+91 98 999 407 04
aqlamalhind@gmail.com

القائمة‎

المبادئ الشرعية العامة لتنظير فقه الأقليات
الدكتور عبد الواسع لاكل

مُلخَّص البحث:

أصبحت قضايا الأقليات المسلمة في مختلف بقاع الأرض موضع اهتمام علماء الأمة، خاصة في هذا العصر الحديث الذي ازداد فيه الوعي الحقوقي لدى الناس. وهذه الأقليات المسلمة معظمها نراها تناضل لأجل بقائها ولمحافظتها على هويتها الدينية ولأداء الواجبات الدينية في ضوء ما وصلت إليها من الأحكام الاجتهادية. فبما أن قضاياها تتجدد يوما فيوماً تستلزم أن يكون لها فقه يُبنى على الأسس والمبادئ العامة التي وضعتها الشريعة الإسلامية. ولذلك جاء هذا البحث يحمل عنوان “المبادئ الشرعية العامة لتنظير فقه الأقليات” ليضع لهذا الفقه الجديد إطارا شرعيا يعتمد عليه العلماء والفقهاء في اجتهاداتهم وفتاويهم. لأن الخلل الذي يحدث في هذا الجانب الذي يعتبر الحجر الأساسي لفقه الأقليات، سوف يؤدي إلى مآلات خطيرة تجعل الأمة تدفع ثمنها في المستبقل. والبحث قد اتبع المنهج الاستقرائي فيجمع الباحث المواد العلمية التي تتعلق بالموضوع المختار ويقوم بتحليلها لاستخراج الفوائد منها، ويبدي ما عنده من آراء فيما يتعلق بتلك المبادئ التي يعرضها في البحث.

كلمات مفتاحية: فقه الأقليات، مقاصد الشريعة، اعتبار المآلات، قاعدة التيسير ورفع الحرج، المقاصد الاجتماعية.

 

مقدمة:

فقه الأقليات المسلمة أصبح اليوم محل اهتمام لدى العلماء والفقهاء حيث تناولوا هذا الموضوع بحثًا وتنظيرًا، فجاؤوا بمصطلح “فقه الأقليات” وكان ذلك في العقود الأخيرة من القرن الماضي، إلا أن الأحوال المختلفة التي تواجهها الأقليات المسلمة في شتى دول العالم، تستلزم وضع المبادئ العامة التي يجب أن تكون البحوث والدراسات المعنية بفقه الأقليات في إطارها حتى يكون لها منهج شرعي واضح.

من هذا المنطلق تكون لهذه النقطة أهمية بالغة لا بد من اعتبارها والاعتماد عليها في تأصيل القواعد للأقليات المسلمة، وذلك أن ظروفها متنوعة ومختلفة في ذات الوقت، فمهام والتزامات الأقلية في دولة ما تختلف في جذورها عن مهام والتزامات الأقلية التي تعيش في دولة أخرى كما هو ثابت بقاعدة “تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان”. والباحث يريد أن يعرض هنا بعض الأسس والمبادئ العامة التي يجب الاهتمام بها في تنظير الفقه للأقليات المسلمة حتى لا يكون الاجتهاد في قضاياهم يتخبط في غيبة المنهج العلمي الذي تقدمه الشريعة الإسلامية الغراء. فجاء هذا البحث يحمل في طياته مبحثا يتناول تلك المبادئ والأصول التي تساعد العلماء في إفتائهم لقضايا الأقليات المسلمة.

المطلب الأول: أهمية اعتبار المقاصد في فقه الأقليات

إذا كان الاجتهاد يعتبر آلة حيوية في  الشريعة الإسلامية يتم بها استيعاب جميع النوازل المستجدة والقضايا المعاصرة وتجعلها تساير تطور الزمان والمكان، فإن معرفة المقاصد يأتي في مقدمتها، حتى تكون  الاجتهادات مقاصدية، ولذلك عدّ الإمام الشاطبي معرفة المقاصد شرطاً لأهلية الاجتهاد كما يقول “إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها”[1] لأن عدم الإدراك الصحيح بالمقاصد سوف يأخذ الاجتهاد إلى غير ما أراده الشارع، فينحرف الاجتهاد عن طريقه، وتصبح الأحكام المستنبطة ثقلاً على الأمة، إذ أنها لا تحقق مقصداً من المقاصد الشرعية، غير أنها تأتي بتأثيرات سلبية لا يريدها الشارع.

ولما كان  فهم المقاصد شرط يجب أن يتحلى به جميع المجتهدين، أصبحت المناقشات التي تدور حول قضايا الأقليات المسلمة، مركزة على الاجتهاد المقاصدي لكي يكون مرجعاً يعتمد عليه الأقليات المسلمة في جميع أنحاء العالم لوضع الحلول المناسبة لنوازلهم ومستجداتهم حيث إن الأقليات المسلمة ضعيفة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وغيرها، تريد أن تعطي لمعاملاتهم وتصرفاتهم صبغة شرعية من خلال نظرهم ورجوعهم إلى المقاصد العظيمة التي يريد الشرع تحقيقها.

فبما أن القضايا التي تواجهها الأقليات المسلمة ليست كلها على مستوى واحد، بل لها أبعاد مختلفة تؤثر في جوانب مختلفة، وهي التي تستلزم الاستمساك بالمقاصد حتى لا يفقد الحكم كنهه ولبه. مما يلاحَظ هنا، إن هناك بعض القضايا نراها يسيرة  جداً، ولكن عند إمعان النظر يظهر أن الامتناع عنها قد يؤدي إلى خلل كبير للأمة الإسلامية، خاصة في المجالات الدعوية والاقتصادية والسياسية وغيرهما. ولذلك نرى بعض العلماء من الصحابة والتابعين وغيرهم يرون أن العيش في دولة غير إسلامية يُسقط بعض الأحكام الشرعية، هذا ما أشار إليه الشيخ ابن بيه بقوله “يرجع فقه الأقليات إلى أصل خاص ببعض العلماء يعتبر حالة المسلمين في أرض غير المسلمين سبباً لسقوط بعض الأحكام الشرعية مما عرف بمسألة الدار التي نعبر عنها بحكم المكان، وهو منقول عن عمرو بن العاص من الصحابة، وعن أئمة، كالنخعي والثوري وأبي حنيفة ومحمد ورواية عن أحمد وعبد الملك بن حبيب من المالكية. وهو مؤصل من أحاديث، كالنهي عن إقامة الحدود في أرض العدو أصله حديث أبي داود والترمذي وأحمد بإسناد قوي : “لا تقطع الأيدي في السفر”، ومرسل مكحول : “لا ربا بين مسلم وحربي”.[2] وقال في موضع آخر “هو ما ذهب إليه أبو حنيفة، وصاحبه محمد بن الحسن الشيباني – وهو المفتى به في المذهب الحنفي- وكذلك سفيان الثوري، وإبراهيم النخعي وهو رواية عن أحمد بن حنبل، ورجحها ابن تيمية – فيما ذكره بعض الحنابلة – من جواز التعامل بالربا – وغيره من العقود الفاسدة – بين المسلمين وغيرهم في غير دار الإسلام.

          ويرجح الأخذ بهذا المذهب هنا عدة اعتبارات، منها: الأول: أن المسلم غير مكلف شرعاً أن يقيم أحكام الشرع المدنية والمالية والسياسية ونحوها مما يتعلق بالنظام العام في مجتمع لا يؤمن بالإسلام، لأن هذا ليس في وسعه، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وتحريم الربا هو من هذه الأحكام التي تتعلق بهوية المجتمع، وفلسفة الدولة واتجاهها الاجتماعي والاقتصادي. وإنما يطالب المسلم بإقامة الأحكام التي تخصه فرداً، مثل أحكام العبادات، وأحكام المطعومات والمشروبات والملبوسات، وما يتعلق بالزواج والطلاق والرجعة والعدة والميراث وغيرها من الأحوال الشخصية، بحيث لو ضيق عليه في هذه الأمور ولم يستطع بحال إقامة دينه فيها لوجب عليه أن يهاجر إلى أرض الله الواسعة ما وجد إلى ذلك سبيلاً.

          والثاني: أن المسلم إذا لم يتعامل بهذه العقود الفاسدة – ومنها عقد الربا – في دار القوم، سيؤدي ذلك بالمسلم إلى أن يكون التزامه بالإسلام نترتاهف

سبباً لضعفه اقتصادياً وخسارته مالياً، والمفروض أن الإسلام يقوي المسلم ولا يضعفه، ويزيده ولا ينقصه، ىىاهلىابمتوينفعه ولا يضره، وقد احتج بعض علماء السلف على جواز توريث المسلم من غير المسلم بحديث أبييتفتؤيعتنتت داود أن معاذاً قال: “سمعت رسول الله ﷺ يقول: الإسلام يزيد ولا ينقص” “فورّث المسلم” أي يزيد الؤبعلاقعؤيؤمسلم ولا ينقصه، ومثله: “الإسلام يعلو لا يُعلى” وهو إذا لم يتعامل بهذه العقود التي يتراضونها بينهم ثىثؤؤؤسيضطر إلى أن يعطى ما يطلب منه ولا يأخذ مقابله فهو ينفذ هذه القوانين والعقود فيما يكون عليه من مغارم ولا ينفذها فيما يكون له من مغانم، فعليه الغرم دائماً وليس له الغنم، وبهذا يظل المسلم أبداً مظلوماً مالياً بسبب التزامه بالإسلام، والإسلام لا يظلم المسلم بالتزامه به، وأن يتركه – في غير دار الإسلام – لغير المسلم يمتصه ويستفيد منه، في حين يحرم على المسلم أن ينتفع من معاملة غير المسلم في المقابل في ضوء العقود السائدة والمعترف بها عندهم”.[3]

          فإن التخلي عن الاستفادة من المشرورعات التي لها علاقة بالحرام دون النظر إلى أبعادها المختلفة، في وقت يعتمد عليها الآخرون ويتقوون بها، يُعد سفاهة كبرى إن نظرنا إليه من  الجانب العقلي، ولا سيما حين تتعلق القضية بجماعة اتصفت بالضعف والتخلف. فالاجتهادات التي لا تنظر إلى مقاصد الشريعة العظمى، ومن ثم إلى مآل الأمة و لا إلى الأخذ بيدها من التخلف والانحطاط إلى التطور والتقدم، لا تجدي ولا تنفع، بل تجلب خلاف ما يريده الشارع.

ولذلك نرى إن فقه الأقليات الذي تطور بأيدي العلماء الكبار دائماً يركز على المقاصد الكلية الشرعية – التي أشار إليها العلماء قديماً وحديثاً – مثل الحرية والمساواة والمؤاخاة وغيرها، لكي يتم بها التعايش مع الآخرين ولتسهَل لهم ممارسة الواجبات الدينية وإن كانوا في أي بقعة من بقاع الأرض. على سبيل المثال، فإن معظم الأقليات المسلمة في العصر الحديث تعد جزءاً من مجتمع علماني له تقاليده وأعرافه وعاداته، فتجد نفسها في كثير من الأحيان مضطرة إلى جمع النقيضين، أي الجمع بين إسلامية الحياة وكفرية المجتمع، إذ أنها لا يمكن لها أن تقطع علاقتها مع الأكثرية الكافرة فتغلق أبواب الدعوة والهداية، فتحتاج إلى أن تبني جسراً بالقيم الاجتماعية العليا كالحرية والمؤاخاة والتسامح وغيرها وتعبر بها إليهم لتبليغ رسالة الإسلام الخالدة، وهذا الجمع بين النقيضين في آن واحد قد أشار إليه الدكتور محمد يسري إبراهيم بقوله “والأقليات المسلمة قد تتمكن من إقامة الإسلام فيما بينها إلا أنها في علاقتها مع المجتمع بعد ذلك تكون خاضعة لغير سلطان الشريعة من أنظمة اجتماعية أو قانونية أو ثقافية ينخرطون فيها – اضطراراً – ويكون السلطان فيها لدينٍ غير دينها، ويلي أمورها ويحكمها من لا يؤمنون بالإسلام ولا يطبقون شريعته بين الناس”.[4]

ولذلك توصف حالة الأقليات المسلمة مأزقاً وأزمة، وهي لا بد أن تكون بين الانعزال والذوبان، لأن الانعزال الكامل عن الأكثرية أو الذوبان الكامل فيها، كلاهما لا ينفعان الأمة، بل لا بد أن يكون فقهها يتوسط بينهما. لأن انعزال المسلم أو ابتعاده عما يهم الآخرين من احتفال وولائم وطقوس لما فيها من مخالفات شرعية، قد يؤدي إلى خلق التوتر والإحراج في قلوبهم، ربما هي تزداد حين تتكرر المناسبات وتلك المواقف السلبية، ويترتب عليها المقاطعة الاجتماعية من جانبهم. والانعزال يجب ألا يكون وسيلة الأقليات المسلمة إلا في حالة الحرب، وأما حين تعمل على  تقريب الآخرين والتعايش معهم فلا ينفعها الانعزال والمقاطعة، بل يفصلها عن الآخرين، ولأنه ينتهي إلى بقاء الأمة مشردة مهمشة وليس لها أي تدخل في مسيرة المجتمع، ومن هنا  لا تتقدم بل تبقى متخلفة إلى الأبد.

وفي جانب آخر، لو اتخذت الأقليات موقف الذوبان الكامل، قد يؤدي إلى فقدان الهوية الإسلامية، و لن يبقى شيئ للأمة تتميز به عن الآخرين، دينياً واجتماعياً وغيرهما. والأحاديث العديدة التي تشيد بمخالفة المشركين واليهود والنصارى تكفي لتدلل على وجوب حفظ الهوية الإسلامية، وأنه من المقاصد الشرعية الهامة خاصة في نظام مجتمع غير إسلامي، حيث تريد الأقلية أن تثبت وجودها بها. فبالاختصار، إن الأقليات المسلمة لا بد أن تمارس موقف الأخذ والعطاء ضمن حدود الشريعة الإسلامية وهو الذي يؤدي إلى تحقيق المقاصد الشرعية العليا، ومن ثم إلى أن يأخذ بيد الأمة نحو الارتقاء والتقدم.

بالإضافة إلى هذه الأسباب، فإن الأخذ بالمقاصد عند الاجتهاد يقلل الاختلافات بين الفقهاء، لأن الاختلاف الذي حدث بينهم كان نتيجة اختلاف مركزاتهم في الاجتهاد، فمنهم من يركز على النصوص دون النظر إلى غاياتها، ومنهم من يركز على الواقع تاركين المقاصد و دلالة النصوص، وأما اذا اتفقت مهامهم، واقتصرت على المقاصد التي يرغب الشارع في تحقيقها وراء كل حكم فلا يوجد بينهم اختلاف شاسع يعاني منه المسلمون. ولذلك نرى الشيخ محمد الطاهر بن عاشور يضع المقاصد آلة للتقريب بين المذاهب الفقهية والتقليل من الاختلاف بين الفقهاء حيث يقول في مقدمة كتابه عن المقاصد “هذا الكتاب قصدت منه إملاء مباحث جليلة من مقاصد الشريعة الإسلامية والتمثيل لها والاحتجاج لإثباتها لتكون نبراساً للمتفقهين في الدين ومرجحاً بينهم، عند اختلاف الأنظار وتبدل الأعصار، وتوسلاً إلى إقلال الاختلاف بين فقهاء الأمصار ودربة لأتباعهم على الإنصاف في ترجيح بعض الأقوال على بعض، عند تطاير شرر الخلاف حتى يستتب بذلك ما أردناه غير مرة من هذا التعصب والفيئة إلى الحق”.[5] نضيف إليه ما كتبه الإمام الشاطبي حين قام بتأسيس قواعد علم المقاصد وتوسيعه في “الموافقات” حيث أشار في مقدمته إلى “وحاصله أني لقيت يوماً بعض الشيوخ الذين أحللتهم من محل الإفادة، وجعلت مجالسهم العلمية محطاً للرحل ومناخاً للوفادة، ولقد شرعت في ترتيب الكتاب وتصنيفه، ونابذت الشواغل دون تهذيبه وتأليفه، فقال لي رأيتك البارحة في النوم، وفي يدك كتاب ألفته، فسألتك عنه، فأخبرتني أنه كتاب الموافقات، قال: فكنت أسألك عن معنى هذه التسمية الظريفة، فتخبرني أنك وفقت به بين مذهبي ابن القاسم وأبي حنيفة، فقلت له: لقد أصبتم الغرض بسهم من الرؤيا الصالحة مصيب، وأخذتم من المبشرات النبوية بجزء صالح ونصيب، فإني شرعت في تأليف هذه المعاني، عازماً على تأسيس تلك المباني، فإنها الأصول المعتبرة عند العلماء، والقواعد المبني عليها عند القدماء”.[6]

وما أصله الشاطبي هنا، له أهمية كبيرة في تنظير فقه الأقليات، لأن الأقليات لا تحتاج إلى فقه يطبقه الأفراد، بل  يحتاجون إلى فقه يتمسك به الجميع في معاملاتهم مع الآخرين، ويعطي لحياتهم صبغة دينية، فإذا اختلفت وجهات نظر الفقهاء في القضايا المتعلقة بهم فيشتت به شملهم ويتفرق به جمعهم، وهو الذي يعاني منه معظم الأقليات المسلمة في شتى بقاع العالم. فإن لدينا ما يثبت هذا الرأي من أدلة شرعية، حيث جاءت الأساليب اللغوية في الخطاب التكليفي موجهة بصيغة الجمع، لأنها كانت تخاطب المسلمين كأمة أو جماعة، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ۚ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ۗ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ [ المائدة : 1]، وفي قوله أيضاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النور: 27]، وفي قوله أيضاً ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام : 108]، وغيرها. ولذلك جاءت النصوص التي تأمر بتطبيق الحدود تحمل هذا الخطاب العام، كما في قوله تعالى ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [النور : 24]، وقوله تعالى ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [ المائدة : 38]، وغيرهما، لأنه لا ينفع تطبيق هذه الأحكام كأفراد لن تتحقق بها المقاصد التي وضعها الشارع وراء تلك الأحكام. فإن من الواضح هنا إن المقاصد التي تحملها تلك النصوص والأحكام لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال هذا المعنى الجماعي الذي يدل عليه ذلك الخطاب اللغوي العام، ولا يجدي تطبيقها في دولة غير شرعية.

          وفي نفس الوقت، إن من التكاليف الشرعية ما يجب أن يقوم به المسلمون كجماعة ولكن قصد به الأفراد مثل العبادات والمنهيات مثل السرقة والخمر والزنا حيث إن تطبيقه من الأفراد يحقق المصالح التي وضع الشارع وراءها. وأما المأمورات لا تدخل ضمن هذا الصنف، لأنها ليست كالمنهيات في الحكم، إذ الأول إيجاد فعل قد يستطاع وقد لا، وفي حين أن الثاني أي النهي كف وكل إنسان يستطيعه، ولذلك روى أبو هريرة عبد الرّحمن بن صخر رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: [ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم؛ فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم].[7]

          وأما القضايا التي فيها مصلحة جماعية عامة لا تتحق بأكمل صورتها إلا إذا طبقتها الأمة برمتها منها المعاملات الاقتصادية والاجتماعية وغيرهما. ولذلك لو أخذ أحد بعض الأحكام الشرعية التي لها بعد جماعي، وطبقها في مجتمع غير إسلامي دون النظر إلى مقاصدها، فلا يخدم الأمة ولا يفيدها، بل ربما أدى إلى جلب المضرة لها. ولذلك فإن جميع النوازل يجب أن ينظر إليها في ضوء مقاصد الشريعة حتى لا تتقدم المفاسد على المصالح، ولا تؤثر سلباً في الأمة الإسلامية. ونضيف إليه ما أفتاه المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بجواز الاقتراض الربوي للأقليات المسلمة لشراء المساكن كما جاء في فتواه “إن المسلم غير مكلف شرعاً أن يقيم أحكام الشرع المدنية والمالية والسياسية ونحوها مما يتعلق بالنظام العام في مجتمع لا يؤمن بالإسلام، لأن هذا ليس في وسعه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وتحريم الربا هو من هذه الأحكام التي تتعلق بهوية المجتمع، وفلسفة الدولة، واتجاهها الاجتماعي والاقتصادي”.[8] فجملة ما نقوله إن الفقه الذي يحتاج إليه الأقليات المسلمة لا بد أن يبنى على ضوء المقاصد الشرعية العليا، لأن تكون المحور الأساسي لجميع اجتهاداتهم، وليجتمعوا بها على كلمة واحدة وليتجاوزوا بها أزماتهم.

 

المطلب الثاني: علاقة اعتبار المآلات بفقه الأقليات 

والذي يتتبع النصوص الشرعية يلاحظ أن النظر إلى المآلات والعواقب، من أهم الأصول التي تؤيده وتثبته الشريعة من خلال كثير من الآيات والأحاديث النبوية، مع أنه يعتبر جزءاً من الاعتبار بالمقاصد لأن الإعراض عنها قد يؤدي إلى جلب مفسدة خطيرة، جاء الشرع لأجل إزالتها. فإن قاعدة سد الذرائع التي تم تأسيسها من قِبل الآيات القرآنية تكفي لتؤيد هذه الحقيقة حيث أن المسلمين قد منعوا من الأمور المباحة لما أنها تؤدي إلى نتيجة سيئة ومآلات خطيرة.

هذا ما قام العلماء ببيانه مستدلين بالآيات والأحاديث حيث لا يبقى فيه شك ولا يختلف فيه اثنان، فالخمر قد جاء تحريمها في الشرع نظراً إلى عواقبها السيئة وهي كما وردت في قوله تعالى ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُون﴾ [ المائدة: 91]، أي أن الخمر تأخذ صاحبها إلى صفات مذمومة يجب أن يبتعد عنها كل إنسان، ولذلك حرمها الله عليه لكي يمنعه من الإقدام عليه. وفي آية أخرى أن الله سبحانه وتعالى قد نهى المؤمنين عن سب آلهة الكفار نظراً إلى العواقب التي سيؤول إليه، كما هو واضح في الآية نفسها ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [ الأنعام: 108]، وقد جاء في تفسيره ” وقد احتجّ علماؤنا بهذه الآية على إثبات أصل من أصول الفقه عند المالكيّة ، وهو الملقّب بمسألة سَدّ الذّرائع. قال ابن العربي : «منع الله في كتابه أحداً أن يفعل فعلاً جائزاً يؤدّي إلى محظور ولأجل هذا تعلّق علماؤنا بهذه الآية في سدّ الذّرائع وهو كلّ عقد جائز في الظاهر يؤول أو يمكن أن يتوصّل به إلى محظور» . وقال في تفسير سورة الأعراف (163 ) عند قوله تعالى: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ﴾ [ الأعراف: 163]، قال علماؤنا: هذه الآية أصل من أصول إثبات الذّرائع الّتي انفرد بها مالك رضي الله عنه وتابعه عليها أحمد في بعض رواياته وخفيت على الشّافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما مع تبحّرهما في الشّريعة”. [9]

وفي ذلك أيضاً ما روته عائشة عن النبي ﷺ “لولا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم فإن قريشا حين بنت البيت استقصرت ولجعلت لها خلفا” [10] فإن النبي ﷺ يترك ما أراد فعله مخافة من أن يؤول الأمر إلى مفسدة كبرى، وهو تأثير فعله في قلوب العرب سلباً ومن ثم إنكارهم له،لأنهم كانوا يقدّسونها منذ زمن بعيد، وقد تجذر ذلك الاحترام في قلوبهم، فرأى النبيﷺأن الأفضل ألا يحرجهم ولا يجرح قلوبهم بفعله، فأعرض عن المصالح العليا التي أراد تحقيقها من خلال تأسيس الكعبة على قواعد إبراهيم، نظراً إلى المآل الذي سيؤثر سلباً في قلوب المسلمين الجدد من أصحابه. وله مثال آخر في تعليله حين ترك المنافقين ولم يأمر بقتلهم، وقال ﷺ “دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه”[11] لأنه قد يجلب ضرراً كبيراً للأمة حيث إنه يقف عائقا  أمام اعتناق الآخرين لهذا الدين القيم، مع  أن بعض المنافقين كانوا قد وصلوا إلى قمة الظلم والفساد حتى يستحقوا القتل، ولكن النبي ﷺ لم  يأذن لأصحابه حتى بعد ما استأذنوا منه ﷺ  مثلما شاهدنا في رواية أخرى لهذا الحديث عن جَابِر t، قال “قال عبد الله بن أبي بن سلول: أقد تداعوا علينا، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال عمر: ألا نقتل يا رسول الله هذا الخبيث ؟ لعبد الله، فقال النبي ﷺ  “لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه”[12]. ومما يجدر الإشارة إليه هنا، أن النبي ﷺ كان قد أُمر بالجهاد مع المنافقين كما أمر بالجهاد الكفار حيث وردت الآيات فيها منها ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [ التوبة : 73]، مع ذلك أنه لم يطبق هذا الأمر نظراً إلى تلك المفاسد التي تستجلبها.

هذه الأمثلة كلها تشير إلى أن المآلات لا بد أن تؤخذ في عين الاعتبار في الاجتهاد الشرعي، وهو الذي نظر إليه القرآن وأخذ به النبي ﷺ حتى ترك أو أمر أصحابه بترك أفعال تؤدي إلى مفسدة لا يريد الشرع تحقيقها. فالحكم الأصلي يعدل عنه المجتهد أو الفقيه إلى حكم مؤقت آخر لكيلا يكون سبباً لجلب المفاسد التي جاءت الشريعة لإزالتها. والإمام الشاطبي له كلام طويل في هذا الباب، حيث يقول “النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، -فقد يكون – مشروعا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق، محمود الغب، جار على مقاصد الشريعة”.[13]

هذا ما بينه الشيخ ابن بيه حين قال “وبالتالي فالمجتهد ينظر في مآل الفعل ولا ينظر في طبيعة الحكم، فقد يكون الحكم مطلوباً لكن هذا المطلوب قد يؤدي إلى مفسدة، وقد يكون الحكم حراماً لكنه يؤدي إلى حرام أكبر، هذا هو النظر في مآلات الأفعال”.[14] وهذا القول يشير إلى شيئ مهم، هو أن النظر إلى المآلات لا يقتصر على الفعل الجائز الذي يؤدي إلى الحرام، بل يتعدى إلى أبعاد مختلفة مثل الفعل المطلوب من المكلف شرعاً حين يؤدي إلى حرام، أو الفعل المحرم شرعاً ولكن يؤدي إلى حرام أكبر أو غيرهما.

والإمام الشاطبي له كلام طويل في هذا الباب، حيث يقول “النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، -فقد يكون – مشروعا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق، محمود الغب، جار على مقاصد الشريعة”.[15]

وإن الاعتبار بالمآلات والنظر إليها كان منهجاً يتمسك به الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين حيث كانوا يتصرفون طبقاً له، كما يشير إليه ابن بيه في موضع آخر “وهكذا فإن الصحابة فهموا مقصد الشارع، والمقاصد هي المعاني التي تعتبر حكماً وغايات التشريع، وتصرفوا طبقاً لذلك، فهذا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يترك تغريب الزاني البكر مع وروده في الحديث حيث قضى النبي ﷺ  بجلده مائة وتغريب سنة، وذلك لما شاهد من كون التغريب قد يؤدي إلى مفسدة أكبر وهي اللحاق بأرض العدو، وقال: لا أغرب مسلماً”.[16]

وبالاختصار، فإن الأحكام التى وضع الشارع وراءها مقاصد عظيمة وأشار إليها تصريحياً أو ضمنياً، لم يطبقها العلماء من الصحابة وغيرهم دون النظر إلى المآلات التي يفضي إليها ذلك التطبيق مع أنه أمر مشروع أو مطلوب شرعاً، لأن المقاصد لا تتحقق بمجرد تطبيق الأحكام ولكن يجب أن يكون التطبيق أيضاً يخدم المقصد الذي شرع الحكم لأجله. فمن الواضح هنا إن اعتبار المآلات تعد جزءاً من اعتبار المقاصد، لأن العدول عن الحكم الأصلي إلى حكم آخر، يُقصد به المنع من أن تنتهي الأحكام إلى مآل آخر غير ما أراده الشارع. ومما هو معروف في علم الأصول، إن الأحكام الشرعية وإن كانت تتحقق مقاصدها في غالب الحالات عند التطبيق، فإنه قد يوجد بعض الحالات التي تتخلف عن تحقيقها. فيمكن لنا القول هنا، إن الذي يتحرى مقاصد الأحكام ويعرفها، هو الذي يستطيع له اعتبار المآلات. فمن الأمثلة الرائعة التي تشير إلى هذه الحقيقة ما روي عن شيخ الإسلام ابن تيمية حين مر بجماعة من التتار يشربون الخمر، فهمّ أحد أصحابه أن ينهاهم عن ذلك، فقال له ابن تيمية “إنما حرّم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال، فدعهم”.[17] والعلماء كلهم متفقون على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر مطلوب شرعاً، وهو من الواجبات، بل هو هوية الأمة الإسلامية التي تتميز بها عن غيرها، مع هذه كلها، نرى الشيخ ابن تيمية يترك تلك المهمة  حسب مقتضيات الظروف، حتى لا يجلب النهي عن المنكر بمصيبة كبرى، ألا وهي قتل النفوس وأخذ الأموال.

وإن كان الحكم الذي تحمله النصوص يؤخَّر تطبيقُه نظراً إلى نتائجه ومآلاته، فلا غرو أنه يجب أن تركَّز على نفس المآلات والعواقب في تنظير فقه الأقليات حتى لا تستدعي تأثيرات سلبية في العلاقة بين الأكثرية غير المسلمة. ولذلك نرى ابن القيم يقول بعد ما أفرد فصلا لبيان أن الفتوى تختلف باختلاف الزمان والمكان والعوائد والأحوال، ما نصه: “هذا فصل عظيم النفع جدا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة، وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها”.[18] فالأقليات كما أشرنا إليه من قبل، حالة اجتماعية استثنائية لها خصائصها وميزاتها والتي فيها أهمية بالغة لاعتبار المآلات، لأن المجتمع إذا لم يكن إسلامياً، أي في مناخ غير إسلامي، قد تتخلف الأحكام عن تحقيق مقاصدها في كثير من الأحيان، ولذلك نضع قاعدة اعتبار المآلات أصلاً مهماً يبنى عليه فقه الأقلية المسلمة في كيرالا.

وإننا قد نجد بعض الفتاوى التي صُنعت في إطار فقه الأقليات المسلمة وجاءت تخدم التعايش مع الآخرين، إلا أن لها مآلات سلبية خطيرة، منها ما يؤدي إلى ذوبان هوية الإسلام في غيره من الديانات الوثنية والثقافات الأجنبية كأن يتخذ المسلم الملابس التي تتشابه بزي الهنادكة الذي يلبسونه عند طقوسهم الدينية مثل خروجهم إلى مزاراتهم المقدسة أو كأن يضع المسلم علامة حمراء في جبهته كما يضعها الهنادكة. الأقلية المسلمة يجب أن تكون لها هوية مخصصة تمتاز بها عن غيرها حيث إن لها دور فعال في تنشيط الدعوة الإسلامية، ولذلك رأينا أن الأحاديث التي رويت في العهد المكي وفي بداية العهد المدني كانت تحث المسلمين على مخالفة الأكثرية الساحقة التي يمثلها المشركون وأهل الكتاب. فعلى المسلم، قبل كل شيئ أن ينظر إلى أين تنتهي آثار عمله الذي يقوم به ونتائجه، وإن كانت تجلب مفاسد أعظم وسلبيات أخطر، يجب تركه ولو كانت فيه مصلحة مؤقتة أو يسيرة.

المطلب الثالث: قاعدة التيسير وتنظير فقه الأقليات

إن الشريعة الإسلامية تمتاز عن غيرها من النظم والقوانين، باهتمامها على منهج التيسير الذي قعّده عديد من النصوص الشرعية، كما في قوله تعالى ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]،وفي قوله تعالى ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78 ]، وغيرهما. ما دامت قاعدة التيسير أمر مطلوب اعتبرها الشارع في الأحكام، فمن الأولى أن يضعه المجتهد نصب عينيه حين يقوم بتنظير الفقه للأقليات المسلمة، كما شاهدنا علماء السلف كانوا يتبعون هذا المنهج في اجتهاداتهم وفتواهم، وذلك كما يشير إليه الشيخ القرضاوي بقوله “والمعروف أن الصحابة –بصفة عامة- كانوا أكثر تيسيراً من تلاميذهم من التابعين، كما أن التابعين كانوا أكثر تيسيراً ممن بعدهم. فالفقهاء في عهد الصحابة ومن بعدهم كانوا أميل إلى الأخذ بالأيسر، والذين جاؤوا من بعدهم كانوا أميل إلى الأخذ بالأحوط، وكلما نزلنا من عصر إلى عصر زادت كمية (الأحوط)”.[19]

ويتبع قائلاً “وإنما اختار الصحابة منهج التيسير والتخفيف، لأنهم وجدوا هذا هو منهج القرآن الكريم، ومنهج هذا الدين الذي شرع الرخص في المرض والسفر، وأجاز تناول المحرمات عند المخمصة والضرورة، وأجاز التيمم لمن لم يجد الماء، إلى غير ذلك من الأحكام التي تتضمن التخفيف. ولذل عقب القرآن على أحكام آية الطهارة بقوله ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [ المائدة: 6 ]، وعقب على آية أحكام الصيام بقوله ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]،وعقب على أحكام النكاح بقوله ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ [ النساء: 28 ]. كما وجدوا الرسول ﷺ أكثر الناس تيسيراً، وأشدهم ضد الغلو والتنطع في الدين، فروى عنه ابن مسعود “هلك المتنطعون” قالها ثلاثاً، وروى عنه ابن عباس “إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين”.[20]

فمن الواضح من النصوص التي نقلناها آنفاً أن التيسير والتخفيف أمر قصده الشارع واعتبره في جميع التشريعات، فلا بد أن يكون أمراً معتبراً في مهمة الاجتهاد، ويقول الشاطبي “إن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه والدليل على ذلك أمور: أحدها: النصوص الدالة على ذلك كقوله تعالى ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف : 157 ]، وقوله ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا﴾ [البقرة: 286]، وفي الحديث: “قال الله تعالى قد فعلت” –رواه مسلم – وفي الحديث :”بُعثت بالحنيفية السمحة” وحديث : “ما خيّر رسول الله ﷺأمرَين أحدُهما أيسر من الآخر إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه”. ولو كان قاصداً للمشقة لما كان مريداً لليسر ولا التخفيف، ولكان مريداً للحرج والعسر، وذلك باطل. والثاني: ما ثبت أيضاً من مشروعية الرخص وهو أمر مقطوع به، ومما علم من دين الأمة ضرورة كرخص القصر والفطر والجمع وتناول المحرمات في الاضطرار، فإن هذا نمط يدل قطعاً على مطلق رفع الحرج والمشقة، وكذلك ما جاء من النهي عن التعمق والتكلف والتسبب في الانقطاع عن دوام الأعمال. ولو كان الشارع قاصداً للمشقة في التكليف لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف”[21] انتهى.

والنصوص فيها كثيرة، ومعناها ثابت في التاريخ الإسلامي الباهر، ولا ينكرها أحد له إلمام بمقاصد هذه الشريعة الخالدة، فكل فتوى يأخذ المسلمين إلى خلاف ما أراده الشارع ويجلب المشقة والحرج للمكلف لا يمثل روح هذه الشريعة الغراء، ولا يمكن أن يضاف إليها. والأقليات المسلمة كما بينا أحوالها من قبل تعيش بين الأكثرية الكافرة وتعاني من شتى أنواع الأذى والبلايا، فلا بد أن لا تكون الفتاوى التي توضع لقضاياهم تزيد بلاياهم، بل يجب أن تقصد التخفيف والتيسير إذ أنه قاعدة اعتمد عليها الشارع عند وضع الأحكام. فكل اجتهاد يأخذ المكلف إلى خلاف ما أراده الشارع لا يحقق مقصده، ولا يمكن أن يكون مرجعاً يعتمد عليه الأقليات المسلمة في ضبط معاملاتهم الدينية والسياسية والاقتصادية وغيرها. ولذلك فإن هذه القاعدة أي قاعدة التيسير والتخفيف تأتي في مقدمة الأمور عند صناعة الفتاوى للأقليات المسلمة.

          على كل، إن هذه المبادئ الشرعية العامة يمكن أن يستند إليها الأقليات المسلمة حين يعرض أمامها قضايا جديدة، حيث إن معظم الأقليات المسلمة في شتى أنحاء العالم تتعرض للإبادة الجماعية والقتل الشنيع من الأكثرية الساحقة الظالمة. والأحكام التي يفتي بها العلماء للأقليات المسلمة يمكن أن تكون مبنية على هذه المبادئ إذا احتاجت إليها بسبب ضعفها وظروفها الحرجة والتي لا تعاني منها الأكثرية المسلمة في العالم.

الحواشي:لال

[1]أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات (القاهربهلثعتثممرة: دار ابن عفان، ط1، 1417هـ/ 1997م، ج4، ص105.

[2] ابن بيه، عبد الله، صناعة البرفاهعيثابفتوى وفقه الأقليات، (مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث، ط1، 1433ه/ 2012م)، ص230.ثامامناقلف

[3] ابن بيه، صناعة الفتوىثؤؤؤؤبعلاق وفقه الأقليات، ص307-308.

[4]يسري إبراهيم، فقه النثىوازل للأقليات المسلمة تأصيلاً وتطبيقاً (قطر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط1، 1434ه/ 2013م). ص232.

[5]ابن عاشور، محمد الطاهر،مقاصد الشريعة الإسلامية (قطر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1425ه/ 2004م)، ص5.

[6] الشاطبي، الموافقات، ج1، ص17.

[7] البخاري، صحيح البخاري، (بيروت: دار ابن كثير، ط1، 1423هـ – 2002م). ج3، ص251.

[8]فتاوى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، المجموعة الثانية، (نسخة مخطوطة)، ص31.

[9] ابن عاشور، التحرير والتنوير، (تونس: الدار التونسية للنشر، ط1، 1984م). ج3، ص212.

[10] النيسابوري، صحيح مسلم،  (بيروت: دار طيبة، ط1، 1427هـ – 2006م). ج3، ص514.

[11] البخاري، صحيج البخاري، كتاب تفسير القرآن، ج6، ص65.

[12] البخاري، صحيح البخاري، كتاب المناقب، ج7، ص59.

[13] الشاطبي، الموافقات، ج5، ص177-178.

[14] ابن بيه، صناعة الفتوى وفقه الأقليات، ص337.

[15] الشاطبي، الموافقات، ج5، ص177-178.

[16]ابن بيه، صناعة الفتوى وفقه الأقليات، ص338.

[17] ابن القيم، إعلام الموقعين، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1411ه/ 1991م). ج3، ص13.

[18]ابن القيم، إعلام الموقعين، ج3، ص14.

[19] يوسفالقرضاوي، في فقه الأقليات المسلمة، (القاهرة: دار الشروق، ط1، 2001م)، ص49-50.

[20] القرضاوي، في فقه الأقليات المسلمة، ص50.

[21] الشاطبي، الموافقات، ج2، ص121-122.

المصادر والمراجع

أبوداود، سليمان بن الأشعث. (1419هـ/1998م). سنن أبي داود. (ط1). المكتبة المكية: مؤسسة الريان، المملكة العربية السعودية.

 إبراهيم، يسري. (1434ه/ 2013م). فقه النوازل للأقليات المسلمة تأصيلاً وتطبيقاً. (ط1). وزار الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر.

 ابن بيه، عبد الله. (1433ه/ 2012م).صناعة الفتوى وفقه الأقليات. (ط1). مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث.

 ابن تيمية، تقي الدين أبو العباس أحمد. (1419هـ – 1999م). اقتضاء الصراط المستقيم. (ط1). محقق: ناصر عبد الكريم، دار عالم الكتب، بيروت، لبنان.

 ابن عاشور، محمد الطاهر. (1984م). التحرير والتنوير. (ط1). الدار التونسية للنشر، تونس.

 ابن عاشور، محمد الطاهر. (1425ه/ 2004م). مقاصد الشريعة الإسلامية. (ط1).وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية قطر.

 ابن كثير، عماد الدين إسماعيل. ( 1419هـ – 1998م). تفسير القرآن العظيم. (ط1). دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.

 ابن القيم، محمد بن أبي بكر. (148ه/1997م). أحكام أهل الذمة. (ط1).رمادي للنشر، الدمام، المملكة العربية السعودية.

 ابن القيم، محمد بن أبي بكر. (1411ه/ 1991م). إعلام الموقعين. (ط1). دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.

 البخاري، محمد بن إسماعيل. (1423هـ – 2002م). صحيح البخاري. (ط1). دار ابن كثير، بيروت، لبنان.

 الزركشي، بدر الدين. (1410هـ – 1990م). البرهان في علوم القرآن. (د.ط). دار المعرفة، بيروت، لبنان.

 الزمخشري، أبو القاسم أحمد. (1408هـ – 1997م). الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل. (ط3). دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.

 الشاطبي، أبو إسحاق.(1417هـ/ 1997م)الموافقات. (ط1). دار ابن عفان، القاهرة، مصر.

 العسقلاني، أبو الفضل أحمد ابن حجر. (1379هـ). فتح الباري شرح صحيح البخاري. (د.ط). دار المعرفة، بيروت، لبنان.

 قطب، سيد. (1398هـ). في ظلال القرآن. ( ط 6). دار الشروق، بيروت، لبنان.

 القرضاوي، الشيخ يوسف. (2001م).في فقه الأقليات المسلمة. (ط1). دار الشروق، القاهرة، مصر.

 النووي، أبو زكريا محي الدين بن شرف. (1435هـ – 2015م). المجموع شرح المهذب. (ط1). دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.

 النيسابوري، أبو عبد الله محمد بن الحاكم. 1418هـ – 1998م). المستدرك على الصحيحين. (د.ط). دار المعرفة، بيروت، لبنان.

 النيسابوري، مسلم بن الحجاج. (1427هـ – 2006م). صحيح مسلم. (ط1). دار طيبة، بيروت، لبنان.

*الجامعة الإسلامية كيرالا

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of