توطئة:
برواية (قنديل أم هاشم) حسم يحيى حقي العديد من الاجتهادات التي أثيرت حول صراع الشرق والغرب والعلم والإيمان، وكل ما يمكن أن يدخل في عنصر “المثاقفة” الذي يتشكل من خلال تمازج حضارتين سواء عن طريق الترجمة كما حدث سابقا بين حضارتي العرب والفرس، أو عبر البعثات الثقافية والدبلوماسية، أو عن طريق أشخاص هاجروا مشبعين بثقافاتهم وموروثهم الفكري الأصيل إلى بلدان أخرى ليجدوا أنفسهم أمام ثقافة وإرث فكري وحضاري مخالف، ترك لدى عدد منهم آثارا متباينة تتفاوت بين الإعجاب والانبهار والاصطدام، حاولوا صبها في إبداعات أدبية وفنية انطلاقا من تجاربهم الشخصية، ارتفقت في المقام الأول متن الرواية ثم القصة القصيرة فالشعر. وهكذا ظهرت روايات (عصفور الشرق) لتوفيق الحكيم – الجزء الثاني من (الأيام) لطه حسين، (بحث في هذا البلد) لإدريس الشرايبي، (ليلة القدر) للطاهر بن جلون، (قنديل أم هاشم) ليحيى حقي، (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح، كما طال هذا العنصر الفن التشكيلي والسينمائي، لاسيما ما يخص منهما منطقة البحر الأبيض المتوسط – شمال افريقيا تحديدا – وظهر ذلك بالأساس فيما سمي بظاهرة “سينما الهجرة”. بينما في الشرق لا يكاد يعرف الفن السابع هذا الاتجاه إلا في بعض تجارب يوسف شاهين في أفلامه: (وداعا بونابرت) بالدرجة الأولى، ثم في ثلاثيته الشهيرة التي تمتح من سريته الذاتية: (العصفور ) – (إسكندرية ليه ) و(إسكندرية كمان وكمان).
لكن على المستوى الأدبي والروائي تبقى النماذج الشرقية: مصر / لبنان .. الأكثر تجسيدا لعنصر المثاقفة وأشدها احتواء له لاسيما في تجارب كل من: توفيق الحكيم، يحيى حقي وسهيل إدريس. لذا سوف نحاول في هذه المقاربة معاينة هذا العنصر في (قنديل أم هاشم) في المقام الأول، مع التدليل والمقارنة بينها وبين كل من (عصفور الشرق) و (الحي اللاتيني) متى كان ذلك مجديا في تسليط أكبر كمية من الضوء على هذا العنصر.
1 – “بيفتيك أوربا بطعمية مصر”
تختزل أحداث (قنديل أم هاشم) ومعانيها فكرة الانتماء والصراع الحضاري بين الشرق والغرب، وصراعنا نحن عندما نفكر في إمكانية قبول أو رفض حضارة الغرب التي ما تزال محل نقاش لحد الآن. عن هذا قال يحيى حقي:
“إننا إذا عدنا إلى الخلف سنجدها في كتابات عبد الله النديم الذي يتحدث في أحد النصوص عن شاب مصري يسافر إلى أوروبا لينقلب كل شيء في حياته، هذا ما حدث في (قنديل أم هاشم) فعندما عينت في السلك الدبلوماسي وجدت فرقا شاسعا بين هنا وهناك، فكتبت أصور شابا مصريا يتغير ويتبدل وتعيد الغربة تشكيله ليعود إلى وطنه وقد فقد هويته، فيحاول أن يشق طريقه وهو غريب عن مصر، لم يعد مرة أخرى إلى الانتماء فيفتح الله عليه” *(1)
وهكذا أضحت (قنديل أم هاشم) واحدة من أهم الأعمال الأدبية العربية التي يتمظهر فيها عنصر المثاقفة والسجال الجاري بين الشرق والغرب، بل هي الأشد شهرة بين باقي مؤلفات يحيى التي عرف بها إلى درجة يكاد يستحيل أن يذكر هو ولا تذكر هي، والعكس صحيح باعتراف منه:
“إن اسمي لا يكاد يذكر إلا وتذكر معه (قنديل أم هاشم) كأني لم أكتب غيرها، وكنت أحيانا أضيق بذلك ولكن كثيرين حدثوني عنها واعترفوا بعمق تأثيرها في أنفسهم، منهم أديب يمني قال لي: لقد أحسست أنك تصفني حين أعود من القاهرة إلى اليمن، وقال لي بائع كتب قديمة: مش القصة اللي واد بياكل بيفتيك في أوروبا وأهله بياكله طعمية في مصر؟ ” *(2)
من هذه العبارة البسيطة التي فاه بها بائع كتب شعبي، يتبين المسار الثنائي التقابلي للقصة أحداثا وفكرا، فهي تجمع بين بين: بين حضارة / حيوية / بيفتيك أوروبا، وبين حضارة / خمول/وطعمية مصر… ولنقل بصفة شمولية: بين ثقافة أوروبا / الغرب.. وبين ثقافة مصر / الشرق
اسماعيل، شاب مصري من مواليد حي السيدة زينب بالقاهرة، عاش تحت مشربيات هذه الحارة على نغمات وهتاف الباعة المتجولين الذين يسرحون طوال النهار بعربات الفجل والفول واللوبية، علقت عيناه بنور قنديل الزيت المعلق بمدخل أم هاشم تطوح به الريح لتتراقص ظلاله على الجدران يتخيلها أشباحا أو ملائكة حسب المزاج، وكان الناس يتخذون من زيت هذا القنديل الحارق بلسما للعيون ومنهم قريبة له تدعى “فاطمة” مصابة برمد لا تكف والدته عن صب قطرات من هذا الدواء (الناجع) بعينيها كل ليلة، فكان إسماعيل الطالب الأزهري ماضيا في سبيل تعلمه لا يأبه لهذه المشاهد اليومية التي تتكرر دون ملل أو تبرم منه ولا من أصحابها، فالكل قانع بالجوع، منسجم مع الجهل، متآخ والمرض، لذا كانت “الجموع تلف اسماعيل فيلتف معها كقطرة المطر يلقمها المحيط، صور متحركة متشابهة اعتادها، فلا تجد في روحه أقل مجاوبة لا يتطلع ولا يمل، لا يعرف الرضى ولا الغضب إنه ليس منفصلا عن الجميع حتى تتبينه عينه” *(3)
2 – العنصر المكاني
حين حصل إسماعيل على البكالوريا سافر إلى أوروبا لمتابعة دراسته العليا مثلما سيسافر كل من محسن بطل (عصفور من الشرق) لتوفيق الحكيم، إلى باريس … وكذلك بطل (الحي اللاتيني) لسهيل ادريس رغم انه لم يسم بطله باسم محدد وظل يتكلم عنه بضمير الغائب، مع ملاحظة أن يحيى حقي لم يحدد بداية قصته البلد الذي حج إليه إسماعيل مكتفيا فقط بلفظ “أوروبا” وهو برأيي أكثر شمولا وأشد احتواء لعنصر المثاقفة، لأن أية مدينة أوروبية تحط رحالها بها ستلفي هذا الفرق الشاسع بين ثقافت “نا” وثقافات “هم”.. بين “الأنا” و “الهو” .. بين “هنا” و “هناك”
أول إحساس سيغزوك وأنت تخطر بشوارعها هو الشعور المتدفق “بالحرية” نعم إن الحرية هناك تستدرجك بل تداهمك على حين غفلة، فتجد نفسك مرغما على تقدير الوقت و “برمجة” نفسك وحياتك بالثانية والدقيقة، بخلاف الأمر هنا، في المحيط العربي شرقا ومغربا، فحين عين يحيى حقي سفيرا لمصر في باريس كتب في سيرته الذاتية: “كان أهم ما شعرت به في باريس وأعظم ما عشته فيها، هو ذلك الإحساس الغامر بطعم “الحرية” لم أكن ذقتها بهذا الشكل لا في القاهرة ولا في جدة ولا في تركيا، في باريس كل إنسان حر، والحكومة هناك لا تشعر بها إلا في شخص المرور فقط” *(4)
فعندما تغازلك الحرية أنت الشرقي والعربي المحافظ المتحفظ الذي يعيش في بلده تحت سقيفة الحكومة الساهرة عليه وعلى راحته، لتلقمك السياسة عبر مختلف منابرها الإعلامية والبشرية بدءا من وجبة الإفطار إلى حين أوبتك إلى قاعدة نومك سالما، حين تأتيك الحرية عارضة عليك نفسها وأنت من كنت تجري وراءها من غير طائل، لابد أن تشعر في عمقك بفيض من السعادة يغرقك للحد الذي لا تعرف كيف تتصرف معه، مما ينغص عليك طبعا الاستمتاع بهذا الشعور لأنك في قرارة نفسك مترع بنقيضه، فلابد أن يحدث عن هذا صدام وانفصام بين الأنا العربي والهو الغربي
فهذا سهيل ادريس يصف سعادته في أول ليلة يصل إلى باريس قائلا:
“ولكن شعور السعادة كان أقوى من أن تثبت له هذه الأحاسيس الغامضة الحزينة” *(5)
وككل مهاجر، لم يكن بإمكان أي واحد من هؤلاء المهاجرين المثقفين أن ينظروا إلى المكان الجديد نظرة محايدة دون مقارنة بما تعودوا على رؤيته هنا، فها هو سهيل نفسه يندهش للشكل الذي وجد عليه الحي اللاتيني حيث ألفاه مختلفا كل الاختلاف عما كان يتخيله بالمقارنة مع ما هو منطبع في ذاكرته والذي يكتسب مرجعتيه من ماضيه وأصله الشرقي
“حين يذكر أمامه اسم الحي اللاتيني كانت تقفز إلى مخيلته صور من أحياء بيروت القديمة تقوم فيها بيوت متواضعة أغلب الظن أنها من الخشب مادام ساكنوها طلابا فقراء قدموا للعاصمة الفرنسية من مختلف أنحاء الدنيا طلبا للعلم والمعرفة، أما الآن فليس هو شعور الاطمئنان الذي يغمره إذ تمر بمخيلته هذه الصور التي اخترعها خياله، شوارع فسيحة ليس في بلاده ولا في الشرق كله مثلها جمالا ونظافة وانتظاما، وأبنية فخمة مرتفعة كأحدث الأبنية الكبرى أن تكون هذه بلاد اسطورية العظمة حتى يستحق طلاب العلم فيها حيا كالحي اللاتيني” *(6)
نفس الشيء سيحصل مع محسن (عصفور من الشرق) وهو يصف دار الأوبرا حين ولجها لأول مرة:
“ودخل محسن دار الأوبرا فما تمالك أن وقف مشدوها أية عظمة وأي ثراء يشعران بالدوار؟ وأي دوار؟ عندئذ أدرك من فوره معنى مجسما لكلمة “الحضارة الغربية” التي بسطت جناحيها على العالم” *(7)
ثم ها هو إسماعيل صاحب (قنديل أم هامش) حين عودته إلى مصر، سوف يقابل بين خضرة الريف الاسكتلندي الفسيح التي تبهج النفس وتثري المخيلة وبين شحوب الريف المصري الأجرد الذي يكتم على الصدر “وأطل من نافذة القطار فرأى أمامه ريفا يجري كأنما اكتسحته عاصفة من الرمل، فهو مهدم معفر متخرب” *(8)
محسن / اسماعيل / سهيل، كلهم ذلك الرجل الذي يعيش في سجال دائم بين ما هو قائم “هناك” وبين ما تركوه “هنا” رغم أن سهيل لم يسم بطله فهو يعني نفسه، وكذلك الشأن بالنسبة للحكيم وحقي لأن القصص الثلاثة أجمع معظم النقاد على أنها أجزاء من سير ذاتية لمؤلفيها حتى وإن لم يثبت يحيى حقي ذلك في قصته موضوع الدراسة لكن المطلع على حياته الشخصية ومواقفه لن يشك في أن اسماعيل بطل الرواية هو يحيى حقي ذاته، في هذا كتب الدكتور عادل حسن فهمي:
“إذا كان يحيى حقي يصرح لبعض مقربيه بأن إسماعيل بطل الرواية هو في الواقع صديق له تعرف عليه في تركيا إبان عمله في الخارجية، فإن الرواية بتكوينها الأدبي واللغوي والفكري وما جاء فيها من تحليل وصفي للزمن والمكان، وأشخاص الرواية والمقابلة بين الشرق والغرب، وتصوير الصراع الذي تدفق إلى أعماق بطله والوصول به على الذروة، هي قمة السيرة الذاتية ليحيى حقي نفسه” *(9)
3 – العنصر البشري
بعد المكان، يأتي العنصر البشري ليساهم هو الآخر في تحديد معالم المثاقفة وتجذيرها، ويبدأ بالعنصر الأنثوي حيث سيتعرف أبطال القصص الثلاثة على فتيات يقيمون معهن علاقات غرامية تتفاوت درجاتها، لكنها جميعا تترك أثارا بليغة لا تخلو هي الأخرى من عامل تقابل ليتأرجح رد الفعل بين المتعة والمعاناة، بين الوعي والردة، بين الإقدام والإحجام، مع اشتراكهم كلهم في ارتفاع نسبة الانبهار
فمحسن أحب عاملة شباك تذاكر بأحد المسارح “سوزي” وسهيل ارتبط “بجانين مونترو” إحدى الفتيات الوجوديات بالحي اللاتيني، أما إسماعيل فأسره عشق زميلته في الدراسة “ماري” وانطلاقا من احضان هؤلاء الفتيات وأفكارهن لمس أبطالنا الفروق الهائلة بين هذه وتلك، وأفاقوا كلهم على مادية الغرب وآنيته وواقعيته، مقابل مثالية الشرق، وما ضويته وأحلامه، ودفعة واحدة هجروا الحرمان ليحققوا درجة عالية من الشبع لحد التخمة، وهذا بدوره رفع من حدة الشعور بالانفصام بين الوضعين، بين “الأنا” و “الهو” حسب التفسير السابق:
أ – محسن صعق حين لامست وجنته وجنتي سوزي وهي تقبله لأول مرة إذ ارتج عليه الموقف ولم يعد يعي ماذا يصنع:
“آه لأولئك الخياليين حين يعطون فجأة الحقيقة، نعم فجأة أي قبل أن يترك لهم زمن يغبون فيه على تلك الحقيقة أردية الخيال الموشاة، إنهم يتلقون جسما غريبا ومادة عارية لا يعرفون ماذا يراد بها، إنما الحقيقة عملة لا تجوز في مملكة الأحلام، ولم ينم محسن تلك الليلة فقد كان وقع ما حدث ذا دوي في نفسه” *(10)
ب – سهيل بدوره، حين ضاجع جانين لأول مرة، حدث له نفس الأثر تقريبا فلم يستسغه بسهولة: “وهو إن كان يستعصي عليه النوم الآن فذلك من فرط الرضى والطمأنينة لا من شدة القلق والشك، كما كان في سابق الليالي” *(11). ويضيف سهيل موضحا تأثير المرأة الأوروبية، في حياة بطله والشباب العربي ككل:
“ألا تعتقد أن كثيرا من شبابنا العربي محرمون من استقلال أسمى إمكانياتهم لأن حاجاتهم في الحب والجنس غير مكتفية؟ إن لي هموما كثيرة ليست المرأة إلا إحداها، ولست أنكر أنها تعينني كثيرا على مواجهة سائر هذه الهموم” *(12).
ج – ولا يقل إسماعيل إعجابا وتأثرا بصاحبته من زميليه، فبفضل / بسبب مواقفها معه وآرائها، استشف الكثير من الحقائق التي كانت تبدو له في ماضيه / شرقه مجرد أوهام أو أحلام بعيدة المنال: “لقد أخذ هذا الفتى الشرقي الأسمر بلبها فأثرته واحتضنته عندما وهبته نفسها، كانت هي التي فضت بكارته العذراء وأخرجته من الوهم والخمول إلى النشاط والوثوق، فتحت له آفاقا يجهلها من الجمال: في الفن في الموسيقى، في الطبيعة، بل في الروح الإنسانية أيضا” *(13).
“هي التي فضت بكارته العذراء” تعبير بليغ حمل أكثر من معنى ولا يوجد أدق منه وصفا لحالة هذا الشاب العربي المهاجر وبباقي النماذج من أمثاله، ومعروف عن يحيى حقي أنه عاشق لغة حيث يتريث طويلا قبل اختيار المصطلحات والتراكيب التي يحرص على أن تكون قصيرة وجد معبرة يؤدي كل لفظ فيها معنى خاصا لا يمكن استبداله بغيره وإلا تغير المعنى، هذا ما أسماه هو “بحتمية اللفظ” حيث كتب:
“ومفهوم الحتمية هذا هو أن تختار كل لفظ بدقة ليؤدي معنى معينا بحيث لا يمكنك أن تحذفه أو تضيف إليه لفظا آخر أو تكتب لفظا بدلا من آخر، ولذلك قد أكتب الجملة الواحدة ثلاثين أو أربعين مرة حتى أصل إلى اللفظ المناسب الذي يتطلبه المعنى” *(14).
ومن هنا أتت تلك العبارة أشد وقعا لأن الحضارة الغربية بالفعل هي التي تحولت إلى ذكر يفتض عذرية الشرق وأنثويته الحامل لنتكشف ثنائية الموقف لدى هذا القادم من وراء الغمام معتقدا نفسه أنه أتى فاتحا غازيا، فإذا به هو المغزو في نهاية المطاف، فيقبل على الحياة بمنظور جديد فهاهي ماري تقول لإسماعيل:
“الحياة يا عزيزي ليست برنامجا ثابتا بل مجادلة متجددة، يقول لها “تعالي نجلس” فتقول له: “قم نسير” يكلمها عن الزواج فتكلمه عن الحب.. يحدثها عن المستقبل فتحدثه عن حاضر اللحظة.. كان من قبل يبحث دائما خارج نفسه عن شيء يتمسك به ويستند عليه: دينه وعبادته، وتربيته وأصوله، هي منه مشجب يعلق عليه معطفه الثمين، أما هي، فكانت تقول له “إن من يلجأ” إلى مشجب يظل طول عمره أسيرا بجانبه يحرس معطفه، يجب أن يكون مشجبك في نفسك، إن أخشى ما تخشاه هي: القيود وأخشى ما يخشاه هو : الحرية” *(15).
4 – الشرق والغرب شقان متكاملان
مع توغل اسماعيل / محسن / سهيل في الحياة الأوروبية بتجلياتها وعناصرها البشرية، الاجتماعية، الثقافية، الفنية، والطبيعية، ينمو لدى كل واحد منهم ذلك الشعور المهول بالفرق بين ما كانوا فيه “هنا” وما أضحوا عليه “هناك” خصوصا بعدما أقاموا علاقات بشرية أخرى خارج دائرة المرأة، وإن ظلوا مرتبطين دائما بأصالتهم، مشدودين إلى معاقلهم سواء عن وعي أو بدونه، ويكفي أن أسوق للتدليل على مكانة هذا الارتباط، مثالا واحدا من سيرة يحيى حقي الذاتية – ما دمنا قد أقررنا أنها لا تبعد عن جوهر (قنديل أم هاشم) حيث كتب:
“ورغم ذلك فقد كنت أشعر دائما أن في داخلي شيئا صلبا لا يذوب بسهولة في تيار حضارة الغرب” *(16).
وطبعا يتألف هذا الشيء الصلب الذي لا يذوب، من عدة عوامل يندرج فيها الدين والعادات والثقافة والتاريخ، ويكفي أن توفيق الحكيم أهدى عصفوره الشرقي إلى “حاميته الطاهرة السيدة زينب” التي هي نفسها أم هاشم عند يحيى، وهذا ما يجسد قوة “العنصر الإسلامي” لديهم جميعا.
ففي إطار العلاقات الأخرى سيربط محسن واحدة منها مع عجوز روسي مهاجر بدوره هو “مسيو إيفانوفينش” حيث ستجري بينهما مناقشات ساخنة حول علاقة الشرق بالغرب وخصائص كل واحد منهما، وهذا هو لب قصة (عصفور من الشرق) وخطها الرئيسي، وكأني بتوفيق الحكيم انتهج أسلوب البناء التقليدي للقصيدة العربية الكلاسيكية حين لم يتخذ تلك العلاقة الغرامية بين محسن وسوزي إلا كمطية أو مدخل للوصول إلى الهدف المتوخى، هذا الهدف أو الجوهر الذي سيؤكده البروفيسور بيلي ويندر Bally Winder الأستاذ بجامعة بيرنستون بالولايات المتحدة الأمريكية وعميد جامعة نيويورك، في مقدمة الترجمة الإنجليزية لقصة (عصفور من الشرق) سنة 1962 حين كتب:
“الموضوع الأساسي لهذا الكتاب هو أوجه تشابه ومواطن الاختلاف بين ثقافة الغرب وثقافة الشرق الأدنى، وقد ابرز المؤلف هذه المقارنة على الخصوص من خلال تصوير التقاء محسن بالمجتمع الغربي في صوره الباريسية حوالي 1925… وفي نهاية الكتاب ينسلخ محسن لا من أفكار ذلك الروسي المسرفة في عداء الغرب فحسب، بل وينسلخ أيضا من تصوره الرومانسي الحالم لفضائل الشرق، وفي المناقشات الفلسفية التي جرت بين محسن وإيفان نلمح قبسا من آراء الشرق الأدنى ونظرته الثقافية الغربية عند تأمل مشكلات تصارع الثقافات على المستوى الاجتماعي” *(17).
ويحتد النقاش بين محسن وإيفان الذي يحمل حملة عشواء على حضرة الغرب واستبداديتها بينما يعتبر الشرق حضارة عائمة دون هوية تقلد الغرب دون فهم جوهري لحضارته إلى درجة نفي معها وجود شرق أصلا:
“اليوم لا يوجد شرق، إنما هي غابة أشجارها قردة تلبس زي الغرب على غير نظام ولا ترتيب ولا فهم ولا إدراك” *(18).
في حين يرى محسن أن أفكار الغرب لا تستحق أن تنبذ، بل ينبغي أن تضاف إلى أفكار الشرق، وكان يعتقد أن الحضارة الغربية إذا ما تجردت من كبريائها وغرورها ونزلت من عليائها صارت الأساس لما نسميه في المستقبل ب “الحضارة العالمية” وهكذا تأتي خلاصة المؤلف في عنصر المثاقفة أو تصارع الشرق والغرب في نهاية الكتاب حيث يلاحظ أن الحضارة العالمية سوف تتحقق قائلا:
“إن هذه الحضارة الإنسانية – دون التفكير في مكان محدد لها فوق كوكبنا – سوف تتسع لكل ما هو جميل ومفيد وعملي في الشرق والغرب، لأن الشرق والغرب إن هما إلا شقا تفاحة واحدة، أو وجها عملة واحدة، خلقا ليكونا كلا واحدا” *(19).
يقر محسن بهذا لكنه لا يظل في الغرب بل يعود إلى بلده / إلى النبع، كما سيعود كل من هاجر وانبهر بحضارة الغرب، لأن في قرارة كل واحد منهم شرق لا يذوب، والعودة إلى الأصل أصل، وسوف تصدر الدعوة لتحقيق هذه العودة المتوقعة من صديقه الروسي إيفان وهو يحتضر حين طلب إليه في ختام القصة قبل أن يلفظ نفسه الأخير:
“اذهب أنت يا صديقي إلى هناك، إلى النبع، واحمل ذكراي وحدها معك.. وداعا” *(20).
5- الحل الوسط
بدوره سيعيش يحيى حقي نفس التمزق الذي حكى عنه بعد عودته لموطنه مستعملا تقنية “الفلاش باك” لأنه لا يصور حياته في أوروبا في حينها، بل يروي لنا نتفا منها فيما بعد وتأثيره عليه خصوصا عندما يعاين (تخلف) بلده، هذا التأثير الذي كانت عبارات مواقف صديقته ماري إحدى أسبابه ومظاهره، ويمكن أن ترمز الفتيات الثلاث في الروايات المذكورة إلى “أوروبا” ذاتها شكلا ومضمونا، أوروبا الشقراء المتكبرة في (عصفور من الشرق) – أوروبا الوجودية المتحررة في (الحي اللاتيني) ثم أوروبا المنطلقة اللعوبة الآنية التي تعيش للحاضر أكثر مما تعيش على الماضي وذكر الأمجاد، وتعتمد على العقل والمنطق بدل التشبث بعواطف واهية يجرفها أقل تيار واقعي، ذلك هو حال ماري في (قنديل أم هاشم) التي تنتقد قائلة:
“إن هذه العواطف الشرقية مرذولة مكروهة، لأنها غير عملية ومتجة، وإذا جردت من النفع لم يبق إلا اتصافها بالضعف والهوان، إنما هذه العواطف قوتها في الكتمان لا في البوح” *(21). ويستمر يحيى حقي / اسماعيل في وصف الشرخ الذي أحدثته عبارات ماري في كيانه الصدئ:
“كانت روحه تتأوه وتتلوى تحت ضربات معولها كان يشعر بكلامها سكينا يقطع روابط حية يتغذى منها إذ توصله بمن حوله، واستيقظ في يوم فإذا روحه خراب لم يبق فيه حجر على حجر، بدا له الدين خرافة لم تخترع إلا لحكم الجماهير والنفس البشرية لا تجد قوتها، ومن ثم سعادتها، إلا إذا انفصلت عن الجموع وواجهتها، أما الاندماج فضعف ونقمة” *(22).
“الفردانية “إذن كانت أهم الأحاسيس والمواقف التي ابتلى بالشعور والإيمان بها، لذا حين عاد إلى وطنه نفر من الاختلاط بين قومه وأنكر عليهم تزلفهم لقنديل تافه لا يكاد يضيء حتى جوانبه، بل هو مجرد “إعلان قائم للخرافة والجهل” كما بدا له ميدان السيدة زينب بمثابة مربط لبهائم مسغبة دليلة تعاني الفقر والتشرذم وتستعذب الحرمان “وأشرف على الميدان فإذا به يموج كدأبه بخلق غفير ضربت عليهم المسكنة وثقلت بأقدامهم قيود الذل، ليست هذه كائنات حية تعيش في عصر تحرك فيه الجماد هذه الجموع آثار خاوية محطمة كأعقاب الأعمدة الخربة ليس لها ما تفعله إلا أن تتعثر بها أقدار السائر” *(23).
وكان من الطبيعي أن يعيب على والدته محاولة مداواة عيني قريبته بزيت القنديل الحارق – بعدما كان يرى ذلك من قبل ولا يبدى أي احتجاج؟ وأقبل يعالجها بالسوائل والأساليب الغربية المتقدمة لكنه أتى على آخر بصيص من الضوء تبقى في عينيها، فقد صوابه وجن جنونه ليهرع إلى ضريح أم هاشم يهشم قنديلها، فما كان من الأهالي وخدام “السيدة” إلا أن هجموا عليه يشبعونه رفسا ولكما حتى كادت روحه تزهق لولا تدخل أحد معارفه وهو الشيخ ديردري الذي ادعى أن اسماعيل (مريوح) فكفوا عن ضربه.
بعد هذه الحادثة اعتكف صاحبنا في إحدى الغرف يعاني من المرض أشده، ويقاسي من الانفصام والشعور بالضياع والتمزق أعتاه، وبات يلوم نفسه ويسائلها بحيرة: “لماذا ترك إنجلترا بريفها الجميل وأمسياتها الهنية وقسوة شتائها الجبار، وجاء لبلد يفرون فيه من بعض الرذاذ كأنما ألمت بهم نكبة أو داهمهم طوفان؟ ما فائدة الجهاد في بلد كمصر ومع شعب كالمصريين عاشوا في الذل قرون طويلة فتذاوقوه واستعذبوه” *(24).
هذا في الوقت الذي يعتقد معه أن اسماعيل قد انتهى فتلك كانت هي نقطة البداية، تماما كما حصل لكل من محسن وسهيل، فمحسن فقد حبيبته سوزي وصديقه إيفان الذي مات بين يديه، وتغيرت فكرته عن الغرب والشرق، ولكنه عاد في الأخير إلى “النبع” ليبدأ من جديد. وسهيل فقد بدوره جانين ومنترو وولده منها حين أجبرها على إجهاضه، وبدا أنه عاد خاوي الوفاض إلى أهله ووطنه حين قالت له أمه: “لقد انتهينا يا بني” فإذا به يرد: “بل الآن نبدأ يا أمي” *(25).. وتلك كانت آخر عبارة بالكتاب.
وبالتالي كانت الحادثة التي أصابت إسماعيل بمثابة رجة كهربائية عنيفة أعادت إلى الذهن صحوه الوطني، وإلى نفسه صفاءها الشعبي، فحلت تلك اللكمات والركلات وما خلفته من رضوض بجسمه حلول الكي لمواطن الداء وجد معها البلسم الشافي بعد طول المعاناة، وأيقن أخيرا أن خلاصه في أصله، وفي الارتماء بنبعه، وأمسى الغرب بأفكاره ومبادئه مجرد أحلام وردية زخرفت كيانه المتعطش للشهب الملونة والجماليات، هذه الأحلام والشهب التي لا يمكن لها أن تتحول إلى حقائق ووقائع ملموسة إلا على أرضية واقعه الشرقي كيفما كان، كما حصل لباقي زملائه.
“ثم أخذته غفوة واختلط عليه الأمر، إنه كالطير وقع في فخ وأدخلوه قفصا، فهل من مخرج؟ يشعر بجسمه وقد شد إلى هذه الدار التي لا يطيقها، وربط إلى هذه الميدان الذي يكرهه، فمهما حاول لن يستطيع فكاكا” *(26).
كان خلاص اسماعيل بدوره في الاندماج مرة أخرى بأهله وإن بوجه وبروح مهما يكن، فقد خضبتها آراء الغرب ومبادئه تاركا آثارا بليغة في قراراته لا يمكن أن تمحي بسهولة، فأيقن أنه بالعمل والجهاد في سبيل وطنه وشعبه سيلفي خلاص ذاته المكلومة المعذبة. ورأى أن “المقربين أولى” بعلمه وكفاحه، فبدأ أول ما بدأ بمحاولة إعادة علاج فاطمة، وبزيت قنديل أم هاشم مرة أخرى لكن مشفعا هذه المرة بأساليب الغرب من غير شطط بطبيعة الحال، وكانت أوبة إسماعيل مرتبطة بمكانين وزمانين: مسجد السيدة زينب وليلة القدر المباركة حيث:
“خرج من الجامع وبيده الزجاجة التي تحتوي زيت القنديل وهو يقول في نفسه للميدان وأهله: تعالوا جميعا… فيكم من آذاني ومن كذب علي، ومن غشني، ولكني رغم هذا لا يزال في قلبي مكان لقدراتكم وجهلهم وانحطاطكم، فأنتم مني وأنا منكم، أنا ابن هذا الحي، لقد جار عليكم الزمان، وكلما جار واستبد كان إعزازي لكم أقوى وأشد، ودخل الدار ونادى فاطمة: تعالي يا فاطمة، لا تيأسي من الشفاء، لقد جئتك ببركة أم هاشم، ستجلي عنك هذا الداء وتزيح الأذى، وترد إليك بصرك فهو جديد” *(27).
ومع ذلك فنظام الغرب، وحضارته، وآدابه، وعادته اليومية، كل هذا لم يفارقه، فآثر أن يلقنه لأهله لذا أضاف وهو يخاطب فاطمة:
“وفوق ذلك، سأعلمك كيف تأكلين وتشربين، وكيف تجلسين وتلبسين، سأجعلك من بني آدم” *(28).
وتداوت فاطمة / مصر.. رد إليها بصرها، وتزوجها إسماعيل لينجب منها العديد من البنات والبنين، نعم، فمثلما كانت سوزي وكذلك ماري وجانين ترمزان إلى أوروبا، لم لا تكون فاطمة الرمداء – سابقا – رمزا لمصر؟؟ وحتى الاسم هذا على ما يبدو اختاره يحيى حقي بعناية، نسبة إلى السيدة فاطمة الزهراء وإحالة إلى المصدر والأصل الإسلامي (الفاطمي بالقاهرة) – ففاطمة هنا هي طيبة أو مصر المعطاء، الأرض الخصبة التي أنجبت الحضارة الفرعونية والقبطية والإسلامية، وخلفت ملايين الأبناء الذين خلدوا ذكراها فنبغ منهم من نبغ، كما استبد، وظلم من ظلم، وكان من نوابغها هذا الابن البار العائد من الغرب محملا بآراء جديدة وفكر متقد ليكرسه لصالحها وصالح شعبه، إذ فتح إسماعيل عيادة متواضعة في حي شعبي فأقبل عليه عامة الشعب أغلبهم من المساكين والدراويش والمغلوبين على أمرهم: “فكم من عملية شاقة نجحت على يديه بوسائل لو رءاها طبيب أوروبا لشهق عجبا.. استمسك من عمله بروحه وأساسه، وترك المبالغة في الآلات والوسائل واعتمد على الله، ثم على عمله ويديه، فبارك الله في عمله وفي يديه” *(29).
يعني رجع في الأخير إلى نفس النتيجة التي انتهى إليها محسن وسهيل ومعظم المهاجرين المثقفين الذين ينبهرون في بداية رحلتهم بحضارة الغرب.. هذه النتيجة التي تتجسد في “الحل الوسط” أي الجمع بين مثالية الشرق ومادية الغرب، لأنه من صالح البرية جمعاء ألا تنفصل حضارة عن أخرى، بل لابد أن يكون هناك تمازج، وتلاقح، وتكامل، أو في الأخير “تثاقف”.
***************************
الهوامش:
(1) – “يحيى حقي بين الهوية المصرية والحضارة العالمية” – سناء صليحة – جريدة (الأهرام) – 13 -12 -1992
(2) – مؤلفات يحيى حقي – السيرة الذاتية للمؤلف – الهيأة المصرية العامة للكتاب – 1990
(3) – المرجع السابق – قصة (قنديل أم هاشم) – ص: 69.
(4) – المرجع السابق – السيرة الذاتية. ص: 46/47
(5*) – رواية (الحي اللاتيني) سهيل إدريس – منشورات “دار الآداب” الطبعة 7 – مايو 1977 – ص: 12
(6) – المرجع السابق – ص: 12
(7) – قصة (عصفور من الشرق) توفيق الحكيم – سلسلة “اقرأ” عدد 389 – دار المعارف، مصر . ص: 31 /32
(8) – المرجع 3 – قصة (قنديل أم هاشم) – ص: 93.
(9) – د .عادل حسين فهمي – أستاذ نظم المعلومات – جريدة (الأهرام) – 15 – 12 – 1992.
(10) – المرجع 7 – ص: 111.
(11) – المرجع 5 – ص: 117.
(12) – المرجع السابق – ص: 132
(13) – المرجع 3 قصة (قنديل أم هاشم) – ص: 86.
(14) – المرجع السابق – السيرة الذاتية – ص: 46
(15) – المرجع 3 قصة (قنديل أم هاشم) – ص: 87.
(16) – المرجع السابق – ص: 42.
(17) – المرجع 7 – مقدمة الترجمة الإنجليزية لقصة (عصفور من الشرق) ص: 5/6.
(18) – المرجع السابق – ص: 170.
(19) / (20) – المرجع السابق – ص: 171.
(21) / (22) – المرجع 3 قصة (قنديل أم هاشم) – ص: 88.
(23) – المرجع السابق – ص: 101.
(24) – المرجع السابق – ص: 107.
(25) – المرجع 5 – ص: 101.
(26) – المرجع 3 قصة (قنديل أم هاشم) – ص: 108.
(27) / (28) – المرجع السابق – ص: 118.
(29) – المرجع السابق – ص: 121.
*كاتب، سيناريست، باحث وناقد سينمائي مغرب
Leave a Reply