حكى خالد بن سلام قال مرّة كنا قد خضنا فى الحديث عن الأمم والملل، فتكلّمنا عن الأقوام والنحل. وتحدّثنا عما لكل أمّة من المزايا، وكيف دفعت بعضها عن نفسها الرّزايا. وكيف نرى بعض الأمم ترزح تحت نير العبودية، وتنوء كواهل رجالها بأعباء المرءوسية. وكم من أقوام دافعت عن حياضها بكل قوّة وبسالة، وكشحت عباءة العبودية عن نفسها بجهاد وصلابة. إنها لم ترض لنفسها العيش فى أحضان الرّق والإذلال، بل نأت بنفسها عن أن تباع حرّيتها أو يستغلها كل من أراد الاستغلال. فرفعت مكانة ملّتها بين الأقوام، وفرضت نفسها على كلّ من لم يكن يعترف لها بتقدير واحترام. وإذا أردنا أن نبحث عن الأمثلة، فهى تغنينا عن الأسئلة. وحتى فى عصرنا هذا الذى تُشترى فيه النفوس وتباع، وإذا امتنعت نفس ينقضّ عليها الناس مثل السباع، أو تفترسه المفترسات الإنسانية مثل الضّباع.
لكن النفوس الأبيّة فى كل عصر ومصر تتجلّد عند المصائب والمحن، وتصبر على النوائب والفتن. وأما النفوس الخسّيسة فهى تركع أمام الظالمين عند أدنى خوف وهلع، وتترك إرثها العظيم وقت الشدة والفزع. ونفوس الصاغرين نفوس ذليلة مهينة، وقلوبهم مليئة بحقد وضغينة، وعاداتهم تكون رديئة دنيئة. وهم يحذون حذو العبيد، ويأخذون إخذ الباطل الذى يبدو أقرب إليهم من حبل الوريد. وللناس فى الدنيا أطوار وأحوال، وكل يوم يأتى لهم بحوادث وأهوال. وأصحاب النفوس الأبيّة الشريفة يذودون عن ملّتهم، و يُذيبون فى هذا السبيل انشقاقهم فيما بينهم الذى هم يعتبرونه علّتهم.
وبينا كنّا نذكر كل هذا وعنه نتكلّم، إذ بدأ البعض منا يهزّ رأسه وهو ينصت ويتفهّم. وقال قائل إننا نجد فى بعض الأقوام والملل عجائب، ونرى فيهم غرائب. وإن تكن معظم الأقوام تخضع لسلطان القويّ من الناس والجبّار، إلا أنه لا تزال توجد فى الدنيا بعض الملل التى لا تذعن إلا لله الواحد القهّار. وخير مثال على ذلك هم الأفغان، والذين دمّروا سلطان الروس والأمريكان، وحاربوا شياطين الظلم والعدوان. و قد كالوا للمجرمين السفّاكين صاعاً بصاع، ولم يخافوا بطش الأقوياء فيتركوا أجيالهم في حيرة وضياع. إنهم كافحوا الاستعمار وناضلوه، وصارعوه وصاولوه. إنهم المجاهدون الأبرار، وإن شاء الله سيكونون فى الآخرة مع الصّديقين الشهداء والأخيار، لأنهم بجهادهم أنقذوا بلادهم وأناسهم من مكائد الأشرار. فراستهم عظيمة و مشهورة، وقصّة بسالتهم ذائعة و معروفة. أشدّاء على الكفّار، ورحماء فيما بينهم وعلى كل من يسبّح بحمد الرحمان بالليالى والأسحار. ثمّ أنشد قائلا:
الأفغان قوم ذوو نخوة وبسالة
وهم ورثة الأبرار ومن خير سلالة
عرفوا فى الزمان بالنبل والشجاعة
وحكموا البلاد بالفخر والجلالة
وقد سنّ لهم آباءهم سنن ال
فضل والكرم فنبذوا الجهالة
وورثوا عن الأجداد بالإيمان رسوخا
فلا يستطيع أحد أن يجرّهم إلى الضلالة
ويشهد بعلو قدرهم التاريخ
فهو قد دوّن أدوارهم الفعّالة
كلام المجاهدين الأفغان فيما بينهم حلو عذب مثل الماء الزّلال، ويقع حديثهم كالصّاعقة على قلوب أهل الشرك والضلال. تاريخ ماضيهم تاريخ مشرق عظيم، وذكرهم أحدهم فيه إمّا برجل حليم أو كريم. ويكفيهم فخرا أنه لم تستطع الدول القويّة الكبرى أن تستعمرها، ولم تتمكن من أن تُخضعها لسلطانها أوعلى الاستسلام لقوّتها تجبرها. وبريطانيا العظمى فى أوج سلطانها، لما حاولت استعمار الأفغان لحقها خسرانها، واندكّ بنيانها. والقضيّة قضيّة شهيرة معروفة، وهى من الحوادث التى هى مقروءة فى كتب التاريخ ومدروسة. ويُروى- والعهدة على الرواة- أن بريطانيا العظمى الحاكمة فى الهند بالسلطة والبأس، لما أرسلت جيشا لقتال الأفغان ذوى الغيرة والقوّة والحماس. أذاقهم الأفغان أسوأ نكال، ولم يتركوا منهم إلا واحدا ليذكر لهم عن الحال، ويحدّثهم عن مصارع الإنجليز والمآل. ومنذ ذلك الحين انتشر خبر شجاعتهم انتشار النّار فى الهشيم، ويفكّر مرّتين قبل المجازفة كل غاصب ظلوم وعدوّ غشيم.
وإذا أمعنا النظر فى تاريخ أفغانستان نجد فى الماضى القريب أن روسيا لما حاولت استعمار البلاد، وبذلت جهدها فى استعباد العباد، قاوم الأفغان ذلك العدوان بقوّة الجهاد، وأذاقوا الروس من النكال ما جعلهم يعيشون فى مثل أيّام الحداد. انسحبت روسيا من أفغانستان تجرّ أذيال الهزيمة، وأيديها ملطّخة بدماء الأبرياء والجريمة. وكانت لهذه الهزيمة من الأثر السيئ ما الذى هدّد بنيانها، وتفكّكت من أجله أركانها، فذهبت ريحها، وغابت هيبتها. وانقسمت روسيا إلى دويلات عديدة، ووجدت حدودها تُرسم فى خريطة جديدة. وانهار بنيان اقتصادها، واختلّ توازن سلطانها. ومنذ ذلك الوقت هى تلعق جروحها، وتسترحم من يأسو كلوم قلوبها. لم تتعلم روسيا من هزيمة الإنكليز أىّ درس، فوجدت نفسها بعد حين ملقاة فى مأزق شديد وبعد فى مثل الرمس.
واقتفى فيما بعد أثر روسيا الأمريكان، فظنّوا أنهم وحدهم فقط أصحاب كلمة الحقّ والفرقان، وخيّل إليهم أنه قد اجتمع لهم لكلّ شئ برهان، ويفوق سلطانهم كل قوّة وسلطان، واعتبروا أنفسهم ذوى العدل والعرفان، والحكمة والبيان. وبقصد استعمار البلاد دسّسوا مكائد، ونصبوا مصائد. ودمّروا مؤامرة للمهاجمة على أفغانستان، وحاولوا بالهجوم عليها زعزعة الأمن والسلام فى جارتها وشقيقتها باكستان، وبذلك حاولوا أن يجعلوا البلدين المتجاورين يفقدان الأمان. فأخذوا العدّة والعتاد، ولكن دون نيل بغيتهم خرط القتاد. قاموا بالهجوم على أفغانستان بكل قوتهم، لكنهم وجدوا أن المجاهدين الأفغان قد صمدوا لهم بكل شجاعتهم.
والآن قد حمى وطيس الحرب وهى جارية على قدم وساق، ولكم رأينا أمريكين قتلوا والتقت فى قبورهم الساق بالساق. وقد بدأت تتراءى للأمريكان للهزيمة أشباح، فبدأو يعدّون أيامهم فى المساء والصباح. وقد نكّبوا بمثل ما نكّب به الإنجليز والروس، ولم تنفعهم كثرة عددهم ولا ما بثّوه فى المدائن من جاسوس، وقد بدأ الأمريكان الانسحاب من أفغانستان، بعد أن مُنوا بمرارة الهزيمة والخسران. ووجدوا اقتصادهم فى اختلال كبير، ونظامهم فى انهيار خطير. وهذا هو جزاء كل مختال جبّار، وعقاب كل كافر فجّار.
Leave a Reply