لقد أصبح اللباس اليوم مقياس الخير والشر، ومقياس الاعتزاز والاحتقار، والغنى والفقر، والحاكم والمحكوم. به يعرف الشريف من الوضيع ويتميز الطيب من الرديء، وبه يكرم الكريم ويهان الرذيل، ويه يمتاز المثقف من غير المثقف، وهو الذي لا تتحقق بدونه معرفة المقامات الرفيعة من الدنيئة، والمناصب الجليلة من المرذولة،كيف احتل اللباس هذا المكان؟ وبم اكتسب تلك الأهمية بين المجتمع الإنساني؟ ومن جعل هذا المقياس؟ ومن وضع هذا المعيار؟
-أنا اللباس أبحث عن ذلك الشخص وأنا أريد لقاء ذلك الفرد الذي مال إلى التفريق بين الألبسة! وساغ له تقسيم الإنسانية على حسب اللباس إلى أنواع شتى وطبقات مختلفة!
-لو أنت وجدت في حياتك واضع المعيار للباس فأخبرني عنه سألاقيه وأتساءل عنه هذه الاستفسارات.
إننا سمعنا أن هناك لباسا للرجل، ولباسا للمرأة، ولباسا للطلاب والطالبات، ولباسا للشرطة والشرطات، ولباسا للمحامي والمحاميات، ولباسا للطبيب والطبيبات، ولباسا للحر والقر، ولباسا للمطر والربيع، وهذا الفرق كان بناءا للتعارف والامتياز عن العامة وللوقاية من الحر والقر. حتى اتخذه الناس مقياس العز والمهانة، وجعلوه معيار الفضيلة والرذيلة ولكن بم؟ ولم؟. وكان الناس منذ القديم يمتازون بما فيهم من المحامد ويتفوقون في المجمتع البشري بما يتحلون من حلي العلم والفضل، وصفات الخير وجلائل الأعمال، أما الآن فقد احتل اللباس ذلك المكان؟ وتربع عليه يحكم بين الناس بأن هذا شريف وذاك وضيع.
قد سمعت هذا البيت الشهير لشاعر عربي قد قال عني وهو أصدق القائلين:
ليس الجمـال بمئزر فاعلـم وإن رديت بردا
إن الجمــــال معادن ومنـــاقب أورثن مجــــدا
كم مرة اغتر الناس ببعض الناس على أساس اللباس فقط. هناك قصة غريبة أن جاهلا خامل الذكر صار غنيا ثريا قائدا سياسيا وبدأ يرتدي لباس العظماء والشرفاء حتى انخدع العام والخاص بأنه عالم فاضل نبيل سياسي حكيم وطفق الناس يدعوه في محافلهم وأفراحهم وأتراحهم وبدأ يخطب وينصح أمام الجهال وعامة الناس، وطفق يعتقد نفسه أنه أصبح عالما فاضلا وخطيبا مصقعا وواعظا حكيما. فمرة رن جواله الذكي (وكان يخطب في الحشد العظيم خطبة مجلجلة كعادة السياسيين الثائرين) وكان الشخص يتكلم بالإنجليزية معه، ويسأل عنه بعض جريماته التي ارتكبها في غابر أيامه والكبائر التي اقترفها في الحاضر الغير البعيد، فما استطاع أن يفهم المصداق والمقول، وكان بجنبه تلميذ جامعي صغير أعطاه هذا الجاهل السياسي جواله فتكلم معه وبعد ذلك أفهمه بأن أصحاب المخابرات الحكومية يبحثون عنه وإنهم سيكون هنا في بضع دقائق، فامتنع لتوه عن الخطبة وجعل يهرب ويجري هنا وهناك ويبحث عن مكان يختفي فيه عن الشرطة، إذ جاء أصحاب المخابرات وقبضوا عليه، وعرف الناس، أن هذا الشخص السياسي المزعوم كان قاتلا خادعا. وأصبحوا يتقلصون عنه، ويتأسفون على حاله، ولكن الناس قد اغتروا بلباسه وجعبته وقلنسوته وحذائه.
وهناك قصة حقيقية في قريتنا أنه كان رجلا وجيها شريفا ثريا أمير القرى عاد من الصيد وذهب بلباسه المغبر الوسخ إلى وليمة وكان الناس جالسين متربعين على الحصير، فجلس معهم وبدأ ينتظر للإدام والخبز، فجاء الإدام وقطعة من الخبز، وتناول شيئا منه ونفد الإدام والخبز بعد قليل، وبدأ يسأل للمزيد من الإدام والخبز، ولكن ما احتفل به الناس وقام جائعا، وما أعاروه الاهتمام اللائق به، والذي تعود عليه في حياته بحكم أمير القرية ورئيسها، فاستشاط بهم غضبا، وأتى إلى بيته مسرعا وأمر الخياط أن يخيط له اللباس الجديد بأسرع ما يمكن، فلبس بعد برهة لباس الوجهاء والشرفاء وطلب من الحراس والشرطة أن يصاحبوه ويتابعوه، وركب فرسا أبيض راكضا مرهب الصوت وخرج بأبهة فاخرة مع حشد عظيم إلى مجلس الوليمة مرة أخرى، فحينما سمع صاحب البيت أن الأميرقد جاء إلى بيته، فبسطت المائدة الشهية ورتبت عليها ألوان من الطعام وأصناف من المشروبات على الكراسي المنضودة والطاولة المزخرفة. وطلب منه صاحب البيت أن يبدأ بتناول الطعام.
فألقى الأمير ذيل القميص الجديد في الإدام فاستغرب صاحب البيت واستغرب معه الناس، وتحيروا جميعا.
لماذا فعل الأمير هذا!!
فسأل الناس: ماذا تفعل يا أميرنا!؟
ماذا بك ؟ ما هذا يا سيدي؟
فأجاب بكل طمأنينة وغضب: أنتم بدأتم تستقبلون اللباس والبنطلون فقط، ولا تستقبلون وتضيفون عامة الناس باختلاف طبقاتهم وألوانهم ومناصبهم. فضيفكم في الواقع اللباس! ولست أنا المدعو في الوليمة. لذلك أطعمت اللباس وألقيت ذيل القميص في الإدام كي يأكل، لأنكم تريدون هذا! ولا ذاك الإنسان العادي. أنا الذي حضرت قبل خمس ساعات في لباس متواضع وسخ مغبر، فما رأيت أحدا منكم في ذلك الوقت. أسفا عليكم أنتم تستقبلون الأناس بناءا على اللباس والبنطلون والشيرواني! ولا تستقبلون الإنسان العادي!
اللباس يقيكم من الحر الشديد والبرد القارس، واللباس يزيد في الجمال والزينة، واللباس يتفارق بين الوظيفتين أنه طبيب وذاك محامي وهذا شرطي وذاك جندي، ولكن أنا اللباس لست مقياس الفضيلة والرذيلة ولست معيار الأفضل والمفضول، ولست أنا الذي يرتفع به الناس، وأقول لكم الجمال هو الأخلاق والضيافة وإكرام عامة الناس وخاصتهم سواء، ومبعث الافتخار ليس اللباس بل الإنسان الكريم التقي. فأنا حزين بكم على هذه الظاهرة. يا ليت الناس خرجوا من هذا الإطار الضيق الخنق.
*مساعد التحرير في مجلة التلميذ-الهند
Leave a Reply