القرآن الكريم كتاب سماويّ نزل بلسان عربيّ مبين (النحل: 103) وتحدّى مخاطبيه بتقديم سورة مثله (البقرة: 23) ثم قام المؤمنون له بشرح محتوياته مستهدينَ بكلامِ مَنْ نزل فيهم وتحدّاهم ومستفيضينَ ممن نزل عليه صلّى الله عليه وسلّم (البقرة: 129) ومن الأثر: “الشعر ديوان العرب فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه” (الإتقان في علوم القرآن، 1/119). وقال ابن كثير: “… فإن من القرآن ما استأثر الله تعالى بعلمه، ومنه ما يعلمه العلماء ومنه ما تعلمه العرب من لغاتها” (تفسير القرآن العظيم، 1/63). فشرحُ كلمةٍ من كلمات القرآن الكريم أو تعبيرٍ من تعابيره يتطلّب منّا ممارسة لغته لا فهمها فهمًا يسيرًا (البرهان في علوم القرآن، 2/294). وبناءً على هذا الأصل حاولنا فهمَ كلمة من كلماته وهي “الإقامة” التي تم استخدامها في القرآن الكريم بمختلف المناسبات ولشتّى الأشياء مستعينًا بكلام العرب الذي نزل فيهم هذه الصحيفة العربية المعجزة.
كلمة “الإقامة” في القرآن الكريم: وردت كلمة “الإقامة” في القرآن الكريم لمختلف الأشياء ومنها إقامة الجدار فقال تعالى:
“فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَيَآ أَهۡلَ قَرۡيَةٍ ٱسۡتَطۡعَمَآ أَهۡلَهَا فَأَبَوۡاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارٗا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُۥۖ قَالَ لَوۡ شِئۡتَ لَتَّخَذۡتَ عَلَيۡهِ أَجۡرٗا ٧٧”. (سورة الكهف: 77)
ومنها الوجه فقال تعالى:
“قُلۡ أَمَرَ رَبِّي بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ وَٱدۡعُوهُ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَۚ كَمَا بَدَأَكُمۡ تَعُودُونَ ٢٩”. (سورة الأعراف)
و”قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي شَكّٖ مِّن دِينِي فَلَآ أَعۡبُدُ ٱلَّذِينَ تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِنۡ أَعۡبُدُ ٱللَّهَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّىٰكُمۡۖ وَأُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ١٠٤ وَأَنۡ أَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١٠٥ وَلَا تَدۡعُ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَۖ فَإِن فَعَلۡتَ فَإِنَّكَ إِذٗا مِّنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٠٦”. (سورة يونس)
ومنها الوزن فقال تعالى:
“وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلۡمِيزَانَ ٧ أَلَّا تَطۡغَوۡاْ فِي ٱلۡمِيزَانِ ٨ وَأَقِيمُواْ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ وَلَا تُخۡسِرُواْ ٱلۡمِيزَانَ ٩”. (سورة الرحمن)
و”أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِ رَبِّهِمۡ وَلِقَآئِهِۦ فَحَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فَلَا نُقِيمُ لَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَزۡنٗا ١٠٥”. (سورة الكهف)
ومنها الشهادة فقال تعالى:
“فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ فَارِقُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖ وَأَشۡهِدُواْ ذَوَيۡ عَدۡلٖ مِّنكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ لِلَّهِۚ ذَٰلِكُمۡ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا ٢”. (سورة الطلاق)
ومنها الحدود فقال تعالى:
“ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمۡ أَن تَأۡخُذُواْ مِمَّآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ شَيًۡٔا إِلَّآ أَن يَخَافَآ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَا فِيمَا ٱفۡتَدَتۡ بِهِۦۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعۡتَدُوهَاۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ٢٢٩”. (سورة البقرة)
ومنها التوراة والإنجيل فقال تعالى:
“قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَسۡتُمۡ عَلَىٰ شَيۡءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡۗ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۖ فَلَا تَأۡسَ عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ ٦٨”. (سورة المائدة)
ومنها الصلوة وهذا كثير جدًا فقال تعالى:
“لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ ١٧٧”. (سورة البقرة: 177)
ومنها الدين فقال تعالى:
“شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحٗا وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَمَا وَصَّيۡنَا بِهِۦٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓۖ أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِۚ كَبُرَ عَلَى ٱلۡمُشۡرِكِينَ مَا تَدۡعُوهُمۡ إِلَيۡهِۚ ٱللَّهُ يَجۡتَبِيٓ إِلَيۡهِ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَن يُنِيبُ ١٣”. (سورة الشورى)
ويبدو من النظر على الآيات التي وردت فيها هذه الأشياء أنّ الإقامة هي أداء الشيء كما يرام حقًّا فإقامة الجدار جعله مستقيمًا غيرَ معوجّ، وإقامة الوجه الالتفات إلى الغاية، وإقامة الوزن تعني عدم الخيانة في الكيل، وإقامة الشهادة أداؤها، وإقامة الحدود إطلاقها على ما هي، وإقامة التوراة العمل بما فيها، وإقامة الصلاة أداؤها بكل مقتضياتها، وإقامة الدين الإخلاص فيه. فالإقامة تتطلب الإجادة والإخلاص.
كلمة “الإقامة” في كلام العرب والقرآن الكريم: والإقامة أصلًا هو السير السويّ غير مائل إلى اليمين ولا إلى الشمال فقال الفرزدق:
وغيدٍ من الإدلاج تحسب أنهم | سُقُوا بنتَ أحوالٍ تُدار على الشرب |
تميل بهم حينًا وحينًا تُقيمهم | وهنّ بنا مثلُ القداح من القُضب[1] |
ومن هنا الإقامة هو قيام المرء بمكان فلا يزول إلى مكان بعد هذا فقال تأبط شرًّا:
فقلت لها: يومان، يومُ إقامة | أهزّ به غصنًا من البان أخضرا |
ويومٌ أهزّ السيف في جيدِ أغيدٍ | له نسوة لم تلق مثلي أنكر |
ينحن عليه وهو ينزع نفسَه: | لقد كنتَ أبّاء الظُلامة قسورا[2] |
وقال أيضًا:
ونارٍ قد حضأتُ بُعَيدَ هَدءٍ | بدارٍ ما أريدُ بها مُقاما[3] |
وقال إبراهيم بن هرمة القرشي:
أقيمي وجهَ عامِكِ ثم سيري | بلا واهي الجوار ولا مُليم[4] |
ومنه العذاب المقيم أي الدائم كما قال تعالى: “يُرِيدُونَ أَن يَخۡرُجُواْ مِنَ ٱلنَّارِ وَمَا هُم بِخَٰرِجِينَ مِنۡهَاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٞ مُّقِيمٞ ٣٧”. (سورة المائدة) وقال: “وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصۡرِفۡ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَۖ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ٦٥”. (سورة الفرقان)
وقال حسان بن ثابت الأنصاري:
غضِب الإله على الزِبعري وابنه | وعذابِ سوءٍ في الحياة مُقيم[5] |
وقال عنترة بن شداد العبسي:
وغرامي بها غرامٌ مقيمٌ | وعذابي من الغرام المقيم[6] |
ومن هنا تدرّج لمعنى القيام الآمن من أيّ آفة فقال البرج الطائي:
تركنا قومًا من حربِ عامٍ | ألا يا قومِ للأمر الشتات |
وأخرجنا الأيامى من حصون | بها دارُ الإقامة والثبات[7] |
وقال حسان بن ثابت الأنصاري:
فصار المؤمنون بدار خلد | أقام لها بها ظلّ ظليل[8] |
ومن هنا تعني إقامة البيوت كونها خالية من أيّ شر وآفة فقال علقمة الفحل:
والجود نافيةٌ للمال مهلكة | والبخل مبقٍ لأهليه ومذموم |
والمال صوف قرار يلعبون به | على نفاجاه وافٍ ومجلوم |
والحمد لا يشترى إلا له ثمن | مما تضنّ به النفوس معلوم |
والجهل ذو عرض لا يستراد له | والحلم آونة في الناس معدوم |
وكل حصن وإن طالت إقامته | على دعائمه لا بد مهدوم[9] |
وقال سويد بن كراع العكلي:
نُقيمُ على دار الحفاظ بيوتَنا | ونقسم أسرى بيننا وغنائم[10] |
وأما إقامة السوق فيعني إثباتها على ساق وقدم كما قال أيمن بن خريم:
أقامتْ غزالةُ سوقَ الضِراب | لأهل العراقين حولًا قَمِيطا[11] |
وإقامة الشيء يعني إزالة الميل الموجود فيه كما قال المتلمس:
وكنّا إذا الجبّار صعّر خدَه | أقمنا له من ميله فتقوَّما[12] |
وقال لبيد بن أبي ربيعة العامري:
وخصمٍ قد أقمتُ الدرء منه | بلا نزِق الخصام ولا سؤوم[13] |
وقال الفرزدق:
وكم من عشِي العينين، أعمى فؤادُه | أقمتَ وذي رأسٍ عن الحق مائلِ[14] |
وقال جرير:
إذا نحن جرّدنا عليهم سيوفَنا | أقمنا بها درءَ الجبابرة الصُعر[15] |
وقال الأخطل:
إذا الأصعرُ الجبّارُ صَعَّرَ خدَّه | أقمنا له من خدّه المتصاعر[16] |
وقال الكميت بن زيد الأسدي:
ويومَ ابن الهبولة قد أقمنا | خدودَ الصعر والأودَ المُبينا[17] |
وقال مضرس بن ربعي:
إنا لنصفح عن مجاهلِ قومنا | ونقيم سالفةَ العدوّ الأصيد[18] |
وقال عامر بن الطفيل:
يُقيمون للحرب أصعارَها | إذا ثُوِّرَ القسطلُ الأغبر[19] |
وقال المثقب العبدي:
وأقام الرأسَ وقعٌ صادقٌ | بعدما ضاف، وفي الخدّ صَعَر[20] |
وما أحسن ما أورد فعل الإقامة سراقة البارقي فقال:
وكأنها في الدار يومَ رأيتُها | شمسٌ يظلُّ شعاعُها في أفكل[21] |
تُعشي البصيرَ إذا تأمّلَ وجهَها | من حسنها وتقيمُ عينَ الأحول |
أو دُرّةٌ مما تنقّى غائصٌ | فأسرّها للتاجر المتنخّل[22] |
فأصاب حاجتَه وقال لنفسه: | هل يخفينّ بياضُها في مدخل[23] |
أو بِكرُ أدحيّ بجانبِ رملةٍ[24] | عرضتْ له دَوِّيّةٌ لم تُحلَل[25] |
تلك التي شقّتْ عليّ فلا أرى | أمثالَها فارحلْ ولا تستقتل[26] |
فالشيء الذي يجعل كما يرام أيضًا يستخدم له هذا الفعل فقال الأحوص الأنصاري:
عمّ معروفُه، فعزّ به الديـ | نُ وذلّتْ لملكه الكفّار |
وأقام الصراطَ فابتهج الحقْ | قُ مُنيرًا كما أنار النهارُ[27] |
وقال إبراهيم بن هرمة القرشي يرثي الوليد بن يزيد:
وكانت أمورُ الناس منبتّةَ القوى | فشدّ الوليدُ- حين قام- نظامَها |
خليفةُ حقٍّ، لا خليفةُ باطلٍ | رمى عن قناة الدين حتى أقامها[28] |
فإقامة الصراط أو الدين يعني إزالة ما اعوجّ منه بأيدي الناس وإثباته كما هو.
وهكذا إقامة الشيء يعني تصويبه كما قال حارثة بن صخر القيني حينما فرّ من زياد:
فإنا لا نفرّ من المنايا | ولا ننحاش من ضربِ النِصال |
ولكنا نُقيم لكم طعانًا | وضربًا يختلي هامَ الرجال[29] |
فإقامة الحق إثباته كما قال عنترة بن شداد العبسي:
ولولا سيّدٌ فينا مُطاعٌ | عظيمُ القدر مرتفع العماد |
أقمتُ الحقَّ بالهندي رغمًا | وأظهرتُ الضلالَ من الرشاد[30] |
وقال المعلّم عبد الحميد الفراهي:
“ويقيمون، 1- أقام الشيء: جعله قائمًا مثلًا أقام العمود. ومنه إقامة الحدود والسوق إقامة معنوية.
2- وأيضًا: جعل الشيء مستقيمًا لا اعوجاج فيه، وهذا كثير.
3- وأيضًا: سكن ولبث، كما نقول أقام ببلدة. ومنه بمعنى: دام وبقي كما في قوله تعالى: “لَّهُمۡ فِيهَا نَعِيمٞ مُّقِيمٌ ٢١” التوبة: 21″.[31]
فتلخّص من هذه الأمثلة أنّ الإقامة جعل أو أداء العمل كما هو مراعيًا لما يقتضيه.
إقامة الصلوة مصطلحًا دينيًّا: ولو أنّ ما سردناه من الأمثلة ظهر منها أنّ إقامة الصلوة تعني أداءها كما أُمِرَ بها مع الإخلاص فالصلاة هي صلاة النبي ﷺ والتي تكون متحلية بكل صفات وقيود، وخالصة لله بريئة من كل نوع من الرياء كما قال: “صلّوا كما رأيتموني أصلّي”.[32]
ولكني أودّ هنا أن أنقل ما كتبه المعلّم عبد الحميد الفراهي مبيّنًا دلالالتها التشريعية والدينية وموضّحًا مختلف جوانبها خير توضيح فقال:
“بين صلّى وأقام الصلوة فرق لطيف، لما في الإقامة دلالة على التسوية. فأشار إلى ما يلزم مراعاته في الصلوة، وذلك أمور:
الأول: هو الإخلاص، فتكون الصلاوة متوجهة إلى الرب تعالى وحده. فذلك أول تسويتها، كما قال تعالى: “وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ وَٱدۡعُوهُ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَۚ”. [سورة الأعراف: 29]. أيضًا: “فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ”. [سورة الروم: 30]. ومن هاهنا التوجه إلى مركز التوحيد والدين. وقال تعالى فيما أمر بني إسرائيل: “وَٱجۡعَلُواْ بُيُوتَكُمۡ قِبۡلَةٗ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَۗ”. [سورة يونس: 87].
والثاني: دوام التوجه إلى غايتها، وهي الذكر والخشوع. فالالتفات إلى خلاف غايتها تعويجها، كما قال تعالى: “وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكۡرِيٓ ١٤”. [سورة طه: 14]. وأيضًا: “قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ١ ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي صَلَاتِهِمۡ خَٰشِعُونَ ٢ وَٱلَّذِينَ هُمۡ عَنِ ٱللَّغۡوِ مُعۡرِضُونَ ٣”. [سورة المؤمنون: 1-3].
والثالث: أداؤها حسبما علّمنا الله من غير تقصير. وإنما رخّص في القصر عند الضرورة، ولذلك قال تعالى: “فَإِذَآ أَمِنتُمۡ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم”. [سورة البقرة: 239]. وأيضًا: “وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ إِنَّ ٱلۡكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمۡ عَدُوّٗا مُّبِينٗا ١٠١ وَإِذَا كُنتَ فِيهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ”. [سورة النساء: 101-102] الآية. ومن ذلك تسوية الصفوف والتعديل، كما جاء في الحديث: “تسوية الصفوف من إقامة الصلوة”. (صحيح البخاري، رقم الحديث: 723)
والرابع: أداؤها لأوقاتها، كما قال تعالى: “أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيۡلِ وَقُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِۖ”. [سورة الإسراء: 78]. وهو المراد بالمحافظة، كما قال تعالى: “حَٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ”. [سورة البقرة: 238]. وأيضًا: “وَهُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ يُحَافِظُونَ ٩٢”. [سورة الأنعام: 92].
والخامس: الدوام عليها، كما قال تعالى: “ٱلَّذِينَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ دَآئِمُونَ ٢٣” [سورة المعارج: 23].
والسادس: إقامة الجماعة والجمعة. وذلك إذا أضيفت إلى الأمة أو الإمام، كما قال تعالى: “ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ” [سورة الحج: 41). وقال تعالى حكاية عن دعاء إبراهيم عليه السلام: “رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيۡرِ ذِي زَرۡعٍ عِندَ بَيۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ” [سورة إبراهيم: 37]. وله نظائر كثيرة”.[33]
ونشكره تعالى أنْ وفّقنا لشرح كلمة من كلمات كتابه العزيز الحكيم وندعوه أنْ يخدمنا لنشر رسالاته ولحلّ معضلاته وتيسير مشكلاته. آمين.
هوامش المقال:
[1] ديوانه، ص 72
[2] ديوانه، ص 100
[3] ديوانه، ص 254
[4] شعره، ص 200، ألام: ما يسبّب اللوم
[5] شرح ديوانه، ص 288
[6] شرح ديوانه، ص 192
[7] شرح ديوان الحماسة، 1/136
[8] شرح ديوانه، ص 266
[9] ديوانه، ص 66-67
[10] عشرة شعراء مقلّون، ص 98
[11] تفسير غريب القرآن، ص 31
[12] ديوان الأصمعيات، ص 245، الجبار: العاتي من الملوك
[13] ديوانه، ص 184
[14] ديوانه، ص 474
[15] ديوانه، ص 214
[16] ديوانه، ص 133
[17] ديوانه، ص 458
[18] شرح ديوان الحماسة (غريد الشيخ)، 2/725
[19] ديوانه، ص 67، والقسطل ج: القساطل: الغبار
[20] ديوان شعره، ص 78، ضاف: عَدَلَ
[21] أفكل: رعدة ورعشة
[22] المتنخّل: المتخير لأفضل الأشياء
[23] فتزداد قيمة الدرة على قدر بياضها
[24] بكر: بيضة أولى، دوية: مفازة أي أنها تشبه البيضة في مفازة لم يخترقها إنسان، فلا يمكن الوصول إليها، فهي نفيسة كل النفاسة، نادرة جدّ الندرة
[25] لم تُحلَل: لم تزر، لم تخترق فقال تعالى: “فِيهِنَّ قَٰصِرَٰتُ ٱلطَّرۡفِ لَمۡ يَطۡمِثۡهُنَّ إِنسٞ قَبۡلَهُمۡ وَلَا جَآنّٞ ٥٦”. (سورة الرحمن)، وقال: “وَعِندَهُمۡ قَٰصِرَٰتُ ٱلطَّرۡفِ عِينٞ ٤٨ كَأَنَّهُنَّ بَيۡضٞ مَّكۡنُونٞ ٤٩”. (سورة الصافات)
[26] ديوانه، ص 58
[27] شعره، ص 152، 159
[28] شعره، ص 215
[29] شعر الخوارج، ص 47
[30] شرح ديوانه، ص 58
[31] نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان، 1/1/129
[32] صحيح البخاري، رقم الحديث: 213 و263
[33] نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان، 1/1/155-156
المصادر والمراجع
- القرآن الكريم
- الإتقان في علوم القرآن لجلال الدين السيوطي، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، الطبعة الأولى، 1987م
- البرهان في علوم القرآن للزركشي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الحلبي، د.م، 1376ھ
- تفسير القرآن العظيم لأبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي، دار المعرفة، بيروت، لبنان، ط1، 1986م
- تفسير غريب القرآن لابن قتيبة، تحقيق: السيد أحمد صقر، دار الكتب العلمية، بيروت، 1978م
- ديوان الأخطل، شرح: مهدي محمّد ناصر الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1994م
- ديوان الأصمعيات، تحقيق: أحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون، دار المعارف بمصر، ط3
- ديوان الفرزدق، شرح الأستاذ علي فاعور، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1987م
- ديوان الكميت بن زيد الأسدي، جمع وشرح وتحقيق: د. محمد نبيل طريفي، دار صادر، بيروت، ط1، 2000م
- ديوان تأبط شرًا وأخباره، جمع وتحقيق وشرح: علي ذو الفقار شاكر، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1984م
- ديوان جرير، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1986م
- ديوان حسان بن ثابت الأنصاري الخزرجي، شرح: ضابط بالحربية، مطبعة السعادة، مصر، د.ت
- ديوان سراقة البارقي الأصغر، تحقيق وشرح: حسين نصّار، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، ط1، 1947م
- ديوان شعر المثقب العبدي، تحقيق وتعليق: حسن كامل الصيرفي، جامعة الدول العربية، معهد المخطوطات العربية، 1971م
- ديوان عامر بن الطفيل، دار صادر، بيروت، 1979م
- ديوان لبيد بن أبي ربيعة العامري، دار صادر، بيروت، د.ت.
- شرح ديوان الحماسة للعلامة التبريزي، دار القلم، بيروت، لبنان، ط1، د.ت.
- شرح ديوان الحماسة، كتب حواشيه: غريد الشيخ، وضع فهارسه العامة: أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، 2000م
- شرح ديوان عنترة بن شداد العبسي، للعلامة التبريزي، دار الكتاب العربي، ط1، 1992م
- شعر إبراهيم بن هرَمة القرشي، تحقيق: محمد نفاع وحسين عطوان، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، 1869م
- شعر الخوارج، جمع وتحقيق: د. إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، لبنان، 1974م
- شعرالأحوص الأنصاري، جمع وتحقيق: عادل سليمان جمال، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط2، 1990م
- عشرةُ شعراء مقلّون، صنعة: أ.د. حاتم صالح الضامن، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، جامعة بغداد، العراق، 1990م
- علقمة الفحل، شرح ديوان علقمة الفحل للسيد أحمد صقر، المطبعة المحمودية، القاهرة، ط1، 1935م
- نظام القرآن وتأويل افرقان بالفرقان للإمام عبد الحميد الفراهي، الدائرة الحميدية، مدرسة الإصلاح، سرائ مير، أعظم كره، الهند، 2018م
*الأساذ المساعد، كلية اللغة العربية، الجامعة الملية الإسلامية، نيو دلهي، ومدير تحرير “مجلة الهند” الفصلية الصادرة عن مولانا آزاد آئيديل إيجوكشينال ترست، بولفور، غربي بنغال
Leave a Reply