ملخص البحث:
تروم هذه الورقة للحديث عن الخطاب التعليمي، وهو ذلك الخطاب الذي يتم داخل الصف، والذي يكتسي طابعا تداوليا يجعل النص الأدبي التعليمي بين لغتين؛ اللغة المرجعية واللغة التعليمية، معناه أنّه خطاب يتم فيه تحويل المادة العلمية إلى مادة ذات طابع تعليمي، ويعمل الأستاذ في الخطاب التعليمي على تبسيط النص التعليمي قدر الإمكان ليجعله في متناول التلاميذ المتلقيين، ولكن كل مادة دراسية يتعرض لها التلميذ تخضع لإجراءات ديداكتيكية تجعلها قابلة للتدريس، فليست كل النصوص قابلة للدخول إلى قاعة الدرس، فلا بد من إجراء ما لكي تكون في مستوى التلميذ وهذا ما نصطلح عليه بالتحويل الديداكتيكي، والرهان الذي يجب ربحه هو إيجاد الطرق والوسائل التي تسمح بتقريب التلاميذ بقدر الإمكان من المعارف الثقافية والمرجعية من دون تحريف هذه الأخيرة، وسنحاول في الأخير أن نطبق بعض آليات التحويل التعليمي على نماذج من نصوص السنة الثانية ثانوي شعبة الآداب واللغات.
الكلمات المفتاحية: الخطاب، التعليمية، المرجعية العالمة، التحويل الديداكتيكي.
1- مفهوم الخطاب التعليمي:
إنّ الخطاب التعليمي هو ذلك الخطاب الذي يتم داخل الصف، والذي يكتسي طابعا تداوليا يجعل النص الأدبي التعليمي بين لغتين؛ اللغة المرجعية واللغة التعليمية، ما معناه أنه خطاب يتم فيه تحويل المادة العلمية إلى مادة ذات طابع تعليمي، وهو أيضا خطاب يتكرر فيه خطاب الآخر وهي ميزة خاصة بالعمل التربوي، ويمكن أيضا تحديده انطلاقا من مقابلته مع الخطاب الجدلي[1]، وذلك من خلال الاختلاف الموجود في العلاقات بين المتكلمين، “فالخطاب التعليمي ينطلق من الثنائية (أنا إلى أنت) أو (أنا – أنت)، لكن الخطاب الجدلي (السِجالي) يقوم على أساس الثنائية (أنا مقابل أنت)[2]، ومعلوم أن الخطاب عامة عند اللسانيين “يفترض وجود متكلم ومخاطب وإرادة من الجانبين للتأثير في الآخر”[3]، “وتتحدد طبيعة الخطاب بنوعية العلاقة بين المتخاطبين ومقتضى الحال”[4]، ويتم هذا التواصل عبر قناة يتم نقل الخبر بواسطتها.
ويعمل الأستاذ في الخطاب التعليمي على تبسيط النص التعليمي قدر الإمكان ليجعله في متناول التلاميذ المتلقيين، والخطاب التعليمي من وجهة نظر اللسانيين:”هو كل ما ينتجه الديداكتيكي من ملفوظات شفهية أو مكتوبة، له خصائص ومميزات من بينها كونه تفاعلي وإرشادي …”[5]، ولا يخفى على أي أحد أن التعلم داخل المدرسة يأخذ فيه الخطاب الشفوي القسم الأكبر لذلك ينبغي التركيز على هذا الجانب من حيث الأداء اللغوي، ولا يتم ذلك إلا من خلال التكرار والاستماع للأنماط اللغوية الممارسة في محيط الطفل اللغوي، إذ أن تعليمية اللغة تهدف إلى إكساب المتعلم مهارة التعبير الشفوي لأنّه هو الطاغي على ما سواه في الممارسة الفعلية للحدث اللغوي”[6]، وقد وصلت مؤخرا تعليمة وزارية لطور التعليم الثانوي تعزز هذا، مطالبة الأساتذة بالتركيز على التعبير الشفوي وأخذ مشاركة التلاميذ في بناء الدرس بعين الاعتبار، وإضافة نقاط تثمين تضاف إلى نقطة المادة النهائية، والتعبير الشفوي هو العملية التعليمية التي تقوم على تعليم فن التواصل وتنمية مهارة الحديث والاستماع، ويتم ذلك بقيام أحد التلاميذ للتحدث في موضوع ما مبرزا فيه رأيه ومضفيا عليه سماته الشخصية وذلك شريطة التحدث بلغة سليمة، وهو الإفصاح عما في نفس الإنسان من أفكار ومشاعر عن طريق المشافهة، لذلك يعد التعبير الشفوي المنطلق الأول للتدرب على التعبير لأن مهاراته “غرس الثقة بالنفس وزيادة القدرة على اختيار الأفكار وتنظيمها وزيادة القدرة على استخدام الكلمات المعبرة واستخدام الصوت المعبر والنطق المتميز واستخدام الحركات الجسمية والوقفة المناسبة والقدرة على تكييف الكلام وتنظيمه وتوظيفه بحسب الموقف المطلوب”[7]، كما أن مهارة التعبير الشفوي تساعد على إيجاد التفاعل بين المتعلم والمادة التعليمية، ويتحقق ذلك بسعي معلم اللغة إلى جعل القواعد البيداغوجية وسيلة مساعدة في انتقاء المادة التعليمية بالاستناد إلى ما تقدمه القواعد اللسانية، ويكون هدف هذه القواعد بالدرجة الأولى تسهيل عملية تعليم الكيفية التي تستعمل وفقها اللغة داخل المجتمع، والخطاب التعليمي قديما ليس كما هو الآن في العصر الحديث وفي خضمّ المقاربة بالكفاءات، كطريقة حديثة تتمثل في تمكين المتعلم من كل الشروط والوسائل للتفاعل البنّاء في ممارسة تعلمه الذاتي، وبالتالي”فهو العنصر والفاعل الأول الذي ينشئ معرفته للوصول إلى الكفاءات ويبني المتعلم المعرفة ذاتيا”[8]، مشاركا وبحرية في الكلام ومتفاعلا في الصف، ويتجلى دور المدرس في ذلك بإرشاده وخلق مواقف بيداغوجية تظهر حب الإطلاع والاكتشاف، و”ليس ثمة شك في أن التعبير الكتابي لابد أن يُمهد له بالتعبير الشفهي، فهو المقدمة الضرورية للكتابة الإنشائية، ذلك أن الإنسان قد بدأ بالكلام قبل أن يستخدم الكتابة في تواصله والتعبير عن نفسه … وهذا يعني أن التلميذ عليه أن يتقن أمرين قبل الشروع في تدريبه على الإنشاء، وهذان الأمران هما:
– امتلاكه القدرة على التعبير الشفوي (المحادثة) أولا.
– قدرته على الكتابة السليمة ثانيا[9].
وإنْ كانت المقاربة بالكفاءات تركزّ على المتعلم باعتباره القطب الأساس في العملية التعليمية والتعلّميّة، إلا أنّ المعلم يلعب الدور الأكبر في التحكم في الخطاب التعليمي وتسييره نحو الأحسن ولا يكون ذلك إلا عن طريق، الإلمام الجيد بطرائق التدريس، وتوزيع المواد في أوقات كافية خلال التوزيع السنوي، وحمل التلميذ على العمل الفردي، واستغلال جهوده الخاصة في ترتيب دروسه وأوقاته، كما يجب على المعلم أن يجاري أهم الدراسات العلمية والديداكتيكية في مجال اختصاصه وتمثله لها.
وإضافة إلى كل هذه العموميات التي يقترحها خبراء التربية ورجال علم النفس كان على هذا المعلم أن يوجد العلاقة المتينة بينه وبين تلامذته وطلابه[10]، وبالإضافة إلى الكلام توجد وسائل خطاب أخرى مثل نبرة الصوت، الإشارات وحركات اليدين والعينين وتعابير الوجه وحركات الجسد عموما في القسم وفوق المصطبة، أو ما يسمى بلغة الجسد، كلها تعد من أهم الوسائل في التبليغ والإقناع إلى جانب اللغة، وكلها تساهم في إثراء الخطاب التعليمي، وإنّ من السلبية محاولة الإصرار على عدم تحريك اليدين أثناء الخطاب، وعلى هذا يوجد أثر الحركة الجسدية بعمق في فهم دلالاتها ووظائفها؛ لأنّها حاضرة في التراث وفي تجاوب هذا التراث مع المتطورات والمتغيرات الحضارية المختلفة في مختلف المستويات والبيئات الشعبية؛ ولكن لابد لهذه الحركة من سياق لتكون دلالتها أعمق، وأثرها أبلغ وخطابها أوضح … ومجمل القول أن الحركة الجسدية أداة تعبير تنقل الوعي من فضاء إلى فضاء في لحظة تختصر فيها كثيرا من الكم الصوتي واللغوي … وهي وسيلة من الوسائل السريعة التي تسمح للملتقي من أن يتجوّل في مخزونه الثقافي وفق شحنات الخطاب لتفجّر مكامن ذاكرته[11]، ويجب على الأستاذ أن يدرّب تلاميذه على كل هذه المهارات التي يوصل بها كلامه ومعلوماته وخبراته ومشاعره، ويحيلنا الحديث هنا عن الأداء الفعلي للكلام، إذ أن جميع مظاهر الجسم لدى المتكلم تتدخل لتحقيق الممارسة الفعلية للحدث اللغوي”[12]، وتتمثل هذه المظاهر الجسمية في المميزات الفوقية التي ترافق الكلام.
“وهناك ما يسمى في اللسانيات بالمميزات الفوق صوتية supra segmental المرافقة للكلام المنطوق لتسهم في نقل المعنى المراد تبليغه مثل (النبر)streres والنغمة intonation والوقت pause … الخ”[13]. وهي من السمات المميزة للنص التعليمي المنطوق عن المكتوب، كما أن” هناك ما يسمى في اللسانيات أيضا بالمميزات الفوق اللغوية Pardinguristique المرافقة للكلام المنطوق أيضا مثل (الإشارة) و(الإيماءة) و(تعبير الوجه) وكل ما يدخل في إطار لغة الأجسام (body langage) لغة الإشارة أو لغة السيميائيات Semiotics))[14].
كما يشمل الخطاب التعليمي أيضا الكتاب المدرسي الذي يعتبر سندًا تربويًا ومعرفيًا مهمًا في العملية التعليمية التعلميّة داخل الصف المدرسي، فهو مرجع القياس للتلميذ والأستاذ على حد سواء، وما يحمله من معارف وحقائق ومعلومات ونظريات وضعها وسطّرها أساتذة ذو خبرة ومراس واطلاع بما تتبناه السلطة من سياسات تربوية، فهو أداة ثقافية لتكريس القيم الاجتماعية السائدة في المجتمع، ووسيلة تربوية لدى المعلمين، لكنّه أيضا جهاز تحكم من قبل الدول لتنفيذ السياسات المعتمدة، كما أنه قناة أساسية لتوصيل المعلومات، وتنمية القدرات والكفاءات … [15]، ويظهر الخطاب الثقافي والإيديولوجي الذي تعمل الكتب المدرسية بوعي أو بدونه – على تصريفه من خلال النصوص: أنّها تقوم على تشغيل كل مبادئ الخطاب وتسمح في مستوى أعلى بعرض المفاهيم المركبة والفوارق الدقيقة. إنّ اختيارها واختيار عناوينها وتنظيمها وتراتبها ليس أمرا محايدا، بل هو مزود بكثير من المعطيات والمعارف ذات الحمولة الضمنية التي سترافق وعيه وتوجه رؤيته[16].
وللكتاب المدرسي أهمية كبيرة داخل الصف المدرسي وخارجه، للتلميذ والأستاذ معا، ويظـل التسليم بأهميّته أمرا لا يحـتاج إلى تقرير، فبرغم ما أحرزته تكنولوجيا التعليم من تقدم بوسائلها وآلاتها، فإنّ للكتاب المدرسي مكانته المتفردة في العملية التعليمية، فعملية التدريس أيًا كان نوعها أو نمطها أو مادتـها ومحتواها تعتمـد اعتماداً كبيراً على الكتاب المدرسي، كأساس لعملية تعلّم منظّمة، وتعزيز لها، وتحديد المجالات التي يدرس وفقها و”تحصينه من العشوائية والارتجال والتداعيات الحرة التي تخرج به عن سياق نشاطه”[17]، ويعد أحد العناصر التي تمثل “مدخلا رئيسيا من مدخلات النظام التعليمي والأداة التي تسهم بشكل فاعل، إذا ما أحسن بناؤها واستخدامها”[18]، ويعتبر مرافقاً لا يغيب للإطـلاع السابق والمراجعـة التالية “إذ يشكل للمعلم المادة المرجعية التي يمكن أن يرجع إليها. ويقدم إليه عدة تسهيلات لتحقيق الأهداف التربوية وإبراز المفاهيم الأساسية واقتراح الأنشطة ووسائل التقويم. أما بالنسبة للطالب فهو مرجعه الأساسي في دراسة المواد الدراسية ويعتمد عليه في إثراء معارفه وخبراته وهو الصورة التنفيذية للمنهاج الذي يبرز أهميته وقيمته[19]، ويجعل التلميذ أكثر شوقا واستعدادا للعمل والتعلم، ويضبط سلوكه، وينظم أعماله، كما يساعده على الانفلات من الانطوائية والانغلاق على النفس، ويساعده على الانفتاح والجرأة وخوض التجربة، ويمكّن المتعلم”من تدارك ما فاته من أجزاء الدرس، أو من الدروس بأكملها، لسبب من الأسباب القاهرة”[20]، وهو بـهذا ركـن مهم من أركان عملية التعلم، ومصـدر تعليمي يلتقي عنده المعلّم والمتعلّم، وترجمـة حيّة لما يسمى بالمحتوى الأكاديمي للمنهـج، ولذلك تعتبر نوعية وجـودة الكتاب المدرسيّ من أهم الأمور التي تشغل بال المهتمين بالمحتوى والمـادة التعليمية وطريقة التدريس، إذ أن التلميذ لا يرغب في الحصول على كتاب مدرسي يطغى عليه الجانب النظري فقط، بل يفضل دائما الكتاب الذي يحتوي جانبا من التشويق والإثارة للتشجيع على العمل ولفتح مجال المبادرة والخلق والابتكار في أفق التعلم والفهم والتثقيف والتسلية، ومن ثم فالتلميذ يتعامل مع الكتاب المدرسي وفق أغراض ملفتة، لعله يجد فيه ضالته سواء على مستوى المعارف، أو على مستوى إيجاد حل للمشاكل التي تعترض سبيله[21].
وإنّ الكتاب المدرسي في حد ذاته معلم ينمي في التلاميذ القيم، والمهارات، والأخلاقيات، وجوانب الإصلاح المتعددة في صور مرتبة ومنظمة، ويؤثر عليه بسلطة الكلمة المطبوعة، ويعتبر الكتاب المدرسي على أنّه مجموعة من الخبرات التربوية والثقافية والاجتماعية والرياضية والفنية التي تهيؤها المدرسة لطلابها داخل المدرسة أو خارجها بقصد مساعدتهم على النمو الشامل وتعديل سلوكهم[22].
2- مفهوم التحويل الديداكتيكي: التحويل الديداكتيكي وكذا النقل والتحويل التعليمي للعلوم والمعارف هكذا يصطلح عليه وهو نقل المعرفة من فضائها العلمي الخالص والأصلي إلى فضاء الممارسة التعليمية والتربوية أي” إخضاع المعرفة العلمية إلى السياق التعليمي”[23]، ويعود أصل هذا المفهوم وباتفاق جميع المتتبعين لنشأة مصطلح التحويل التعليمي وتطوره “على أن الاستعمال الأول لهذا المفهوم كان على يد العالم الإجتماعي Michel Verret، في ميدان الدراسات الاجتماعية، إذ ما فتئ يؤكد أن الإجراء التعليمي لموضوع معرفي معين يستلزم بالضرورة القيام بكل التعديلات الممكنة التي تقتضيها عملية الانتقال والتحويل لهذا الموضوع من بيئته المعرفية التي نشأ في رحابها وهو جنين إلى البيئة المستقبلة التي هي الحقل الخصب لاستنبات هذا الموضوع و استثماره إجرائيا في الوسط التعليمي الذي هو الهدف والمآل[24]، ثم انتقل المصطلح إلى تعليمية الرياضيات، إذ ظهر أول مرة في مقال مشترك للباحثين:
CHEVALLARD et JOHSUA تحت عنوان “مثال تحليلي عن التحويل التعليمي: مفهوم المسافة”، لقد استعملاه لدراسة إشكالية تكييف المعارف مع مستويات التعليم التي تدرس فيها، أيّ تحليل مراحل تحولها من معارف مرجعية (Savoir savant) إلى معارف مدرسة (Savoir enseigné)، وبفضل الجهود التي بذلها شوفلار Yves Chevallard استثمر علماء هذا الحقل العلمي الدقيق”في ترقية الإجراء التحويلي في الرياضيات وتعميمه في معالجة الصعوبات التي تعترض سبيل تحويل الرياضيات بمنطقها التجريدي إلى معرفة تعليمية.
وفي ضوء هذا التأثير والتأثر يضطلع Y.Chevallard عالم الرياضيات بتأسيس الأرضية لنشأة تعليمية المواد المعارف المنتظمة حيث كل مادة مقصودة للتعلم تقتضي تعليمية خاصة تتميز بتميز موضوع الدراسة الذي يحدد في مجال الانتقال من النظريات المرجعية إلى المعارف التعليمية”[25]، ويرى المختصون في هذا المجال أن المادة المعرفية التي عينت كمعرفة للتعليم، تخضع إلى مجموعة من التغيرات التكيفية Transformation adaptive تجعلها جديرة بأخذ مكان بين أدوات التعليم، لذا يطلق على العمل الذي يجعل من أداة المعرفة أداة التعليم اسم النقل التعليمي[26]، فمفهوم النقلة التعليمية يتضمن فكرتين متقاربتين لكنهما متميزتين، الأولى هي أن التدريس يحوّل المعرفة التي تنتجها الثقافة، فبالنسبة لـ شوفلار الذي ابتكر وأدخل مفهوم النقلة في مجال التعليمية فإنّ المعرفة يتم تحويلها إلى معرفة مدرّسة فعليا، والفكرة الثانية هي أن الإخراج التعليمي أي الديداكتيكي للوضعيات والمشكلات العلمية والتقنية يفترض دائما تكييف الوضعيات المرجعية مثلما تتبدى من المادة أو المهنة[27].
يطرح هذا المفهوم طبيعة ونوع العلاقة الموجودة بين المعرفة المرجعية (معرفة العالم) وما يمكن أن يعلّم من هذه المعرفة في التعليم ما قبل الجامعي، إذ يعرف شوفلار التحويل التعليمي بأنّه:”الانتقال من المعرفة العالمة أو المرجعية إلى المعرفة التعليمية”[28]، والحال أن مفهوم النقل الديداكتيكي أحد المفاهيم المركزية للديداكتيك المعاصر، لأنّه بالذات يكشف عن هويّة الثقافة المدرسية وتميّزها عن الثقافة العالمية عبر عمليات إعادة بناء مؤسسة الهدف منها وضعية التعلم والتكوين المدرسيين، وعلى العموم، “يكمن النقل الديداكتيكي بالنسبة للمدرس في بناء الدروس انطلاقا من المعارف العالمة، لكن مع الأخذ بعين الاعتبار التوجيهات التي تقدمها المعارف الموجهة لأجل التدريس لأجل ملاءمتها مع ظروف الفصل:مستوى التلاميذ، الأهداف المحددة، وإنّ التحويل الديداكتيكي يستوجب انتزاع أحد عناصر المعرفة من سياقه (الجامعي والاجتماعي) لأجل إدراجه داخل سياق آخر خاص بالفصل الدراسي، غير أن المدرس لا يمارس التحويل الديداكتيكي وحيدا، بل داخل إطار المؤسسة التعليمية التي تحدد المعرفة في خصوصياتها وترسم أهدافها ومناهجها ونظامها العقلاني”[29].
إنّ محتويات التعلم لا تنقل في شكلها الأكثر تطورا ولكن تنقل مكيفة حسب المتعلمين، ودرجة نموهم الذهني والأخلاقي والمستوى المعرفي الذي بلغوه ولهذه الغاية تنظم وتهيكل المحتويات وتبسّط وتترجم في أشكال بإمكانها إثارة الاهتمام و تسهيل الفهم، ثم عن طريق التبويب الشكلي تظهر الفصول والمواضيع والدروس التي تتابع حسب منطق وتدرج محددين، بعبارة مختصرة نقول أن المعرفة “تحولت أي تم إخضاعها للتحويل Transposition “[30]، ذلك أنّه إذا كان بالإمكان إعادة صياغة بعض عناصر المعرفة الجامعية بسهولة ويسر بحيث يستوعبها تلاميذ التعليم الثانوي والتعليم الأساسي، فإنّ بعض المعارف الأخرى تبدو شديدة التعقيد نظرا لأنّها مكوّنة من مفاهيم مختلفة ومتباينة مما يجعل تقديمها لتلاميذ هذين المستويين من دون تحريفها أو تشويهها أمرا بالغ الصعوبة.
والرهان الذي يجب ربحه هنا هو إيجاد الطرق والوسائل التي تسمح بتقريب التلاميذ بقدر الإمكان من المعارف المرجعية من دون تحريف هذه الأخيرة[31]، ويشير أستولفي Astolfi إلى أن تعيين عنصر ما من المعرفة العلمية موضوعا للتدريس يحدث تحولا كبيرا في طبيعة هذا العنصر في الوقت الذي تتغير فيه الأسئلة التي يسمح هذا الأخير بالإجابة عنها وكذا الشبكات العلائقية التي يقيمها مع مفاهيم أخرى، وبناء عليه توجد إبستمولوجيا مدرسية Epistémologie Scolaire [32].
3- آليات التحويل الديداكتيكي: هناك آليات وعمليات يشهدها التحويل التعليمي في مسعى المرور من المعرفة العلمية أي المعرفة الأكاديمية كما أنتجها العلماء إلى المعرفة الموضوعة للتدريس، يعني معرفة تتضمن المعرفة العلمية المحولة والممارسات الاجتماعية المرجعية التي تعكس التساؤلات التي يطرحها المتعلمون بخصوص المنفعة التي يجنونها من المواد التي يدرسونها، ويتعلق الأمر هنا بالعلاقة القائمة بين المعرفة المدرّسة واستخدام هذه المعرفة في المجتمع، وقد حاولنا ضبط أهم الآليات والإجراءات والميكانيزمات المحددة التحويل الديداكتيكي نذكر منها:
أ- الاختزال : هو إحدى الضوابط الّتي حدّدهاChevallard سنة 1985م باعتماد ما جاء به Verret سنة 1975م إذ يرى في اختزال المعرفة، أي تحديد المعارف الجزئية واختزالها للانتقال بيسر من الخطاب العلمي إلى الخطاب التعليمي، وقد تُحرَّرُ المعارف المرجعية من ضوابط المؤسسة العلمية التي تنتمي إليها عندما تدرج ضمن مسار تعليمي اختزالي، فتكتسب في هذا السياق التمدرس الجديد ضوابط أخرى يقتضيها النظام الهدف Système cible لم تكن مألوفة في النظام المصدر Système source، ومن ثمة فإنّ الضوابط الطارئة تحدد المسار الجديد للمعرفة الوافدة في الوسط التعليمي وفق الأهداف والغايات العامة والخاصة التي توجه النظام التعليمي حسب سيرورة نقل المعارف وتحويلها واختزالها لغرض تعليمي محدد سلفا[33]، بيد أن الاختزال لا يعني تشويه المعرفة واقتطاعها من هدفها الذي وجدت من أجله، بل لابد من الحفاظ على الخصوصيات العلمية لهذه المعرفة والحرص على تيسيير تحويلها وإدراكها[34].
ب- التبسيط: وذلك بانتقاء المعرفة وتبسيطها دون تشويه لمضامينها الفكرية، وتيسيير مصطلحاتها المفتاحية[35]، لجعلها قابلة للتداول بين المتعلمين ومناسبة مستواهم الإدراكي.
ج- العزل عن السياق الخاص : أو إزالة المرجعية الإبستيمولوجية؛ فأول خاصية تميّز نص المعرفة المدرسية هي انفصاله الواضح عن المحيط والقانون الإبستمولوجي الأصلي للمعرفة العالمة، وتجريده من السياق وألّا يتم الاحتفاظ إلا بالسياق الأكثر عمومية، كما تختلف القضايا في هذا الإطار عن الحجم الحقيقي الذي كانت تشغله وهي في حظيرة البحث، إذ يتم إقصاء وتجاهل المسارات الفعلية واللفظية والظروف الحقيقية التي كانت خلف ميلاد وانبثاق المعرفة وإنتاجه (تجاهل المحاولات الأولية التي مهدت للبحث، والحيرة المنهجية التي شملت لحظات البحث والمشاكل، والظروف الفعلية الخاصة التي طبعت مراحل انبثاق وولادة المعرفة موضوع الاشتغال)، وعزلها عن الوسط المرجع الذي نشأت فيه وإدماجها في سياق تعليمي[36].
د- تجاوز الطابع الشخصي للمعرفة : الخاصية الأخرى التي تميّز نص المعرفة المدرسية، وتعتبر من ميكانيزمات وآليات التحويل التعليمي هي أن المقتضيات الديداكتيكية لتنصيص المعرفة تعمل على عزل المنتوج العلمي عن صاحبه، بغرض تجريد هذا المنتوج من أي طابع شخصي من شأنه التأثير سلبا في الصفاء المفترض للمعرفة العالمة، ممّا يؤكد على أن المدرسة تعمل على تلقين معارف لا تكشف عن الظروف الّتي كانت خلف انبثاقها، أو ما يسمى بعملية اللاّشخصنة processus de dépersonnalisation؛ فالمهم بالدرجة الأولى في تحقيق التحويل التعليمي هو تاريخ الأفكار وما هو قيد الرهان، فعندما نتحدث عن اللاشخصنة فالاهتمام أو الانشغال لا يكون متمركزا حول المبتكر الأول ومن أنتج أو وضع المفاهيم العلمية لمفهوم السرعة مثلا أو مفهوم التسارع أو مفهوم التنفس … الخ، فالمسألة ليست في أن نعرف من بل المسألة في أن نعرف في أي ظروف انبعثت هذه المفاهيم، أو بعبارة أخرى الظروف التي اخترعت أو استحدثت فيها هذه المفاهيم، وحذف الخلفيات النظرية الإيديولوجية والأخطاء والمسالك المتعرجة، وإدماجها في انتماءات أكثر شمولية واتساعا.
هـ- القابلية للبرمجة : القابلية للبرمجة أو التبرمج أي برمجة المعرفة وتنظيمها في وحدات تعليمية مرتبة ترتيبا تطوريا يراعى فيه قدرات المتعلم وكفايته في اكتساب المعارف والمهارات[37]، تعدّ هذه الخاصية من الخاصيات الملازمة للمعرفة المدرسية، التي من وظائفها البرمجة والتخطيط لتوالي المحتوى والمضامين وفق مراحل متدرجة من الصعوبة، ومن ضمن ما تعنيه هذه الخاصية هو أن بعض المفاهيم يحسن تقديمها أو تأخيرها في عملية التدريس على مفاهيم أخرى، وإنّ نص المعرفة وفق هذا المنظور يقوم على شكل خاص من التدرج في المعلومات، ويتم حسب درجة من التعقيد بحيث أنّنا نبدأ دائما بالأبسط فالبسيط لننهي بالأشياء المعقدة[38]، انطلاقا من مستويات متفاوتة، ويتوفر نص المعرفة على بداية ونهاية كما أنّه يعتمد على سلاسل استدلالية مترابطة الحركات، يوفر للمتعلم فرصة إثراء خبرته وهيكلتها مع امتلاك جرأة الاجتهاد والابتكار، ممّا يؤسس للتكوين الذاتي والاستقلالية في اكتشاف المعرفة.
و- الإشهار والنشر: بعد أن يجرد نص المعرفة من أي طابع شخصي، وبعد معالجته على شكل برامج دراسية، وبعد أن يصبح نصا متميزا بموضوعيته يصبح قابلا للعرض والإشهار أمام الجمهور، وبأنّ المعرفة الّتي سيتم تلقينها تتيح إمكانية المراقبة الاجتماعية لعمليات تعلم التلاميذ، ومن الملاحظ أن المعارف الواجب تدريسها، إذا كانت تخضع للتحديد والضبط بواسطة البرامج الدراسية، فإنّ المعارف المدرّسة، تظل محتجبة غير مشرعة لأنّها من مسؤوليات المدرس، لذلك فإشهار المعارف الواجب تدريسها يوازيه احتجاب المعارف الفعلية التي يقوم بها المدرسون[39]، فعملية الإشهار والترويج processus de publicité تعني أنّه لا يمكن أن ندرِّس شيئا لسنا قادرين على وصفه، ويعني الإشهار قدرة المعلم على توضيح ما هو مطلوب منه تدريسه خلال السنة فما هو مدرك بصفة جيّدة يعبّر عنه بوضوح، هنا يكمن أحد أهم التساؤلات إذا ما أردنا مساعدة المتعلمين على التموقع في نتائجهم، وتحديد إخفاقاتهم وضبط مسارهم لممارسة النشاط التعلمي سنة دراسية كاملة في مادة معينة[40]، وتعيّن المعارف التعليمية وتُحدَّد بنص رسمي تشرف على نشره مؤسسة النظام التعليمي وتسهر على إلزامية تطبيقه وتعقب مساره الإجرائي وضبط أهدافه وحصر معوقاته[41].
4- تمظهرات التحويل الديداكتيكي في نماذج من نصوص “الجديد” كتاب السنة الثانية ثانوي شعبة الآداب والفلسفة واللغات الأجنبية:
يشكل الكتاب المدرسي الدعامة الأساسية للفعل التعليمي والتعلمي، ويحمل في طياته ما يعمل على إثراء مدارك التلميذ وبالتالي نمو قدراته ومعارفه، كما يعمل على تحصيله للملكة اللغوية، ويقدم “نظرة ناقصة عن واقع معقد، نظرة اختزالية وتبسيطية، إنّه يقوم على اختيارات على مستوى المعرفة، ولا يبقي منها إلا المظاهر الأساسية”[42]، تمثل سنداته ونصوصه المادة المعرفية، والمضامين العلمية التي سيشتغل عليها المتعلم بمساعدة المعلم أثناء حصة الدرس من أجل بناء التعلّمات واكتساب القدرات والمهارات المرسومة من كل درس، ولأنّ أي مادة دراسية تخضع لإجراءات ديداكتيكية تجعلها قابلة للتدريس فيما يسمى بالتحويل الديداكتيكي، فإنّ نفس المسار تأخذه نصوص الكتاب المدرسي وسنداته، حيث ليست كل النصوص قابلة للدخول إلى قاعة الدرس، فلابد من مراعاة الفئة المستهدفة من حيث السن والنضج، وكذا المضامين المحمولة والكفايات المستهدفة، ولأن المعارف تتزايد وتحصيلها عملا مركزيا فإنّنا نحتاج إلى التحويل الديداكتيكي.
وقد مارس الأسلاف هذا العمل الديداكتيكي، وبعبارة أخرى لقد مارسوا التحويل الديداكتيكي Transposition didactique على المادة العلمية، فلقد طلب المعلم محرز بن خلف التونسي من أبي محمد عبد الله بن أبي يزيد القيراوني أن يؤلف له مختصرا في الفقه يكون موجها لتعليم الولدان وهو الرسالة المشهورة …، وهذا ما يشرع لنا القول بأن الكتاب المدرسي يعرف نفس المنهجية ونفس المراحل التي يطويها النقل الديداكتيكي[43]، إذ يشمل الكتاب المدرسي كحد معرفي أدنى وجب تدريسه على نمط معين من المعرفة التي تساهم في غرس ثقافة خاصة لدى التلاميذ تسمى معرفة مدرسية Savoir scolaire، تعد هذه الثقافة عن طريق التحويل الديداكتيكي، ويشكل الكتاب المدرسي عامة إحدى القنوات أو الحوامل التي تعتمدها المؤسسة المدرسية في التحويل الديداكتيكي للمعارف والخبرات الموجهة للتعلم، والتحويل الديداكتيكي إلّا التمشي الذي يهدف إلى جعل عنصر من المعرفة العلمية يتحول إلى معرفة التدريس ثم إلى موضوع للدرس[44]، إذ أنّ واضع المقرر يَنقل المعرفة من المصادر والمراجع إلى الكتاب مراعيا المناسبة والملاءمة والمرحلة العمرية والفلسفة التعليمية والغايات الكبرى …، وفق شروط تأليف الكتاب المدرسي، والمدرِّس ينقلها من الكتاب وكذا تعلماته وتجاربه وطرائقه إلى الفئة المستهدفة من خلال أنشطة أو وضعيات، أو يلقنها تلقينًا.
ويتم عن طريق الآليات والإجراءات السابقة للتحويل الديداكتيكي نقل المعرفة إلى طيات الكتاب المدرسي، باختزالها وتبسيطها وتيسيرها، وإنّ المعرفة الموضوعة للتدريس تظهر في نص معرفي وهذا الوضع في شكل نصوص للمعرفة يضمن أولا استبعاد عامل الشخصنة Dépersonnalisation فالعمليات الحقيقية التي أدت إلى بناء المعارف تمحى وتختفي، والنص ينبع نظاما منطقيا يمتُّ بصلة كبيرة إلى فضاء المشكلات الذي كان الباحث منهمكا فيه، فهذا هو الثمن الذي جعل المعرفة تغادر أيدي منتجها وتغادر الدائرة الخاصة لتصبح عمومية، كذلك فإنّ المعرفة تغادر في إطار اللاشخصنة أو تستأصل من محيطها الإبستيمولوجي حيث هي متجذرة في الأصل إلى حضن التلميذ -إن صح المجاز- ، وبذلك فهي تخضع إذا إلى إزالة الإيهامية desyncrétisation [45]، لتكسب مصداقيتها واستقلاليتها عن الحوافز الذاتية للباحث وأهوائه[46]، وكذا التجرد من السياق الخاص، بمعنى “أننا ندرّس نوعا ما معرفة مطهّرة (مصفّاة) بالنظر إلى الزمن الذي بنيت فيه”[47]، معرفة معزولة مبتورة عن الوضعية التي انبثقت منها وبرزت فيها، ومن الإجراءات المهمة أيضا في التحويل التعليمي ألا وهو تجزيء الأطر النظرية للمعرفة إلى حقول محددة تسمح بظهور ممارسات تعلمية متخصصة[48].
ومثلما يتم التحويل الديداكتيكي على نصوص نثرية، وغالبا ما نجد كلمة “تصرف” كدلالة على التغييرات التي طرأت على النص النثري، يطبق أيضا التحويل على النصوص الشعرية، تلك القصائد التي يتم اختيارها من التراث الشعري خلال عصور مختلفة ومتعاقبة، وذلك من خلال اختيار واضع البرنامج للأبيات المناسبة لعمر المتعلم أي أنّه يتصرف في القصيدة حذفا أوتقديما وتأخيرا، وتبسيط بعض الكلمات أو اختزال بعض النصوص، دون تشويه لمضامينها الفكرية، وتيسيير مصطلحاتها المفتاحية، لجعلها قابلة للتداول بين المتعلمين ومناسبة مستواهم الإدراكي، ولكي نتعرف على هذا يجب مقارنة القصيدة المقرّرة مع الأصلية الموجودة في ديوان الشاعر، وهذا التحويل أي التصرف في القصائد له أهداف يجب اكتشافها واستنباطها، وليس بالضرورة أن تخضع كل النصوص والقصائد لما يسمى بالتحويل التعليمي، مثلما هو الحال في كثير من نصوص السنة الثانية ثانوي، كقصيدة للموت ما تلدون لشاعر الزهد أبي العتاهية، إذ لم يحتج النص إلى حذف أو اختزال، فهو متوسط الحجم، مناسب للمعيار الزمني (12 بيتا)، كما أنّه يصور بصدق الموضع المطلوب دراسته (الزهد)، إذ ليس فيه ما هو خارج عن طبيعة الزهد لأنّ معانيه دارت كلها حول التذكير بالموت والاستعداد للرحيل واجتناب ملذات الدنيا والزهد فيها، وأبياته منظمة تنظيما محكما رتبها ترتيبا سلسا، ولم يطرأ على قصيدة المتنبي [49] التي قالها بمصر ولم ينشدها كافورًا أي تغييرات لأنّ االنص كله حكم وهو مناسب للمعيار الزمني، ولأنّ كل بيت حكمة مستقلة بنفسها فليس من معنى حذف أيّ حكمة منه لأن ذلك سوف يُخلُّ بالعدد المطلوب للنص.
وكذلك نص”المقامة العلمية” لبديع الزمان الهمذاني، الذي نقل دون أدنى تغيير، كما نقلت بعض المقتطفات من كتاب”كليلة ودمنة” كما هي وكذا “ألف ليلة وليلة” ومقتطفات من “قصة حي بن يقظان” شكلت نصين من جزأين في الجديد، وسنحاول أن ننظر في الدواعي التي حولت لأجلها بعض القصائد والنصوص الأدبية والتواصلية ونصوص المطالعة الموجهة الموجودة في الجديد، وقد اخترنا بعضها فقط، ذلك أنّ أكثرها تتشابه في دواعي وأسباب التحويل التعليمي، مثل الاختزال مُراعاة للمعيار الزمني، وكذلك طول القصيدة أو باعتبار خدمة بعض الأبيات والفقرات للعنوان والموضوع المقترح والسياق أو عدمه.
ونستهل بأول نص في الكتاب وهو قصيدة “تهديد ووعيد” للشاعر بشار بن برد:
القصيدة من مصدرها الأصلي (الديوان):
- أبا مسلم، مَا طُولُ عَيْش بــدائم ولا سَــالم عَمَا قليـل بسـالم
- على الملك الجبار يقتحم الــردى ويصرعُه في المـأْزق المتل احــم
- كـأنك لمْ تسمع بقتل مُتــوج عظيم، ولمْ تسمع بفتك الأعاجـم
- تقسم كسرى رهطـه بسيوفهـم وأمسى أبو العـباس أحلام نائـم
- مقيما على اللذات حتى بدت لـه وُجوه المنايا حاسرات العَمــائم
- وقدْ تــردُ الأيامُ غرا وربمــا وردن كلوحا باديـات الشكائـم
- ومَرْوانُ قدْ دَارَتْ عَلَى رَأسِه الرَحى وكَان لِما أجْرمْتَ نَزْرَ الجرائــمِ
- وقَدْ كَان لا يَخشَى انقلابَ مَكيدَةٍ عَليهِ ولا جري النُحُوسِ الأشائـمِ
- فأصبحت تجري سَادرا في طريقهم ولا تتقي أشباه تلك النقائـــم
- تَجَرَّدْتَ للإسلامِ تَعْفـو طَريقَهُ وتعري مطاه لليــوث الضراغم
- فما زلت حتى استنصر الدينُ أهلهُ عليك فعادُوا بالسيوف الصـورام
- فرم وزرا ينجيك يا بن وشـيكة فَلستَ بمناج منْ مَضيم وَضائـم
- لحى الله قوما رأسوك عــليهم وما زلت مرؤوسا خبيث المطاعم
- أقولُ لبسام عليه جلالــــةٌ غداً أريحياً عَاشقاً للمَكـــارم
- منَ الهاشميين الدُعاة إلَى الهُـدى جهَاراً وَمَنْ يَهديكَ مثل ابن هاشم
- سراج لعين المستضيء وتــارةً يكون ظلاما للعـــدُو المزاحم
- إذا بلغَ الرأي المشورة فاستعـنْ برأي نصيح أو نَصيحَة حــازم
- ولا تجعل الشورَى عليك غَضَاضَةً فإنﱠ الخـــوافي قوةٌ للقـوادم
- وما خيرُ كف أمسك الغل أُختها وما خير سيف لم يؤيد بقائــم
- وخل الهوينا للضعيف ولا تكـن نؤوما فلــيس الحزم ليس بنائم
- وحارب إذا لم تعط إلا ظـلامةً شبا الحَرْب خيرٌ من قبول المظـالم
- وأدن على القربى المقرب نفـسه ولا تشهد الشورى امرءا غير كاتم
- فإنك لا تستطرد الهــم بالمنى ولا تبالغ العليا بغير المـــكارم
- إذا كنت فردا هرك القوم مقبلا وإن كنت أدنى لم تفز بالعـزائم
- وما قرع الأقوامُ مثلُ مشــيع أريب ولا جلى العمى مثل عَالم[50].
التحليل:
- اختزال النص من 25 بيتا وذلك مراعاة للمعيار الزمني باعتبار أن تدريس النص كاملا يحتاج إلى وقت أوسع سيما أن مادة النصوص لم تعد تدرس منفردة عن المادة اللغوية بل صارت المادة تمثل وحدة متكاملة فيما يعرف بالنص وروافده.
- النص يركز على النزعة العقلية التي ظهرت في العصر العباسي متأثرة بالترجمة وعلم الكلام والفلسفة الإغريقية وكلام المناطقة …، فكان من اللائق أن تنتقى الأبيات الخاصة بموضوع النص (النزعة العقلية).
- حذف البيتان 5 لأنّه يبرر سبب زوال حكم أبي العباس وهي كنية الوليد بن يزيد الخليفة الأموي الذي قُتل، وفيه تذكير بسبب اغتياله وانتقام الله منه، فهو رجل مكب على لذاته لا شأن له بالأمانة الملقاة على عاتقه وهو خليفة الله في الأرض، فكان مصيره أن نزلت بساحته المنايا حاسرة عن رؤوسها، وأما البيت (6) فهو حكمة تبرر الموقف الآنف الذكر إذ أن الأيام وما تخفيه لصاحبها قد ترد عليه بالنعيم والخيرات، وقد ترد عليه بالأذى والشر، ولا يضمن مكر الليالي إلا الحمقى.
- 4.البيت (7) مناسب جدا في الترتيب للبيت (4) وحذف البيتين (5) و(6) لا يفسد السياق لأن الشاعر أراد أن يذكر الخليفة أبا جعفر بمن تجبر من قبله وكانت نهايتهم وخيمة، فذكر كسرى عظيم الفرس، ثم ذكر بعده الخليفة أبا العباس الوليد بن يزيد، ثم كان مناسبا أن يذكر أيضا الخليفة مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويّين الذي مات مقتولا، ومناسبة الأبيات كون هؤلاء كلهم ملوكا جبابرة كانت نهايتهم القتل.
- حذف البيت (8) أيضا لا يضر بالسياق على اعتبار أنّه تفسير لسبب هلاك الخليفة محمد بن مروان كما فعل قبل ذلك مع البيتين (5) و (6).
- حذف البيت (9) غير مناسب لأنه يمهد للبيت الذي يليه فالشاعر يتّهم الخليفة بأنّه جرى سنة أولئك الجبابرة وهو لا يخشى انتقام الأيام وكأنّه يحذره بأن مصيره سيكون من مصيرهم لأن الظلم مرتعه وخيم، وحذف البيت (13) لا يفسد السياق باعتبار أن البيت فيه دعاء على عامة المسلمين الذين رضوا به خليفة عليهم.
- حذف البيت (16) كذلك لا يضر بالسياق على اعتبار أنّه حشو بين الفعل (أقول) وجملة مقول القول (إذا بلغ الرأي … إلى آخر الأبيات) ، وهو حشو فيه مدح للزعيم الفاطمي الذي دعا للثورة على بني العباس لاقتناعهم بأنّهم – معشر بني فاطمة – أحق الناس بالحكم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- الأبيات (19- 20 – 21- 22) حذفت لأنها تمثل نزعة الطبع العربي في القتال والتنكيل بالعدو وهي أصلح بقوانين الأخلاق العربية منها بالحكمة، لذلك آثر الكتاب إسقاطها من النص.
- وما قيل في الأبيات (19-20-21-22) يصح أن يقال في البيت (24).
قصيدة وصف النخل لأبي نواس في مصدرها الأصلي (الديوان)::
- ما لي بِدارٍ خلَتْ منْ أَهْلها شُغـلُ ولا شَجَاني لهـا شَخصٌ ولا طَـلَلُ
- ولا رُسُومٌ، ولا أبــكي لمـنزلَةٍ للأهل عنهـا، و للجــيران منتقلُ
- ولا قَطَعْتُ على حرفٍ مذكّــرة في مرفقيْها، إذا استعرضتـهـا فَتَلُ
- بيْداء مقفِرة يومًـا، فأنْعتـــها ولا سرى بي، فأحكيه بها جُمــلُ
- ولا شَتوتُ بها عاماً، فَأدركــني فيها المَصيفُ، فإنّي عن ذاك مُرتحـلُ
- ولا شَددتُ بها من خيمة طُنــُبًا، جـاري بها الضبّ والحرباءُ والوَرَلُ
- ولا الحزْنُ مِني برَأي العين أعـرفُهُ، وليس يعرفني سهلٌ ولا جبـــلٌ
- لا أنعتُ الروض إلا ما رأيتُ به قَصْرًا مُنيفا، عليه النخل مُشــتملُ
- فهَاك من صفتي إن كنت مُختبرًا ومخبرًا نفرا عني، إذا ســــألوا
- نخل، إذا جُليتْ إبّانَ زينتهــا، لاحتْ بأعناقها أعذاقها النّحُــلُ
- أسقاطُ عَسجده فيها لآلئهــا مَنْضودةٌ، بسموطِ الدرّ تتصــلُ
- يَفتضّها فطنٌ عِلْجٌ، بهــا خبَرٌ فضّ العذارى حلاها الرَّيطُ والحُللُ
- فافتض أولها منها و آخرهــا فأصْبَحَتْ، وبهـا مِن فَحْلهَا حَبَـلُ
- حتى إذا لقحتْ أرخت عَقائصَها، فَمَالَ منتثرا عرجونهـا الرجــِلُ
- فبينما هـي والأرواح تنفحُهـا شهرين بـارحة وَهْنًا، وتنْتَحِــلُ
- أرْختْ عقودا من الياقوتِ مدمجةً صفرا، وحـمرا، بها كالجمر يشْتعلُ
- فلم تزل بمُدود الليل تُرضعــه، حتى تمكن في أوْصـاله العَســل ُ
- يا طيبَ تلك عروسًا في مسَاجدهَا لو كان يصلُحُ منها الشمُ والقُبـلُ
- خلالها شجر في فيئه نَــــقَدٌ، لا يرهب الذئب فيها الكبشُ والحمل
- إن جئت زائرها غنّـاك طائرُهـا برَجْع ألحنَةٍ في صوْتها هَــــدَلُ
- من بُلبل غَردٍ نَاداك من غُصـن، يبكي لبلبة أودى بهـا خَبَـــلُ
- هذا فَصِفْهُ، و قلْ في وَصْفِه سَددًا، مُدّتْ لواصفه في عُمره الطّــوَل
- ما بين ربْع و لا رَسْمٍ و لا طَلـَلٍ أقوى و بيني في حكمِ الهَـوى عمَلُ
- ما لي وعوْسَجُها بالقاع جانبـها أفعـى يُقابلُهَا عن جُحْــرهِ وَرَلُ
- إنّي امرُؤ همتي، و الله يكلؤني، أمران ما فيهما شرْبٌ ولا أكـَـلُ[51].
التحليل:
- قبل كل شيء نشير إلى أن هذا النص هو بدل من النص الأصلي في الكتاب المدرسي (الدعوة إلى الجديد والسخرية من القديم) وفيه دعوة صريحة إلى شرب الخمر وتقنن في وصفها وتحبيبها إلى النفوس وفيها انتقاص من عرق العرب وسخرية بتقاليدهم ودعوة عنصرية جلية مناهضة للعرب، والنص وإن كان يعكس شيئا من الصراع الثقافي بين الشعوبية (وأكثرهم عجم) وبين الأمة الفاتحة (العرب) إلا أنّه لا يناسب غاية الكتاب وأهداف المدرسة، لذلك عُدل عنه إلى نص وصف النخيل وهو الآخر لا يخلو من نقد لسنن العرب في عيشهم وشعرهم.
- حذف من النص أكثر من نصفه (13 بيتا) والأبيات المقررة (12 بيتا) وهي مناسبة للمعيار الزمني المقدر لتدريسها كما رأينا من قبل.
- النص وإن كان موجها لوصف النخيل فهو يجمع أيضا السخرية من العرب في سنن أشعارهم من الوقوف على الأطلال ووصف الفيافي ووصف النوق وضرب الخيام في الفيافي المقفرة وقضاء الشتاء بها، وهو ما يمثل النزعة الشعوبية عند أغلب الفرس في المجتمع العباسي، والملاحظ أن الأبيات [1-2-3-4-5-6-7] تمثل النزعة الشعوبية عند الشاعر، لذلك تم الاستغناء عن الأبيات [23-24-25] لأنها تكرر الموضوع نفسه الذي استهل به القصيدة.
- البيت (10) هو مدخل لوصف النخيل وقد مهّد له بالبيت (8) الذي وضح فيه مسلكه في الوصف وأنه رجل لا يعنى من وصف المظاهر إلا ما كان من شؤون القصور التي تحيط بها أشجار النخيل، أما الفيافي والبوادي والنوق والرسوم والأطلال فوصف لا يعنيه.
- حذف البيت (9) مناسب جدا لأنه حشو فيه إعادة لمذهب الشاعر في الوصف وقد أحاط به في البيت الذي قبل فليس هنالك من داع لإعادته.
- حذف الأبيات [11-12-13-14-15-16] لم يكن موفقا لأن هذه هي أبيات وصف النخيل وحذفها أنهك الغرض الأصلي للنص، فلم يبق إلا بيتان في وصف النخيل هما (10) و(17).
- باقي الأبيات [19- 20 -21] فهي في وصف الأشجار المحيطة بالنخيل، لا النخيل.
- الأبيات في وصف الأشجار المحيطة بالنخيل أكثر من أبيات وصف النخيل.
- وإنْ كانت الأبيات تتحدث عن تلقيح النخل للنخيل، إذ لم تزل تلك النحل تلقح النخيل بالليل حتى تمكن العسل من عراجينها فارتوت وصارت بطعم العسل إلا أنّها تحوي عبارات مخلة بالحياء لهذا حذفت بعضها ربما، على سبيل المثال: يفتضها فطن، فض العذارى، فافتض منها، من فحلها حبَلُ، عروسا، الشمُّ و القبل.
نص المطالعة الموجهة ” بلاد الصين” لابن بطوطة[52]:
أخذ هذا النص من كتاب”رحلة ابن بطوطة تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”[53]، من محطة بعنوان “ذكر هذه الملكة”، وقد حذف كلام كثير يحكي لقاءه بهذه الملكة وحاشيتها من النساء وحوارها معه إلى أن يصل إلى المقتطف الذي يحكي عن خيرات بلاد الصين، والملاحظ أن هذا النص خضع أيضا للتحويل التعليمي، إذ حذفت منه الكثير من التفاصيل مراعاة للمعيار الزمني المقرر للتدريس، كحذف بداية النص ولقاء الملكة وبعضا من تأريخ سيرتها ووصولها إلى الحكم ووصف حاشيتها، وأيضا حذفت جملة من الفقرة الأولى متعلقة بتفصيل عن تسمية نهر”باب الحياة”، وحذفت الكثير من التشبيهات المتعلقة ببلاد “مصر”، مثل قوله:” وتكتنفه القرى والمزارع والبساتين والأسواق كنيل مصر”[54]، وحذف كذلك “السكر المصري” من قوله: وببلاد الصين السكر الكثير مما يضاهي المصري”[55]، إذ لا فائدة ترجى من تقديم مادة لتلاميذ جزائريين عن شبه بعض العادات أو الأكلات الصينية وغيرها بالمصرية، ولا عن الشبه العثماني وغيره، كالجمل المحذوفة من نفس الفقرة: “… وكنت أظن أن الإجاص العثماني الذي بدمشق لا نظير له حتى رأيت الإجاص الذي بالصين”[56]، وحذف الجار والمجرو” بها” وأردف النص مباشرة بـ”والبطيخ العجيب”، ثم حذفت”يشبه بطيخ خوارزم وأصفهان”55 المرجع نفسه، الصفحة نفسها.، ثم حذفت الفقرتين المتواليتين المعنونتان بـ “ذكر الفخار الصيني” و”ذكر دجاج الصين”، ثم حذفت جملة من الفقرة الموالية تتحدث عن المسلمين هناك، يقول فيها : ” … وفي كل مدينة من مدن الصين مدينة للمسلمين، ينفردون بسكناهم، ولهم فيها المساجد لإقامة الجمعات وسواها. وهو معظم محترمون”[57]، ثم حذفت جملة تتحدث عن مواصفات التاجر الكبير عندهم، كما تم الاستغناء عن تفاصيل كثيرة، كالمتعلقة بـ”-النقود والكاغد” وذكر التراب الذي يوقدونه مكان الفحم، وكل هذا وتفاصيل كثيرة لاحقة محذوفة مراعاة للحجم الزمني، ولكي يتفادوا ذكر أمور تثقل كاهل التلاميذ ولا تقدم لهم أي فائدة تذكر، واختزالا وجمعا لأكبر المواصفات لبلد الصين العظيم.
قصيدة “أ دهرا تولّى” للشاعر مسلم بن الوليد:
- أَدَهراً تَوَلّى هَل نَعيمُـكَ مُقبِـلُ وَهَل راجِعٌ مِن عَيشِنا ما نُؤَمِّــلُ
2. أَدَهراً تَوَلّى هَل لَنا مِنكَ عَـودَةٌ لَعَلَّكَ يُعدي آخِراً مِنـــكَ أَوَّلُ
3. سَلامٌ عَلى اللَذاتِ حَتّى يُعيدَهـا خَليعُ عِذارٍ أَو رَقيبٌ مُغَفَّــــلُ
4. أثَرتُ مَطِيَّ القَصفِ في مُستَـقَرِّهِ فَـلا القَصفُ مَتبوعٌ وَلا هِيَ تَرحَلُ
5. وَأَخلَيتُ ميدانَ الصِبا مِن بَناتِـهِ وَإِنّي بِها لَلمُستَهامُ المُـوَكَّـــلُ
6. ألا في سَبيلِ اللَهوِ أَيّامُــنا الأُلى أَتَذهَبُ فَوتاً أَو تَعودُ فَتُقــــبِلُ
7. كَأَنّي لَم أَشهَد مِنَ الراحِ مَشهَداً لَذيذاً وَلَم أَستَبقِها وَهيَ تُقتَـــلُ
8. وَلَم أَحمَدِ الأَيّامَ وَالعَيشَ بَينَنــا نُعَلُّ مِنَ اللَذاتِ طَـــوراً وَنُنهَلُ
9. فَلا رُبَّ حَربٍ لِلمُدامِ أَثَرتُــها وَقَصطَلُها جادِيُّها وَالقَرَنــفُـلُ
10. عَلَينا رَياحينُ الحَياةِ وَفَوقَنــا سَحائِبُ بِالعَيشِ المُقارِفِ تَهـطِلُ
11. وَكَأسِ نَدامى يَعشَقُ الشُربُ شَخْصَها لَها مَنظَرٌ دونَ الزُجاجَةِ أَسهَــلُ
12. قَرَنتُ بِها الإِبريقَ فَاِفتَرَّ ضاحِكاً وَحَلَّ لَها خَلفَ النِقابِ المُقـَبَّـلُ
13. وَمُختَلَسٍ مِن شَهرِهِ بِنَعيمــِهِ عَلى غَفلَةٍ مِن شانِئٍ لَيسَ يَغفُـلَ
14. تَلافَيتُهُ بِالقَصفِ فَاِغتَلتُ طولَـهُ وَلا يَـــومَ في أَيّامِهِ مِنهُ أَطوَلُ
15. غَدا بِبَناتِ اللَهوِ عَنّي أَميرُهــا وَأَثكــَلَنيهِنَّ الإِمـامُ المُعَـذِّلُ
16. فَما أَذكُرُ اللَذاتِ إِلّا كَأَنَّمــا يُمَثِّلُها لي في النَدِيِّ مُمثَّـــلُ
17. لَعُمرُكَ لَو أَحبَبتُ لَم أَدَعِ الصِبا لِشَيءٍ وَلَكِنَّ التَعَزِّيَ أَجمَـــلُ.
التحليل:
- النص كاد يحتفظ بحجمه الأصلي كما هو في الديوان تقديرا لمعيار الزمن وهو العدد المتوسط حتى في الامتحانات (بكالوريا- شهادة التعليم المتوسط).
- النص في الأصل لا يمثل اللهو والمجون ولكنه يمثل التحسر على انقضاء أيام الشباب بلهوه ومجونه بدليل قول الشاعر:
أدهرا تولى هل لنا منك عودةٌ *** لعلك يعدي آخرا منك أولُ
وقولــه: سَلامٌ عَلَى اللذات حتى يعيدها *** خليعُ عَذار أو رقيبٌ مُغفلُ
وقولــه: لَعُمرك لو أحببتُ لم أدع الصبا *** لشيء ولكنﱠ التعزي أجملُ
- حذف البيت (2) لتكون الأبيات مناسبة لوصف القصف والمجون لا للتحسر عليه، ليبدو الشاعر في معرض وصف مجلس من مجالس اللهو.
- البيت (5) كان يجب حذفه لأنه تصريح بتوبة الشاعر عن الخلاعة وتخليه عن مجاراة الصبا.
- تمّ حذف الأبيات [9- 12] لما فيهما من وصف مشوق للخمر ودعوة إلى اكتشافها من باب تحبيبها إلى السامع وهذا يتنافى مع قيم المجتمع الجزائري و مع سن المتعلمين سيما وهم في سن الفوضى الفكرية والنفسية أعني بها سن المراهقة، بالإضافة إلى أن الشاعر أشار إلى شربه الخمر إشارة مجملة ليس فيها تفصيل في البيت (6) في نص الكتاب وهو قوله:
كأني لَم أشهد منَ الراح مشهداً *** لذيذاً ولم أستبقها وهي تقتل
- أما البيت (14) فما كان يصح حذفه لأنه تصوير صادق لاستماتة الشاعر في الانغماس في اللذات حتى زعم أنّه لا يقلع عنها شهرا كاملا وربما مرّ ذلك مرور اليوم الواحد.
- أما البيت (15) فليس له في النص مناسبة لبقية الأبيات لأنّ الشاعر يصرح فيه بمنع الخليفة (الإمام المعذّل) عن المجاهرة باللهو، فهو يمتثل لأمره وليس له من حيلة وصبر عن اللهو إلا التعزّي.
- والنص بشكل عام راعى فيه المتصرف فيه عرض حياة اللهو والمجون عرضا مجملا غير مفصل فاضطر إلى حذف الأبيات التي فصلت الوصف.
نص علمي بعنوان تقسيم مخلوقات العالم للعلامة والأديب الجاحظ، وهو النص الأدبي الوحيد في برنامج السنة الثانية ثانوي[58]، وهو نص متوسط الحجم وهو مناسب للمعيار الزمني، كما أن النص في الجملة يدور حول مسألة تقسيم المخلوقات إلى نامية (فيها عنصر الحياة)، وغير نامية (جماد)، وقد استهله بالتقسيم العام ثم أتبعه بالتفصيلات والتفريعات، وهو يمثل باكورات النثر العلمي عند العرب في العصر العباسي.
النص التواصلي آداب مجالس العلم لابن حزم:
ككل النصوص التعليمية طرأ على هذا النص بعض التغييرات والاختزالات، وآليات التحويل التعليمي، إذ ورد هذا النص في الكتاب المدرسي”الجديد” في صفحة واحدة، مرفوقا بترجمة مختصرة للعلامة الأندلسي ابن حزم، بعنوان”آداب مجالس العلم”، في حين أن عدد صفحات النص الأصلي خمس(05) صفحات[59] ، وردت في آخر كتاب”الأخلاق والسير” أو”رسالة في مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق والزهد في الرذائل” للإمام الكبير أبي محمد علي بن أحمد ابن حزم الأندلسي 384-456 هـ، وقد نقل من النص الأصلي في الكتاب المصدر، من الصفحات الأولى وحذفت بعض الفقرات منها، الفقرة الثانية:
“فإذا حضرتها على هذه النيّة فقد حصّلت خيرا على كل حالٍ، فإن لم تحضرها على هذه النيّة فجلوسك في منزلك، أروحُ لبدنك، و أكرمُ لخلقك، وأسلم لدينك”[60].
وأيضا حذف من الفقرة الثانية ما بين قوسين :وإما أن تسكت سكوت الجهال “فتحصل على أجر النية في المشاهدة، وعلى الثناء عليك بقلة الفضول، وعلى كرم المجالسة، ومودة من تجالس”[61].
وهكذا حذفت من كل فقرة بعض الجمل، تبسيطا واختزالا، وتيسيرا لتلاميذ السنة الثانية ثانوي، ومراعاة لأعمارهم، وكذلك للوقت المحدد للنص التواصلي، الذي يكمل ويرسخ ما بدأ به النص الأدبي.
كما حذفت فقرات أخرى ربما لصعوبة أسلوبها، وتراكيبها بالنسبة لتلاميذ هذه المرحلة، أو كما أسلفنا لقصر الوقت المحدد، ولضمان استيعاب ما تضمنته الفقرات الأولى وأولويتها وأهميتها.
نص المطالعة المواجهة “مقتطفات من رسالة الغفران” لأبي العلاء المعري:
وما ذكر في”الجديد” مقتطفات من كتاب رسالة الغفران للمفكر الشاعر أبو العلاء المعري، وهذا النص أخذ من فصل “ابن القارح في جنة الغفران”، مبحث”نزهة في الفردوس”، والنص نوعا ما مبتور فقد استهله الجديد -كتاب السنة الثانية ثانوي شعبة الآداب والفلسفة واللغات الأجنبية-، بـ:(“وينظر الشيخ ابن القارح في رياض الجنة فيرى قصرين منيفين، فيقول في نفسه: لأبلغن هذين القصرين فأسأل لمن هما؟
فإذا قرب لأحدهما، رأى مكتوبا على أحدهما:”هذا القصر لزهير بن أبي سلمى المزني” وعلى الآخر:” هذا القصر لعبيد بن الأبرص الأسدي”، ألتمس لقاء هذين الرجلين فأسألهما بم غفر لهما ؟)[62] .
، ويحذف من الحديث السابق، مباشرة بعد”هذا القصر لعبيد بن الأبرص الأسدي”، قوله:”فيعجب من ذلك ويقول: هذان ماتا في الجاهلية، ولكن رحمة ربنا وسعت كل شيء؛ ألتمس لقاء هذين الرجلين فأسألهما بم غفر لهما ؟”[63]، وأعتقد أن حذف جملة:” يقول: هذان ماتا في الجاهلية، ولكن رحمة ربنا وسعت كل شيء”، لكي لا يفتح أمام التلاميذ بابا وأسئلة يعسر الخروج منها، كأنْ يقول بعضهم : هل يغفر الله لمن مات في الجاهلية ؟!.
هذا ما ورد في الجديد والذي نقل من النص الأصلي، لكنه ذكر فقط حواره مع الشاعر زهير بن أبي سلمى، دون لقاء عبيد بن الأبرص الأسدي، لكن الجديد لم يختزل جملة:”ألتمس لقاء هذين الرجلين فأسألهما بم غفر لهما ؟”، رغم أن السياق تطلب ذكر هذا اللقاء لإقناع المتلقي، لكن الجديد ذكر مباشرة اطلاع ابن القارح على إبليس-لعنه الله-، بعد لقائه مع الشاعر زهير بن أبي سلمى، كما حذفت أبيات شعر قالها هذا الأخير، وبعض الفقرات التي تتحدث عن قصته مع الخمر والمنادمة.
هذه فقط بعض النماذج عن التحويل التعليمي من الجديد، وعليه تعتبر عملية التحويل الديداكتيكي من بين أهم العمليات التعليمية الشاملة لكل التخصصات، والتي تتطلب من واضعي المناهج، متفقدين (مفتشين) ومرشدين تربويين وأيضا من الممارس داخل المنظومة، اختيارات مناسبة للمرامي التدريسية، وعمليات نخل وغربلة لوصول الخطاب، والمعرفة العالمة في شكل مختزل بعيدا عن كل تعقيد، ودون تشويه، وتخليصه من المنطلقات الذاتية والإيديولوجية، ومن كل خلفية وظروف إنتاج، وفصله عن الإشكالية العلمية التي تقود خطواته إلى البرهنة والاستدلال، مما يشكل عناصر تشويش للمتعلم، في شكل خطاب تعليمي سهل مكيّف، وبكل بساطة فإنّ التحويل الديداكتيكي هو تبسيط معرفة من معرفة عالمة إلى معرفة مدرسية ومن معرفة مدرسية إلى معرفة مكتسبة في المحيط الاجتماعي.
وكل ما نريده من الخطاب التعليمي في المقاربة الحديثة وكذلك الكتاب المدرسي هو إعداد فرد قادر على التأقلم والتكيّف مع واقعه بصفة خاصة، والتكيّف مع واقع العصر ككل، خاصة ونحن نعيش في عالم يتجدد باستمرار، عصر الانفجار المعرفي والتطور التكنولوجي في جميع المجالات، مما يفرض أن نلمّ بمضامين هذا التغيّر والتطوّر، وأن يكون الكتاب مبسطا وبطريقة منهجية متدرجة من السهل إلى الصعب، ناقلا للمعلومات والمعارف والخبرات وترسيخها، وتنشيط الملكات الذهنية والعاطفية للتلميذ.
هوامش المقال:
[1] نوارة بوعياد، الحجاج وبعض الظواهر التداولية في الخطاب التعليمي الجامعي، أطروحة دكتوراه، جامعة الجزائر، 2009م- 2010م، ص16.
[2] نوارة بوعياد، المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[3] Dubois Jean et autres, Dictionnaire de linguistique, (discours), La rousse, France.
[4] Galision(R), coste (C), Dictionnaire de didactique de langues.
[5] صالح بالعيد، دروس في اللسانيات التطبيقية، دار هومه، الجزائر، ط3، 2000م، ص77-78.
[6] أحمد حساني، دراسات في اللسانيات التطبيقية، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1996م، ص131.
[7] طه علي حسين الديلمي، سعاد عبد الكريم عباس الوائلي، اللغة العربية مناهجها وطرائق تدريسها، دار الشروق، رام الله، المنارة، ط1، 2005م، ص138.
[8] حاجي فريد، المقاربة بالكفاءات كبيداغوجيا إدماجية، سلسلة موعدك التربوي، المركز الوطني للوثائق التربوية، الجزائر، ع17، 2005م، ص03.
[9] عبد الفتاح حسن البجة، أصول تدريس اللغة العربية بين النظرية والممارسة، دار الفكر العربي، عمان، الأردن، 1999م، ص313.
[10] صالح بلعيد، دروس في اللسانيات التطبيقية، ص72.
[11] عمارية حاكم، الخطاب الإقناعي في ضوء نظرية التواصل، دار العصماء، دمشق، ط1، 1436هـ/ 2015م، ص249-250.
[12] أحمد حساني، المرجع نفسه، ص131- 132.
[13] مازن الوعر، دراسات لسانية تطبيقية، دار طلاس، دمشق-سوريا، ط1، 1989م، ص 146.
[14] المرجع نفسه، ص146.
[15] محمد حاج هني «الصورة في الكتاب المدرسي بين تمثيل المبنى و تثبيت المعنى -كتاب اللغة العربية للسنة الأولى إبتدائي نموذجا»، عدد خاص بأعمال الملتقى الوطني حول الدراسات الوصفية التحليلية التقويمية في ضوء المقاربة بالكفاءات، ج1، منشورات مخبر الممارسات اللغوية في الجزائر، جامعة تيزي وزو، ص 175.
[16] أحمد فريقي، التواصل التربوي واللغوي، دراسة تحليلية، تقديم مصطفى حسن، مطبعة RABAT NET MAROC، 2011م، ص88.
[17] أحمد فريقي، المرجع نفسه، ص90.
[18] عبد الرحمان الهاشمي، محسن علي عطية، تحليل محتوى مناهج اللغة العربية “دراسة تطبيقية”، دار الصفاء للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 1430-2009، ص259.
[19] رمزي أحمد عبد الحي، الوسائل التعليمية والتقنيات التربوية، زهراء الشرف للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، ط1، 2009م، ص210.
[20] أحمد فريقي، المرجع نفسه، ص91.
[21] أحمد فريقي، المضمون التواصلي للتفاعلات الصفية “دراسة ديداكتيكية تحليلية للكتاب المدرسي”، مطبعة RABAT NET MAROC، ص2012، ص81.
[22] رمزي أحمد عبد الحي، المرجع نفسه، ص 210.
[23] عبد الله قلي «التعليمية العامة والتعليمية الخاصة»، مجلة المبرز، ع 16، 2002م، ص117.
[24] أحمد حساني«تعليمية اللغات الأجنبية- بحث في المفاهيم والإجراءات»، مجلة المجمع الجزائري للغة العربية، ع1، السنة الأولى، ربيع الأول 1426هـ – ماي 2005م، ص93.
[25] أحمد حساني، المرجع السابق، ص97.،
[26] بوكرمة أغلال فاطمة الزهراء «النقل الديداكتيكي لعلوم العلماء»، مجلة العلوم الإنسانية، تيزي وزو، مارس 2006م، ع9، ص03.
[27] عبد القادر لورسي، المرجع في التعليمية، الزاد النفيس في علم التدريس، جسور للنشر والتوزيع، الجزائر، ط1، 1436هـ/ 2014م، ص162.
[28] أحمد حساني، المرجع نفسه، ص97.
[29] عبد الحق منصف، رهانات البيداغوجيا المعاصرة “دراسة في قضايا التعلم والثقافية المدرسية” افريقيا- المغرب الشرق 2007م، ص190.
[30] عبد القادر لورسي، المرجع نفسه، ص162.
[31] إبراهيم حمروش«التعليمية: موضوعها، مفاهيمها، الآفاق التي تفتحها»، المجلة الجزائرية للتربية، ع2، مارس 1995م، ص63 .
[32] عابد بوهادي«تحليل الفعل الديداكتيكي”مقاربة لسانية بيداغوجية”»، دراسات، العلوم الإنسانية والاجتماعية، المجلد39،ع2، 2012، ص374.
[33] عبد القادر لورسي، المرجع نفسه، ص98.
[34] أحمد حساني، المرجع نفسه، ص93.
[35] محمد خاين «النص الأدبي بين الجمالية والتعليمية»، مجلة اللغة والاتصال، وهران، الجزائر، ع 6، مارس 2010، ص87.
[36] المرجع نفسه، ص87.
[37] عبد القادر لورسي، المرجع نفسه، ص96.
[38] المرجع نفسه ، ص175.
[39] عامر كنبور «النقل/ التحويل الديداكتيكي»، موقع عن التربية و التكوين، 14 Octobre 2012
http://cfijdida.over-blog.com/article-111237835.html
[40] عبد القادر لورسي، المرجع نفسه، ص173.
[41] المرجع نفسه، ص98.
[42] أحمد فريقي، التواصل التربوي واللغوي”دراسة تحليلية”، ص88.
[43] لطفي البكوش، قراءة تحليلية نقدية للكتاب المدرسي- كتاب التفكير الإسلامي السنة الثانية ثانوي نموذجا، مرحلة تكوين متفقدي التعليم الثانوي، السنة التكوينية، 2005-2006م، ص28.
[44] لطفي البكوش، المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[45] عبد القادر لورسي، المرجع نفسه، ص 173.
[46] حسن محمد علي ازروال، ديداكتيك اللغة العربية “من تدريس اللغة العربية إلى تقويم خبرة المدرس”، عالم الكتاب الحديث للنشر والتوزيع، إربد– الأردن، ط1، 2016، ص03.
[47] عبد القادر لورسي، المرجع نفسه، ص175.
[48] حسن محمد علي ازروال، المرجع نفسه، ص 03.
[49] المرجع نفسه، ص111.
[50] ديوان بشار بن برد، قدمه وشرحه ومكمله محمد الطاهر بن عاشور، راجعه وصححه أمين شوقي، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1386ه/ 1966م، ج4، 169-170-171-172-173-174.
[51] ديوان أبي النواس، دار صادر، بيروت، ص501-502.
[52] الجديد، ص38-39.
[53] رحلة ابن بطوطة، تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، تح: محمد عبد المنعم العريان، دار إحياء العلوم، بيروت، ط1، 1407هـ/1987م، ص639- 640-641.
[54] المرجع نفسه، ص 639
[55] المرجع نفسه، ص 640.
[56] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[57] المرجع نفسه، ص641.
[58] المرجع نفسه، ص87.
[59] أبي محمد علي بن أحمد ابن حزم الأندلسي، كتاب الأخلاق والسير، تح: إيقا رياض، مراجعة:عبد الحق التركماني، دار ابن حزم، ص193– 194 – 195 – 196-197.
[60] المرجع نفسه، ص193.
[61] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[62] الجديد، ص58.
[63] أبو العلاء المعري، رسالة الغفران، تح: عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ، دار المعارف، ط9، القاهرة، ص182.
*أستاذ بالمدرسة العليا للأساتذة بشار – الجزائر
Leave a Reply