المهاتما ”غاندي“ في الذكرى المائة والخمسون لميلاده .. زاهد ارتدي ثوب الحكمة وفارِساً نَحَّا السيف من يَدَاهُ وأهدى كأس الحب لِمَنْ عاداه.
– عندما زرت بريطانيا سألني صحفي بريطاني بسخرية، لماذا ترتدي هذه الشماميط التي لا تستر جسدك ؟ فأجبت : لأنني أمثل أمة من الجائعين والعراة – المهاتما غاندي
– بما أنني رميت سيفي فإن كأس الحب هو كل ماأستطيع أن أهديه لمن يتعرض لي – المهاتما غاندي
***
مائة وخمسون عاماً مضت على ميلاد زاهد ارتدي ثوب الحكمة و فارِس نَحَّا السيف من يَدَاهُ وأهدى كأس الحب لِمَنْ عاداه، فهو صاحب النفس العظيمة أو القديس أو أبو الأمة الهندية، ألقاب عديدة نُسِبت إليه، لكنها أقل كثيرا من أن توصفه. إن موهانداس كرمشاند غاندي ”1869 – 1948“، الزعيم الذي شكلَّ علامةً فارقة في التاريخ الإنساني، وجسدها بمواقفه الإنسانية الشجاعة وانحيازه اللامشروط لخيار اللاعنف على درب التحرّر من نير الاستعمار البريطاني، ليعطي مثالاً حياً لا لبس فيه للقادة الحقيقيّين المتسلّحين بقوة إدارة شعوبهم.
خرج إلينا من الهند أرض التاريخ والحضارة الداعية للتسامح، يرتدي ثوب الزهد، حاملاً كتاب الإنسانية بيمينه يتلو منه ما تيسر من آيات الخلاص، رافعًا نخب الحب بيساره في مواجهة غرور مستعمر مُتغطرس بقوته، منحازاً لأبناء جلدته من فقراء الهند، مجبولا بعشق وطنه، وهمّ ماضياً لا ينظر إلى الوراء، يمتطي صهوة جواد الحق مُتقدّمًا في طريقه لانتزاع استقلال بلاده من براثن إستعمار جاثم في ارضه ما يقرب من 173 عامًا.
ولد موهانداس كرمشاند غاندي (1869 – 1948) فى مدينة بوربندر الواقعة على ساحل ولاية غوجارات في عائلة عريقة لها باع طويل في العمل السياسي، حيث شغل جده ومن بعده والده منصب رئيس وزراء إمارة بوربندر، مما كان له الأثر العظيم في تشكيل وعيه السياسي في سن مُبكّرة.
تلقى المهاتما ”غاندي“ تعليمه الاول في الهند ثم ذهب إلى بريطانيا عام 1882 حيث تلقى تعليمه الجامعي، وعاد إلى بلاده عام 1890 بعد حصوله على الإجازة الجامعية في القانون التي توهِّله لممارسة مهنة المحاماة، إلا أنه كان على موعد مع مصاعب عديدة في انتظاره، وكان اشدها عليه وأعظمها رحيل والدته، ولم يدم الوقت طويلأً ليكتشف أن امتهان مهنة المحاماة ليست هي السبيل لتحقيق أحلامه بعد ان رافقه الإخفاق تلو الإخفاق في تلك الفترة، مما جعله يترك مدينة بومباي ويتوجّه إلى مدينة راجكوت ليعمل كاتب عرائض و يعاني أشد المعاناة من صلف سلطة الاحتلال البريطاني آنذاك، وفى تلك الأثناء تلقى عرضا من مؤسسة هندية في ناتال بجنوب إفريقيا للتعاقد معه لمدة عام، فلم يتردد كثيرا في قبول العرض .
وانتقل المهاتما ”غاندي“ مع زوجته وأبنائه الأربعة إلى جنوب إفريقيا عام 1893، واستقروا في مقاطعة ناتال، إحدى أصغر المقاطعات في جنوب أفريقيا والواقعة على الساحل الشرقي بمحاذاة المحيط الهندي الدافئ، مقيماً في أهم مدنها دوربان، لتبدأ مرحلة جديدة من حياة المهاتما غاندي، وهي مرحلة كفاحه السلمي في مواجهة تحديات سياسة التفرقة العنصرية وهي السياسة التى أرسى قواعدها وبشر بها الاستعمار الأوروبي بعد تصريحات سيسل رودس ونادى دانيال فرانسوا مالان ”1875-1954“ و ابتكر لها كلمة ” أبارتيد ” و تعني الفصل أو التفرقة , حيث انخرط المهاتما غاندي في نضال عمال الزراعة الهنود والبوير العاملين في مزارع قصب السكر، وفي تلك الفترة اتخذ المهاتما غاندي من الفقر والتقشف رداءا له يقيه من صخب الأثرياء الذي يطغى على صراخ الفقراء، واكتسب المهارات والقدرات لمواجهة حالات الطوارئ المختلفة ليكون قادراً على إسعاف الفقراء، وجهز منـزله ليكون مقرا دائما للاجتماعات، وقبلة للمضطَهَدين، ومن ثم بدأ فى تحرير آلاف من العرائض وتوجيهها إلى السلطة البيضاء في جنوب إفريقيا، وقام بتنظيم “المؤتمر الهندي” في الناتال، وأسس صحيفة الرأي الهندي التي صدرت باللغة الإنجليزية وبثلاث لغات هندية أخرى، وساهم في إقامة مستعمرة “فينيكس” الزراعية مع أصدقائه الذين شاركوه أفكاره بأهمية الابتعاد عن صخب المدن وتلوثها، وعن طمع وكراهية وحقد البشر في المدن، فانسحب الهنود من المدن الرئيسية، مما أصاب الأعمال الصناعية بالشلل التدريجي، الأمر الذي أدى لاعتقاله لمرات متتالية.
وفي العام 1915 عاد المهاتما ”غاندي“ الي وطنه الهند، ليخوض بعدها رحلة طويلة من النضال ضد الظلم الاجتماعي والفقر وتهميش المرأة وبناء وئام وطني، ووضع حد للاضطهاد من جهة و الاستعمار البريطانى من جهة أخرى، ليظفر فى النهاية بالتفاف اكثر من٣٥٠ مليوناً من مواطنيه خلفة، وفى عام 1932 قرر المهاتما غاندي البدء بصيام حتى الموت، احتجاجاً على مشروع قانون كان يكرس للتمييز في الانتخابات مما دفع اللورد تشلمز فورد على القول : ”إن هذه الأعمال صبيانية وفي منتهى الحماقة” , ولم يمض وقت طويل الا وقد تم التفاوض والتوصل إلى “اتفاقية بونا” التي قضت بإلغاء نظام التمييز الانتخابي، ومن جديد ينتصر المهاتما ”غاندي“ في معركته.
وقد عمل المهاتما ”غاندي“ جاهداً على ﺍﻟﺘﺼﺩﻱ لسياسة سلطة الاحتلال البريطانى التي كانت تحصر استخراج الملح بالسلطات البريطانية مما أوقع هذه السلطات في مأزق، فقاد مسيرة شعبية مسافتها 400 كيلومتر توجه بها إلى البحر لاستخراج الملح من هناك , وفي عام 1931 أنهى هذا العصيان بعد توصل الطرفين إلى حل وسط ووقعت معاهدة “غاندي – إيروين”.
وفي عام 1940 اطلق المهاتما ”غاندي“ حملة عصيان مدنى جديدة احتجاجاً على إعلان بريطانيا الهند دولة محاربة لجيوش المحور دون أن تنال استقلالها واستمر هذا العصيان حتى عام 1941 كانت بريطانيا خلالها مشغولة بالحرب العالمية الثانية ويهمها استتباب أوضاع الهند حتى تكون لها عوناً في المجهود الحربي. وإزاء الخطر الياباني المحدق، حاولت السلطات البريطانية المصالحة مع الحركة الاستقلالية الهندية فأرسلت في عام 1942 بعثة عرفت باسم “بعثة كريبس” ولكنها فشلت في مسعاها، وعلى إثر ذلك قبل غاندي في عام 1943، ولأول مرة، فكرة دخول الهند في حرب شاملة ضد دول المحور على أمل نيل استقلالها بعد ذلك، وخاطب الإنجليز بجملته الشهيرة “اتركوا الهند وأنتم أسياد”, لكن هذا الخطاب لم يعجب السلطات البريطانية فشنت حملة اعتقالات ومارست ألوانا من القمع العنيف كان غاندي نفسه من ضحاياه حيث ظل معتقلاً خلف قضبان السجن ولم يفرج عنه إلا في عام 1944.
ومع اقتراب انتزاع الهند لاستقلالها من الاستعمار البريطاني بانتهاء عام 1944، تعالت الأصوات الداعمة لتقسيم الهند لدولتين، فسارع المهاتما غاندي إلى محمد علي جناح في محاولات مستميتة منه لا قناعة بالعدول عن توجهاته لكنه فشل فى ذلك فشلا ذريعا، وما إن أعلن تقسيم الهند حتى سادت الاضطرابات الدينية وطول الهند وعرضها، وبلغت من العنف حداً تجاوز كل التوقعات فسقط في كلكتا وحدها على سبيل المثال ما يزيد عن خمسة آلاف قتيل, وقد تألم غاندي لهذه الأحداث واعتبرها كارثة وطنية.
بقيت الروح العظيمة تحلق في سماء الإنسانيّة مردّدة : ”ليس كل سقوط نهاية، فسقوط المطر أجمل بداية“, حتى ظن من اغتاله من الهنادك المتطرفين بثلاثة طلقات نارية غادرة استقرت في صدره حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، معمدا مبادئه بدماءه، أنه هزمه، لكن هيهات! فدائماً تسقُطُ الأجسادُ، ولا تسقط الفِكرة، كما قال غسان كنفاني، لقد خلد المهاتما غاندي باغتيالة القيم والمبادئ الإنسانيّة جمعاء، وكانت آخر كلمات نطق بها المهاتما غاندي قبل اغتياله في 30 يناير عام 1948: ”سيتجاهلونك ثم يحاربونك ثم يحاولون قتلك ثم يفاوضونك ثم يتراجعون، وفي النهاية ستنتصر” , وبالفعل قد انتصرت مبادئ المهاتما غاندي وألهمت العديد من ﺣﺮﻛﺎت اﻟﺘﺤﺮّر اﻟﻮﻃﻨﻲ وﻣﻘﺎوﻣﺔ اﻻﺣﺘﻼل في جميع أنحاء العالم، مما دفع الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى إصدارالقرار رقم 61/271 المؤرخ 15 يونيه 2007 , والذي نص على إحياء تلك الذكرى اليوم الدولي هو “مناسبة لنشر رسالة اللاعنف، بما في ذلك عن طريق التعليم وتوعية الجمهور”، ويؤكد القرار جدداً “الأهمية العالمية لمبدأ اللاعنف” والرغبة “في تأمين ثقافة السلام والتسامح والتفاهم واللاعنف”.
Leave a Reply