+91 98 999 407 04
aqlamalhind@gmail.com

القائمة‎

مساهمة الشيخ حبيب الرحمن العثماني في الشعر العربي
د. محمد أبو تراب

       أنجبت أرض الهند الخصبة عددا كبيرا من الأدباء والشعراء الذين نبغوا في العلوم الإسلامية و آداب اللغة العربية، وتغلغلوا في أصولها، واطلعوا على دقائقها ونكاتها، وامتازوا بتذوقهم الخاص في هذه اللغة، وصاغوا انطباعتهم وأفكارهم الحصيفة في صورة النظم والنثر، ومن بين هؤلاء الآدباء واللغويين النبوغ الفذة الهنود الشيخ حبيب الرحمن العثماني الذي يدور حوله هذه المقالة المتواضعة. إنه رزق ذوقا سليما  للشعر وكان له قدرة عالية على نظمه فقدم مساهمات جليلة في الأدب العربي من خلال قصائده الغراء في باب المديح النبوي وفي أغراض أخرى كثيرة.

مولد الشاعروثقافته: إن هذا الشاعر العظيم  ولد في مدينة “ديوبند”من مديرية سهارنفور بولاية أترا براديش حوالي 1275هـ، و ينتمي إلى أسرة علمية دينية عريقة، وهي أسرة عثمانية نسبة إلى سيدنا عثمان بن عفان (رض)، وكان والده الشيخ فضل الرحمن من العلماء الممتازين في عصره وكان من المؤسسين للدار، وكان يقرض الأبيات باللغة الأردية والفارسية،  وكان له ذوق أدبي سليم مما كان له الأثر الجلي على أبنائه وخاصة على ابنه الشيخ حبيب الرحمن العثماني. ومن أشهر أعضاء هذه الأسرة شقيقه المفتي الكبير عزيز الرحمن العثماني، وأخوه شيخ الإسلام شبيرأحمد العثماني. ونشأ الشيخ حبيب الرحمن العثماني منذ طفولته على حب الاطلاع والعكوف على العلم، وكان منذ نعومة أظفاره على دأب نادر في اكتساب العلوم والمعارف، وكانت تلوح على جبينه علائم الرشد وبوارق الذكاء، فنبغ كأفذاذ الرجال، واستفاد من علماء الكبار من أمثال الشيخ محمد قاسم النانوتوي، وشيخ الهند محمود حسن الديوبندي. أما تلاميذه الذين نهلوا من منهله العذب، وأصبحوا من العلماء الممتازين في عصرهم ، وتركوا خلفهم التراث العلمي الهائل فهم كثيرون ومن أبرزهم المفتي محمد شفيع الديوبندي، وسيد بدر عالم الميرتي، والشيخ حفظ الرحمن السيوهاروي، والمقرئ محمد طيب القاسمي. وكان الشيخ العثماني نحيف الجسم ومرهف الشعوروكان دائم الالتزام بالكتاب، والسنة النبوية ويتمع  بالحياء والغيرة الدينية ويشعر بألم الإسلام والمسلمين، ويعرف أوضاع الأمة الإسلامية معرفة جيدة، ويرغب في رفع مستوى المسلمين في شؤون الحياة كلها. إنه اتصف بالأخلاق النبيلة و صفات الخشوع و الخضوع لله، و الإيمان بمشيئة الله، واهتمت أسرته بالتعاليم الدينية والتربية الصالحة الخالصة لدين الله، فكانت خلقه نعومة القطن، وحلاوة العسل، فهو يألف عاجلا، ويؤلف عاجلا، يحب من اللباس ما رخص ومن الطعام ما تيسر. إنه أكمل دراسته من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة النهائية في أم المدارس دارالعلوم  بديوبند التي قال عنها الشيخ أبو الحسن علي الندوي: “إن أكبر معهد ديني في الهند يستحق أن يسمى “أزهر الهند” هو معهد ديوبند الكبير، بدأ هذا المعهد كمدرسة صغيرة  لا يسترعى الاهتمام، ثم لم تزل تتوسع و تتضخم بفضل جهود أساتذتها والقائمين عليها وإخلاصهم وزهدهم في حطام الدنيا حتى أصبحت جامعة دينية كبيرة بل كبرى المدارس الدينية في قارة آسيا”.[1]

          ولا ريب أن هذه الدارخدمت علوم الكتاب والسنة خدمة مشكورة، وخرّجت نوابغ في فن الحديث والتفسير، والفقه وعلوم الشريعة، بالإضافة إلى مساهمات الدار الهائلة في مجال علوم الكتاب والسنة، نجد لها اهتماما كبيرا بالعلوم العربية وآدابها و لها نصيب الأسد في هذا المضمار أيضا. إنها أنجبت الأدباء البارزين من أمثال الشيخ ذوالفقار علي الديوبندي، والعلامة أنور شاه الكشميري، وشيخ الأدب إعزاز علي الأمرهوي، ، غير أن الشيخ حبيب الرحمن العثماني يعد من أكثر علماء الدار قدرة على نظم الشعر باللغة العربية بأسلوب ممتاز

مناصب الشاعر ووفاته: في بداية الأمر كان الشيخ حبيب الرحمن العثماني مُدرِّسا في الدار، ونظرا إلى مؤهلاته الغير العادية تم تعيينه كـ نائب مدير للدار عام  1907م، وظل هوعلى هذا النمصب حتى عام 1926م، ثم أصبح مديرا حتى لفظ أنفاسه الأخيرة عام 1929م. و كان الشيخ العثماني عضوا نشيطا في منظمة ” جمعية علماء الهند” وقد رأس بعضَ مؤتمراتها، منها ما عقد في مديرية “غيا” بولاية “بيهار” الهند في 23 ديسمبر عام 1922م، فألقى فيه الخطبة الرئاسية، وكانت خطبة  قيمة رائعة بقيت كذكرى لا تنسى، وكذلك  فُوِض إليه منصب قاضي القضاة من قِبلِ نظام الملك آصف جاه (سلطان الدكن).

مساهماته الأدبية: أما فيما يتعلق بمساهماته الأدبية فنجد أنه كان أديبا بارعا في عصره، وكان يكتب في اللغتين: الأردية والعربية، له عدة كتب مفيدة باللغة الأردية، ومن أشهرها كتابه العظيم “إشاعت إسلام”، وفيه دراسات جادة ومعلومات واسعة عن تاريخ الإسلام وكيفية انتشاره في العالم. إنه ألف هذا الكتاب في بيان العوامل والأسباب التي دفعت الناس لاعتناق الإسلام في العالم، وفيه رد على التقولات والأوهام التي ينشرها الأعداء بأن الإسلام انتشر بالسيف. وله كتب أخرى مثل “تعليمات إسلام” في جزئين، وهذا الكتاب أيضا باللغة الأردية. كما أن للشيخ حواشي باللغة العربية على “المقامات للحريري”، وطبعت هذه الحواشي لأول مرة من “مطبعة مجتبائي” بدلهي. وكذلك كان للشيخ مساهمة بارزة في مجال الصحافة، وإنه كان رئيس التحرير لمجلة “القاسم” الصادرة من “دارالعلوم بديوبند” زهاء عشرين سنة. إنه كان يكتب مقالات أدبية إسلامية قيمة باللغة الأردية، والتي كانت تُنشر  في مجلة “القاسم” في معظم الأحيان،  وأيضا في مجلة ” الرشيد”، و مجلة  “الخليل”، و “مجلة “المنصور” وغيرها؛ بالإضافة إلى ذلك له خطبات عديدة في موضوعات ذات أهمية بالغة.

          أما المجال الذي يتجلى فيه إمامته ونبوغه العلمي والفكري جليا هو مجال الأدب والشعر، حيث لايُرى في عصره شاعر معادل له في دقة التعبير وجودة الصياغة، وسمو الأسلوب، وقوة السبك والبيان، وتلاحم النسج. إن قصائده تدل دلالة واضحة على قدرته الموفورة على قرض الشعر و تمكنه من ناصية البحور والأساليب العربية الخالصة التي تحمل في طياتها تلك الروعة والجزالة والعذوبة التي تضفي على الآثار الأدبية لونا من الخلود والقداسة، والتي تصغي إليها الأفئدة وتميل إلىها النفوس، وتلتذ بها الآذان عند السماع، وذلك لأن هذه القصائد تنم عن الحب الخالص لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وبها تظهر صلته الوطيدة باللغة العربية وآدابها التي اتخذها  وسيلة للتعبير عن انطباعاته ومشاعره وأحاسيسه، وخاصة  لإعراب الحب والغرام تجاه النبي صلى الله عليه وسلم. ونجد عنده حلاوة التعبير وحسن النظر في سرد أوصاف الممدوح ما يجعل القارئ يقبل عليه، فيجد متعة في قرأة شعره وتذوق أدبه وإنشائه.

          عندما نستعرض أعماله الشعرية نجد أن له مجموعة قصائد رائعة باللغة العربية في أغراض مختلفة: منها ما قرضها في المدح وفي مقدمته المديح النبوي، ومنها ما قالها في الأغراض الأخرى مثل الحمد والمناجات، والرثاء والوعظ، والحكم، و وصف كتاب أو معهد، أو في موضوعات متفرقة. و له ديوان مطبوع بإسم “معين اللبيب في جمع قصائد الحبيب” وفيه حوالي 1500 بيت، ولا يمكن لي أن أحيط بجيمع التفاصيل لقصائده في هذه العجالة فأقدم إليكم بعض أعماله الشعرية وهي:

قصيدة لامية المعجزات:  من أبرز قصائد ديوان الشيخ العثماني قصيدة “لامية المعجزات” وهي مكونة من 285 بيتا، جمع  فيها مائة معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم. إن هذه القصيدة من أحسن ما كتبت في بيان معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، يتمتع القاري بما يوجد فيها من حسن البيان، و رشاقة الأسلوب،  إلى جانب معلومات دقيقة، ومعاني عميقة. وقد شرحها الشيخ إعزاز علي شرحا وافيا ويقول عنها: ” إن هذه القصيدة تحتوي على مائة معجزة للني صلى الله عليه وسلم، وهناك عدد لا يحصى من القصائد التي قرضها الشعراء الآخرون في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وكثير منها يضم معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن ما رئيت قصيدة خُصصت لبيان المعجزات فقط، من هذه الناحية هذه القصيدة فريدة من نوعها، وتستحق أن تكون في الدرجة الأولى في باب المديح النبوي”.[2] ويبدأ الشاعر هذه القصيدة بخطاب النفس وتنبيهها على هفواتها وغفلاتها وتورطها في ورطات الغواية وغمراتها وإيقاظها عن عماياتها قائلًا:

أيها  المختال في ثوب الأمل والمباهي بطراز في الحلل
والمجاري في ميادين الخلا قد دنت منك مرارت الأجل
أنت في تيه العمى تبغي المنى وَالمَنايا كَشَّرَتْ نابَ الْوَجَلْ
أنت في لهو وزهو تجتني من ثِمَارٍ موبقااتٍ مَنْ أَكَلْ [3]

    هذه المقدمة المكونة من 13 بيتا، و فيه معاتبة المرء نفسه، يمكن أن يكون الشاعر هو المخاطب، ويعاتب نفسه، و لكن يحسن أن يكون الكلام جامعا على كون الخطاب إلى عامة الناس.وبعد هذه المقدمة يلتجأ الشاعر إلى باب سيد الكونين، شفيع المذنبين، ملجأ المكروبين سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم، ويتوسل إليه للشفاعة في الأبيات الخمسة التالية و يقول:

       ماله   من     ملجأ     أو   موئل غير باب السيد  المولى  الأجل
       سيد   السادات   فخر     الأنبياء مكمل  التوحيد    محاء   الملل
       لذ بباب  المصطفى  خير الورى ملجأ المكروب  مفتاح  العضل
       و اقرع  الباب    ملحاً      مدمناَ من  أدام  القرع   لا  بد  يصل
       لذ  بأعطاف  المُرَجّى  واعتصم تحرز النُعمى كما  لاذ الجمل[4]

    وفي البيت الرابع المذكور أعلاه تأكيد على الإلحاء في السوال حتى يتحقق له ما يريد من المسؤل، وفيه إشارة إلى قول العرب المشهور: “مَن دقّ بابَ الكريمِ فُتحَ”. ويعود بعد ذلك إلى مدح النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول:

سيد  الكونين  مصباح    الدُجى أول المخلوق في علم الأزل
وجهه  كالبدر أوشمس  الضحى صدره مشكوة أنوار الرسل
منهل    عذب    فرات     سائغ جوده    المروي     بنهل     وعلل
نشره      مسك     ذكي     فائح تَعطُرُ  الأكوانُ  منه  إذ رفل
كفه      شثن     حرير      ناعم مسها   يكفي    معاناة  العلل
ريقه    فيه    نماء   و    الشفاء في  الأواني  حين مج أو تفل
أو بدا     عند    ا بتسام     سِنهُ أبرق  الظلماء وامتاز السبل
رحمة    للخلق    مهداة    لهم تشمل  الكل  على قدر العمل [5]

    وبعد هذه المقدمة الطويلة المكونة من سبعة وخمسين بيتا انتقل الشاعر إلى صلب الموضوع وهو بيان معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم. إنه تناول مائة معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم من معجزاته الكثيرة واحدة تلو أخرى مثلا يقول عن القرآن الكريم:

هاك   قرآنا   مبينا   فاستمع لم  يزل  إعجازه  منذ  نزل
فيه  تعجيز  لهم  عن   مثله من   أطاق  مثله  قولا   يقل
منه إعجاز   الكلام   قد   بدا ما به خص سوى ختم الرسل[6]

   يقول الشيخ إعزاز علي في شرح هذه الأبيات: “إن في البيت الأول تلميح إلى قول العلماء ما نقله جلال الدين السيوطي بأن معجزات الأنبياء الآخرين كانت فقط للفترة التي عاشوا فيها، لم يبق شيئ من هذه المعجزات للأجيال الآتية، أما معجزة النبي صلى الله عليه وسلم، فهي تبقى  للناس إلى يوم القيامة”[7].

 قصيدة بائية المعجزات: وللشيخ العثماني قصيدة أخرى في هذا الغرض بإسم “بائية المعجزات”، جمع فيها أيضا مائة معجزة، وهي غيرما ذُكرت في “لامية المعجزات”، وبذلك تظهر ما كان لدى الشيخ العثماني من قدرة غير عادية على قرض الشعر في لغة الضاد. لما طبعت قصيدة لامية المعجزات أقبلت عليها الطلاب إقبالا غير منقطع النظير، وازدادت غرامهم بها، واشتاقوا إلى المزيد، فقرض هذه القصيدة على غرار الأولى ولكن الفرق بين هاتين القصدتين أن الأولى  في قافية اللام و وزنه الطويل، أما قصيدته هذه، فهي في قافية الباء ووزنه البسيط. ونذكر بعض الأبيات على سبيل المثال في السطور التالية:

          ذكرشاعرنا العثماني البركة، والكثرة في عكة سمن أم سليم بسبب النبي صلى الله عليه وسلم في البيتين التاليين :

وعكة السمن لما أهديت بقيت تفيض سمنا وما جفت ولا نضبا
حتى إذا أعصرت جفت وما وجدوا فيها من السمن ما يفض لهم أربا[8]

          هذه المعجزة مأخوذة من الحديث، وقد ذكر ابن كثير البركة في عكة السمن في الجزء السادس من كتابه الشهير ” البداية والنهاية” في ضمن باب  تكثيره عليه السلام الأطعمة، ثم ذكر معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في ظهور البركة في مزود أبي هريرة  رضي الله عنه- فأكل منه زهاء خمسين عام ولكن لم ينفد، والبيت كما يلي:

أبا هريرة أعطى التمر يأكلها من الجِراب قد استكفى بها حِقَبا
حتى إذا كان يوم الدارأقلقه إذ ضاع منه الجراب الهِمَّ  واكتئبا[9]

          ففي هذين البيتين إشارة إلى رواية رويت عن أبي هريرة بهذا الشأن وهي: “عن أبي هريرة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم يوما بتمرات فقلت ادع الله لي فيهن بالبركة، قال فصفهن بين يديه قال ثم دعا، فقال لي اجعلهن في مزود وادخل يدك ولا تنثرها، قال فحملت منه كذا وكذا وسقا في سبيل الله، ونأكل و نطعم وكان لا يفارق حقوي، فلما قتل عثمان -رضى الله عنه- انقطع عن حقوي فسقط.[10] ثم ذكر إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن كاتب وحي نصراني ارتد عن الإسلام، بأن الأرض لن تقبله بعد موته، وهكذا حدث، وبعض الأبيات المتعلقة بها كما يلي:

وكان كاتبه للوحي يبدله وارتد من بعد ثم التجى هربا
فقال تقذفه أرض يموت بها فأبصرو النعش منبوذا ومجتنبا

          هذه المعجزة مأخوذة من الحديث النبوي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء ذكر هذا الرجل النصراني بتفصيل يسير في كتب الحديث، وفيما يلي ما أخرجه البخاري: “عن أنس رضي الله عنه- قال: كان رجل نصرانيا فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران، فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فعاد نصرانيا، فكان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبت له، فأماته الله فدفنوه، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد، وأصحابه لما هرب منهم، نبشوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا له فأعمقوا، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه، نبشوا عن صاحبنا لما هرب منهم فألقوه، فحفروا له وأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا، فأصبح وقد لفظته الأرض، فعلموا: أنه ليس من الناس فألقوه”.[11] إن هذا الحديث من علامات صدق نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومن أجل ذلك صنفها البخاري رحمه الله – تحت باب علامات النبوة في الإسلام، و أخرجه الإمام مسلم بن الحجاج في كتاب صفات المنافقين. إن هذا الحديث من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم و من دلائل نبوته. إن هذا النصراني المرتد فقد جعله الله عبرة لمن يعتبر، ومعجزة ماثلة للأعين وشاهدة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فجعلت الأرض تلفظه مرة بعد اخرى. ولاشك أن هذه القصيدة أيضا من أبرزما كتب في باب المديح النبوي صلى الله عليه وسلم.

           ومن أهم أغراض قصائد الشيخ حبيب الرحمن العثماني  الحمد والمناجات، فنجد له في هذا الغرض قصيدتين: الأولى “دعاء المضطر”، ،  والثانية “حكمة الشعر” والآن ممكن أن نلقي الضوء على بعض خصائص هاتين القصيدتين في السطور التالية و هي كما يلي:

 قصيدة دعاء المضطر: قرض الشيخ العثماني هذه القصيدة على منوال القصيدة البردة الميمونة وتحتوي على 121 بيتا. لما ابتلي الشيخ العثماني بأنواع من الأمراض والأوجاع، فكان يستقيظ في الليل ويكتب هذه القصيدة، وكان يذكّر نفسه بنعم الآخرة، ويحثها على الأعمال الصالحة. بدأ الشيخ العثماني هذه القصيدة بمقدمة طلية مكونة من ستة أبيات ذكرفيها الحبيب والأطلال وذكريات الأيام الماضية من السمر والخمر وماإلى ذلك ، اتباعا لشعراء العرب القدامى، وطريقتهم في قرض الشعر وهذه الأبيات كما يلي:

دعا ودِّعا رِيم الظباء وأودعا بدورالحمى في الحي رهناً مضيعا
وسمراً وسُمّارا ولحظا وصبوة وربعا خلاءً دارس الرسم أقرعا
وهجراً وصرماً واصطباراً وسلوةً دناناً وخماراً وراحاً مشعشعا
وقولا لطيف سار في غسق الدجى يمثل   أطلالا مصيفا و  مربعا
وحوراً وعِيناً  يُستلذ  عِناقها وتعرض  لتقبل  خدا  مُمَنّعا
نراك  تنكبت  الطريق  ميمما نجيَّ همومٍ ساهر الليل أجمعا [12]

وبعد ذلك ذكرغفلة الإنسان وكثرة الذنوب والمعاصي ثم عاد إلى رأس الموضوع وهو الحمد والمناجات، ففي الأبيات التالية يذكر أن الإنسان يندم على معصيته، ويدق باب الله الغفور ويطلب منه المغفرة، ويذكر أنه ليس هناك ملجأ سوى الله تعالى:

هنالك لا أرجو سوى الله ملجأً ولادون قرعي بابه لي مفزعا
إلهي فأنت البر ذو الطول غافر تجيب نداء المستغيث إذا دعا
ومن مونس الجاني مقنط مفرط وأنت عفو واسع الفضل موسعا
ولطفك سواني ولطفك صاغني بأحسن تقويم سويا مرعرعا
و لطفك   أعطاني  بهدي  محمد سبيلا نقيا  واضحا  ثم  منجعا
وقلبي ولبي ثم سري و مهجتي ونفسي و روحي كلها لك خضعا[13]

 

حكمة الشعر: هذه القصيدة همزية، ومكونة من واحد وسبعين بيتا، وهي أيضا في الحمد والمناجات. بدأ الشاعر هذه القصيدة بقول الحكمة وهي أن لا يفقد الإنسان أمله إذا ابتلي في بلاء ومصيبة إنها ستزول، وستأتي بعدها أيام سعيدة  ذات رخاء وسرور، ويسأل ألا ترى أن الغيث ينزل و يأتي بكثيرمن الفوائد للأنسان بعد الريح والبرق الشديد؟

لا تيأسن إن يصبك اليوم ضرّاء ففي غد يعقب الضراء سراء
الدهر ذو غير والناس في عبر والحال منقلب بؤس و نعماء
بينا  ينوبك  أحوال تزو ل بها شم الجبال ورضت منه صماء
إذ هبت الريح  يتلوها  ببارقة من وابل اللطف مدرار و سحاء
فاختر لنفسك ما يرضى الإله به في   حالتيك  و لا يقلقك  آرزاء
واكسب لها من خصال ما تزان به كما   تقلد  عقد    الدر   حسناء[14]

          وله بضع قصائد في مدح العلماء والسلاطين، مثلا نجد قصيدة له في مدح “شيخ الهند محمود حسن”، وقصيدتين في مدح الشيخ  الحافظ “محمد أحمد”، ، أربع قصائد رائعة في شان نظام الملك آصف جاه مير عثمان علي خان سلطان الدكن. ليس عنده قصيدة كاملة في العزل ولكن نجد المقدمات العزلية على قصائده مثلا بدأ القصيدة الأولى في مدح الملك بالتشبيب اتباعا لعادة الشعراء القدامى، وذلك في عشرة أبيات تظهر فيها ما يمتاز به الشيخ العثماني من قدرة موفورة على قرض الشعر في أسلوب يزاهي أسلوب الفحول من الشعراء، وبعض الأبيات منها كما يلي:

وأوقدت في الحشى و القلب نيرانا راحت سليمى فهاجت منك أشجانا
مطل  الغني  يلط  الدين  عدوانا راحت وما برحت بالوعد تمطلني
إلا كعاب  لطيف  الخصر  ريانا وما سليمى غداة البين إذ رحلت
و الوجه  كالبدر تمثالا  و عنوانا بالقد   معتدلا  و  الخد  ملتمعا
و الصدر  ممتلئا  و النهد  رمانا و الكف مائلة  و الردف  مائلة
سبحان يا من كسا ها الحسن سبحانا[15] فاقت   ببهجتها  راقت  بطلعتها

وكذلك بدأ القصيدة الثالثة في مدح الملك بالمقدمة الغزلية، وبعض الأبيات من هذه المقدمة كما يلي:

وذكراك الحميا والندامى ألا خل الصبابة والغراما
وكأس الراح والشرب الكراما وحانات المدام وعاكفيها
و لبنى  تشبه  البدر  التماما بثينة والرباب وأم عمرو
و  ليلى   لا تهيم  بها  هياما وسعدى لا تريد لها وصلا
فإن الصبح قد كشف الظلاما ودع عنك التمادي في التعامي
وخذ بالعلم وارض به إماما ولا تجهل فإن الجهل داء

بالإضافة إلى ذلك، له عدد غير قليل من القصائد في الرثاء وكذلك له قصائد عديدة في الوصف: منها ما وصف فيها “دارالحديث بدارالعلوم، ديوبند”، ومنها ما وصف فيها “المدينة المنورة”. وله عدة قصائد في موضوعات متفرقة مثلا : له قصيدة بإسم “تراكم الفتن على الإسلام وأهله” ، وقصيدة بإسم “عروج الإسلام ونزوله، وله قصيدة “في حنين الجذع”، و قصيدة بأسم “التذكير والتحذير” وله التقريظ المنظوم على “حاشية كنز الدقائق” التي قام بتأليفها الشيخ إعزاز علي.

          إن هذه المجموعة من القصائد لذخر عظيم في تراثنا الأدب العربي، وأفضل نموذج لبراعة الشيخ حبيب الرحمن العثماني في قرض القصائد العربية بأسلوب الفحول من الشعراء ولتمكنه من الأساليب العربية الخالصة، فلها قيمة أدبية وفنية، كما تتمتع بأهمية دينية وأخلاقية؛  حيث حاول الشاعر من خلالها تحبيب الفضيلة، و التصديد عن الرذيلة، والدعوة إلى أعمال البر والتقوى، والاتصاف بصفة الحلم والعدل والتسامح، ونبذ الأحقاد، والابتعاد عن التعصب والفساد، وكل ذلك بأسلوب رشيق جذاب يترك في النفس صدى عميقا، وأثرا بعيدا، وتتضاعف أهمية هذه القصيدة عندما نرى أنه قرضها في بلاد نائية عن العروبة والعرب، وفي وقت وصلت فيه اللغة العربية إلى درجة كبيرة من التدهور و الانحطاط، ولذلك ربما لا نكون بعيدا عن الحق في اعتبارها من أهم روائع الأدب العربي.

ملاحظات:

  • وثمة ملاحظات في الأخير، يمكننا أن نستنتج عن ما سبق ذكره في استعراض مساهمة الشيخ حبيب الرحمن العثماني أن القصائد التي فاضت بها قريحته، وخاصة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم لا تقل عن مساهمات الشعراء الآخرين الذين قرضوا القصائد في أغراض أخرى.لأن هذه الآثار ليست إلا التعبير القوي الصادق العميق عما كانت تجيش في قلب الشاعر من أحاسيس الحب والإجلال والإكبار تجاه النبي صلى الله عليه وسلم.
  • ونجد في شعره طابعا خاصا من الشعر الجاهلي، إنه بنى قصائده على شاكلة الشعراء القدامى، فكما أن الشاعر الجاهلي يبدأ قصائده بالمقدمة الطلية والغزلية، ووصف المطية، ثم الانتقال إلى الغرض المقصود، فهكذا نجد في شعر الشيخ العثماني أنه يأتي بمقدمة طلية أو غزلية ثم جاء بوصف شيئ أو شخصية، ثم خاضَ في رأس الموضوع كما نرى ذلك في قصيدة “دعاء المضطر” و”لامية المعجزات”، و في قصيدةٍ مدحَ فيها نظام الملك، وغيرها من القصائد الأخرى. هذه هي ميزة يتميز بها الشيخ العثاني في قصائده بوجه عام، و في قصيدة المديح النبوي بوجه خاص، حيث أنه وزعها بين مقطوعات وموضوعات، لا يُرى ذلك في قصائد شعراء المديح النبوي الآخرين.
  • ومن خلال دراسة قصائده في بيان المعجزات، نتوصل إلى نتيجة أن هذا الشاعر لديه ثقافة واسعة بكتب السيرة والتاريخ، وله نظرة عميقة في العلوم الشرعية، لأن هذه المعجزات كلها مأخوذة من كتب الحديث الموثوق بها، و نرى أنه يوجد لدى هذا الشاعر قدرة كبيرة على قرض الشعر في أغراض مختلفة غيرأنه أجاد في قصائد المدح والرثاء، وبصفة كونه عالما واتصافه بالتدين لا نجد عنده قصائد الغزل، ولكن ما أتى به من مقدمة غزلية على قصائده المدحية والمراثي تدل دلالة واضحة على براعته في فنون الشعر، وقدرته على استخدام الألوان البيانية والمحسنات البديعية.
  • وإذا نقوم بدراسة قصائد شعراء الهنود بوجه عام نجد أن معظمهم اختاروا أسلوبا علميا في كتاباتهم حتى نجد ذلك في إنتاجاتهم الشعرية والأدبية، استخدموا كلمات ضخمة، وعبارات ذات صبغة علمية، ما تجعل إنتاجاتهم تفقد شوكتها، وجمالها الأدبي، أما الشاعر الشيخ حبيب الرحمن العثماني فإنه اختار أسلوبا مشوقا جذابا في سرد معانيه، وعرض أفكاره، ولديه قدرة قوية على اللغة والتعبير، يؤدي ما يريد التعبيرعنه بلغة تمتاز بحسن العبارة وجودة البيان، كما نجد أن لديه قدرة عجيبة على اقتباس المعاني والكلمات من القرآن والأحاديث النبوية ويمتاز شعره بكامل النقاء لفظا ومعنى. ولا نبالغ إذا قلنا إن شعره يقارب الشعر الجاهلي أسلوبا والشعر الإسلامي معنى ومضمونا. وهذا بعض ما وصلتُ إليه من خلال دراستي من الحقائق البارزة عن مساهمات الشيخ حبيب الرحمن العثماني تجاه اللغة العربية وآدابها، وفي ختام هذه المقالة أدعو الله أن يوفقنا لمزيد من البحث والتحقيق، ويهدينا إلى الصراط المستقيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

هوامش المقال:

[1]-الشيخ أبوالحسن، المسلمون في الهند، ص 104.[1]

[2] – حبيب الرحمن العثماني، لامية المعجزات، مطبع قاسمي بديوبند، عام  1334الهجري، ص: 3.

[3] – معين اللبيب في جمع قصائد الحبيب، ط “المكتبة الإعزازية” ديوبند، 1348 هـ، ص: 7.

[4]– المصدر السابق، ص 8.

[5]– المصدر السابق، ص:8.

[6] – المصدر السابق، ص:11.

[7] حبيب الرحمن العثماني، لامية المعجزات، مطبعة قاسمي بديوبند، عام 1334 الهجري، ص: 29.

[8] – معين اللبيب في جمع قصائد الحبيب، ط “المكتبة الإعزازية” ديوبند، 1348 هـ، ص: 23.

[9] -المصدر السابق، ص:23.

[10] – أحمد شاكر، مسند أحمد، الصفحة 258، والرقم 16.

[11] – صحيح البخاري، الرقم 3617.

[12] -معين اللبيب في جمع قصائد الحبيب، طبع من “المكتبة الإعزازية” بديوبند، عام 1932م، ص: 1.

[13] – المصدر السابق:ص :3.

[14] – معين اللبيب في جمع قصائد الحبيب، طبع من “المكتبة الإعزازية” بديوبند، عام 1932م، ص: 33.

[15] – المصدر السابق، طبع من “المكتبة الإعزازية” بديوبند، عام 1932م، ص: 54.

المراجع والمصادر

1- أبو الحسن علي الندوي، المسلمون في الهند، المجمع الإسلامي العلمي ندوة العلماء لكناؤ، عام 1998م.

2- حبيب الرحمن العثماني، لامية المعجزات (مع شرح أردو بإسم “البينات” للشيخ إعزاز علي)، المطبعة القاسمية عام 1343 الهجري.

3- محبوب رضوي، تاريخ دارالعلوم ديوبند، ج 1،2 مكتبة دارالعلوم ديوبند، عام 1992م.

4-      د. زبير أحمد الفاروقي، مساهمة دارالعلوم بديوبند في الأدب العربي دارالفاروقي دلهي الجديدة (الهند)، 1999م.

5-      واضح رشيد الندوي، الدعوة الإسلامية ومناهجها، مكتبة أبوالحسن علي دهلي عام 2004 م.

6-      د.عبد الرحمن البرني، علماء ديوبند، وخدماتهم في علم الحديث، طبع من أكاديمية شيخ الهند، دارالعلوم بديوبند، سهارنفور.

7-      الشيخ عبد الحي الحسني،  نزهة الخواطر، دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد.

8-      حبيب الرحمن العثماني، معين اللبيب في جمع قصائد الحبيب، طبع من المكتبة الإعزازية، بديوبند، عام 1932م.

9-      عبيد الله القاسمي الأسعدي، دارالعلوم ديوبند مدرسة فكرية، أكاديمية شيخ الهند،عام 2000.

*محاضر ضيف، قسم اللغة العربية، جامعة دلهي، الهند

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of