الملخص:
اهتم القدماء بالموسيقى الشعرية، حيث تنوعت وجهات بحثهم في مصادرها وأسباب جمالها، وتوزع اهتمامهم على الموسيقى الخارجية التي تتمثل في الوزن العروضي والقافية والموسيقى الدّاخلية التي يولّدها الشاعر داخل قصيدته باستعماله عدّة صور وأساليب متعددة.
لذلك سنتناول في هذه الدّراسة الجانب الأول منها أي الموسيقى الخارجية، وسنلقي الضوء على أهم ظواهر الإيقاع الخارجي من أوزان وبحور شعرية، باتّخاذنا شعر أبي مدين شعيب الغوث نموذجا للدّراسة.
الكلمات المفتاحية: الجمالية، الإيقاع الخارجي، الشعر الصوفي، أبي مدين شعيب الغوث.
1.مقدمة
اهتم القدماء بالموسيقى الشعرية، حيث تنوعت وجهات بحثهم في مصادرها وأسباب جمالها، وتوزع اهتمامهم على الموسيقى الخارجية التي تتمثل في الوزن العروضي والقافية، والموسيقى الدّاخلية التي يولّدها الشاعر داخل قصيدته باستعماله عدّة صور وأساليب متعددة.
ويرى عبد الجبار داود البصري أنّ الإيقاع إيقاعان: » داخلي وخارجي، فأما الإيقاع الخارجيفيقصدون به أوزان الشعر وعروضه، وأما ما يُعرف بالإيقاع الدّاخلي، فهو الإيقاع الذي يُلاحظ في شبرة النّص الخارجية، من خلال تكرار الحروف، والمفردات، والجناس، والطباق وتوازن الجمل وتوازيها… «([1]).
وسنتناول في هذه الدراسة الجانب الأول منها أي الموسيقى الخارجية، وسنلقي الضوء على أهم ظواهر الإيقاع الخارجي من أوزان وبحور شعرية، باتخاذنا شعر أبي مدين شعيب الغوث نموذجا للدراسة.
2.التعريف بالشاعر أبي مدين شعيب الغوث:
هو شعيب بن الحسن الأندلسي التلمساني، أبومدين: صوفي من مشاهيرهم. أصله من الأندلس، أقام بفاس، وسكن بجاية، وكثر أتباعه حتى خافه السلطان يعقوب المنصور. وتوفي بتلمسان، وقد قارب الثمانين أو تجاوزها.([2]).ولأبي مدين شعيب مؤلفات كثيرة في التّصوف، وديوان في الشعر الصوفي، وكذلك تصانيف من بينها (أنس الوحيد ونزهة المريد في التوحيد) ،وهو من أهم مؤلفاته.
3.جمالية الإيقاع في شعر أبي مدين شعيب:
أولا:الأوزان الشعرية (البحور):
انطلاقا من تعريف العرب للشعر على أنّه الكلام الموزون والمقفى، يتبين مدى اهتمامهم بالوزن والمكانة التي يحتلها في الشعر، لذلك كان ولا يزال محل دراسة العديد من النّقاد والباحثين سواء القدماء أو المحدثين.
ومن بين النقّاد العرب القدماء الذين اهتموا بالوزن نجد ابن رشيق القيرواني (ت463هـ) يعرفه فيقول: » الوزن أعظم أركان حدّ الشعر، وأولاها بها خصوصية، وهو مشتمل على القافية وجالب لها ضرورة «([3]).
و عرفه أيضًا ابن سنان الخفاجي(ت466هـ) في قوله: »التأليف الذي يشهد الذوق بصحته أو العروض، أما الذوق فلأمر يرجع إلى الحسّ، وأما العروض فلأنّه قد حصر فيه جميع ما علمت العرب عليه منالأوزان،فمتى عمل شاعر شيئًا لا يشهد بصحته الذوق، وكانت العرب قد عملت مثله جاز له ذلك … والذوق مقدم على العروض فكل ما صح فيه لم يلتفت إلى العروض في جوازه«([4]).
وفي تعريفه هذا يُفرّق بين الحسّ الناشئ عن الذوق، وهو مانقصد به الإيقاع الذي لا يخضع لقانون ما، بل يتبع قِيَمًا تتفق معها بعض النّاس، وقد يختلف معها بعضها الآخر، والوزن الذي يتشكل من تآلف التفاعيل، وهو ما اصطلح على تسميته الخليل بن أحمد الفراهيدي بعروض الشعر.
أما تعريف الوزن من وجهة نظر حديثة » هو سلسلة السّواكن والمتحركات المستنتجة منه مجزأة إلى مستويات مختلفة من المكونات: الشطران، التفاعيل، الأسباب، الأوتاد«([5]).
و إذا ما حاولنا الخوض في تعريف الوزن عند الغربيين نذكر تعريف أفلاطون:» الوزن عنصر عرضي في الشعر، بينما الانسجام والإيقاع عنصر جوهري، وفي هذا دليل على الارتباط الضروري بين الشعر والموسيقى«([6]).
أما عند الغربيين المحدثين، فيُعرفه جون كوهين » هو بناء صوتي معنوي، فهناك صوت يستدعي دلالة أو يستدعي معنى«([7])، فالوزن عنده يقوم على علاقة بين الصّوت والمعنى.
من خلال التعاريف ندرك أهمية الوزن في المعنى، ولذلك تجدالنويهي يقرر أن الوزن هو »السّمة الأولى التي تميز الشعر من النثر«([8])، فهو ليس شيئًازائدًا، وليس مجرد شكل خارجي يكسب الشعر زينة ورونقًا، وطلاوة، وحلاوة الخ… بل هو ضرورة أكيدة لها ارتباطها العميق بالتكوين والسلوك البشريين«([9]).
ولأهمية الوزن في الشعر أدّى هذا إلى الخلط بينه وبين الإيقاع، حيث أثارت هذه القضية جدلاً كبيرا في الدّراسات العروضية الحديثة، مما أدى ببعض الباحثين إلى وضع تفرقة بين المصطلحين، ومن بينهم محمد مندور يقول: » أما الكم (الوزن) فنقصد به هنا كم التفاعلي التي يستغرق نطقها زمنًا ماوكل أنواع الشعر لابد أن يكون البيت فيها مقسّمًا إلى تلك الوحدات، وهي بعد قد تكون متساوية كالرجز عندنا مثلا، وقد تكون متجاوبة كالطويل حيث يساوي التفعيل الأول التفعيل الثالث والتفعيل الثاني التفعيل الرّابع وهكذا… أماالإيقاع: فهو عبارة عن رجوع ظاهرة صوتية ما على مسافات زمنية متساوية أو متجاوبة«([10]).
كذلك نجد عزّ الدين إسماعيل يضع تفرقة بينهما، حيث يرى أنّ الإيقاع غير الوزن»فالإيقاع هو حركة الأصوات الدّاخلية التي لا تستمد على تقطيعات البحر أو التفاعيل العروضية، وتوفير هذا العنصر أشق بكثير من توفير الوزن؛ لأنّ الإيقاع يختلف باختلاف اللّغة، والألفاظ المستعملة ذاتها في حين لا يتأثر الوزن بالألفاظ الموضوعية فيه، تقول “عين” و نقول مكانها “بئر” وأنت في أمن من عثرة الوزن، أما الإيقاع فهو التّلوين الصوتي الصّادر عن الألفاظ المستعملة ذاتها، فهو أيضًا يصدر عن الموضوع في حين يفرض الوزن على الموضوع. هذا من الدّاخل وهذا من الخارج«([11]).
ويرى كمال أبو ديب أنّالعروضيين العرب الذين أتوا بعد الخليل أخفقوا في التفريق بين المستويين: الوزن والإيقاع، إذ قاموا» بتحويل العروض العربي إلى عروض كمي*نقي ذي بُعد واحد مخفين بذلك بعده الآخر الأصيل، حيوية النبر الذي يعطي الشعر العربي طبيعته المميزة«([12]).
فالوزن عنده » التتابع الذي تكونه العناصر الأولية المكونة للكلمات، وتشكّل هذا التتابع في كتلة مستقلة فيزيائيًا حدّان واضحان: البدء والنهاية«([13]).أما الإيقاع عنده شيء آخر، فهو » لا ، ولا بالقيمة الكمية للوحدات الوزنية التي يمكن أن تنقسم إليها الكتلة، وإنّما بحيوية داخلية أعمق هي النبر الذي يضعه الشاعر على نـوى معيـنة فـي البيت «([14]).
ومصدر الإيقاع في حقيقته هو نَفَسُ الشاعر المنفعلة، وهو يرتبط بالتجربة النفسية عند فعل الكتابة ينبثق منه الوزن، ويُعتبر الأساس الذي يُبنى عليه التعبير عن أفكار الشاعر بحرية تامة، ويأتيالشاعر أولا ثم الوزن«([15]).
والوزنالشعري هو جزء من الإيقاع ([16])، والإيقاع هو العنصر المتغير، والوزن هو العنصر الثابت في لغة الشعر ([17]).
وباستقراء قصائد أبي مدين نجد أنه قد تطرق، لبعض بحور الشعر العربي، والجدول أدناه يبين جميع البحور التي استخدمها في الدّيوان من حيث عدد النّصوص، حيث قمنا بجمع كل بحر حسب تواتره وتكراره في الديوان، وهي موضحة في الجدول الآتي:
البحر | عددالنصوص | المرتبة |
الطويل | 11 | 1 |
البسيط | 09 | 2 |
الكامل | 07 | 3 |
الخفيف | 01 | 4 |
المجتث | 01 | 5 |
المجموع | 29 |
وباستقراءالجدول تجد أنّ كل من : الطويل والبسيط والوافر والكامل كان لهم الحظ الأوفر من النّظم لدى الشاعر أبي مدين، ولكن الشاعر أعطى الأولوية للبحر الطويل،فبلغ عدد تكراره في الديوان(11مرة) من بقية البحور المستعملة؛ هذا البحر الذي قال عنه إبراهيم أنيس : » ليس بين بحور الشعر ما يضارع البحر الطويل في نسبة شيوعه، فقد جاء ما يقرب من ثلث الشعر العربي القديم من هذا الوزن «([18])، ويعود سبب شيوعه لإمكاناته المتسعة التي تتيح للشاعر أنّ ينظم في شتى الموضوعات التي تحتاج إلى طول النفس، وقد سمي الطويل بهذا الاسم لمعنيين» أحدهما أنّه أطول الشعر؛ لأنّه ليس في الشعر ما يبلغ عدد حروفه ثمانية وأربعين حرفًا غيره، والثاني أنّ الطويل يقع في أوائل أبياته الأوتاد* والأسباب ** بعد ذلك، والوتد أطول من السبب، فسمي لذلكطويلاً«([19])،
وقد استثمر أبي مدين البحر الطويل الذي منح إحساسًا للقصيدة ليترجم به مشاعره وأحزانهعلى إيقاع تفعيلات البحور الطويلة، وهذا ليس غريبًا » فالشاعر في حالة اليأس والجزع يتخير عادة وزنا طويلاً كثير المقاطع يصب فيه من أشجانه ما ينفس عنه حزنه وجزعه«([20])، ومن أمثلة البحر الطويلفي ديوان الشاعر أبي مدين قوله في قصيدة متشوقا للأحبة:
مـتـى يـا عُـرَيـبَ الحـي عيني تراكمُ وأســمــعُ مــن تـلكَ الديـار نـداكـمُ
ويـجـمـعـنا الدهر الذي حال بيننا ويـحـظـى بـكـم قـلبـي وعـيني تراكمُ
أمـرُّ عـلى الأبـواب مـن غـيـر حاجة لعــلي أراكُــم أو أرى مــن يـراكُـم
سقاني الهوى كأساً من الحب صافياًفــيـا ليـتـهُ لمّـا سـقـانـي سـقـاكُـم
فـيـا ليـتَ قـاضي الحبّ يحكمُ بينَنا وداعـي الهـوى لمّـا دعـانـي دعـاكمُ([21])
ثانيا:القافية
هي الرّكن الثاني من أركان الإيقاع الخارجي، وتعدّ عنصرًامهمًاوجزءًا ثانيا في القصيدة([22])وهي في اللّغة من » قفا يقفوا وهو أن يتبع شيئًا وقفوته أقفوهقفوًا«([23])،وهي مكون ايقاعي تبدأ من آخر حرف في البيت إلى أول ساكن يليه من قبله مع حركة الحرف الذي قبل السّاكن «([24]).
-أنواع القوافي حسب حروفها :
قد قسّم العروضيون القدامى القافية بناءً على حركة حرف الروي أو سكونه قسمين:مطلقة ومقيدة، فالقافية المطلقة هي » ما كانت متحركة، أي بعد رويها وصل «([25]).أمّا القافية المقيدة هي » ما كانت ساكنة الروي، سواء أكانت مردفة، كما في كلمات:زمانْعيونْ، أم كانت خالية من الرّدف، كما في كلمات:حسنْ وطنْ« بسكون النون([26]).
وقد تنوعت حركة الروي في ديوان أبي مدينبين القافية المطلقة والمقيدة،إلا أن أغلبها كان من النّوع الأول، أي القافية المطلقة التي يكون فيها الرّوي متحرك، ولعلّ التّعليل الذي يمكن أن يسوغ هذه الظاهرة أنّ جلّ قصائد أبي مدين تتجلى في سياق التّحسر والمعاناة عبر قوافي شعره المطلقة، فهي قوافٍ تتلاءم مع عاطفة الحزن والضياع الذي يعيشه الشاعر نتيجة بحثه عن الذّات الإلهية .وأيضا تتيح للشاعر إمكان إنهاء البيت بمقطع طويل مفتوح، وهذا ما يحقق إيقاعًاموسيقيًا يساعده على إطالة نفسه في التعبير عن الحالة الشعورية التي يعيشها.فالشاعر الصوفي عموما يسعى دائما إلى المطلق وعدم التّقيد.
ومن أمثلة القافية المطلقة في شعره، قوله: (البسيط)
بكَتِ السحابُ أضحكَت لبُكائِها زهر الرياض وفاضتِ الأنهارُ
قد أقبلَت شمسُ النهارِ بجُملةٍخضراً وفي أسرارِها أسرارُ
وأتى الربيع بخيلهِ وجنودهِفتمتَّعَت في حسنهِ الأبصارُ
والوردُ نادى بالورود إلى الجنى فتسابق الأطيارُ والأشجارُ([27])
ويسعى الشاعر إلى تكثيف الجرس الموسيقي، فعمد إلى إشباع حركة الروي (الكسرة) فصارت ياءً، لتعطينغمًالهوقوةًفيالإيقاعووقعًاطيّبًا في أذن السامع، ومن ذلك قوله: (الطويل)
تملكتموا عقلي وطرفي ومسمعي وروحي وأحشائي وكلي بأجمعِي
وتيهتموني في بديع جمالكم فلم أدري في بحر الهوى أين موضعِي
وأوصيتموني لا أبوح بسرّكم فباح بما أخفيت فيض أدمعِي
ولما فني صبري وقل تجلدي وفارقني نومي وحرمت مضجعِي
أتيت لقاضي الحب قلت أحبتي جفوني وقالوا أنت في الحب مدعِي
وعندي شهود بالصبابة والأسى يزكون دعوائي إذا جئت أدعِي
سهادي ووجدي واكتئابي ولوعتي وشوقي وسقمي واصفراري وأدمعِي([28])
ثالثا:الروي
يُعدّ الروي من أهم حروف القافية، » فلا يكون الشعر مقفّى إلاّ بأن يشتمل على ذلك الصّوت المكرر في أواخر الأبيات«([29]) ، فهو الحرف الذي تبنى عليه القصيدة، » ويلزم تكراره في كل بيت منها في موضع واحد هو نهايته، وإليه تنسب القصيدة، فيقال: لامية، أو ميمية، أو نونية وغير ذلك «([30]).
- حركات الرويّ:
أما حركات الروي أو الصوائت التي تلحقها، فيمكننا أن نمثل لها من خلال الجدول التالي من ديوان الشاعر أبي مدين على مستوى النصوص :
الروي | الروي المضموم | الروي المفتوح | الروي المكسور |
الباء | 01 | 00 | 01 |
التاء | 01 | 00 | 00 |
الجيم | 01 | 00 | 00 |
الخاء | 00 | 00 | 01 |
الراء | 03 | 03 | 00 |
الطاء | 01 | 00 | 00 |
العين | 01 | 00 | 01 |
اللام | 02 | 01 | 01 |
الميم | 01 | 00 | 01 |
النون | 00 | 03 | 02 |
الهاء | 01 | 00 | 02 |
الواو | 00 | 01 | 00 |
الياء | 00 | 01 | 00 |
المجموع | 12 | 09 | 09 |
يتضح من الجدول السابق أنّ الشاعر أبي مدين قد أولى عنايته بالقوافي ذات الرّوي المضموم، وقد بلغ عدد القصائد التي جاءت على هذا النحو اثنا عشر (12) ،ومن أمثلته في الدّيوان قوله:(البسيط)
يا من علا فرأى ما في الغيوب وما تحت الثرى وجناح الليل منســـــــــــــــــــــــــــدل
أنـتَ المـغـيـثُ لمـن سدت مسالكه مـذاهـبـهُ أنـتَ الدليـلُ لمـن ضـاقَـت بـه الحيلُ
أنا قاصدناك والآمال واقفـــــــــــة عليك يرجوك ملهوف ومبتــــــــــــــــــــــــــــــــــتهل
فإن عفوت فذو فضل وذو كــــــرم وإن سطوت فأنت الحـــــــاكم العــــــــــــــــــــدل([31])
وقوله في مقطوعة أخرى: (الطويل)
أحب لقا الأحباب في كل ساعةٍلأن لقا الأحــــــــــــــــــــــــــتباب فـــــيه المنافعُ
أيا قرّة العيـــــــــــــــــــون تاللَه إنَّـــــــنيعلى عهدكُم باقي وفي الوصلِ طامعُ([32])
وقوله: (البسيط)
يا من بغيثُ الورى من بعد ما قنطواارحم عبيداً أكفَّ الفقرِ قد بسطوا
واستنزلوا جودكَ المعهود فاسقهِم ريّا بربهُم رضى لم يثنهِ سخـــــــــــــــطُ
وعامِل الكلَّ بالفضل الذي ألفوا يا عادلاً لا يرى في حكمهِ شطَطُ([33])
إنّ المتأمل في الأبيات السابقة تظهر الحالة التي يمر بها الشاعر أبي مدين من انكسار وخضوع وحاجة، فجاء روي الأبيات مضموما “وكأنّ الشاعر يبدوا فيها متظاهرًا بالقوة محاولا التماسك ومجاهدة النفس، على المواجهة والجلَد، فيظهر شيئا من العزة والأنفة، ويبطن تواضعا وعشقا للذات العليا “.فالشاعر في حالة فقد وحاجة، فهو يشعر بحرارة الاغتراب عن الذات الإلهية، ونلمس ذلك في الأبيات السابقة، حينما يطلب الغيث والمغفرة ، ورغبته في الوصال بينه وبين الحبيب.
وتحتل القصائد ذات الروي المفتوح المرتبة الثانية، حيث بلغ عددها تسع قصائد، فهي تتساوى مع القصائد ذات الروي المكسور،ومن أمثلة الروي المفتوح في شعره قوله: (خفيف)
يـا خليلـيَّ خليانِـي ووجـديأنا أولَـى بِنَـارِ وجـدي صليَّـا
إِنَّ لِي فِـي الغَـرام دمعـاً مطيعـا وفـؤاداً صَبّـاً وصـبـراً عصيَّـا
أنا من عاذلِـي وصبـري وقلبِـيحـائِـرٌ أيُّـهُـم أشــدُّ عتيَّـا
أَنـا شَيـخُ الغَـرَام مَـن يَتَّبعْنيأهده فِي الهَـوَى صراطـاً سويَّـا
انا مَيـتُ الهَـوَى ويـومَ أراهُـم ذَلـكَ اليَـومُ يـومَ أُبعـثُ حيَّـا([34])
فالفتح يتلاءم مع ما يريد الشاعر أن يكشف عنه، ويوضحه للمتلقي من خلال التفريج عن مكبوتاته،وتعبيره عن ولهه الدائم بالذات الإلهية التي يصبو دوما نحوها.
ومن أمثلة الروي المكسور في شعره قوله: (الطويل)
تملكتموا عقلي وطرفي ومسمعي وروحي وأحشائي وكلي بأجمعِي
وتيهتموني في بديع جمالكم فلم أدري في بحر الهوى أين موضعِي
وأوصيتموني لا أبوح بسرّكم فباح بما أخفيت فيض أدمعِي
ولما فني صبري وقل تجلدي وفارقني نومي وحرمت مضجعِي([35])
فالكسرة تعطي نغما متألقا مع أصداء الحزن الشجية التي يمر بها الشاعر سببها العشق الإلهي الذي أرّقه، فبات يطلب اللقاء لشدة الشوق.ولعل الشاعر أبي مدين في الأبيات السابقة نحا فيها مناحي الشعراء الغزليين “الذين يعبرون عن مقدار حبهم وشوقهم إلى محبوبهم بمقدار تيهانهم وفناء أجسادهم باصفرارها ونحولها وسقمها، وكذلك على صدق العاطفة وفيضها، ودليل أيضا على أن العلاقة بين المحب ومحبوبه علاقة انفصال وهجران، وتمنع المحبوب عن لقاء محبه”([36]).
وعلى هذا شاعرنا لم يخرج في موسيقاه الخارجية عن الأوزان والقوافي التي كانت معهودة منذ القدم.
الهوامش:
([1])عبد الجبار داود البصري، فضاء البيت الشعري، دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، 1996م، بغداد، ص: 157-158.
([2])محمود بن سعيد مقديش وأبي الثناء الصفاقسي ، نزهة الأنظار في عجائب التواريخ والأخبار ومناقب السادة الأطهار، تح:محمد عثمان،ج2، دار الكتب العلمية ،بيروت، لبنان ،1971 ،ص 317.
([3])ابن رشيق القيرواني، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تح: صلاح الدين الهواري، ج2، هدى عودة، دار مكتبة الهلال، ط1، 1996م، بيروت. ج1، ص: 134.
([4])ابن سنان الخفاجي، سر الفصاحة، دار الكتب العلمية، ط 1، 1982م، بيروت، لبنان،ص:287.
([5])مصطفى حركات، أوزان الشعر، الدار الثقافية للنشر، ط1، 1998م، القاهرة، ص:07.
([6])رشيد شعلال، البنية الإيقاعية في شعر أبي تمام، عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع، د.ط، د.ت، إربد، الأردن، ص:21.
([7])جون كوهين، النظرية الشعرية (بناء لغة الشعر)، تر: أحمد درويش، ج1، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، د.ط، 2000م القاهرة، مصر، ص:73.
([8])ينظر: محمد النويهي، قضية الشعر الجديد، معهد الدراسات العربية العالية، د.ط، 1964م ، القاهرة، ص: 30.
([10])محمد مندور، في الميزان الجديد، نشر وتوزيع مؤسسات علي بن عبد الله، ط1، 1988م، تونس، ص:257.
([11])عز الدين إسماعيل، الأسس الجمالية في النقد العربي، عرض وتفسير ومقارنة، دار الفكر العربي، ط3، 1974م، ص: 376.
*كمي هنا تستخدم تساهلاً وتسهيلاً.
([12])كمال أبو ديب، في البنية الإيقاعية للشعر العربي، دار العلم للملايين، ط1، 1974م، بيروت، ص: 230.
([15])محمد حسين عبد الله، الصورة والبناء الشعري، دار المعارف، د.ط، 1981م، القاهرة، ص: 9.
([16])صطفى يوسف، الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة، دار المعارف، ط4، 1969م، القاهرة، ص:237.
([17])علي يونس، نظرة جديدة في موسيقى الشعر العربي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، د.ط، 1993م، القاهرة، ص:40.
([18])إبراهيم أنيس، موسيقى الشعر، مكتبة الأنجلو المصرية، ط2، 1952م، القاهرة، ص: 57.
*الأوتاد: وهو نوعان: وتد مجموع: وهو اجتماع متحركين فساكن، نحو: نعَمْ، على، بكمْ، و(عِلُنْ) من متفاعلن. وتد مفروق: وهو اجتماع متحركين بينهما ساكن ، نحو: هاتِ، أمْسِ، و(فاع) من فاعلاتن، ينظر: محمد علي الهاشمي، العروض الواضح وعلم القافية، دار القلم، ط1، 1991م، دمشق، ص: 15.
**الأسباب: وهو نوعان: سبب خفيف: ويتألف من حرفين: متحرك فساكن، نحو: هلْ، مَنْ، وسبب ثقيل: ويتألف من حرفين متحركين، نحو: لك، بِك، المرجع نفسه، ص:15.
([19])الخطيب التبريزي، أبو زكرياء يحيى بن علي، الكافي في العروض والقوافي، تح: الحساني حسن عبد الله، مكتبة الخانجي، ط3 1994م، القاهرة ، ص: 22.
([20])إبراهيم أنيس، موسيقى الشعر، ص: 175.
([21])أبو مدين شعيب الغوث التلمساني،الديوان، اعداد وجمع وترتيب:د.عبد القادر سعود ود.سليمان القرشي، كتاب ناشرون 2011 ط،1بيروت لبنان، ص:36.
([22])شكري محمد عياد، موسيقى الشعر العربي (مشروع دراسة علمية)، دار المعرفة، ط2، 1978م، القاهرة، ص:99.
([23])الخليل بن أحمد الفراهيدي، كتاب العين، تح: مهدي المخزومي إبراهيم السامرائي، ج3، دار مكتبة الهلال،د.ط، د.ت ، ص: 420.
([24]) محمد عوني عبد الرؤوف، القافية والأصوات اللغوية، مكتبة الخانجي، د.ط، د.ت، القاهرة، ص:04.
([26])عبد العزيز عتيق، علم العروض والقافية، دار النهضة العربية، د.ط، 1987م ، بيروت، ص: 164-165.
([29]) إبراهيم أنيس، موسيقى الشعر،ص :245.
([30]) عبد الرّضا علي، موسيقى الشعر العربي قديمه وحديثه،دار الشروق للنشر والتوزيع، ط1، 1997م ، عمان، الأردن ص:171.
([36])مختار حبار شعر أبي مدين التلمساني (الرؤيا والتشكيل)،اتحاد الكتاب العرب، دمشق،ص:27.
*قسم اللغة العربية، كلية الآداب والفنون، جامعة حسيبة بن بوعلي الشلف، الجزائر
Leave a Reply