تحولا عظيما في التحركات الاجتماعية والسياسية ومن المناسب أن يسمى هذا العهد بعهد التشويش والارتباك والعهد الذي ازدادت فيه المشاريع الضخمة وألغيت فيه جميع النشاطات السياسية والاجتماعية والاحتجاجية والعهد الذي غابت فيها الحرية بكاملها والعهد الذي دخلت فيها الصناعة في مرحلة جديدة وسريعة والعهد الذي تم فيه بناء السد العالي في مصر لكن روح المعارضة السياسية قد كانت تحطمت والعهد الذي نشر فيه التعليم لعامة الناس مجانا في جانب، واعتقل المثقفون والأدباء في جانب آخر وكما ” تعتمد الرواية على تجارب حياة الروائي نفسه في القاهرة، خارج السجن وداخله وهي تعكس البيئة السياسية التي كانت موجودة في القاهرة”[11]

وكما يشير إليه صنع الله إبراهيم نفسه في كتابه “يوميات الواحات” حيث يقول “السجن هو جامعتي. ففيه عايشت القهر والموت، ورأيت بعض الوجوه النادرة للإنسان وتعلمت الكثير عن عالمه الداخلي وحيويته المتنوعة”[12]

الرواية مليئة بالحوارات السياسية والمحادثات اليومية مثل الزواج والأفلام والصحة والحب، ويمثل صنع الله الاغتراب السيكولوجي الذي يعاني منه بطل هذه الرواية من خلال تصوير النشاطات والممارسات اليومية مثل السفر بالمترو ولاسيما جهوده للكتابة وفشله للمرات العديدة، فإن الأذكار الماضية والمناجاة النفسية تدلنا على تجربته السابقة وإحساساته الحياتية.

كان الفضاء المصري السياسي في الستينيات من القرن العشرين مليئا بالنعرات والشعارات الجديدة مثل الاشتراكية والوطنية والقومية العربية وعدم الانحياز وفي عام 1956 نجح جمال عبد الناصر في تأميم شركة قناة السويس بينما توترت علاقته مع القوى الغربية الذين فجأة  سحبوا تمويلهم للسد العالي وبالتالي احتلت بريطانيا وفرنسا واسرائيل السويس لكنهم اضطروا الى الانسحاب بسبب الضغوط الدولية مما أدى الى تعزيز وتوقير مكانة عبد الناصر في العالم العربي وخارجه وبلغت شعبيته إلى الآفاق.

رغم كونها صغيرة في الحجم تستوعب الرواية بجوانب الإنسان العديدة حيث من الواضح أن صنع الله ابراهيم يرسم مسيرة اللقاءات والتجربات الجنسية كذريعة ويبدي انقطاعه من المجتمع في حين يحاول الربط بطبيعته الجوهرية كوسيلة إدراك وجوده الداخلي الذي يعاني من التشوش والارتباك في أعقاب ثورة 1952م. كما تتناول الأدوار الأدبية وأدوار الكتابة الإبداعية في تلك الرائحة، وهي في جانب تعطي المراجع الأدبية وتشير الى المشهد الثقافي والمجتمعي للكتابة في جانب آخر، وبطل هذه الرواية يستعمل الكتابة كذريعة له لكن يفشل في خلق التطابق والتوافق بين حياته وبين الوقت الذي يعيش فيه لأن الأدب الذي يخرج من قلبه هو مرآة ماضيه الذي غاب وراء غيوم التحول الثقافي والثورة السياسية في العهد المصري الجديد. والأهم من ذلك هو وصف أحوال السجن والسياسة القمعية التي تشير إليها هذه الرواية، لأن السجن نقطة مركزية لهذه الرواية وهي وسيلة إفشاء الآلات التي استعملها النظام في قلع النشاطات السياسية ونتيجة لذلك اضطر شخصيات الرواية إلى أن يرفضوا مصر الجديدة وبيئتها الغريبة في عهد جمال عبد الناصر وهي الآن تحولت الى مكان أغلقت فيه فم الإنسان بشكل إجباري مما أدى إلى إغلاق الضمير الإنساني.

مع أن عهد جمال عبد الناصر يعد العهد الرقي والوطنية، لكن تركيز الحكومة على الدولة ربما أجبر الكثير من المصريين على أن يشعروا بأنواع من الارتباك والاضطراب تجاه هويتهم الانفرادية، فالرواية تقدم البطل كرمز المجاهدة الذي يبحث عن معنى الحياة في الوقت الذي يعتبره الكثير وقت التقدم والرقي، هذه الرواية تتمحور على الصراع بين الإنسان ونفسه في حين هو واقف امام ضد سياسات الدولة ويتحدى الأعداء الخارجية.

إن الشخصية المركزية في الرواية يبالغ في تشريح وتوصيف التجربات الجنسية، هذا هو السبب أن صنع الله ابراهيم تعرض للنقد الشديد من قبل العديد من المثقفين والنقاد العرب الذين اتهموا بأنه إستخدم روايته لإشاعة الفحش ونشر الفوضى الجنسية في المجتمع، وأن وصف النساء والجنس في هذه الرواية تدل على الطريقة التي يحاول بها البطل الحصول على الانسجام بين جسمه وذهنه ، أيضا يمثل من خلال ذلك الوضع السيكولوجي للشباب المصري

يمر البطل في الرواية بالكثير من التجربات الجنسية ويقدم ابراهيم العديد من الامثلة التي يستعمل فيها البطل يده للاستمناء، لكن هذه التجربات الجنسية التي يتكلم عنها البطل  أو يتوهمها لا تعطيه أي نوع من الاستقرار الفكري والاطمئنان الذهني، لأنه كلما حاول أن يكمل طموحه الجنسي فشل ولم يقدر على ذلك للسبب الذي لايعرف عنه شيئا، وهناك شيء في قلبه يمنعه أن يقترب من أمنيته، وهل هناك احساس من الاغتراب الذي يسلط على ذهنه في الآونة الأخيرة، وأن النساء كلهن باردة حسب وصف البطل لانه عندما اقترب من النساء لم يجد شيئا سوى البرودة، وهذا إحساس البرودة في كل شيء وفي كل إنسان هو أكبر مظاهر الاغتراب في الحياة الإنسانية، علاوة على ذلك أن هذا التجربات الجنسية وغير الجنسية تدل على أن الغرائز الطبيعية الانسانية لاتقدر على ان تعطي للحياة أي معنى في حالة الاغتراب ويتضح ذلك من العبارة التالية:

“وما الفائدة إن نحقق الأمر على وجه الدقة بعد انتهى كل شئ، ثم من ذا الذي يعرف على وجه الدقة ما يدور داخل إنسان آخر؟ ويقولون إن بعض الناس خلق للحب ،والبعض الآخر لم يخلق له ،ويقولون آخرون إن الحب لا يوجد إلا في الروايات”[13]

ومن المهم أن يأخذ سياق هذا الوقت في الاعتبار عند إلقاء النظرة على الروايات المصرية التي كتبت خلال الستينيات لأن هذا النوع من التغير الاجتماعي والسياسي والثقافي في هذا الوقت المضطرب أثر على شخصية الروائي الى حد بليغ وأسهم في تشكيل اتجاهه.

“تلك الرائحة” تركز على المجتمع المصري في أعقاب ثورة الضباط الأحرار تحت قيادة جمال عبد الناصر وهو الوقت الذي أصبحت الاشتراكية أكبر عامل في التحول السياسي والاجتماعي ولعبت دورا مركزيا في سياسة مصر ” وظل جمال عبد الناصر يلعب دورا رياديا على المنصة العالمية وبدأت طموحاته تجاه الوحدة العربية تزداد قوة وما يلبس أن يبرز على الصعيد العالمي كزعيم لحركة عدم الانحياز”[14]وأن ضغوط الاشتراكية والعروبة على المؤسسات التعليمية والكتابة والمسرح مكنت الحكومة الجديدة من التسلط البالغ على الحرية الفنية.

لقد واجه الروائيون الجدد المراقبة والاعتقال، ووجد في هذا العهد نوعان من الروائيين اما النوع الاول فهم الجيل الذي انتهى عهدهم في العقد السادس من القرن العشرين والجيل الثاني فهم الروائيون الذين بدأوا تأليف رواياتهم بعد ثورة عام 1952 م وكانوا متأثرين بأفكار ونظريات فرانز كافكا وفرجينيا وولف ومارسل بروست وألبير كامو، وما إلى ذلك من كتاب الحداثة الأوروبية. وكان هذا الجيل ميالا إلى كتابة المظاهر المتنوعة من الاغتراب كما تشير إليه العبارة التالية ” ونزلنا إلى الطابق الأسفل. وجلسنا إلى المائدة. وأخذت السلطة في الأرز في طبق. وسألتنى نهاد: ورك أم صدر. وكانت أختي قد حذرتني وقالت حذار أن تأخذ الورك لأنك لن تعرف كيف تأكله بالشوكة والسكين. لكنى لم أدى كيف اندفعت وقلت لها أعطيني الورك. ووضعته أمامي وأمسكت بالشوكة والسكين ، وعندما غرزت فيه الشوكة قفز من صحني في الهواء وسقط في إناء السلطة. وقالت نهاد بهدوء : الفراخ لا تؤكل هكذا ، كلها بيديك”[15]

الرواية المصرية في العقدين السادس والسابع من القرن العشرين تتصف بالسرديات الحديثة المختلفة وأبرزها “البطل المضاد” أو “بطل المكافحة” الذي يسعى وراء اكتشاف وجوده وذاته في العهد الذي تتميز بالاضطرابات والتناقضات، و”تلك الرائحة” من أبرز الأعمال الأدبية التي تشير إلى الصراع الاجتماعي والسياسي الذي انتشر في ذلك الوقت بسبب الاغتراب مثلا يقول ” فقد تغيرت روح العصر. وليس صدفة أن الكلمات التي يستخدمها قد تغير مدلولها منذ زمن، وبعضها كاد يصبح بلا مدلول على الإطلاق”[16]

ووجد الفنانون والأدباء لهذا العهد بأنهم مضطرون أمام النظام الخادع الجديد ومما زاد الطين بلة هو أن الجيل الماضي من الكتاب والأدباء تركوهم بدون فكر ثقافي واضح ودعم روحاني، وهذه الاحباطات تتمثل وتنعكس في “تلك الرائحة” بصراحة جلية وعلى صعيد آخر يبحث “البطل المضاد” عن وجوده وعن الفرد الذي غاب في ازدحام العروبة والاشتراكية الخادعة التي غلبت على السماء السياسية المصرية في صورة النظام الاشتراكي المصري الجديد بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر، وعلاوة على ذلك، أن اعتقال صنع الله ابراهيم في عهد جمال عبد الناصر هو عبارة عن قلة التسامح السياسي للنظام المصري تجاه الأحزاب والجماعات المعارضة والاقلام الأدبية وغير الادبية، وفي جانب آخر نشاهد في رواية تلك الرائحة بأن بطلها حينما يرجع إلى البيت القديم وهو يريد أن يلقى أمه بعد هذه السنوات التي قضاها في السجن لكن ما يهزه هو خبر موت أمه التي انتقلت إلى جوار رحمة الله قبل أسبوع كما تشير إليه العبارة التالية: “كنت أريد الآن أن أعرف متى ماتت أمى بالضبط. وقالت: غدا يكتمل أول أسبوع عليها. وقلت : أين. قالت: عند أبيها. وأشرت إلى رأس وقلت: وكيف حالها . وقالت خالة جدتي: كانت تقرأ الصحف وتتحدث في كل شيء أحسن منا”[17]

ذهب الكثير من النقاد إلى أن هذه الرواية تتماثل السيرة الذاتية لأن بطلها أطلق من السجن كما أطلق صنع الله إبراهيم من السجن في الحياة الحقيقية والسبب الثاني هو أن بطل الرواية يجد نفسه أمام العالم الغريب ويضطر إلى أن يواجه حقيقته ومثل هذا الحادث وقع مع صنع الله ابراهيم في حياته الواقعة ، والبطل المضاد في روايات هذا الجيل الجديد المصري يواجه نفس التحديات في هذا العهد ويعاني من نفس المشاكل النفسية مثلا تقول الرواية في موضوع ” وكان الطبيب يستطيع أن يتتبع الشعور بالبرد والوحدة في أي إنسان. وربما كان السبب في ذلك أنه قضى شكرا كبيرا من حياته العملية في السجون.ففي تلك المباني القائمة – الصفراء من الخارج المظلمة من الداخل – ترى كل شيء عاريا وعندما كان السجناء يأتون إلى غرفته ليوقع عليهم الكشف كان يتأملهم في فضول. كانوا مساكين جدا ، مرضى وعواجيز محطمين”[18]

على الرغم من أن جمال عبد الناصر حاول كل نوع من الحظر والمراقبة على الكثير من الروائيين والكتاب لكن أدب الوحشة والغربة قد أخذ يسيطر على الخطاب الأدبي والثقافي في الرواية المصرية في الستينات والسبعينات من القرن العشرين حتى عرف صنع الله إبراهيم نفسه والكتاب الآخرين لهذا العهد بأنهم غرباء وخارجون تنزهوا عن المناصب الحكومية ويشير الى أن كتاب هذا الجيل هم أصحاب الثورة ضد التجربة السياسية المصرية والتقاليد الاجتماعية والأخلاقية القديمة، واحساساتهم تتمحور على نظرية المكافحة ضد النفاق الذي فرض على المجتمع في نتيجة التخلف والاعتماد على الآخرين، أن هؤلاء الكتاب – وفقا لصنع الله ابراهيم – الرواد الذين لم يتركوا أي جهد في توحيد الشكل والمضمون، والأدب والسياسة بواسطة كتاباتهم.

على الرغم من أن صنع الله ابراهيم يختلف عن الكثير من الكتاب والروائيين واتجاههم نحو الطرق المختلفة بصدد قبول المناصب الحكومية، أن كتابة الكثير من هؤلاء الكتاب تتماثل في نقد النظام المصري ومعظمهم ساهموا في تطوير المضامين والمحتويات الأدبية التي عبرت عن ارتقاء الروح التي في أكثر الأوقات تتميز باليأس وعدم الرجاء وقلة الثقة ، و” لا تستطيع أن تميز بينهم بملابسهم الزرقاء المتشابهة ووجوههم اللامبالية ” و” لكن الطبيب كان يرى الخوف والألم على وجوههم جميعاً”[19]

وقعت نقطة التحول في سياسات جمال عبد الناصر حينما بدأ المراقبة والتسلط على أقلام المفكرين والأدباء الذين رفضوا النظرية الاشتراكية المفروضة و تجرأوا نقد العمليات القمعية للدولة، ومع ترسيخ بذور الاشتراكية في المجتمع وترويج فكر العروبة ظهر نوع من الغربة والوحشة بين الأدباء والمفكرين لأنه كان ضغط الحكومة متمركزا على نشر الفكر الخاص وترويج النظرية المخصوصة، وتحول النظام التعليمي إلى آلة حكومية لترسيخ الفكر والقيم الاشتراكية الخاصة في أذهان المصريين، وأجبر الأساتذة و المعلمين على المشاركة في هذه العملية ، وتم تشجيع المؤرخين لكتابة التاريخ من جديد ومع روح جديدة، وصرح ناصر في معظم بياناته وخطاباته حاجة إلى حركة ثقافية مصرية جديدة، وخلاصة القول إن محاولات الدولة لتجميد آراء المثقفين والأدباء سببت قيودا خاصة في مجال الأدب.

تصور “تلك الرائحة” نوعا من الضغط النفسي والوحشة السائدة في البلاد التي تتحرك إلى التغير السريع، والبطل المضاد لروايات هذا العهد رافض ومرفوض في نفس الوقت يعني لا يقبل من المجتمع شيئا والمجتمع ايضا لا يقبل من نظرياته وأفكاره شيئا، وهذا البطل يواجه الكثير من المشاكل في إنجازه كشخص وانسان ويعاني من الانتهاكات الخارجية التي تفاقم مخاوفه وتبرز سخافة وضعه وهذه الصفات والأوصاف في اي انسان تحول اي انسان الى شخصية عادية لا شخصية استثنائية لذا من المناسب أن يدعى بطل “تلك الرائحة” “بالإنسان الناقص” في أفضل تعبير.

خاتمة البحث:

تلك الرائحة رواية تبدأ بالاغتراب وتمر بالحوادث والأذكار والأماكن التي تبعث في القارئ شعور الاغتراب حتى تنتهي الرواية بالحادثة التي تجمد دماء الإنسان وإحساسه تجاه الحياة لمدة من الزمن مثلا عندما يخرج البطل من السجن تفرض عليه الإقامة الإجبارية وتضطر إلى أن يبقى تحت مراقبة الشرطي وحينما يذهب إلى مكان اختها وصديقها والأشخاص الأخرى لكي يقضي أياما عندهم لا يجد سوى الرفض والإعراض وهكذا تجري أيام حياته حتى يذهب في النهاية إلى زيارة البيت الذي تعيش فيه والدتها ولكن حينما يصل إلى البيت يجد أن أمه ماتت قبل أسبوعين، والعبارة التالية ستوضح ما هو حد الاغتراب الذي بلغ البطل في هذه الرواية: ” كنت أريد الآن أن أعرف متى ماتت أمى على وجه التحديد وأين. وفرغت جدتى من الصلاة. وجاءت وجلست بجواري، قلت لها: متى ماتت أمى بالضبط وقالت : غدا يكتمل أول أسبوع عليها. وقلت: أين؟ وقالت: عند أبيها. وأشرتُ إلى رأسي وقلت : وكيف حالها. وقالت خالة جدتي: كانت تقرأ الصحف وتتحدث في كل شيء أحسن منا، وتتنبأ بكل ما يحدث، ولم تكن تثور.”[20] وما هو الأكثر تعجبا هنا هو عدم إظهار أي نوع من الإحساس من قبل البطل كأنما هو فارغ من الإحساسات والمشاعر وكان الهم والفرح والسرور سواء عنده وكأنه يحس في كل شيء بالاغتراب الذي يبعده عن نفسه وعن الإنسان الآخر.

الهوامش:

(1)أيمن حماد، الاغتراب في الرواية العربية المعاصرة، ط 1، الأردن، مركز الكتاب الأكاديمي، 2021، ص 20.

(2) رجب، محمود، الاغتراب:سيرة مصطلح، ط 3، القاهرة، دار المعارف، 1988، ص 9.

[3] بركات، حليم، الاغتراب في الثقافة العربية متاهات الإنسان بين الحلم والواقع، ط 1، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ص 35.

[4] ابراهيم، صنع الله، تلك الرائحة وقصص أخرى، ط 3، المنيا، دار الهدى للنشر والتوزيع، 1986، ص 29.

[5] بركات، حليم، ص 92

(6) الفلاحي، أحمد علي إبراهيم، الاغتراب في الشعر العربي في القرن السابع الهجري، ط 1، الأردن، دار غيداء للنشر والتوزيع، 2013 ص 21-22،

(7) ستاركي ، بول، Sonallah Ibrahim Rebel with a pen، الطبعة الثانية، إدنبرة، دار نشر جامعة إدنبرة، ص 17-31.

[8] ابراهيم، صنع الله، ص 5

[9] المصدر نفسه، ص 29

[10] المصدر نفسه، ص 14

[11] ستاركى ، بول، Sonallah Ibrahim Rebel with a pen، الطبعة الثانية، إدنبرة، دار نشر جامعة إدنبرة، ص 34

[12]ابراهيم، صنع الله، يوميات الواحات، الطبعة الأولى، القاهرة، دار المستقبل العربي، 2005

[13] ابراهيم، صنع الله، تلك الرائحة، ص 33

[14] كريستول، روبين، تلك الرائحة وقصص أخرى، الترجمة الانجليزية، الطبعة الأولى، نيو يورك، A new direction publishing house، ، ص 4

[15] إبراهيم، صنع الله، تلك الرائحة، ص 44

[16] المصدر نفسه، ص 48

[17] المصدر نفسه، ص 66

[18] المصدر نفسه، ص 70

[19] المصدر نفسه، 71

[20] المصدر نفسه، ص 66

المصادر والمراجع:

  • إبراهيم، صنع الله، تلك الرائحة وقصص أخرى، الطبعة الثالثة، المنيا، دار الهدى للنشر والتوزيع، 1986،
  • إبراهيم، صنع الله، يوميات الواحات، الطبعة الأولى، القاهرة، دار المستقبل العربي، 2005.
  • أيمن حماد، الاغتراب في الرواية العربية المعاصرة، ط 1، الأردن، مركز الكتاب الأكاديمي، 2021.
  • بركات، حليم، الاغتراب في الثقافة العربية متاهات الإنسان بين الحلم والواقع، الطبعة الأولى ، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2006
  • رجب، محمود، الاغتراب:سيرة مصطلح، ط 3، القاهرة، دار المعارف، 1988،
  • ستاركى ، بول، Sonallah Ibrahim Rebel with a pen، الطبعة الثانية، إدنبرة، دار نشر جامعة إدنبرة، 2014
  • كريستول، روبين، تلك الرائحة وقصص أخرى، الترجمة الانجليزية، الطبعة الأولى، نيو يورك، A new direction publishing house، 2013

*الباحث في الدكتوراه في مركز الدراسات العربية والإفريقية، جامعة جواهر لال نهرو، نيو دلهي الهند

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of