الملخص :
لقد شهدت الرّواية الجزائريّة عبر مسيرتها عديدًا من التّجارب الإبداعيّة سواء أكان ذلك على مستوى المضمون أو الشكل، وضمن هذا المسعى التّحديثي برزت ظاهرة “التّجريب” كفعل تغييري ينطلق من فكرة المغامرة الفنيّة والإتيان بما هو جديد، والثورة على ما هو سائد من أنماط الكتابة الروائيّة، وكسر القوالب الجاهزة التي تُصبّ فيها المتون السرديّة .
وبهذا أصبح الروائي الجزائري مسكون بهاجس البحث المستمر بغية التّجديد، والبحث عن أشكال فنيّة جديدة، وتقنيات قادرة على تغطيّة إشكالات الرّاهن وملابساته، وبالتّالي سنحاول في هذه الدراسة التّطرق إلى أهم مظاهر التّجريب في الرّواية الجزائريّة المعاصرة.
الكلمات المفتاحية : الرّواية الجزائريّة، التّجريب، التّجديد.
مقدمة
صارت الرواية العربية المعاصرة تتبوأ منزلة هامة ضمن فنون التعبير الأخرى، وذلك من خلال اعتمادها على أساليب وتقنيات جديدة، سواء على مستوى الموضوعات أو التقنيات الفنية المستخدمة على مستوى الكتابة، فتكون بذلك حطمت التقاليد، وتمرّدت على الشكل المعهود، ما أدى ذلك إلى ظهور مصطلح جديد لدى النقاد العرب، ألا وهو مصطلح ” التجريب”.
وقد شهدت الرواية الجزائرية كغيرها من الروايات العربية بروز هذا الشكل الروائي، فسعت لتجاوز القوالب القديمة ومعانقة كل ما هو جديد من أجل مسايرة التقدم الحاصل في مجال الأدب عامة، والرواية بشكل خاص.
ومن بين الروائيين الذين سعوا إلى التجريب، بحثا عن أشكال فنية جديدة بإمكانها معالجة إشكالات الراهن نذكر منهم:الطاهر وطار، واسيني الأعرج، عبد الحميد بن هدوقة…
ومن هنا يطرح البحث مجموعة من الإشكالات أهمها:
- ما مفهوم التجريب؟.
- ما المقصود بالتجريب الروائي؟.
- ماهي أهم المظاهر التجريبية التي ارتقت بالرواية الجزائرية المعاصرة؟.
أولا: ماهية التجريب:
كما هو معلوم، فإن الكثير من المصطلحات الجديدة المتداولة في الساحة الفنية الأدبية والنقدية يسودها بعض الغموضوهذا ينطبق على مصطلح ” التجريب”،لذلك تلح الضرورة على معاينة مفردة التجريب،من خلال استحضار دلالتها المعجمية، ومعناها الاصطلاحي.
- التجريب لغة:
جاء في لسان العرب لابن منظور مفهومه على النحو التالي: ” جرّب يُجرّب تجربة وتجريبا الشيء حاول واختبره مرة بعد مرّة، ورجل مجرّب قد عرف الأمور وجرّبها والمجرّب الذي جرّب في الأمور وعُرف ما عنده…ودراهم مجرّبة موزونة”[1].
والمعنى نفسه موجود في القاموس المحيط للفيروز أبادي بقوله: ” جرّبه تجربة: اختبره، ورجل مجرّب كمعظم:بُلِي ما (كان) عنده،ومجرب: عرف الأمور، ودراهم مجربة: موزونة”[2].
ونفس الدلالة أيضا وردت في معجم الوسيط: ” جرّبه تجريبا وتجربة اختبره مرّة بعد مرّة أخرى، ويقال: رجل مجرّب: جرّب في الأمور، وعرف ما عنده، ورجل مجرّب: عرف الأمور وجرّبها”[3].
ولعلها لا تختلف كثيرا في معناها في المعاجم الغربية، فنجد مثلا في المعجم الفرنسي: ” لاروس la rousse le petit illustre، وردت كلمة تجريب (expérimentation) بمعنى الاختبار الذي يسند إلى التجربة والملاحظة للتأكد من صحة الفرضية”[4].
وفي معجم أكسفورد (oxford) الإنجليزي تدل كلمة التجريب (expérimentation) على التجربة والخبرة ومدى الإفادة منها” [5].
بعد تتبعنا لهذه المعاني المعجمية للفظة التجريب في المعاجم العربية والغربية، نجد أنها تتأسس على معاني الاختبار والتجربة، وصولا إلى المعرفة والعلم بالشيء.
- التجريب اصطلاحاً:
إن مصطلح التجريب مصطلح دقيق يصعب تحديده نظرا لتعدد زوايا النظر إليه، ولكونه في رحم طبيعية هي العلوم التجريبية المرتكزة على ثوابت الفيزياء، ومنطق الرياضيات[6].
ويجب التنبيه هنا إلى أن مصطلح ” التجريب” عُرف بداية في المجال العلمي قبل أن ينتقل إلى مجال الأدب، وذلك باعتباره عملية تتأسس على المعرفة والقدرة على القياس والاختبار، تصدر عن ذات مجرّبة واعية بما تفعل، ومقبلة عليه حتى تمتلك الخبرة والدراية بالأمور المجربة، أي أنها عملية اخضاع (شيء) أو (ظاهرة) للتجربة، ومتابعتها من أجل دراستها وتقنينها[7]، ذلك أن غاية كل علم الوصول إلى قوانين واضحة وثابتة.
وقد تعددت المفردات ومصطلحات التجريب، فنجدها تتمحور حول محاولة التجاوز، كسر المألوف وابتكار قيم جديدة.
وقد أوردها الدكتور ” مدحت أبو بكر” في أربعة عشر تعريفا للتجريب:[8]
- التجريب هو التمرّد على القوالب الثابتة.
- التجريب مرتبط بالمجتمع.
- كل مسرحية تتضمن نوعا من التجريب.
- التجريب إبداع من خلال ابتكار طرق وأساليب جديدة في التعبير الفني من أجل تجاوز المألوف.
- التجريب تجاوز الركود.
- لا يوجد تعريف محدد للتجريب.
- التجريب مرتبط بالخبرة في مجال المسرح.
- التجريب ثورة.
- التجريب مرتبط بتقنية العرض.
ثانيا: مفهوم التجريب الروائي
إذا كان مفهوم التجريب مرتبط بأصوله العلمية، إذا ما هو التجريب في الأدب وما علاقته بالرواية؟.
عرّفه صلاح فضل على أنه “يتمثل في ابتكار طرائق وأساليب جديدة في أنماط التعبير الفني المختلفة، فهو جوهر الإبداع وحقيقته، عندما يتجاوز المألوف، ويغمر في قلب المستقبل”[9]
فالتجريب بهذه الماهية هو محاولة التجاوز والتخطي الدائم يبحث على أدوات جديدة تمكن الأديب، وتزيد من قدراته على التعبير عن علاقة الإنسان بواقعه المتغير المستجد، فالبحث هو الذي يغري الروائي بارتياد التجريب أفق للكتابة، بغية تحقيق المغايرة للسائد السردي، مما يكسب هذا النوع من الكتابة الخارقة للنموذج الروائي بعض العلامات الدالة على حداثتها[10].
إذا التجريب هو كسر كل ما هو جامد وثابت، والخروج بعمل أدبي مغاير، وسيرورة العمل التقليدي، ولذلك نجد الناقد التونسي “الطاهر الهمامي” يتحدّث في هذا الصدد على أن “التجريب ليس مدرسة كالكلاسيكية والرومنسية والواقعية، بل منهج فني يحتاج إليه إبداع المدارس كلها سواء الحديث الذي وعاه أو القديم الذي لم يصطلح عليه، ويظل التجريب في جوهره وفلسفته بحث واختبار أو طلب للأكمل والأجمل، انطلاقا من اقراره بالنقص…”[11].
ومما لاشك فيه أن الكثير من النقاد والباحثين يؤكد أن مصطلح التجريب ارتبط بالرواية الطبيعية التي تأسست بعد الجهد النظري الذي قدمه ” إميل زولا” من خلال اعتماده على المذهب العلمي، إذ تصبح الرواية مجالا للظواهر، ومخبرا يجرب فيه الروائي فرضياته في الغرب في تلك الأعمال الفنية التي تعتمد التجريب أساسا، والتي بدأت مع فقدان الكاتبالثقة لمؤسسات المجتمع التي فرضت هيمنتها على الإنسان الفرد، وتزامنا مع تشكيك الفكر الغربي في قدرة اللغة على تمثيل الواقع تمثيلا حقيقيا مما استدعى تغيرات جذرية في بنية الرواية وتقنياتها[12].
ولم تعد الرواية تخضع لقوانين وقواعد ثابتة، بل أصبحت تتسم بنزعة مستمرة إلى التجاوز، وخلق أشكال جديدة وتروم إلى كسر النمطية لترسم لنفسها أفقا جديدا في الكتابة، فالرواية التجريبية هي ” رواية الحرية إذ تؤسس قوانينها الذاتية، وتنظر لسلطة الخيال، وتتبني قانون التجاوز المستمر، ولذلك فهي ترفض أية سلطة خارج النص، وتخون أية تجربة خارج التجربة الذاتية المحض، فلكل وقائع مختلفة أشكال مختلفة، وكل رواية جديدة تسعى إلى أن تؤسس قوانين اشتغالها في الوقت الذي تنتج فيها هدمها”[13]، ولهذا الحرية شبه مطلقة للروائي المعاصر في بحثه، ومكاشفته للواقع، وهذا ما أكدهألان روب جرييه” الذي يُعد أحد روّاد الرّواية الجديدة في فرنسا، حيث يقول :” والحقيقة أنّ قوة الروائي تكمن في أنّه يخترع، وأنه يخترع بحرية دون تقيد بنموذج أو مثل، وذلك ما يميز الرّواية الجديدة “[14].
لذلك يمكننا أن نعرّف ”الرّواية المعاصرة” أو ما يصطلح عليها ” بالرواية الجديدة”، هي تلك الرّواية التي تتمرّد على أشكال الكتابة الكلاسيكية التقليدية، هي تلك الرّواية التي تعقد الكثير من التساؤلات التي من شأنها أن تخلق لنا عوالم كتابية جديدة، فيها نوع من أنواع التطور، ومواكبة الحياة المعاصرة،لذلك يمكننا أن نقول أن هذا التمرّد أو التجريب الروائي نلمحه في نمطين:
- النمط الأول: هو نمطفني يختص بعملية الكتابة نفسها.
- والنمط الثاني: هو نمط اجتماعي معيشي ناتج من الحياة المعاصرة، التي نحياها بكافة مفرداتها وتفاصيلها سعى من خلالها الروائي أن يقوم بتسجيل مشاهد هذه الحياة، هذه المشاهد المليئة بالطموحات والانتصارات والتعثر، والقلق والاغتراب، ومليئة بالتفتت والتشظي.
ثالثا: واقع التجريب في الرواية الجزائرية
بعد انقشاع ظلام المستعمر الحالك واسترجاع الشعب الجزائري لسيادته الوطنية، والعيش في هدوء وتأمل واستقرار على جميع المستويات، أشرق فجر الرواية العربية، إذ تعد مرحلة السبعينات الولادة الشرعية للرواية العربية في الجزائر، وذلك للإنتاج المكثف الذي عرفته مع التحولات والتعقيدات التي شهدها الواقع الاجتماعي لجزائر الاستقلال[15]، فكان هذا العهد عهد الرجوع إلى النفس وإلى الماضي الثوري القريب بدراسته، ويستخلصون منه الدروس والعبر، وهو ما يسمح لأدباءنا بمواصلة الكتابة في القصة، وبتجريب كتابة الرواية في نجاح.[16]
إذ يمكن أن نطلق على فترة السبعينات عقد الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة العربية، فقد شهدت هذه الحقبة وحدها ما لم تشهده في الفترات السابقة من تاريخ الجزائر من انجازات سواء اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية[17]، وهذا ما يؤكده عبد الملك مرتاض على أن ” الرواية العربية بعد الاستقلال كانت بمثابة الوليد الشرعي الذي أنبتته التحولات بكل تناقضاتها”[18].
ومن الأعمال التي رسّخت للفن الروائي، ونهضت به في فترة السبعينات ومازالت رائدة ” نار ونور، دماء ودموع الخنازير”، لعبد الملك مرتاض، ” واللاز”، ”الحواتوالقصر”، ”عرس بغل”، ”العشق والموت في زمن الحراشي” للطاهر وطار، و”طيور الظهيرة” لمرزاق بقطاش، و ” ريح الجنوب”، و”نهاية الأمس”، وبان الصبح” لعبد الحميد هدوقة[19].
وهذه الروايات كانت فاتحة لبروز جيل بأكمله من الروائيين الجزائريين الذين يكتبون بلغة عربية تجاوزت الأشكال والأطر التعبيرية التقليدية التي أرستها الرواية الواقعية لفترة طويلة، وهذا راجع للحرية التي اكتسبها الروائي الجزائري بفعل الواقع السياسي الجديد.
وإذا عدنا إلى الروايات التي ذكرت في فترة السبعينيات،فأغلبها يعالج موضوع الثورة المسلحة، والآثار النفسية والاجتماعية التي خلفتها في أعماق الشعب الجزائري.
ويرى الكاتب الناقد التونسي بوشوشة بن جمعة على أن فترة السبعينات ظهرت فيها بعض الروايات تندرج ضمن الواقعية الساذجة كما سماها بقوله “أن هذه النصوص الروائية التي ظهرت في هذه المرحلة، لم تضف شيئا جديدا للكتابة الروائية الجزائرية ذات التعبير العربي، سواء على صعيد أسئلة المتن الحكائي، والأشكال الفنية أو المواقف الفكرية من قضايا الواقع الجزائري في السبعينيات، والناجمة عن التجربة الاشتراكية وشتى مظاهرها وانعكاساتها، وهي النصوص التي تراوحت بين الموضوع العاطفي، وموضوع ثورة التحرير الجزائرية في صياغة تلونها المباشر، ورؤية للواقع لا تخلوا من سطحية وتصور للرواية تسمه الضبابي والالتماس، ونمثل لها بروايات (مالا تذروه الرياح1972لعبد العالي عرعار، ونار ونور1975لعبد الملك مرتاض، وحب أشواق1978 للشريف شناتلية، وغيرها)”[20].
أما في فترة الثمانينات، فقد ازدهرت التجربة الروائية، وشهدت الكثير من التحولات، فاتخذت الرواية اتجاهات جديدة مثله جيل من الكتاب نذكر منهم: ” رواية واسيني الأعرج التي كتبها سنة1981، وقع الأحذية الخشنة، أوجاع رجل عامر صوب البحر1983، وغيرها، كما ظهرت رواية ” زمن النمرود” للحبيب السائح سنة 1985″[21] .
ومع كل هذه الأعمال الروائية التي ترمي إلى احداث التجديد والخروج عن المألوف السردي، شهد عقد الثمانينات ظهور عدد مهم من الروايات ذات القيمة المحدودة فكريا وجماليا، بسبب عدم امتلاك أصحابها عناصر الوعي والادراك الضرورية لفهم طبيعة وتحولات المجتمع الجزائري، إدراك خلفيات مال يعيشه من صراعات وتناقضات من الاستقلال إضافة إلى عدم توفرهم على شروط الوعي النظري لممارسة الروائية، ولهذا جاءت نصوصهم الروائية باهتة على صعيد الكتابة، وساذجة في التعبير عن موقف من واقع الجزائر في السبعينات والثمانينات، وما يميزه من تهافت الأشكال الممارسة السياسية للسلطة الحاكمة[22].
وفي فترة التسعينات سيطرت الأزمة التي شهدتها الجزائر عقب أحداث أكتوبر 1988 على جميع المجالات، فكانت فترة التسعينات ” فترة العشرية السوداء”،سبب تفشي ظاهرة الإرهاب من خلال انتشار ظاهرة العنف والتطرف، وأمام هذا الوضع المتأزم ظهر أدب التسعينات أو ما يعرف بالأدب الاستعجالي ، أو أدب الأزمة فغالب الرواية الجزائرية في هذه الفترة مختلف التحولات الطارئة على المجتمع، نمثل للنصوص الروائية في فترة التسعينات ومطلع الألفية الجديدة بروايات “واسيني الأعرج” فاجعة الليلة السابعة بعد الألف ورمل الماية1990، وسيدة المقام 1991، وذاكرة الماء 1997، وشرفات بحر الشمال…، ورواية الطاهر وطار، فوضى الحواس 1996، والولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي 1999، وغيرها من الروايات…”[23].
ففي العشرية السوداء قد شهدت الجزائر أعنف سنواتها بعد الاستقلال، وهذا لانتشار ظاهرة الإرهاب، ومن إيجابيات هذه الأزمة أنها جعلت الروائيين يقرؤون التاريخ بطريقة مغايرة علّهم يتجاوزون تلك البنية التي تكرس التسلط، ونفي الذات والهوية مقابل مصالح سياسية واقتصادية يتخفى أصحابها وراء الشعارات، الأمر الذي جعل الروائيون يتساءلون عن دور المثقف في الفعل التاريخي، ومن هنا جاء السعي إلى النموذج الأمثل في الكتابة، ويتفقون في تجاوز العالم (الثورة، الواقع، الإرهاب)، إلى تشخيص اللغة تشخيصا رمزيا، سعوا خلاله أن يتجاوزوا القواعد التقليدية والكتابة النمطية، وهي أساليب في التجريب تؤكد ثراء الرؤى لتؤسس الرواية[24].
وبالتالي فإن بظهور هذه الروايات التي تم ذكرها سابقا ” أصبح ينظر إلى الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية نظرة اعتزاز واعجاب وتقدير، فلم يعد الحديث عنها ينطلق من موقف الشفقة أو الدعم التعاطفي باعتبارها تجربة هشة تحتاج إلى مؤازرة، إذ بل غطت بهيمنتها على باقي الأجناس الأدبية، وانتزعت الصدارة في مجال البحوث النقدية، فبدأ النقاد العرب ينظرون إلى الرواية الجزائرية العربية بجدية بعد ما كانت الرواية الناطقة بالفرنسية هي المسيطرة لفترة طويلة”[25].
رابعا: النزوع التجريبي في الرواية الجزائرية المعاصرة
تطورت الرواية الجزائرية من حيث مراميها وتقنياتها، فكان لكل ناقد تصوره الخاص حول مظاهر التجريب، فمنهم من ربطها بالإبداعية والمغامرة، ومنهم من ربطها بالتجديد والابتكار من خلال استثمار التراث أو التاريخ، وهناك من ربطها بمواضيع الدين والجنس.
- توظيف التراث:
اعتمدت الرواية التجريبية في الأدب الجزائري على توظيف عنصر التراث، حيث اتجه الروائيون إلى تأصيل أعمالهم الروائية عن طريق تجاوز كل ما هو تقليدي، وتجريب أشكال جديدة تنهل من التراث، وتعيد توظيفه توظيفا مغايرا جديدا يختلف عما كان سائدا في مرحلة النشأة والتأسيس، وإيمانهم بضرورة الانفتاح على التراث، ليس من أجل الانغلاق على الذات وتقديس الأجداد وتمجيد الماضي، والحنين الرومانسي إلى إعادته لمساءلة الذات من خلال مساءلة الماضي، والوقوف على الخصائص المميزة والهوية الخاصة[26].
بمعنى أنه تم توظيف التراث ليس من أجل تقليده، وإنما اتخذ كوسيلة لنقد الحاضر من خلال الماضي وفهم أبعاده.
ويبدوا لنا هذا واضحا من خلال أعمال الروائيين الجزائريين، أمثال ” الطاهر وطار، واسيني الأعرج، ابن هدوقة، رشيد بوجدرة”، من خلال العودة إلى التراث، والذي يمثل ” المورث الثقافي والاجتماعي والمادي المكتوب والشفوي والشعبي، اللغوي وغير اللغوي، الذي وصل إلينا من الماضي البعيد والقريب”[27].
- التراث الديني:
القرآن الكريم مصدر التراث الديني وينبوع الفكر الإسلامي، وقد كان ومازال معينا ثريا للفصاحة والبلاغة والبيان، وموردا عذبا يسترفده الشعراء والرواة في كل مكان وزمان، ويستفيدون منه لإغناء إبداعاتهم وإضفاء الجمال الفني عليها، ولم يكن القرآن الكريم مقصورا على زمن دون زمن ، أو مكان دون مكان، بل إنه دستور الله الخالق للبشرية جمعاء، وهو صانع التراث ومصدره الأكبر[28].
وقد استفاد الروائي الجزائري من التراث الديني باعتباره وسيلة مهمة من وسائل التوعية، فنجد مثلا: ابن هدوقة يوظف التراث الديني ” لتحقيق دورة النضالي إذ استطاعت الطبيعة أن تخلق بواسطته حيزا يوصلها إلى قلب الجماهير ،كمقدمة لتحريكها، وبالتالي الدين شأنه شأن كل الإيديولوجيات المثالية يتلون بتلون الموقف[29].
وقد وظفه أيضا ” الطاهر وطار” كردة فعل على أحلام مستغانمي في روايتها “ذاكرة الجسد” في طرح قضية الدين ضمن السبق التاريخي، وعلاقته بمختلف شرائح وطبقات المجتمع[30].
- توظيف التراث الشعبي:
إن عودة الكتاب الجزائريين إلى المورث الشعبي هي السمة البارزة التي ميزت الأعمال الروائية الفنية الجزائرية، فالمورث جزء لا يتجزأ من كيان الأمة، ومقوم هام من مقومات الشخصية العربية.
فاستثمار المورث الشعبي في الأعمال الروائية أمر يكتسي أهمية بالغة كونه يخدم البناء الروائي على المستويين التقني والجمالي، ولا يمكن أن يكون هناك استغلال جيد لهذا التراث، إذا لم يكن الكاتب يمتلك يدا سحرية قادرة على تفجير، وتفعيل المادة التراثية، بالإضافة إلى الانتقاء، وعدم السقوط في الغلطات[31].
ويظهر هذا جليا في رواية ” نوار اللوز”، وهي الرواية الأولى “لواسيني الأعرج” حيث اتخذ من السيرة الهلالية نموذجا دالا عن كيفية التعامل مع التراث، وسبل توظيفه في النص الروائي توظيفا يتخطى المحاكاة إلى الإضافة في مسعى إلى البحث توقا إلى المغايرة الشكلية للسائد من أنماط الكتابة الروائية التقليدية[32].
ج- توظيف التاريخ:
جاء الكثير من الروائيين الجزائريين إلى استثمار التاريخ القديم ممثلا في التاريخ العربي الإسلامي، وقد تمثل ذلك في رواية ” عرس بغل، للطاهر وطار”، حيث قام بتوظيف التراث العربي الإسلامي وإعلامه في تشكيل شخصية الحاج كيان، وتكثيف أبعادها الجمالية والدلالية، وهي شخصية زيتونية تمثل تراثا أدبيا وسياسيا وثوريا وفلسفيا وصوفيا، عبر استثمار الكاتب لشخصيات المتنبي، وسيف الدولة وأخته خولة، وحمدان قرمط وزكرويه بن مهرويه، وعبدان،والحلاج،والغزالي، وغيرهم[33].
ولم تتوقف مغامرة التجريب الروائي عند حدود استثمار التاريخ القديم، بل امتدت أيضا إلى استثمار التاريخ القريب وتبنيه والانتساب إليه قصد رصده، وتوظيفه إبداعيا بإحياء أحداثه، وإحداثه جماليا غدا مغريا لا ينصب الإبداع الجزائري في جنس الرواية، ناهيك أنه طيلة ما يناهز العقود الثلاثة من الكتابة الروائية عن الثورة الجزائرية، لا تزل هذه الأخيرة تغري الكتاب بالكتابة عنها، وكأنها قضية بكر[34].
- خرق المحظور:
قام بعض الروائيين الجزائريين إثر دخولهم مغامرة التجريب خرق المحظورات الأخلاقية والدينية والسياسية، حيث تعرضوا إليها في كتاباتهم بلغة تقريرية مباشرة غير تلميحية، ولكن قد تُوصِله هذه الحرية إلى تجاوز الحدود، والخطوط الحمراء التي تتعارض مع التقاليد والأعراف الاجتماعية والدينية، بغرض تقديم إبداع جديد.
ومن الأمثلة على ذلك نجد ” رشيد بو جدرة” الذي اخترق المحظور الديني في رواية التفكك. وكذلك نجد من المحظورات التي اخترقها بعض الكتاب الجزائريين “الجنس” فهو محظور في الرواية العربية،وذلك لتداخله مع أحوال المجتمعات العربية، فقد استأثر الجنس اهتمام الروائيين الجزائريين مما جعلهم يوظفونه في العديد من كتاباتهم، ذلك من أجل الخروج من المألوف والسائد، وكذلك نجد هذا الملمح التجريبي في روايات ” رشيد بو جدرة، فقد تحدث عن الجنس في رواية ” الإنكار” فتحدث كذلك عن العلاقات الجنسية، ويؤكد جرأته هذه بقوله في أحد لقاءاته الصحفية: “أنا أكثر جرأة، ومن حذا حذوي على غرار أحلام مستغانمي التي لم نجد لها أي جنس في ثلاثيتها،عدا ما تدل عليه العناوين “[35].
- اللغة:
اللغة هي الدليل المحسوس على أن ثمة عمل أدبي يمكن قراءته، وخاصة الرواية هي المتربعة على عرش الأدب جميعا[36]، فهي الأداة الأساسية في العمل الأدبي، تمثل الوسيط بين المبدع المتلقي،يتبعها الروائي أثناء كتابة روايته وصياغة الأحداث، بحيث تعد هذه الأخيرة ملمحا تجريبيا، وذلك من خلال التخلي عن اللغة التلميحية، واتخاذ اللغة المباشرة والتقديرية في كتاباتهم، ونجد العديد من اللغات ووظيفتها في النصوص الروائية، وهذا ما أطلق عليه التعدد اللغوي[37]، ومن الكتاب الذين وظفوا هذه الخاصية في كتاباتهم الروائية ” واسيني الأعرج”.
خاتمة
بناءً على ما سبق، فإنه يمكننا القول بأن الرواية الجزائرية المعاصرة قد حققت لنفسها بنية حداثية قد استمدتها من نزعتها التجريبية، التي تسعى باستمرار إلى البحث عن أشكال وتقنيات فنية جديدة في الكتابة، وكسر قالب النموذج السائد، بغية تحقيق عملية الخلق والإبداع.
ولذلكنقترح تخصيص دورات تكوينية لفائدة الطلاب والباحثين والمهتمين بمجال الرواية…
الهوامش:
[1] ابن منظور، لسان العرب، مادة (جرّب)، ج1، دار صادر، ط1، بيروت، لبنان، 1410هـ، 1990م، ص 261.
[2] الفيروز أبادي، القاموس المحيط، مادة (جرّب)، إعداد وتقديم عبد الرحمان المرعشلي، دار إحياء التراث العربي، مؤسسة التاريخ العربي، ط1، بيروت، لبنان، 1997، ص 139.
[3]المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية (باب الجيم)، ط1، مصر، 1972م، ص 114.
[4]Le petit Larousse illustré.Edition anniversaire de la semeuse , 2010, p399.
[5]Oxford Advanced learner‘sdictionary of English, hornby ,server Edition, oxford université presse, 226,p 513.
[6] محمد عروس، التجريب في الشعر لجزائري المعاصر، دار الألمعية للنشر والتوزيع، ط1، قسنطينة، الجزائر، 2012، ص 22.
[7] زهيرة بولفوس، التجريب في الخطاب الشعري الجزائري المعاصر، بحث مقدّم لنيل شهادة الدكتوراه، العلوم في الأدب العربي الحديث، جامعة منتوري، قسنطينة، 2009-2010، ص 7
[8] مدحت أبو بكر، التجريب المسرحي، آراء نظرية وعروض تطبيقية، وزارة الثقافة، القاهرة، 1993، ص 166.
[9]صلاح فضل، لذّة التجريب الروائي، أطلس للنشر والإنتاج الإعلامي، ط1، القاهرة، 2005، ص 03.
[10] بوشوشة بن جمعة، سردية التجريب وحداثة السردية في الرواية العربية الجزائرية، المطبعة المغاربية للطبع والنشر، ط1، 2005، ص 07.
[11] الطاهر الهمامي، التجربة والتجريب في النشر التونسي الحديث (أفكار ورؤوس أفكار)، مجلة الموقف الأدبي، اتحاد الكتاب العربي، العدد 411 تموز 2005،نقلا عن موقع الاتحاد على الرابط،http://www.awu.dam.org.
[12] بهلول خديجة، شيخي شفيقة، أساليب التجريب في الرواية الجزائرية المعاصرة، بحث مقدّم لنيل شهادة الليسانس، جامعة سعيدة، 2017-2018، ص 19.
[13]محمدالباردي، إنشائية الخطاب في الرواية العربية الحديثة، مركز النشر الجامعي، تونس، 2004، ص 291.
[14] ألان روب جرييه، نحو رواية جديدة، ترجمة مصطفى إبراهيم مصطفى، دار المعارف، دط، مصر، دت، ص 39.
[15] ينظر: واسيني الأعرج، الطاهر وطار، تجربة الكتابة الواقعية، الرواية أنموذجا، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1989، ص 31.
[16] محمد مصايف، الرواية العربية الجزائرية الحديثة بين الواقعية والإلتزام، الدار العربية للكتاب، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1983، ص 08.
[17]واسيني الأعرج، اتجاهات الرواية العربية في الجزائر، ( بحث في الأصول التاريخية والجمالية للرواية الجزائرية)، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1986، ص 111.
[18] واسيني الأعرج، اتجاهات الرواية العربية في الجزائر، ص 103.
[19]نفسه، ص 111.
[20] بوشوشة بن جمعة،سردية التجريب وحداثة السردية في الرواية العربية الجزائرية، ص 09.
[21] بوشوشة بن جمعة، اتجاهات الرواية في المغرب العربي، المغاربية للطباعة والنشر، تونس، 1999، ص 09.
[22] بوشوشة بن جمعة، سردية التجريب وحداثة السردية، ص 11.
[23]سردية التجريب وحداثة السردية في الرواية الجزائرية، ص 12.
[24] آمنة بلعلى، المتخيل في الرواية الجزائرية من المتماثل إلى المختلف، دار الأمل للطباعة والنشر والتوزيع، ص 208.
[25] ينظر: إدريس بوذبية، الرؤية في روايات الطاهر وطار، الطباعة الشعبية للجيش، الجزائر، 2007، ص42.
[26] محمد رياض وتار، توظيف التراث في الرواية العربية المعاصرة، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2002، ص 10.
[27]نفسه، ص 21.
[28]انظر: الياسين إبراهيم منصور، استيحاء التراث في الشعر الأندلسي، عالم الكتب الحديثة، ط1، الأردن، 2006، ص 17.
[29] جعفر ياوش، الأدب الجزائري الجديد: التجربة والمال، المركز الوطني للبحث في الأنثروبولوجياالاجتماعية والثقافية، ط6، الجزائر، 2006، ص 65.
[30]نفسه،الصفحة نفسها.
[31]سعيد شوقي، محمد سليمان، توظيف التراث في روايات نجيب محفوظ، إيتراك للنشر والتوزيع، ط1، 2000، ص 340- 341.
[32]بوشوشة بن جمعة، التجريب وارتحالات السرد الروائي المغاربي، المغربية للطباعة والنشر، ط1، تونس، 2003، ص 85.
[33]نفسه، ص 117.
[34]بوشوشة بن جمعة، سردية التجريب وحداثة السردية العربية الجزائرية، ص 120.
[35] آسيا شلابي، حوار مع رشيد بوجدرة، مونتاج علي الشبكة الإلكترونية، 28/10/2009،www.echorouk.online.com
[36] الصادق قسومة، نشأة الرواية بالمشرق، دار الجنوب للنشر، ط1، تونس، 2006، ص 09.
[37]محمد نجيب التلاوي، وجهة النظر في روايات الأصوات العربية ، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق سوريا،2000 ص62.
*جامعة حسيبة بن بوعلي الشلف، كلية الآداب والفنون، قسم اللغة العربية
البريد الإلكتروني: purity_eva@outlook.fr
Leave a Reply