الملخص:
يعدُّ الناقد والاديب أبو الحسن حازم بن محمد بن الحسين بن حازم الأنصاري الأوسي القرطاجني حازم القرطاجني من أبرز نقاد عصره في المزج بين البلاغة والنقد في مصنف واحد وسماه “بمنهاج البلغاء وسراج الأدباء ” والذي اختلف النقاد والدارسون في نسبته لأحد العلوم دون غيرها لتناوله لقضايا مختلفة تراوحت بين دراسة الشعر وطريقة نظمه، ومواضيع البلاغة المتشعبة ، ويعود تميز هذا المصنف إلى المنهجية التي اتبعها صاحبه في كتابه والتي ابتعدت عن تلك الفوضى المعرفية التي سادت نقاد عصره وسابقيه .
لذا تروم هذه الدراسة إلى محاولة رصد الروافد الفلسفية والمرجعيات الفكرية للدرس النقدي الأدبي عند حازم القرطاجني خلال القرنين السادس والسابع الهجريين ، فقد تميزت البيئة المغربية بمصنفات قلة نظائرها في البيئة الشرقية ، فمما لا شك فيه أن النقد في الأقطار المغربية قد نهل من مجموعة من الثقافات ، فلم يبتر تلك الصلة التي تربطه بالتراث العربي، ولم ينعزل عن ثقافة الغرب، فمحاولة إقامة هذا التواشج المعرفي في المرجعيات النقدية كان لها الأثر البليغ في التأسيس لنظرية نقدية عربية ممنهجة . فإلى أي مدى استطاع حازم القرطاجني أن يوائم و يواشج بين تطلعاته للفلسفة اليونانية والمرجعيات العربية في محاولة إقامة نظرية أدبية عربية ؟وهل أعلن هذا التخصيب عن ميلاد هذه النظرية العربية ؟
الكلمات المفتاحية:الروافد الفلسفية_المرجعيات الفكرية _الدرس النقدي المغاربي القديم_ابو حازم القرطاجني
مقدمة:
عاش الأديب الاندلسي التونسي”حازم القرطاجني في كنف بيئة علمية متميّزة ، فقضى طفولته وشبابه في عيش رغد ، متنقلا بين قرطاجنة ومرسية,كما أنه حفظ القرآن الكريم في صغره ، ووجد من والده خير مُلقِن وموجَه لمعرفة العربية وتعلم قواعدها ،وأخذ عنه شيئا من قضايا الفقه وعلوم الحديث ،وبذلك كان والده أوّل أساتذته ،ولما تقدمت به السن ، انكب بنفسه على تعلم العلوم الشرعية ،حتى فاق أقرانه ، ونضجت شخصيته العلمية ، فكان فقيها مالكي المذهب).[1] ، إلا أنّه خاض غمار التنظير الادبي بتوجيه من أستاذه الذي يعدّ عمدة الحديث والعربية “أبو علي الشلوبين”الذي أمره بالإطلاع على كتب الحكمة الهيلينية ودفعه الى دراسة المنطق والخطابة والشعر، [2]فأقبل حازم على كتب البلاغة و الفلاسفة ينهل منها ويغذي فكره ويقوي اطلاعه ما أهله بعدما ارتوى الى تأليف كتاب “المنهاج “الذي عرف بتميّزه عن مؤلفات عصره وما قبلها .
يعد كتاب “منهاج البلغاء وسراج الأدباء ” لأبي حسن حازم القرطاجني من أهم المصنفات النقدية خلال القرنين السادس والسابع الهجريين ، لما يمتاز به من فرادة في الأسلوب ودقة في المنهج ، ما جعله يؤرخ لمرحلة جديدة في الفكر النقدي لدى العرب ،فقد مزج فيه بين المنظور الفلسفي والمنطقي ليُنشئ علما كليا وهو علم البلاغة بقوانينها ،كما أنه عُني بالشعر كلّه وجزئه ،فقد اصطنع للشعراء والنقاد منهاجا ليسيروا عليه ،وهذا راجع لثقافته الواسعة التي غذاها من منابع غزيرة وروافد متعددة المرجعيات ،”فهاهو كتاب حازم يطلع على الناس اليوم ، بلون غريب من ألوان الدراسة الأدبية ،يحار كل متتبع له في الفن الذي يلحقه به ، والكتب التي يصنفه إليها ، ويقارنه بها “[3]
وإذا حاولنا التنقيب عن السرّ الدفين لهذا التميّز الحازمي يتجلى لنا ذلك المزج الممنهج بين الفلسفة والمنطق والدراسات البلاغية وهذا ما مكّنه من تحقيق التفرد والنجاح في محاولة إرساء نظرية جديدة للأدب بقول :”وقد سلكت من التكلم في جميع ذلك مسلكا لم يسلكه أحد قبلي من أرباب هذه الصناعة لصعوبة مرامه وتوعّر سبيل التّوصل إليه ، هذا على أنّه روح الصنعة وعمدة البلاغة …فإني رأيت الناس لم يتكلموا إلاّ في بعض ظواهر ما اشتملت عليه تلك الصناعة ، فتجاوزت أنا تلك الظواهر بعد التكلّم في جمل مقنعة مما تعلق بها الى التكلم في كثير من خفايا هذه الصنعة ودقائقها “[4] فلعل تميز “المنهاج”يعود إلى تلك الطريقة المغايرة في تناول قضايا البلاغة ومعالجتها فهي “البلاغة المعضودة بالأصول المنطقية والحكمية”[5] ، فقد اعترف كثير من الدارسين بتفوق “المنهاج” وتفرّده ومن بينهم محقق الكتاب محمد الحبيب ابن خوجة “أن لكتاب حازم من علم البلاغة ناحية خاصة يحتلّها من بين الكتب المشهورة ، يمكن أن ننزلها من العلم منزلة الأصول من الفروع ، أو منزلة فلسفة العلم من العلم ، كمنزلة رسالة الإمام الشافعي من علم الفقه أو منزلة مقدّمة ابن خلدون من علم التاريخ “.[6]
وفي حقيقة الامر لا تتأتى أي محاولة تنظيرية ولا تتخصب إلاّ في رحاب الفلسفة فقد تأتي أهمية الفلسفة في المرتبة الأولى من حيث هي نشاط تأملي تحتاج الى كل عملية تنظيرية ومن ثمّ كانت العلاقة التي تربطها بنظرية الأدب شديدة مما جعلها تعرف أيضا “بفلسفة الأدب “[7]ولعل تضافر هاتين الخاصيتين هما ما أهلتا حازم القرطاجني إلى التأليف في نظرية الأدب ، فالمعروف عنه وكما سبق وأن أشرنا توجهه إلى دراسة المنطق و علوم الحكمة الهيلينية عن طريق مؤلفات الفلاسفة العرب وشروحاتهم لارسطو كابن رشد وابن سينا والفرابي وكذا اطلاعه على التراث الفلسفي لارسطو وهيغل وسارتر وكانط وغيرهم وهذا ما جعل كتاب المنهاج متميزا في مضمونه ومتفرّدا في تنظيراته الأدبية والبلاغية
فقد أشار الدارسون أن ثقافة حازم القرطاجني قد امتزجت بعدة ألوان ،واتخذت من عدة أطياف فقد جمع بين الثقافة العربية الأصيلة ،والثقافة الأجنبية ليثري بها عمله النقدي ،وبالتمعن في المنهاج نجد أنه اتكأ على مرجعيتين اثنتين هما : مرجعيات عربية وأخرى أجنبية.
1/الروافد الفلسفية الغربية :
تكمن ميزة كتاب “منهاج البلغاء وسراج الأدباء” في كونه رسم منهاجا للبلغاء وأوقد سراجا للأدباء إذ تتلخص ميزته في ذلك التلاقح بين الثقافة اليونانية والعربية إذ اتكأ في صناعته لنظريته على مرجعيات أجنبية زادت من ثراء منقوله وقوة حجته النقدية فقد عرف الفكر الأرسطي طريقه إلى الفكر البلاغي النقدي عند العرب من خلال بعض القضايا التي حددّها حازم في كتابه وخاصة في مجال الشعر ، ” فبالرغم من أن القرطاجني غالبا ما يكون رجوعه وإحالته على الآراء اليونانية بالواسطة عن طريق الفلاسفة المسلمين ،إلاّ أن السمة البارزة التي تميز بها كتاب المنهاج هي الحضور القوي لآراء أرسطو ونظرياته في الشعر والخطابة ، وذلك ما يدعو إلى القول بأنّ الأثر الأرسطي في النقد والبلاغة العربيين”[8]، لم يعد مقتصرا فقط على الفلاسفة المسلمين بل تعدى ذلك إلى البلاغيين وعلماء النقد و القرطاجني خير دليل على ذلك ،إذ يؤكد الدكتور بدوي طبانة على أن القرطاجني من “العلماء الذين طغى عليهم الفكر اليوناني ،وغشى على آثار شخصياتهم ، وهؤلاء لا يعدون في جملة من أفادوا من الفكرة اليونانية ،أو تأثروا بها لان كتابتهم في البلاغة والنقد الأدبي جاءت أشبه ما يكون بنقل المترجمين أو بشُروح المفسرين لما كتب أرسطو في المنطق والخطابة و الشعر”[9]، هذا التأثر من شأنه توليد تمازج بين الثقافات وإغنائها والعمل على تطورها، كما يؤكد محمد الحبيب ابن الخوجة أنه “لم يكن من بين النقاد العرب من عهد قدامة بن جعفر حتى عهد ابن رشيق من عني عناية ملحوظة بكتاب الشعر لآرسطو المنقول عن السيريانية بأقلام كثير من الفلاسفة أمثال الفرابي وابن سينا وابن رشد”.[10]
تأثّر حازم القرطاجني في كتابه «منهاج البلغاء وسراج الأدباء» بكتاب (فن الشعر) وهذا ما أشار إليه شكري عيادفي هذا الكتاب :”والحق أنّ تأثير كتاب الشعر في(منهاج البلغاء)عميق أشدّ العمق، وأنّ حازما قد جهد أن ينتفع بهذا الكتاب-أو بالصور التي عرفها منه-أعظم الانتفاع[11]، كما أنّ هناك نصوصا أوردها حازم في المنهاج تدلّ على اطّلاعه على كتاب(فن الشعر) منها قوله:”ولو وجد هذا الحكيم أرسطو في شعر اليونانيين ما يوجد في شعر العرب من كثرة الحكم و الأمثال، والاستدلالات واختلاف ضروب الإبداع في فنون الكلام لفظا ومعنى، وتبحّرهم في صنوف المعاني وحسن تصرفهم في وضعها ووضع الألفاظ بإزائها، وفي إحكام مبانيها واقترانها ولطف التفاتاتهم وتتميماتهم واستطراداتهم، وحسن مآخذهم ومنازعهم وتلاعبهم بالأقاويل المخيّلة كيف شاءوا، لا زاد على ما وضع من القوانين الشعرية”[12]،ما يدلّ على اطلاعه وفهمه للشعرية الأرسطية والاستفادة منها ومن بين القضايا الشعرية التي تأثّر بها حازم:مفهوم الشعر،أغراض الشعر، الوزن والإيقاع ،المحاكاة، الاستغراب والتعجب.
ولعل من أهم صور تأثر حازم القرطاجني بالشعرية الأرسطية اقتباسه مصوغات نظريته الشعرية من الفكر الأرسطي وهذا ما يظهر جليا في مفهوم كلّ منهما للشعر ، إذ أشار أرسطو إلى الشّعر على أنّه محاكاة ووزن وإيقاع باعتباره نشأ لسببين ميل النفس إلى المحاكاة، وإلى الإيقاع والوزن. يقول:”ويبدو أنّ الشعر-على العموم-قد ولّده سببان، وأنّ ذينك السببين راجعان إلى الطبيعة الإنسانية، فإنّ المحاكاة أمر فطري موجود للناس منذ الصغر، …….وكذا وجود الإيقاع والوزن، “[13].
ولم يختلف الأمر كثيرا في تحديدهما لمفهوم المحاكاة والتخييل ويظهر ذلك في تعريفهما “بأنّها فطرة أوغريزة إنسانية ، يقول:أرسطو”ويبدو أنّ الشعر-على العموم-قد ولّده سببان، وأنّ ذينك السببين راجعان إلى الطبيعة الانسانية،فإنّ المحاكاة أمر فطري موجود للناس منذ الصغر”[14]، أمّا حازم فيقول:”لمّا كانت النفوس قد جبلت على التنبه لأنحاء المحاكاة واستعمالها والالتذاذ بها منذ الصّبا، وكانت هذه الجبلّة في الإنسان أقوى منها في سائر الحيوان”.[15]
كما نجد تشابها بين أرسطو وحازم في أقسام المحاكاة، إذ حصر أرسطو أقسام المحاكاة في: محاكاة تحسين ومحاكاة تقبيح و محاكاة مطابقة، يقول: “وإذا كان من يحدثون المحاكاة إنّما يحاكون أناسا يعملون، وكان هؤلاء المحاكون-بالضروروة -إمّا أخيارا وإمّا أشرارا(فإنّ الأخلاق تخضع غالبا لهذين القسمين، لأنّ الرذيلة والفضيلة هما اللّذان يميزان الأخلاق كلّها)فينتج من ذلك أنّ المحاكين إمّا أن يكونوا خيرا من النّاس الذين نعهدهم أو شرّا منهم أو مثلهم”[16]وبذلك تنقسم التخاييل و المحاكات عند أرسطو بحسب ما يقصد بها الى :”محاكاة تحسين ومحاكاة تقبيح ومحاكاة مطابقة لا يقصد بها إلا ضرب من رياضة الخواطر والمُلح في بعض المواضع التي يعتمد فيها وصف الشيء ومحاكاته بما يطابقه ويخيّله على ما هو عليه. وربما كان القصد بذاك ضربا من التّعجيب أو الاعتبار”[17] .
فتأثر حازم بأرسطو كان تأثرا بالغا بخلاف غيره من النقاد الدارسين، وإن لم يُرد اسمه سوى مرتين ، إلاّ أنه نقل عنه من ابن سينا والفرابي ،ولم ينقل عن ابن رشد رغم تأثره به ،وتبقى دراسة الباحث الدكتور” الحافظ الروسي “في مدى رجوع حازم إلى ابن رشد من أرقى ما وصل إلينا ،حيث يرى أن”الدافع وراء إغفال حازم ذكر ابن رشد يرجع إلى طلب التميز،إضافة إلى موقف ابن رشد من الشعر العربي ونظرته إلى القوانين الأرسطية”[18]، فالمرجعيات التي ارتكز عليها القرطاجني في بلورة معالم نظريته النقدية ترجع في الأصل إلى كتب أرسطو ” كتاب الشعر ـــ وـــ فن الخطابة “،و شروحاتها المتناقلة عن طريق الفلاسفة المسلمين.
أما محقق كتاب المنهاج الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة يرى في مقدمة كتابه ذلك التأثر العميق بآراء أرسطو من قبل القرطاجني الواردة عند ابن سينا ” فبقدر ما يبدو انفعال حازم وتأثره بابن سينا عظيما فإن اعتماده على أبي نصر الفرابي وإحالته على ترجمته لكتاب الشعر لم تكن إلاّ مرتين يعرض فيها رأيه ويناقشه ،أما الشرح الوسيط لابن رشد فهو يغفل ذكره قصدا و لايحيل عليه.بوضع كتاب المنهاج الذي جمع بين المبادئ والأصول الهيلينية والعربية”[19]،فقد بذل حازم جهدا كبيرا في قراءة التراث واستفادته من أفكارهم وآرائهم وقد أجاد في الجمع والمزاوجة بين الرافدين العربي واليوناني ،وارتقى هذا الجمع باستيعابه لجل الآراء وتمثيلها في منهاجه أحسن تمثيل .
إن كتاب ” المنهاج ” للقرطاجني يعُد ثورة ومكسبا للنقد العربي القديم ،فقد تناول صاحبه عدة قضايا تبرز نظرته الفريدة والمتميزة ،متكأ في ذلك على جملة من المرجعيات كانت سندا له في بلورة مولده الجديد ،فقد مزج بين الزخم المعرفي العربي والتأمل الفلسفي الأجنبي ليُلون نظريته فتصبح اكثر دقة و تكامل وشمولية ، وهذا نابع عن مدى وعيه النقدي والبلاغي الذي افتقر إليه باقي النقاد العرب.
2-الروافد الفلسفية العربية للدرس النقدي عند حازم القرطاجني :
تَمَيُز المِنهاج يَرجع إلى اعتماد صاحبه على كتب سابقيه من النقاد والبلاغين ، فكان يشير إليهم إشارة واضحة و (( يحيل إلى مؤلفاتهم و تصانيفهم …فيُلفت أحيانا الأنظار إلى آراء الجاحظ والآمدي ،ويتعرض بكثرة إلى مقالات قدامة ابن جعفر وابن سنان الخفاجي))[20] ، استطاع القرطاجني أن يستثمر في آراء كل هؤلاء ، وينتج آراء أخرى في صيغة متجددة مما أهله للتُفَرُدِ في بلورة إبداع نقدي مُتَميز.
اعتمد القرطاجني في منهاجه على العديد من المصنفات العربية النقدية ،لكنه ركز على مجموعة من الكتب دون غيرها ،فقد أفاد منها إفادة مباشرة ،وأشار إلى آراء أصحابها وأقوالهم في كتابه ،وحسبنا أن نركز على ما اعتُمد من طرفه بكثرة .
ومن الكتب التي يُرجح أنه أخذ عنها بشكل كبير هو كتاب ” العمدة ” لابن رشيق القيرواني مع إغفاله أو إعراضه عن ذكر صاحبه ، ومنها أخذه حازم عنه هو ( المعرف الدال على طرق المعرفة بما تكون عليه معاني من كمال أو نقص )،[21] وقد وقف حازم على بين الشماخ الذي يقول فيه :
متى ما تقع أرساغُهُ مُطمئنة على جَحَر يَرفَضُ أو يتدحرج
وقد وقع تقسيمه على هذه الشواهد ،فيقول في المعنى : ( وليس لقائل ان يقول : إنه غادر قسما ثالثا ، وهو أن تكون الأرض رخوة فيسوخُ الحجرُ فيها ، فإنها الأرض إذا كانت بهذه الصفة ، لم يقع الحافر عليها ،وقوع اطمئنان واعتماد ، فبقوله مطمئنة ،صَحَت القسمة وكمُلت.)[22]
فبالرغم من أن ابن رشيق ذهب إلى أن الشماخ لو جاء بهذا القسم الثالث لأحسن وأجاد ، إلا أن حازم لم يُشير إلى هذا ، يقول ابن رشيق في ذلك : ( فلم يُبقِ الشماخ قسما ثالثا إلا أن يقول : يغوص في الأرض ، وذلك لا يلزم من جهة أن الحافز عند الجري وسرعة المشي يقذف الحجر إلى وراء ،إلا أنه لو أتى به لكان حسنا من أجله قوله ( مطمئنة )[23] ، لقد اعتمد حازم على العديد من الشواهد التي اعتمدها ابن رشيق القيرواني دون الإحالة إليه، فقد جعل حازم من هاته النقول مرجعا في تدعيمهم نظريته النقدية سواء كان الأخذ مباشرا أو غير مباشر بعض الأحابين : “فقد كانت أفخم وأتم ما صنف في علم الشعر لذلك العهد ،ويدل على وقوف حازم على مجموع التآليف المذكورة في هذا القسم تناوله لموضوعاتها وإشاراته إلى مباحثها”،[24] ويشير هنا محمد الحبيب ابن الخوجة إلى مكانة كتاب( العمدة )وثرائه واعتماد حازم على جُملة من الشواهد التي وقف عليها ابن رشيق .
أما كتاب ” نقد الشعر” لقدامة بن جعفرفهو من أهم المراجع التي تتصدر المرجعيات المتكأ عليها من قبل حازم القرطاجني إذ أننا نلقي هذا الأخير يعتدُ بأقوال قدامه في أكثر من موضع في المنهاج ،وقد سار على خطاه على مستوى التقسيمات والتفريعات ، وإن كان قدامة قد فاق حازما في التنظير والتطبيق.
خصص حازم معلما مستقلا وهو ” المعلم الدال على طرق العلم بالمناسبة بين بعض المعاني والمقارنة بين ما تناظر منها”[25]،فقد تناول في هذا المعلم ما سماه ” المذاهب البلاغية” وهي :” المطابقة والمقابلة والتقسيم والتفريع”[26]، .فقد نحى نحو ماجاء به قدامة في ( باب نعوت المعاني)[27] ، لكنه لم يأخذ عنه مباشرة ، ” لم يتسن لحازم الاطلاع على كتاب نقد الشعر فجعل ينقل عنه بواسطة عمدة ابن رشيق).
أما الكتاب الثالث الذي اخذ عنه حازم بعد ” عمدة ابن رشيق ” ونقد الشعر” لقدامه ، هو “سر الفصاحة ” لابن سنان الخفاجي ، فقد أعجب حازم بآرائه، فنهل منه ، ومن أمثلة ذلك ” ما تناوله حازم في المعلم الذي خصص للنظر في صحة المعاني وسلامتها من الإستحالة الواقعة بسبب فساد التقابل”،[28] فالقرطاجني هنا لم يكتف بأخذ تعريف معنى التقابل مُبينا جهاته الأربع عن الخفاجي فحسب ،بل إنه عكف على تشكيل معلمه هذا في جله من الشواهد التي جاء بها الخفاجي بل أكثر من ذلك نراه يجعل كلامه من كلام الخفاجي في إضاءة كاملة خصها لبحث تقابل المعنيان من جهتين.[29]
استند حازم في جُل آرائه على الأخذ والنقل ، لكن نقوله امتازت عن غيره بحسن التنظيم ، وإجادة الربط بين أجزائه ، والشرح المبسط ، فهو يعتبر من أبرز وأحسن المطلعين على جملة من ثمار النقد العربي ، كما أنه أورد في كتابه أقوالا وآراء ” الجاحظ ،وابن المعتز ،وقدامة والآمدي ،وابن سنان الخفاجي وغيرهم ،وهو حين يستشهد بكلام أحدهم يمزج العرض بالشرح والتعليق والموازنة بينه وبين غيره من الآراء ،وأحيانا يبسط آراء غيره في قوة واقتدار مع إبداء رأيه الشخصي من ظلال توليد أفكار جديدة من أخرى قديمة مما يدل على أصالة رأيه ، وعمق فهمه.”[30] والجدير بالذكر إلى أنه أنشأ نظريته النقدية بالاستناد على من سبقوه أمثال العسكري وعبد القاهر الجرجاني وابن الأثير وغيرهم ،لتتبلور نظريته في حُلة جديدة تضاف إلى مصاف الإبداعات النقدية.
نتوصّل بعد هذا الكشف لتلك الروافد الفلسفية عند حازم القرطاجني أنّ هذا الناقد الجليل استطاع أن يستنطق النصوص التراثية و الفلسفية بعقل واع وذوق رفيع يتناسب وتطلعه لإقامة نظرية أدبية عربية تستند إلى مجموعة من القوانين والنظم التي تتحكم في عملية إنتاج النصوص الشعرية من جهة و نقدها وتحليلها وكشف أبعادها من ناحية ثانية ، كما استطاع بلورة القضايا التنظيرية التي كان يشتغل بها فاطلاعه على الفلسفة الأرسطية التي لعبت دورا كبيرا في صقل آرائه في مسائل الشعر والشعرية والمحاكاة والتخييل وما يتعلق بها من توصيف للأدب
هوامش البحث:
- أبي حسن حازم القرطاجني تقديم وتحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة ، دار الغرب الإسلامي ط3بيروت ، 1986، صفحة المقدمة
- ينظر:المصدر نفسه ص 53
- المصدر نفسه ص18.
- أبو الحسن حازم القرطاجني ، منهاج البلغاء وسراج الادباء ، ص53.
- المصدر نفسه ،ص 231.
- ينظر :مقدمة المصدر ص10.
- بيربرونيل وأ.م روسو وكلود بيشوا ما الادب المقارن ؟ تر:عبد الحق حنون ونسيمة عيلان وعمار رحال ،د,ط منشورات مخبر الادب العام والمقارب ، جامعة باجي مختار عنابة ،2005،ص179.
- ينظر: عباس أرحيلة.:الأثر الأرسطي في النقد والبلاغة العربيتين إلى حدود القرن الثامن الهجري ، ص41
- النقد الأدبي عند اليونان : بدوي طبانة ،مكتبة الانجلو المصرية ،القاهرة ،1969،ص 236-264.
- المنهاج ،المقدمة ص31.
- أرسطوطاليس،في الشعر، نقل:أبي بشر متى بن يونس القنائي من السرياني إلى العربي،تح وتر:د:شكري محمد عياد،الهيئة المصرية العامة للكتاب،1993ص244.
- حازم القرطاجني ، منهاج البلغاء وسراج الأدباء ،ص69.
- أرسطو طاليس،م س ، ص36،38.
- أرسطو طاليس، م ن، ص77.
- حازم القرطاجني ، منهاج البلغاء وسراج الأدباء ،ص116.
- أرسطو طاليس، م س ، ص32.
- حازم القرطاجني ، منهاج البلغاء وسراج الأدباء ،ص92.
- ظاهرة الشعر عند حازم القرطجني : الحافظ الروسي ص 116.
- المنهاج : ص 118 ( مقدمة المحقق).
- المنهاج : ص 100-101 ( مقدمة المحقق).
- . المنهاج: ص155.
- المنهاج :ص155 ،ينظر نقد الشعر: تحقيق عبد المنعم خفاجي،دار الكتب العلمية ،بيروت،ص139.
- العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده:ابن رشيق ،تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ،دار الجيل ،ط5،ج2،ص21.
- المنهاج : ص 115( مقدمة التحقيق ).
- _المنهاج:ص 44.
- _المصدر نفسه: ص 59-52-48.
- _ نقد الشعر: قدامة بن جعفر ،تحقيق عبد المنعم خفاجي دار الكتب العلمية ،بيروت،ص 147-146-142-141-139.
- _المنهاج: ص37
- _ المصدر نفسه :ص 137،ينظر :سر الفصاحة : ابن سنان الخفاجي ، نشر دار الكتب العلمية ،ط1،بيروت ،ص 238-239.
- _ كتاب أرسطو طاليس في الشعر :تج شكري عياد ، دار الكتاب العربي ، القاهرة ،1967،ص 243
*أستاذ محاضر “أ”، كلية الآداب والفنون، جامعة حسيبة بن بوعلي، الشلف، الجزائر
Leave a Reply