الملخّص:
تنبّه العرب في وقت مبكّر من تاريخ العلوم اللغوية والبلاغية إلى الظّاهرة الكلامية وما تقوم عليه من أسس، وما تحقّقه من غايات فضلا عمّا يكتنف دورة التخاطب من ملابسات. وقد قادهم البحث في هذا المجال إلى وضع نظرية تواصلية متكاملة أرسى دعائمها، وجلّى معالمها أبو عثمان الجاحظ الذي استقصى أطراف الفكرة من كلّ أبعادها حتى حاز قصب السبق في هذا المجال. وقد أكّدت الدراسات اللّسانية المعاصرة مصداقية نظريته العلمية، وصحّة ما ذهب إليه وقرّره في أبحاثه. وهذا ما نسعى إلى الوقوف عليه من خلال هذه الورقة البحثية.
الكلمات المفتاحية: – نظرية التواصل- الظّاهرة الكلامية – دورة التخاطب – الجاحظ – الدراسات اللّسانية المعاصرة.
المقال:
أولى علماء العربية قديما عناية كبيرة للتواصل، حيث أحاطوا هذه الفكرة بكثير من البحث والاستقصاء فحدّدوا أركانها وأهدافها، ووقفوا على كثير من الأفكار الرّائدة في مجالها ممّا أثبتته الدّراسات اللّسانية الحديثة، وأكّدت على أهميته في مجال التواصل. ويعدّ الجاحظ من أبرز المنظّرين العرب في هذا المجال حيث استطاع التأسيس لنظرية التواصل. وأن يقف على أطرافها. ويستبين وسائلها وأهدافها. وهو ما نسعى إلى الكشف عنه من خلال ما أثر عنه في هذا المجال والمقارنة بين ما أورده، وما توصّلت إليه الدراسات اللسانية الغربية بخصوص نظرية التواصل التي أثارت انتباه العلماء الذين نظروا إليها من زوايا عدة شكلت في مجموعها تكاملا معرفيا أضاء دروب هذه الفكرة، وأمدها بما هو مثمر في بابه.
لا يروم هذا البحث إسقاط النظريات اللسانية الحديثة على التراث العربي إنّما يسعى إلى التنقيب عن أفكار هذه النظريات في الموروث العربي القديم بوجه عامّ وفي تقريرات الجاحظ بخصوص نظرية التواصل بشكل خاصّ لأنّ “النظر في تراثنا يكشف عن جهود جلية لعلماء التفسير والأصول والنقاد ثم البلاغيين في استخدام السياق بشقيه اللغوي والمقامي أثناء ممارسة قراءة النصوص الدينية والأدبية بهدف الكشف عن معانيها أو بيان بلاغتها، أو الوصول إلى أسرار جمالها. وعندي أنّ المعنى البلاغي للفظ البلاغي على معنى الإبلاغ أو التواصل هو موضوع من موضوعات علم الاتّصال.”[1]
قبل الوقوف على هذه الحقائق العلمية التي سجّلها علماء العربية قديما بخصوص فكرة التواصل وفي مقدّمتهم الجاحظ نودّ الإشارة إلى تعريف التواصل الذي تدور معاني جذره اللّغوي (وصل) على الاقتران والاتّصال والترابط والتتابع والإبلاغ وهو ضد التّصارم.[2] وقد يرد مزيدا على صيغة تفاعل التي تفيد المشاركة ومنه قول الشّاعر:
وَاصِلْ خَلِيلَكَ مَا التَّوّاصُلُ مُمْكِنٌ *** فلأنت أو هُوَ عن قليلٍ ذَاهِبُ
وجاء في القرآن الكريم على زنة فعّل التي تقتضي قوّة في حصول الفعل في قوله تعالى: ” ولقد وصّلنا لهم القول لعلّهم يتذكّرون.” سورة القصص:51.
والتواصل في الاصطلاح: ” تبادل كلامي بين ذات متكلّمة تنتج ملفوظا موجّها إلى ذات متكلّمة أخرى ترغب في السماع أو في إجابة واضحة أو ضمنية على حسب النموذج الملفوظ من المتكلّم.” [3]
وهو عند شارل كولي Charles Cooley” الميكانيزم الذي بواسطته توجد العلاقات الإنسانية وتتطوّر. إنّه يتضمّن كلّ رموز الذّهن، مع وسائل تبليغها عبر المجال، وتعزيزها في الزمان، ويتضمّن أيضا تعابير الوجه، وهيئات الجسم والحركات، ونبرة الصّوت والكلمات والمطبوعات والقطارات والتلغراف والتلفون. وكلّ ما يشمله آخر ما تمّ في الاكتشافات في المكان والزمان.”[4] نستنتج من هذا التعريف أنّ للتّواصل وظفيفتين أساسيتين هما:
أ-وظيفة معرفية تقوم على نقل المعرفة وتبليغها بطرق مختلفة.
ب – وظيفة إبلاغية وجدانية تسعى إلى ربط أواصر العلاقات الإنسانية. وهو من هذا المنظور “نشاط اجتماعي يتمّ بين طرفين أو أكثر ويكون منظّما حسب مقتضيات اللغة المستعملة فيه وذلك لتنسيق علاقات النّاس.”[5] ويرى امبرتو إيكو Umberto Eco أنّ التواصل اللّساني هو سيرورة اجتماعية لا تتوقّف عند حدّ بعينه سيرورة تتضمّن عددا هائلا من السلوكات الإنسانية: اللغة والإيماءات والنظرة والمحاكاة الجسدية، والفضاء الفاصل بين المتحدّثين ولهذا سيكون من العبث الفصل بين التواصل اللفظي والتواصل غير اللّفظي.”[6] ولعلّ هذه النظرة الشاملة العميقة هي التي نلفيها لدى الجاحظ وهو يؤسّس لهذه النظرية قديما.
– التواصل اللغوي في التراث العربي:
أدرك العرب قديما وظيفة اللغة وأهميتها في عملية التواصل المعبّرة عن الذّات المنتجة للخطاب، والمستقبلة له. وكان ابن جنّي قد نبّه إلى هذه الميزة لمّا عرّف اللّغة على أنّها:” أصوات يعبّر بها كلّ قوم عن أغراضهم.” [7] المختلفة باختلاف الأحوال والمقامات التي تتضمّن عناصر التواصل. وقد عنيت البلاغة العربية منذ نشأتها بهذه العناصر وتحليل النص في ضوء المقام وما يكتنفه من ملابسات وما يحكم الخطاب من وعي وقصد. بناء على أنّ اللغة وسيلة تواصلية يحكمها القصد وهي كما يقول ابن خلدون “في المتعارف هي عبارة المتكلّم عن مقصوده، وتلك العبارة فعل لساني ناشئ عن القصد بإفادة الكلام فلا بدّ أن تصير ملكة متقرّرة في العضو الفاعل لها وهو اللّسان.”[8]
لقد اهتدى الجاحظ في وقت مبكّر من تاريخ العلوم اللغوية والبلاغية إلى ما يعتري الظّاهرة الكلامية من ملابسات. وما تقتضيه عملية التواصل من مرتكزات تنتظم من خلالها دورة التخاطب المفضية إلى تحقيق المقاصد والغايات. وقد قاده البحث في هذا المجال إلى إرساء دعائم نظرية متكاملة الأركان تشير إلى أنّ المنجز اللّغوي مرتبط بسياق خاصّ تراعى فيه جملة من العوامل المؤثّرة في عملية التواصل التي يؤطّرها المتكلّم على اختلاف درجاته، والسّامع وأحواله، والمقام وملابساته، والرسالة وما تتميّز به من خصائص تؤهّلها لحمل الأفكار. وقد جعل الجاحظ من الوظيفة الاتّصالية المتمثلة في الغاية التي يجري إليها القائل والسّامع بتعبيره حجر الزّاوية في بناء العملية التواصلية كونها المحرّك الفاعل لهذه الأطراف. فعلى أساسها تضبط البنى التركيبية في نظمها وانتظامها وعلى هديها تتنزّل الأساليب في إخراجها على مقتضى الظّاهر أو على خلافه تبعا لمقتضيات الأحوال.
للإشارة فإنّ مصطلح البيان في كتابات الجاحظ قد أخذ مفاهيم متعدّدة بتعدّد السياقات التي يرد فيها. فقد يتّسع مدلوله ليشمل مختلف وسائل التعبير الممكنة. وهو الذي يعبّر عنه حاليا بعلم العلامات. وقد يضيق مدلول البيان لمّا يقصره على العلامة اللغوية بوصفها أفضل وسيلة للإعراب عن كوامن العقل، وخلجات النفس، ومضمرات الفؤاد. وجملة القول في هذا أنّ “مفهوم البيان عند الجاحظ مفهوم إجرائي، أي أنّ العملية الموصلة إلى الفهم والإفهام في حالة اشتغالها، حتى وإن اقتضى الإجراء التعليمي تقديمها منفصلة أو ساكنة أحيانا.”[9]
تحدّث الجاحظ عن وظائف الخطاب وسط زخم كثير من التداخل بين مفاهيم البيان ومراتب الكلام وما يلحق ذلك من ظروف المقام. فالبيان عنده تتنازعه وظيفتان اثنتان:
1- البيان بوصفه معرفة: فهو ذو وظيفة فهمية خطابية خالصة. ويمكن الوقوف عليها من خلال حديثه عن الخطابة بوصفها نوعا من أنواع الكلام البليغ. وفيها يكون الخطيب كنموذج للمتكلّم الذي يتحرّى الدّقة في إلقاء الخطاب الذي يقوم على حشد وسائل الإقناع، وأساليب الاحتجاج المختلفة لتقرير الفكرة وإثباتها. وقد برع أصحاب الفرق الكلامية في التنظير لأسلوب الحجاج وقوانينه على نحو ما أورده الجاحظ في صحيفة بشر بن المعتمر[10] التي مثّلت منهجا يحتذى به في بناء الخطاب ورسم معالمه في كنف ماهية البلاغة التي خصّت بتعاريف متعدّدة الزّوايا وهي تهدف في مجملها إلى البصر بمواقع تحسين الكلام بغرض التأثير نحو قولهم: « جماع البلاغة البصر بالحجّة، والمعرفة بمواضع الفرصة.»[11]
2- البيان إقناع أو وظيفة الفهم والإفهام: وهي تمثّل مدار الأمر الذي يجري إليه القائل والسّامع على حدّ تعبير الجاحظ. وأنّ هذه العملية مناط كلّ بيان. وروح كلّ قول مهما تضمّن من مقاصد أو ما أنيط به من غايات. ولعلّ هذا المنزع هو الذي جعله يوسم كتابه بالبيان والتبيين لأنّه القطب الذي عليه المتّكأ وإليه الملجأ. فالتواصل لا يتأتى إلاّ من جهة الفهم والإفهام وقد خصّ الجاحظ هذه الفكرة بقسط وافر من التحليل والتعليل ، وهو في مواطن عديدة نراه يوجز فيعجز وفي أخرى يسهب فيتعب نحو قوله: “والبيان اسمٌ جامعٌ لكلِّ شيءٍ كشَفَ لك قِناعَ المعنى، وهتكَ الحِجَاب دونَ الضمير، حتّى يُفْضِيَ السّامعُ إلى حقيقته، ويَهجُم على محصولِهِ كائناً ما كان ذلك البيانُ، ومن أيِّ جنسٍ كان الدّليل؛ لأنّ مَدَارَ الأمرِ والغايةَ التي إليها يجرِي القائل والسّامع، إنَّما هو الفَهْمُ والإفهام؛ فبأيِّ شيءٍ بلغْتَ الإفهامَ وأوضَحْتَ عن المعنى، فذلك هو البيانُ في ذلك الموضع.”[12] ومن تتبّع آثار الجاحظ بخصوص هذه القضية يقف على نتيجة مفادها أنّ وظيفة الفهم والإفهام تجري على أنماط شتى من طبقات الكلام . فهي تتواجد في مألوف الكلام وعاديه إذ “يكفي من حظِّ البلاغة أن لا يُؤتَى السَّامعُ من سوء إفهام النَّاطق، ولا يُؤتَى النَّاطقُ من سوء فهم السَّامع.”[13] كما تتواجد في الكلام الجمالي الذي تسمو فيه ذروة الإبداع، وتجود فيه خلابة الإمتاع، وقوّة الإقناع. وهذا ما نلمسه بجلاء عند استشهاده بصحيفة بشر بن المعتمر التي جاء فيها: “فإن أُولَى الثلاث أن يكون لفظُك رشيقاً عذْباً، وفخْماً سهلاً، ويكونَ معناك ظاهراً مكشوفاً، وقريباً معروفاً، إمَّا عند الخاصَة إنْ كنتَ للخاصَّة قصَدت، وإمَّا عند العامَّة إنْ كنتَ للعامَّة أردت، والمعنى ليس يشرفُ بأن يكونَ من معاني الخاصَّة، وكذلك ليس يتَّضع بأن يكونَ من معاني العامَّة، وإنّما مَدارُ الشّرَف على الصواب وإحراز المنفعة، مع موافَقَة الحال، وما يجب لكلّ مَقامٍ من المقال، وكذلك اللفظ العامّيّ والخاصّيّ، فإنْ أمكنَكَ أن تبلغ من بيان لسانك، وبلاغةِ قلمك، ولُطف مَدَاخلك، واقتدارِك على نفسك، إلى أن تُفْهم العامَّة معانيَ الخاصَّة، وتكسُوَها الألفاظَ الواسطة التي لا تَلطُف عن الدَّهْماء، ولا تَجفُو عن الأَكْفاء، فأنت البليغ التامّ.”[14] وفي تقديمه لهذه الصّحيفة ما يشي إلى اعتبارها بديلا للمناهج التعليمية الساعية إلى إكساب المهارة البيانية والقدرة التبليغية التي تنجز الفعل المراد من خلال حفظ النماذج الجيدة والاحتذاء بها.
وقد جعل الجاحظ من النجاعة والنفعية غاية اللغة ووظيفتها لأنّ مدار الشرف على الصّواب وإحراز المنفعة. من هذا المنظور يتّحد القول بالفعل في غايته حيث يكسوه الطّابع الإجرائي صفة النّفعية، وهذا لا يتأتى إلاّ بحذق الصّناعة والتميّز فيها.ولعلّ هذا الملحظ يكون قد استوحاه الجاحظ من أسلوب القرآن الكريم في عملية التبليغ التي تدقّ فيها رسوم المباني الحاملة لأصناف المعاني. ذلك أنّ التعبير البياني في القرآن إعجاز، والإعجاز إقناع يأسر العقول، ويثلج الصّدور. ومن ثمّ يكون للتّاثير سهم نافذ إلى معاقد العزم من الإنسان. من هذا المنظور كانت البلاغة علما بجملة من الوسائل المفضية إلى نجاعة الكلام ومنفعته الفعلية. إذا كان هذا هو حال الوظيفة اللّغوية فإنّ موظّفها (المتكلّم) قد كان له نصيب غير منقوص هو الآخر في عملية التواصل لدى الجاحظ .
تولي نظرية التواصل عند الجاحظ عناية بالمتكلّم كونه الحلقة الفاعلة في دورة التخاطب. ولعلّ من أقوى أسباب اهتمام الجاحظ بالمتكلّم تعميقه لفكرة السنة المشتركة (code) بين القائل والسّامع إلى مستويات عدّة تملي على المتكلّم تنزيل النّاس منازلهم. فالخطيب البليغ عند الجاحظ هو من جعل أقدار اللّغة ومجاري الكلام على حسب أقدار السّامعين ومقتضيات الأحوال. وقد نجم عن هذه الفكرة العلمية الهامّة قانون عامّ يربط المنطلقات بالنتائج. وتلك هي فكرة المناسبة التي عبّر عنها بمصطلحات عدّة كالمقام، والموضع، والحال… وجملة الأمر في هذا أنّه ركّز على فكرتين أساسيتين هما:
ا- مقدار الطّاقة: والمقصود به الزّاد اللّغوي الذي يجب أن يوظّفه المتكلّم مراعيا في ذلك الفوارق الاجتماعية التي تستدعي إنزال الناس منازلهم في الكلام إذ :” ينبغي للمتكلّم أن يعرِفَ أقدارَ المعاني، ويوازنَ بينها وبين أقدار المستمعينَ وبين أقدار الحالات، فيجعلَ لكلِّ طبقةٍ من ذلك كلاماً، ولكلّ حالةٍ من ذلك مَقاماً، حتَّى يقسمَ أقدارَ الكلام على أقدار المعاني، ويقسم أقدارَ المعاني على أقدار المقامات، وأقدارَ المستمعين على أقدار تلك الحالات.”[15] كما أنّه نبّه المتكلّم إلى أنّ الإمداد يكون على حسب الاستعداد من قبل المتلقّي الذي يجب أن يكون محتفيا بما يلقى عليه حيث قال: “إذا لم يكن المستمعُ أحرصَ على الاستماع من القائل على القول، لم يبُلغ القائلُ في منطقه، وكان النُّقصان الداخلُ على قوله بقدْر الخَلَّة بالاستماع منه.”[16]
ولفطنة الجاحظ بأساليب الخطاب وبصره بأصنافه، وكيفية تأثيره. يدعو المتكلّم إلى ضرورة احترام القصد والغاية من الكلام. فالمتكلّم البليغ هو من يصرف وجوه القول على أساس مبدإ الاختيار لتحقيق الملاءمة بين مكونات الخطاب والسياق الحافّ بها. “ومتى شاكل أبقاك اللّه ذلك اللفظُ معناه؛ وأعرب عن فَحواه، وكان لتلك الحال وَفْقاً، ولذلك القدرِ لِفْقاً، وخَرَج من سماجة الاستكراه، وسلِم من فساد التكلف، كان قميناً بِحُسن الموقع، وبانتفاع المستمِع.”[17] وجملة القول في هذا أنّ المتلقي في نظرية التواصل لدى الجاحظ يمثّل الركن الركين في تكوين الخطاب، وهو ما يدعو المتكلّم إلى مراعاة حاله وإخراج الكلام تبعا لمقتضيات الوظيفة والمقام. لهذه الأسباب نراه يخصّ الرسالة هي الأخرى بقسط وافر من الحديث أكّد فيه على ضرورة العناية بالرّسالة حيث شدّد على فاعلية الانسجام والتلاؤم بين الألفاظ والمعاني لأنّ ذلك من مقوّمات البيان الذي يكشف المستور ويجعل الغفل موسوما والموسوم معلوما. وقد سعى الجاحظ جاهدا إلى الوقوف على خصائص الكلام البليغ، حيث ذكر حدودا متعدّدة للبلاغة رسم من خلالها معالم الكلام المؤثّر الذي يشدّ الانتباه ويبلّغ الرسالة في أحسن صورة، وأبهى معرض. وقد اتّخذ من مبدإ الاختيار للألفاظ حدّا فاصلًا بين نوعين من الممارسة اللغوية؛ ممارسة اجتماعية وأخرى فنية. وقد أطنب في الحديث عن الثانية لما لها من خصوصية بيانية تتجاوز حدود الفهم إلى مشارف الإبداع الذي يعانق فيه الإمتاع. وقد أكّدت الدّراسات الأسلوبية الحديثة هذا المبدأ.[18] كما أنّه خصّ المقام بشرح مستفيض ينبئ عن إدراكه لقيمة هذا لعنصر في عملية التبليع التي تتحدّد نجاعتها بالنظر إلى مراعاته في عملية التواصل لذلك قالوا لكلّ مقام مقال حيث ربطوا بين الصياغة والسياق. وقد ذكر الجاحظ ذلك في مواضع عدّة منها ما أورده في صحيفة بشر بن المعتمر التي ختمها بقوله: “وإنّما مَدارُ الشّرَف على الصواب وإحراز المنفعة، مع موافَقَة الحال، وما يجب لكلّ مَقامٍ من المقال.”[19]
بهذه الكيفية في الطّرح والمعالجة يكون الجاحظ قد أرسى دعائم نظرية التواصل التي خصّ أطرافها بالوصف والتحليل مبينا ما لكل طرف من خصوصية في إطار تكامل الأدوار التي أبان عنها باستفاضة رسم من خلالها معالم كلّ لبنة في دورة التخاطب. وخصوصية كلّ طرف في عملية التواصل.
– نظرية التواصل في اللسانيات الغربية:
أخذ مصطلح التواصل في الدّراسات الغربية في الشيوع والذّيوع مطلع منتصف القرن العشرين على اعتبار أنّه نشاط اجتماعي مقرون بحاجة الإنسان إلى اللغة التي اعتبرها دي سوسير أداة للتواصل تقوم على: ” نسق من العلامات والإشارات هدفها التواصل خاصّة أثناء اتّحلد الدّال مع المدلول بنويا أو تقاطع الصّورة السمعية مع المفهوم الذّهني.”[20] وقد احتفت المدرسة الوظيفية بزعامة رومان جاكبسون بالدّراسات التواصلية حيث عُدّ الجانب التواصلي هو الغاية القصوى من اللّغة ذاتها. وتمكّن علماء اللغة من تحديد وظائف اللّغة والأطراف والعوامل المكوّنة للفعل التواصلي على نحو ما نلفيه لدى جاكبسون: “- المرسل(destinateur) – المرسل إليه(destinataire) – الرسالة(message) – المقام (contexte) -الاتّصال (contact) – السنن(code).”[21] تمثّل كلّ حلقة من هذه الحلقات الست وظيفة معيّنة. حيث ترتبط الوظيفة الانفعالية بالمتكلّم. أمّا المتلقي فتناط به الوظيفة الإفهامية. وأمّا الرّسالة فتخصّها الوظيفة الشعرية. وتتحدد الوظيفة المرجعية من خلال الإحالة على السياق. وتتعلّق الوظيفة الميتالغوية بالسنن. و أمّا الوظيفة اللغوية فمجالها الواقعة الإبلاغية المحافظة على أداة الاتّصال.
إذا كانت اللسانيات قد اتخذت من اللّسان البشري موضوعا لدراستها فإنّ السيميولوجيا تتجلوز هذا الطّرح إلى دراسة مختلف العلامات اللّغوية وغير اللغوية التي يتضمّنها الحقل الاجتماعي. على هذا الأساس تباينت وجهات النظر حول الوظيفة الأساس للّغة. وقد مثّل ذلك اتّجاهان اثنان: أحدهما يقصرها على الوظيفة التواصلية ومن أبرز دعاة هذا الاتّجاه: جورج مونان، و إ. بويسينس، ول. برييتو. وثانيهما يخصّها بالوظيفة الدّلالية ومن أبرز رواده رولان بارت.
إذا كان أتباع دي سوسير يعنون بدراسة ما يعود إلى ظاهرة التواصل في طابعها اللغوي ضمن دورة كلامية فإنّ الكثير من الباحثين يخالفونهم الرّأي ويجعلون مجال الدّراسة واسعا وعلى رأسهم رولان بارت الذي “لم ير داعيا للفصل بين التواصل باعتباره نشاطا قائما على قصدية صريحة ، وبين الدلالة باعتبارها سيرورة لا تتحدّد من خلال نية التأثير المباشر في سلوك مخاطب مخصوص. فالتواصل يتضمّن بالضرورة حالات للتدليل والدّلالة لا يمكن أن تخلو من قصدية البلاغة، صريحة أو مفترضة فقط من خلال المقام التلفظي.”[22]
من خلال هذا العرض الوجيز الذي اقتضته طبيعة البحث يمكن القول إنّ طريقة التناول لنظرية التواصل في التراث العربي بزعامة الجاحظ قد حققت نتائج رائدة في ميدانها، وحقّ لها أن تقف جنبا إلى جنب مع ما توصّلت إليه الدّراسات اللّسانية الحديثة في آخر منجزاتها في هذا المجال. “إنّ العلاقة بين المرسل والمتلقي التي حرصت البلاغة على إبرازها قد وجدت طريقها إلى نظرية الاتّصال وبالتالي إلى التداولية التي عنيت بالسياقات المختلفة وأطراف الموقف التواصلي عناية كبيرة.”[23] ولو نظرنا بعين الإنصاف إلى ما بسطه الجاحظ من قول حول مفهوم البيان الشامل الذي يتّسع لكثير من الأفكار التي وقفت عليها الأبحاث الغربية بخصوص نظرية التواصل. “ولا نعتقد أنّه بالإمكان العثور في مثل هذه الفترة على نصّ كهذا يتميّز بالإحاطة والعمق في التفكير في موضوع الكلام البشري وقضايا التواصل بين الناس بالوسائل اللّسانية وغير اللّسانية. والوسائل الظاهرة والخفية، والموجودة والمعدومة، وهي قضايا تلتئم في مفهوم النص، وتترك الجاحظ يبلورها في صفحة لا تفقد شيئا من شموليتها وصحّة أفكارها أحد عشر قرنا بعد تحريرها.”[24]
إذا كانت الدراسات اللّسانية الغربية قد توزعت فيها نتائج البحث بخصوص التواصل إلى نظريات تقف عند حدود الملفوظ وهي تسعى لحصر وظائف اللغة. وأخرى تتجاوز ذلك الطّرح وتتطلّع إلى احتواء كلّ ماله علاقة بالتبليغ لغويا كان أو غير لغوي، فإنّ هذا التصوّر الشامل كان قد وقف عليه الجاحظ واستوعبه بدقّة وإحكام على نحو ما نلفيه عند حديثه عن أدوات البيان التي عبّر عنها في قوله: “وجميعُ أصنافِ الدِلاَّلات على المعاني من لفظ وغير لفظ، خمسة أشياءَ لا تنقُص ولا تَزيد: أولها اللفظ، ثم الإشارة، ثم العَقْد، ثم الخَطّ، ثمَّ الحالُ التي تسمّى نِصْبةً، والنِّصبة هي الحال الدّالةُ، التي تقوم مقامَ تلك الأصنافِ، ولا تقصِّرُ عن تلك الدَّلالات.”[25] فما من شكّ أنّ هذه النظرة الشاملة لطبيعة التواصل هي التي اسقرّت عليها الأبحاث اللّسانية في أحدث طبعاتها وأسست لها جازمة القول بأنّ عملية التواصل هي: “سيرورة اجتماعية لا تتوقف عند حدود معيّنة، سيرورة تتضمّن عددا هائلا من السلوكات الإنسانية: اللغة والإيماءات،والنظرة، والمحاكاة الجسدية، والفضاء الفاصل بين المتحدّثين. ولهذا سيكون من العبث الفصل بين التواصل اللّفظي، والتواصل غير اللفظي، ذلك أنّ الفعل التواصلي هو فعل كلّي.” [26] هذه الفكرة هي التي وقف عليها محمد العمري وهو يسعى إلى سبرأغوار كتاب البيان والتبيين وما يقوم عليه من توجّه فكري ينزع إلى استقطاب أصناف الدّلالة التي تنوّعت بتنوّع مصادرها، وعمق النّظرة التي تؤطّر المسار البحثي الذي يستشرف عوالم متعدّدة تثير فضول العقل، وتدفعه إلى التواصل معها عبر مختلف الرسائل الناطقة في صمتها، البليغة في لسان حالها. “وعند تأمّلنا لأصناف الدلالة على المعاني من لفظ وغير لفظ نقتنع أنّ الكتاب قد اتّجه في البداية إلى وضع نظرية لمعرفة الكون والإنسان، وتداول هذه المعرفة بالأدلة المختلفة. إنّها نظرية الرمزية الكونية: عقد الرموز وفكّها بالتواضع والاعتبار(التأمل).”[27] كلّ هذا وغيره يدفعنا إلى الإقرار بأنّ الجاحظ قد سبق عصره في هذا المجال، وحاز قصب السبق فيه من غير جدال.
:الهوامش
- تمام حسان مجلة فصول، مجلد:07، العدد:03، القاهرة،1987،ص:27.
- ينظر لسان العرب، ابن منظور، دار صادر، بيروت، ط:03، 1414هـ، 11/727.
- اللغة والتواصل التربوي والثقافي، جميل حمداوي، مجلّة علوم التربية، الدار البيضاء، المغرب، ط:01، 2008، ص:78.
- المرجع نفسه، ص:53
- استراتيجيات الخطاب،مقاربة لغوية تداولية،عبدالهادي بنظافر الشهري، دارالكتب الوطنية، بنغازي، ليبيا، ط:01،2004،ص:10 –
- استراتيجيات التواص لم ناللّفظ إلى الإيماءة، سعيد بنكراد، مجلة علامات، العدد: 21،2004، ص:11
- الخصائص، ابن جني، تحقيق: محمد علي النجار، المكتبة العلمية (د ت):1/34
- المقدمة، عبد الرحمن بن خلدون، دار الكتاب اللبناني للطباعة، بيروت، لبنان،ط:03،1967، ص: 147.
- البلاغة العربية أصولها وامتداداتها، محمد العمري، إفريقيا الشرق، المغرب، ط:02،.2010، ص:191
- ينظر البيان والتبيين، الجاحظ، تحقيق: عبدالسلام محمد هارون، مؤسسة الخانجي، ط:03، القاهرة، 01/135/136
- 01/88 : المصدر نفسه
- المصدر نفسه: 42-43
- المصدر نفسه: 01/87
- المصدر نفسه 01/136
- المصدر نفسه:01/131
- 02/215 المصدر نفسه
- المصدر نفسه: 02/07
- Paul Ricœur, la métaphore vive, éd, seuil, Paris,1975,p :14. –
- البيان والتبيين، الجاحظ:01/129.
- doroob.com 2012 نظريات وظائف اللغة، جميل حمداوي،
- قضايا الشعرية، رومان جاكبسون، ترجمة:محمد الولي،ومبارك حنون، الدار البيضاء، ط:01، 1988، ص:27
- استراتيجيات التواصل من اللفظ إلى الإيماءة، سعيد بنكراد، مجلة علامات، العدد:21، 2004، ص:04
- علم لغة النص، المفاهيم والاتجاهات، سعيد بحيري، مؤسسة المختار للنشر والتوزيع، القاهرة، ط:01،2004، ص:23.
- مفهوم النص عند المنظرين القدماء، محمد الصغير بناني، مجلة اللغة والأدب، معهد اللغة العربية الجزائر، العدد:12، ديسمبر، 1997، ص:53.
- البيان والتبيين، الجاحظ : 01/82.
- La nouvelle communication, op ;cit, p :18.
- البلاغة العربية أصولها وامتداداتها، محمد العمري،ص: 191.
*جامعة حسيبة بن بوعلي بالشلف الجزائر.
Leave a Reply