ملخص
امتاز المذهب المالكي عن غيره من المذاهب بتنوع أصوله وقواعده، فهو في مقدمة المذاهب المعتمدة من حيث سعة نطاق الاستدلال، وهذا التنوع والسعة صبغ المذهب المالكي بخصائص عديدة، أقل ما يقال فيها إنها أكسبته الثراء والتجدد مما جعله ينفرد عن غيره ببعض الأصول، ومن تلك الأصول التي احتلت مساحة معتبرة في مسائل الفقه، أصل مراعاة الخلاف، حيث أضاف له سمة الوسطية والجنوح إلى أعدل الأقوال وأوفقها، وجعل منه فضاء رحبا، لتقبل قول الغير ودليله. وقد كشفت الدراسة أن مراعاة الخلاف تبين لنا مدى تآلف العلمـاء وتحـاببهم واحتـرامهم للـرأي المخالف، بعيدا عن التعصب المذهبي، مسترشدين بالأدلة والقواعـد المؤيـدة بالأدلة. وهذه الدراسة وأمثالها تربط الفروع بالأصول، مما يربي الملكة الأصولية والحس الاجتهادي.
الكلمات الافتتاحية: مراعاة الخلاف ـ المذهب المالكي ـ فقه العبادات
المقدمة:
امتاز المذهب المالكي عن غيره من المذاهب بتنوع أصوله وقواعده، فهو في مقدمةالمذاهب المعتمدة من حيث سعة نطاق الاستدلال، وهذا التنوع والسعة صبغ المذهب المالكيبخصائص عديدة، أقل ما يقال فيها إنها أكسبته الثراء والتجدد مما جعله ينفرد عن غيره ببعض الأصول، ومن تلك الأصول التي احتلت مساحة معتبرة في مسائل الفقه، أصل مراعاةالخلاف، حيث أضاف له سمة الوسطية والجنوح إلى أعدل الأقوال وأوفقها، وجعل منه فضاء رحبا، لتقبل قول الغير ودليله.
أهمية البحث:نوه بأهمية أصل مراعاة الخلاف في المذهب المالكي الكثير من العلماء فقد قد قال عنه أحد منظري الاجتهاد المالكي الشيخ أبو العباس القباب:” إنه من محاسن هذا المذهب”، وقال عنه الشاطبي:” والأمثلة كثيرة؛ فاحتفظ بهذا الأصل؛ فهو مفيد جدا”.
الدراسات السابقة:ليستهذه الدراسة التي أتقدم دراسة مبتدأة بحيث لا سابقإليها ولا طارق لها؛ بل هناك بعضالدراسات المختلفة تناولت جوانبمن هذا الموضوع، وقد كانت تلك الدراسات معينة لي على طرق هذا البحث وتناوله،ومن أهمهذه الدراسات التي وقفتعليها، وأفدت منها: مراعاة الخلاف وأثره في الفقه الإسلامي دراسة نظرية تطبيقيةللطالب مختار قوادي.
منهج البحث:اعتمدت في هذا البحث على المنهج التحليليبقسميه التفسيريوالاستنباطيالذين يقومان على أساس تحليل الآراء والنصوص وتعليلها وبيان جهة المدرك فيها، ثم سعيت للتدليل على التأصيل بكلام أهل المذهب، وبالشواهد التطبيقية؛ ما وسعني الأمر، وأسعفني الجهد. وقمت بإبرازمدارك المالكية في كثير من الأمثلة من كلامهم بالنص.
ثم إني في هذه الدراسةاتبعتالسبل المعهودة في البحث العلمي؛ بحيث عزوتالآياتالكريمة إلى السور، وخرجتالأحاديث والآثار الواردة في الدراسة تخريجا يتسم بالاختصار؛ فإذا كان الحديث في الموطأ أو في أحد الصحيحين لم أعنحينها بالكشف عن صحة الحديث ولا بتطلب مخرجينله من غيرهم؛ لأن ما في تلك الكتب صحيحمن حيث الجملة؛ أما إذا كان الحديث خارجهذه الكتب الثلاثة فإني أسعى لبيان درجتها من أئمة الحديث المتقدمين، فإن لم أوفق إلى ذلك نقلتحكمبعض المعاصرين المعتنينذا الفن.
عزفتعن الترجمة للأعلام الواردة أسماؤهم في طيات البحث وتضاعيفه؛ حرصا على عدم إثقال هامش البحث؛ ثم إن غالب من ذكرت أسماؤهم من المشهورين الذين يستغنى بذكرهم عن الترجمة لهم، ثم ختمتهذا البحث بفهارسعلمية مشتملة على:فهرس للمصادر والمراجع وفهرسا للموضوعات.
خطة البحث:
المقدمة: واشتملت على أهمية الموضوع والدراسات التي سبقته، والمنهج المتبع في البحث.
الفصل الأول: مراعاة الخلاف، في المذهب المالكي
المبحث الأول: أصل مراعاة الخلاف في المذهب المالكي: مفهوما، وحجية، وحكما
المطلب الأول: تعريف مراعاة الخلاف في اللغة والاصطلاح.
المطلب الثاني: العمل بمراعاة الخلاف في المذهب المالكي حكمه وشروطه
المبحث الثاني: حجية مراعاة الخلاف في المذهب المالكي وأدلته
المطلب الأول: الأدلة الناهضة بحجية مراعاة الخلاف
المطلب الثاني: الإشكالات الواردة على أصل مراعاة الخلاف
الفصل الثاني: النماذج التطبيقية لأصل مراعاة الخلاف في العبادات
النموذج الأول: الماء اليسير إذا حلت فيه نجاسة يسيرة ولم تغير أحد أوصافه.
النموذج الثاني: الوضوء من الرعاف والحجامة
النموذج الثالث: الصلاة على جلود الميتة بعد الدبغ:
النموذج الرابع: من قام لثالثة في نافلة
النموذج الخامس: من دخل مع الإمام في صلاته فنسي تكبيرة الافتتاح:
الخاتمة: نتائج البحث وتوصياته
هذا؛ ولستأدعي في هذا الجهد صوابا ولا كمالا، ولست أزعم لنفسي عصمة من الزلل أو الخطل؛ وحسبي أني قد استفرغتالجهد، وبذلتمنتهى الطاقة. وصلى الله وسلم على خير الخلق محمد بن عبد الله، وعلى آله الطاهرين، وصحابته أجمعين، ومنتبعهم بإحسان إلى يوم الدين. والحمد لله رب العالمين
الفصل الأول: مراعاة الخلاف، في المذهب المالكي
لأهمية هذا الأصل، وما أثير حوله من أقاويل، أحببت أن أسلط الضوء عليه بشيء منالتفصيل، مبينا مفهوم أصل مراعاة الخلاف، وحجيته وحكمه وذلك من خلال ما يلي:
المبحث الأول: أصل مراعاة الخلاف في المذهب المالكي: مفهوما، وحجية، وحكما
المطلب الأول: تعريف مراعاة الخلاف في اللغة والاصطلاح.
يكمن تعريف المركب الإضافي بالوقوف على تعريف طرفي التركيب، ومنه فإن هذا البحث سيتناول تعريف كل من المراعاة، والخلاف.
أولا: تعريف المراعاة لغة :المراعاة: مصدر راعى يراعي مراعاة، والرعي مصدر رعى يرعى رعيا ورعاية[1]. وتأتي المراعاة والرعي على معان عدة في اللغة، والذي يعنينا من تلك المعاني، معنى المراقبة والاعتبار والملاحظة، يقال راعيته: أي لاحظته محسنا إليه، وراعيت الأمر: نظرت إلام يصير[2]. ورعى النجوم رعيا وراعاها: راقبها وانتظر مغيبها، قالت الخنساء:
أرعى النجوم وما كلفت رعيتها وتارة أتغشى فضل أطماري[3].
وراعى أمره: حفظه وترقبه[4].قال ابن منظور: ” والمراعاة: المناظرة والمراقبة، يقال: راعيت فلانا مراعاة ورعاء إذا راقبتهوتأملت فعله، وراعيت الأمر: نظرت إلام يصير. وراعيته: لاحظته”[5].
ثانيا: تعريف الخلاف لغة:الخلاف لغة: مصدر مأخوذ من خالف يخالف خلاف ومخالفة، والاختلاف مصدر اختلف يختلف اختلافا، وتقع الكلمات في اللغة بمعنى نقيض الاتفاق[6]. وعليه فإن المراد من مراعاة الخلاف” اعتبار وملاحظة ما وقع من اختلاف بين العلماء، وسيأتي إن شاء الله أن المراعى في الحقيقة ليس هو ذات القول، وإنما المدرك الذي استند إليه المخالف في خلافه.
ثالثا: تعريف مراعاة الخلاف اصطلاحا:أولى المالكية المتأخرون عناية كبيرة بمراعاة الخلاف وذلك من خلال بيان مفهومه وشروطه ومدركه الشرعي، وأسوق في هاذ الموضع تعريفات المالكية لهذا الأصل مشفوعة بالبيان والتحليل:
التعريف الأول: قال ابن عبد السلام:” هو إعطاء كل من الدليلين ما يقتضيه من الحكم مع وجود المعارض[7].وتعريف ابن عبد السلام ذكره في سياق بيانه لمفهوم مراعاة الخلاف عند المالكية، وعليه فإن إيراد النص من ابن عبد السلام في سياقه مما يجلي بعض ما خفي من تعريفه: قال ابن عبد السلام: ” والذي ينبغي أن يعتقد من ذلك أن الإمام رحمه الله تعالى إنما يراعي من الخلاف ما قوي دليله، فإذا حقق فإذا حقق فليس بمراعاة الخلاف البتة، وإنما هو إعطاء كل من الدليلين ما يقتضيه من الحكم مع وجود المعارض، فأجاز الصلاةعلى جلود السباع، وأكل الصيد وإنْ أَكَلَ الكلبمنه، وأباح بيعما فيه حق توفية من غير الطَّعام قبل قبضه مع مخالفة الجمهور فيها -: فدلَّ على أن المراعى عنده إنما هو قوة الدليل”[8].
التعريف الثَّاني: عرف ابن عرفة مراعاة الخلاف بقوله في كتاب الحدود له:”إعمالُ دليل في لازِمِ مدلولِه الذي أُعمِلَ في نقيضِه دليلٌ آخر”[9].ويتضحهذا التعريف في نكاح الشغار حيث أَجرى فيه مالكأصل مراعاة الخلاف في إثبات التوارث بين الزوجين؛ بيانه: أن أصل دليل مالك في النهي عن نكاح الشغار دل على فسخ هذا النكاح؛ فالفسخهو المدلول؛ ولازمهذا المدلول أنْ لا توارث بينهما لانعدام موجبه من النكاح الصحيح، والمخالف القائل بصحة هذا العقد مع بطلان الشرط؛ يقول بأنَّ العقد لا يفسخ، وهذا مدلول ما استدل به من أدلة، ولازمهذا المدلول ـ وهو عدمالفسخ ـ أن يثبت التوارث بينهما.وعليه؛ فإن مالكا أخذ أولا بمدلول دليله وهو: فسخالنكاح، ولكنه ترك لازممدلوله وهو عدمإثبات التوارث بينهما؛ وذلك بأن أعمل دليل المخالف في لازم مدلوله فقال بأن التوارث يثبت بينهما؛ وهذا هو مراعاة الخلاف.
والذي يستنتج من هذا التعريف ما يأتي:أولا:أن القول بمراعاة الخلاف ليس مراعاة للأقوال وإنما هو مراعاة لأدلة الأقوال؛ إذ اتهد في مراعاته للخلاف إنما يعمل دليل المخالف لا قوله المحض.
ثانيا: إعمال الدليل هو من مهمة اتهد؛ وعليه فإن مراعاة الخلاف هي من وظائف المجتهدين لا غيرهم؛ ومنه فإن اعتراض البعض على تعريف ابن عرفة في عدم بيانه لمن يتصدى لإعمال مراعاة الخلاف هل هو المجتهد أو المقلد: اعتراضغير وجيه.ثالثا: لم يرد في تعريفه بيانٌ لطبيعة الدليل المراعى، هل هو مطلَق الدليل أم يشترط في هذا الدليل أنْ يكون في منـزلة من القوة. وقد تلافى بعضمن جاء بعد ابنِ عرفة هذا الإيراد فقيدوا الدليل المراعى بكونه قويا في الاعتبار؛ قال الرصاع: “رجحان دليل المخالف عند المجتهد على دليله في لازم قوله المخالف”[10]؛ وقال عليش: “أن يظهر له قوة دليل مخالفه بالنسبة للازم مدلوله”[11].
التعريف الثالث: قال الشاطبيفي سياق ذكره لمراعاة الخلاف: ووجهه أنه راعى دليلَ المخالف في بعضالأحوال؛ لأنه ترجح عنده، ولم يترجح عنده في بعضها فلم يراعه[12]،فيؤخذ من بيان الشاطبي لوجه مراعاة الخلاف أن مراعاة الخلاف عنده هي:”اعتبار المجتهد دليل المخالف في بعض الأحوال التي ترجح فيها عنده” والذي يستفادمن مفهوم مراعاة الخلاف الذي قدمه الشاطبيما يلي:أولا: مراعاة الخلاف ليس اعتبارا للخلاف ذاته؛ وإنما هو أخذ بمقتضى الأدلة الراجحة.ثانيا:إعمال دليل المخالف إنما يكون في بعض الأحوال لا في كلها؛ وإلا كان تركا للدليل الأصليبالكلية؛ غيرأنه لم يبين هذه الأحوال التي يكون فيها إعمال دليل المخالف. ثالثا: معارالأخذ بدليل المخالف هو قوته في أحوال معينة.رابعا:لا يقال إن مفهوم مراعاة الخلاف الذي قدمه الشاطبييصدق على مفهوم الجمع بين الأدلة المختلفة؛ لأنه يجاب عنه:بأن الجمع إنما يكون عملا بالدليلين في كل الأحوال؛ لا في حالات خاصة؛ وهذا خلافما هو عليه في مراعاة الخلاف.
رابعا:الألفاظ ذات الصلة بمراعاة الخلاف:
لمراعاة الخلاف معنيان في إطلاقات العلماء:الأول منهما:مراعاة الخلاف قبل الوقوع، وهو ما يعرفكذلك بالخروج من الخلاف، وإطلاق مراعاة الخلاف على هذا المعنى مشهور عند المذاهب الأُخرى غير مذهب مالك فالأصل في إطلاقهم لمراعاة الخلاف أنهم يقصِدون إلى معنى الخروج من الخلاف[13]، كما أنه قد وقع لبعض المالكية إطلاقمراعاة الخلاف على هذا المعنى[14].أما المعنى الثاني لإطلاق هذا المصطلح:فهو مراعاة الخلاف بعد الوقوع، وهو المشهور في إطلاقات المالكية:
ولقد كان لهذا التباين في الإطلاقات أثرفي تنـزيل كلام بعض الأئمة على خلاف المراد الذي عنوه والمقصد الذي راموه؛ فبعضممن تناول بالبحث مراعاة الخلاف جعل يسرد أقوال وشروط المذهب الشافعيللأخذ بمراعاة الخلاف، وجعل يطبق تلك الشروط والأقوال على مراعاة الخلاف التي قال المالكية؛ والأمرعلى خلاف ذلك إذ مبحث الخروج من الخلاف يختلف عن مبحث مراعاة الخلاف على اصطلاح المالكية الخاص.
ومعنى مراعاة الخلاف بعد الوقوع:أن الاجتهاد الأولي للمجتهد أداه إلى حكم معين؛ لكنالفعل بعد وقوعه نشأ عنه بعض الملابسات التي استدعت إعادةَ النظر في أدلَّة المسألة؛ لمكان اختلاف الملابسات التي لها موقعفي تشكيل صورة المسألة؛ وإذا اختلفت صورةُ المسألة عن الصورة الأولية لزمأن يستأنف الاجتهاد؛ وعليه فإن اتهد يسلط نظره في المسألة الجديدة مع لحظ دليل المخالف وما نشأ حال التطبيق من آثار وملابسات تكون معتبرة في الترجيح والنظر[15].
المطلب الثاني: العمل بمراعاة الخلاف في المذهب المالكي: حكمه وشروطه:
الفرع الأول:حكم العمل بمراعاة الخلاف:
تأسيسا على أن مراعاة الخلاف ليس من قبيل مراعاة صورة الخلاف؛ وإنما هو تمسك بالدليل الراجح الذي نشأت قوته بعد وقوع الفعل؛ فإن الحكم الناتج عن مراعاة الخلاف مما يجب على المجتهد العمل به، ولا يسعه مخالفته؛ ذلك أن العمل بالراجح واجبالتعلقبه؛ إذ لا يسعالمجتهدأن يترك ما رجح عنده إلى غيره من الأدلة المرجوحة في نظره لأن الله تعالى تعبد اتهدبما أداه إليه نظره واجتهاده، وما انتهى إليه ترجيحه واختياره؛ وتركالراجح إلى غيره هو تركلما تعبد الله تعالى به المجتهد، وهو ممنوع فيكون ما أدى إليه ممنوعا؛ ومنه فإن الحكم المبني على مراعاة الخلاف يجب على المجتهد العمل به، ولا يسعه مفارقته إلى غيره؛ وكذلك فإن المقلد يجب عليه أن يتبع الأحكام التي بنيت على مراعاة الخلاف؛ لأنه مقلد لإمامه ومتع له في اجتهاده.قد قرر الرصاعفي شرح حدود ابن عرفة وجوبالعمل بمراعاة الخلاف للمجتهد؛ قالرحمه الله: “فإن قلت:إذا كان كذلك فهل تجبمراعاة الدليل أو تجوز؟ قلت: يظهر وجوبذلك عند المجتهد”[16].هذا؛ وقد يقع في بعض عبارات علماء المذهب المالكيأن هذا الحكم مستحبمراعاةللخلاف؛ كقول ابن رشد في شرحه لبعض مسائل المستخرجة: “…وإلى هذا ذهب مالك إلا أنه اتقى القول الآخر وراعاه فاستحبله[17]. وقال:…إلا على وجه الاستحباب مراعاة للاختلاف[18]. وليس المراد من مراعاة الخلاف في هذه المواضع المعنى الاصطلاحيالذي نحن بصدد البحث فيه؛ وإنما هو بمعنى الخروج من الخلاف؛ وقد تقدم أن البعض قد يطلق على الخروج من الخلاف مصطلحمراعاة الخلاف؛ والاستحبابفي الخروج من الخلاف إنما هو ناشئ عن الباعث والسبب الذي تعلق به وأخذ بمقتضاه؛ فالورعهو الباعث على الخروج من الاختلاف في الابتداء؛ والورعفي هذا الموضع مستحبلا وجوبفيه، ولا إلزام عليه؛ فكان ما انبنى عليه مستحبا ولا وجوب فيه كذلك.
الفرع الثاني:شروط الأخذ بمراعاة الخلاف: وإذا كان أصل مراعاة الخلاف أصلا من الأصول الاجتهادية في المذهب المالكي ـفإن لإعمال هذا الأصل شروطا يلزم تحققها ليسوغ البناء على وفقه، والجريان على منهجه:
الشرط الأول: أن يكون دليل المخالف قويا: من الشروط التي اعتبرها المالكية في الأخذ بمراعاة الخلاف أن يكون دليل المخالف الذي يرجع إليه في أصل مراعاة الخلاف دليلا له اعتباروقوة؛ فلا يكون من الأدلَّة الواهية الواهنة. قال ابن خويزمنداد في كتابه الجامع لأصول الفقه: “مسائل المذهب تدل على…أن مالكا رحمه الله كان يراعي من الخلاف ما قويدليله لا ما كثر قائله”.[19]وهذا الذي نحا إليه ابن رشد؛ قال: “على قوة الخلاف تقوى مراعاته[20].وقال:…من مذهبه مراعاة الخلاف؛ فكلَّما ضعف الاختلاف في إجازته قويتفيه الكراهة[21]. وهذا ما حرره ابنعبد السلام وأقره على هذا التحرير من جاء بعده؛ قال ابنعبد السلام التونسي:” والذي ينبغي أن يعتقد أن الإمام رحمه الله تعالى إنما يراعي ما قوي دليله[22] وقال عليش في بيان مراد المالكية من مراعاة الخلاف:”مرادهم الخلاف في المذهب وخارجه، ويشترط قوة دليل المخالف”[23].ولائحمن هذا الشرط أن مراعاة الخلاف عند المالكية إنما هو اعتبار للدليل لا اعتبار لنفس القول عرِيا عن دليله المستند عليه. كما أن هذا الشرط يوجِبأن يكون الآخذ بأصل مراعاة الخلاف مجتهدا؛ لأنه هو العالم بقوة الأدلَّة وضعفها؛ وليس المقلِّد الذي لم يبلغ رتبة المجتهد من هذا النظر في قَبيل ولا دبير؛ قال عليش: “مراعاة الخلاف وظيفة اتهد لا المقد كما توهمه بعضهم، وتحير فيها من وجوه”[24]؛ وسئل الشيخ أبو إسحاق الشاطبيرحمه الله عن مراعاة قول ضعيف أو رواية ضعيفة؛ فأجاب: “مراعاة الأقوال الضعيفة أو غيرها شأن المجتهدين من الفقهاء؛ إذ مراعاة الخلاف إنما معناها مراعاة دليل المخالف، حسبما فسره لنا بعض شيوخنا المغاربة، ومراعاة الدليل أو عدم مراعاته ليس إلينا معشرالمقلِدين، فحسبنا فهم أقوال العلماء، والفتيا بالمشهور منها، وليتنا ننجو مع ذلك رأسا برأس؛ لا لنا ولا علينا”[25].اشتراط كون الدليل قويا عليه جماهيرالمالكية وهو المشهور من مذهبهم؛ إلا أن هناكأقوالا ضعيفة تحكى في المذهب دون أن تنسب إلى قائل تخالف المشهور الذي قدمته؛ وهذهالأقوال هي:
القول الأول: يراعى الدليل القويوالضعيف[26].القول الثاني: يراعى القول الذي كثر قائله لا ما قوي دليله[27].القول الثالث: أن يراعى نفس الخلاف كثر قائله أو قل[28].
والقول الثاني والثالث مؤسسان على أن المراعى في أصل مراعاة الخلاف هو نفسالقول لا الدليل؛ وهذا باطل في المذهب؛ لأن مدرك مراعاة الخلاف إنما يتمشى على أساس كون المراعى هو الدليل لا القول؛ كما أن ترك الدليل إلى مجرد القول هو تركللاجتهاد إلى التقليد؛ وهذا ما لا يجوز في حق المجتهد.
أما القول الأول فإلى جانب اعتباره الدليل القويفهو يعتبر الدليل الضعيف؛ وهذا مردود في المذهب المالكي؛ دليله: أن مذهب مالك في الخلاف الشاذ الضعيف أن يحكَم عليه بالنقض قضاء، وما حكم عليه بالنقض قضاء لا يعتبر في الخلاف. قال ابن القاسم في الأنكحة المختلف فيها: “وأصل هذا ــ وهو الذي سمعته من قول من أرضى من أهل العلم ـ أن كل نكاح اختلف الناس فيه ليس بحرام من الله ولا من رسوله أجازه قوم وكرهه قوم: أن ما طلق فيه يلزمه، مثل المرأة تتزوج بغير ولي أو المرأة تزوج نفسها…أنه إن طلق في ذلك البتة لزمه الطلاق و لم تحل له إلا بعد زوج؛ وكل نكاح كان حراما من الله ورسوله فإن ما طلق فيه ليس بطلاق وفسخه ليس فيه طلاق؛ ألا ترى أن مما بين ذلك أن لو أن امرأة زوجت نفسها فوقع ذلك إلى قاض يجيز ذلك، وهو رأي بعض أهل المشرق فقضى به وأنفذه حين أجازه الولي؛ ثم أتى قاض ممن لا يجيزه أكان يفسخه ولو فسخه لأخطأ في قضائه، فكذلك يكون الطلاقيلزمه فيه وهذا الذي سمعت ممن أثق به من أهل العلم وهو رأيي”[29].فترى كيف أن ابن القاسم احتجعلى مراعاة الخلاف في الأنكحة الفاسدة المختلف فيهابما إذا رفعهذا النوعمن الأنكحة إلى من يجيزها فإن حكمه فيها لا ينقض؛ ومعلوم في المذهب أنَّ النقض لا يكون إلا فيما كان فيه الخلافشاذا ضعيفا[30]؛ وعليه فإن الخلاف الشاذ أو الضعيف مما لا يجري فيه مراعاة الخلاف.
الأقوال التي تراعى لا يقتصر فيها على أقوال أهل المذهب بل يعم ذلك أقوال العلماءخارج المذهب:والخلافالذي يراعى لا يختصبالخلاف خارج المذهب، بل هو عامفي كل خلاف داخل المذهب أو خارجه ما دام تجري عليه شروط الاعتبار؛ فما كان فيه الخلافقويا اعتبر، ولو داخل المذهب، وما كان الخلاف فيه ضعيفا شاذا نبذ ولم يعتبر ولو كان خارج المذهب.
قال الرصاع: “هل يراعى الخلاف مطلقا كان مذهبيا أم لا؟ وهذا هو التحقيق[31]“. وسئل الشيخ عليش عن قول المالكية: “العصمة المختلف فيها كالمتفق عليها في لحوق الطلاق؛ هل مرادهم الخلاف في المذهب وخارجه، وهل يشترط قوة الخلاف؟ فأجاب بقوله: نعم! مرادهم الخلاف في المذهب وخارجه، ويشترط قوة دليل المخالف وممن نصعلى ذلك ابنناجي في شرح الرسالة حيث قرر أن مراعاة الخلاف تعم الخلاف داخل المذهب وخارجه[32]“.وممن نصعلى ذلك ابنناجي في شرح الرسالة حيث قرر أن مراعاة الخلاف تعمالخلاف داخل المذهب وخارجه[33].
الشرط الثاني:أن لا يؤدي الأخذ به إلى ترك المذهب بالكلية:ومما اشترطه المالكية في الأخذ بمراعاة الخلاف أن لا يلزم من القول به تركالمذهب بالكلية؛ فإذا أدت مراعاة الخلاف إلى أن يترك المذهب في المسألة رأسا امتنع الأخذ بهذا الأصل. قال بعضالقرويين من المالكية وأقره ابنعبد السلام وابن بشير:”وشرط مراعاة عند القائل به أن لا يترك المذهب بالكلية”[34].
المطلب الثالث:المقتضيات المصلحية الموجبة لمراعاة الخلاف:
دليل المخالف بعد الوقوع صار عند مالك أقوى من دليله الذي قال به ابتداء؛ فإن الإماممالكا رحمه الله إذا رجحعنده دليل المنع من الإقدام مثلا؛ أطلق المنع والتحريم ولم يراع ماخالفه لمرجوحيته، وذلك قبل الوقوع فإذا وقع الفعل الممنوع وأردنا أن نرتب على المنع آثاره عارضنا بعضالأدلَة التي لم تكن موجودة في أصل المسألة قبل الوقوع؛ وغالبما تكون القوة التي انضافت إلى دليل المخالف هو بعضالمعاني المصلحية، وفي هذا المطلب سأبحث بعض المقتضيات المصلحية التي كانت ملحوظة في مراعاة الخلاف عند المالكية:
الفرع الأول:مصلحة الإبراء من التكليف:
من المقتضيات التي تكون سببا مقويا لدليل المخالف وموجِبا للعدول عن أصل الدليل في المسألة قبل الوقوع؛ مصلحة الإبراء من التكليف وتغليبها على شغول الذمة به؛ فكثيرمن مسائل العبادات التي وقعفيها خلافبين المذاهب الأخرى ومذهب مالك في عدم إجزائها فإن مذهب مالك فيها أن وقوعالعبادة على تلك الصفة يقع صحيحا ولا يطالب بالقضاء؛ تغليبا لإبراء الذمة على شغلها. قال المقري:…وأقول: نه يراعى المشهور، والصحيح: قبل الوقوع…تويا واحترازا، كما في الماء المستعمل، وفي القليل من النجاسة على رواية المدنيين، وبعده تبرء[35] وإنفاذا؛ كأنه وقع عن قضاء أو فتيا، لا فيما يفسخ من الأقضية، ولا يتقلد من الخلاف، وقد تستحبالإعادة في الوقت ونحوها”[36].فقد قرر المقريأن من البواعث على مراعاة الخلاف بعد الوقوع الإبراء من التكليف وتغليبه على جانب الشغل. ومن الأدلَة التي دلَت على تغليب جانب الإبراء والإجزاء دليل المنع من إبطال العمل؛ قال الله تعالى: )وَلاَ تَبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ([37]؛ فإذا وقعت العبادة على الوجه غير الجائز وأردنا أن نرتب على المنع آثاره من عدم الإجزاء في تلك العبادة، عارضنا دليل المنع من إبطال العمل في العبادات؛ لقوله تعالى:)وَلاَ تَبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ([38] فمقتضى دليل المسألة قبل الوقوع عدم جواز النافلة بأربع، لكن لما عارضه دليل المنع من إبطال العمل في العبادات ترجح دليل المخالف؛ لأن الترجيح يقع بأدنى محرك للظن[39].
الفرع الثاني تلافي الضرر:ومن الأسباب التي تكون موجبة للعدول عن الدليل الأصليإلى دليل المخالف: الضرر الواقع عند البقاء على مقتضى الدليل الأصلي؛ فيلزم من نشوء هذا الضرر أن يعيد اتهد النظر في أدلة المسألة لما تجدد فيها من نشوء الضرر؛ فاقتضى العدل أن لا تعامل هذه المسألة قبل الوقوع معاملة ما بعد الوقوع.
قال الشاطبيمقررا أن هذا الأصل:” من واقع منهيا عنه فقد يكون فيما يترتبعليه من الأحكام زائدعلى ما ينبغي بحكم التبعية لا بحكم الأصالة، أو مؤدإلى أمر أشدعليه من مقتضى النهي؛ فيترك وما فعل من ذلك، أو نجيز ما وقع من الفساد على وجه يليق بالعدل؛ نظرا إلى أن ذلك الواقع واقعالمكلففيه دليلا على الجملة وإن كان مرجوحا؛ فهو راجح بالنسبة إلى إبقاء الحالة على ما وقعت عليه؛ لأن ذلك أولى من إزالتها مع دخول ضرر على الفاعل أشدمن مقتضى النهي؛ فيرجع الأمرإلى أن النهي كان دليله أقوى قبل الوقوع، ودليل الجواز أقوى بعد الوقوع لما اقترن من القرائن المرجحة”[40].
ومن الأمثلة التي تجلِي براعة المالكية في إعمال النظر المصلحيفي مراعاة الخلاف؛ تقريرهم لبعض الأنكحة المختلف فيها إذا عثِرعليها بعد الدخول؛ أما لو وقفعليها قبل الدخول لما أقرت؛ لأن عدم الإقرار بعد الدخول والبناء ينشئ ضررا بالغا مما يوجب أن ينظر إليه نظرا مغايرا ليراعى فيه هذا الضرر الحادث؛ فقالت المالكية بإقرار مثل هذه العقود بعد الدخول؛ فلله درهم.
قال الشاطبي:” وإجراؤهم النكاح الفاسد مجرى الصحيح في هذه الأحكام وفي حرمة المصاهرة وغير ذلك؛ دليل على الحكم بصحته على الجملة؛ وإلا كان في حكم الزنا وليس في حكمه باتفاق؛ فالنكاح المختلف فيه قد يراعى فيه الخلاف فلا تقع فيه الفرقة إذا عثرعليه بعد الدخول؛ مراعاة لما يقترن بالدخول من الأمور التي ترجحجانبالتصحيح.وهذا كله نظرإلى ما يؤول إليه ترتب الحكم بالنقض والإبطال من إفضائه إلى مفسدة توازي مفسدة النهي أو تزيد”[41]وفي سياق هذا النمط المصلحينرى أن المالكية يقرون بعض الأنكحة بعد الدخول إذاطال الزمان وولدت المرأة الأولاد[42]؛ فطول الزمان وولادة الأولاد كان الباعث لإقرار ذلك النوع من الأنكحة.والحقيقة أن الباعث كما هو لائح للناظر كون التفريق وعدم الإقرار بعدطول زمان النكاح وولادة الأولاد مما ينبعث منه الضررالبالغ الذي ليس بخاف ولا مختلف فيه؛فاقتضى هذا الضررمن المالكية أن يقروا هذا النوع من الأنكحةجريا على أصلهم العتيد فيرعي المصلحة الشرعية المعتبرة؛ فلله ما أبدعهذا الفقه. ومن المسائل التي يتجلَى فيها هذا الملحظ مسائل البيوع المختلف فيها؛ ففي مذهب مالك أن البيوع المختلف فيها إذا فاتت فإنها تقرولا تفسخ[43]؛ ويكون الفوت فيها بأحد أمور هي: حوالة الأسواق في غير الرباع، وتلفعين المبيع أو نقصا، وتعلق حقالغير به، وطول المدة من السنين نحو العشرين في الشجر[44].
والأصل في مذهب مالك أن البيع الفاسد لا يفيد ملكا؛ لكن هذا الأصل مقيد عند المالكية بأن لا يجرإلى ضرر؛ فإن جرإلى ضرر فإن دليل الأصل المقتضي لعدم الملك قد عارضته قاعدة: “لا ضرر ولا ضرار”[45]؛ فيحمل البيع الفاسدةعلى وفق هذه القاعدة؛ وعليه فإن البيوع المختلف فيها بعد الفوات مما يتعلقالضرر في حال عدم إقرارها؛ فأخذ المالكية بأصل نفي الضرر فأقروا على أساسه هذه العقود.
الفرع الثالث: الاحتياط للفروج:
ومن المصالح التي يلحظها المجتهد في مراعاته للخلاف مصلحة حفظ الفروج؛ التي تقتضي أن لا تعامل الأنكحة المختلف فيها معاملة الأنكجة الباطلة التي هي في آثارها مثل الزنا في عدم ترتب آثار النكاح الصحيح عليها؛ فبمقتضى الاحتياط للفروج والصون لها أجريت على النكاح الذي أُثرفيه الخلافبعضالآثار التي تترتب على الأنكحة الصحيحة بما يكفُل لها مفارقة الأنكحة الباطلة باتفاق ومباينة السفاح.
وهذا ما قرره أبو عبد الله الفشتالي في جوابه عن إشكالات الشاطبي؛ حيث أبان أن مقتضى الدليل الأصليأن لا يقع الطَّلاق ولا الميراث في نكاح الشغار وغيرها مما اختلفوا فيه من الأنكحة، لكن لما عارضه دليل الاحتياط للفروج في مسألة النكاح بعدالوقوع؛ ترجح دليل المخالف؛ لأن الترجيح يقع بأدنى محرك للظن[46].
والظاهر أن المالكية في عملية رعيهم للخلاف يصدرون من أصلهم في الاحتياط ومراعاة الشبهة، فحيثما كانت المسألة من شأنها أن يحتاط لها ويراعى فيها الشبهة؛ فإن المالكية يجعلون الخلافالمعتبر مما شأنه أن يكون مثيرا للشبهة وقادحا لها من مكامنها؛ وغالبا ما يكون اتقاء الشبهة بالاحتياط.
مثال ذلك:مسألة نكاح المريض مرض الموت؛ هو نكاح فاسد عند المالكية؛ إلاَ أنهم لمّا علِموا بوقوع الاختلاف فيه رتبوا عليه بعضآثار النكاح الصحيح لقيام الشبهة[47]؛ قال ابن أبي زيد القيرواني في مسألة طلاق المريض: “وأما قوله يفسخ بطلاق؛ فإنما احتاط على الزوج الثَّاني إن تزوجت غيره، وعليها لما في نكاح المريض من الاختلاف؛ فجعل بذلك الاختلاف شبهة أوجبت الصداق بالمسيس وألحقا الولد، ثم احتاط بإيقاع الطلاق في فسخه؛ إذ لا ضرر يلحق الزوجين في ذلك، إلا ما فيه من الاحتياط لما عسى أن يكون في الاختلاف في ذلك من الاحتمال؛ وهذا شأنه رحمه الله أن يميل إلى الاحتياط الذي لا يغير شيئا من الأحكام، وهذا من توقي الشبهات.
المبحث الثاني: حجية مراعاة الخلاف في المذهب المالكي وأدلته
إذا استبان مفهوممراعاة الخلاف وشروط الأخذ به لزمأن أعرِض لأدلة مراعاة الخلافوالمدرك الشرعيالذي يصدر عنه؛ ثم أطرق بالبحث والبيان الإشكالات التي بنى عليهاالمعترِضون اعتراضهم على هذا الأصل؛ وبعده آتي على إبراز الذي يكون فيه إعمال هذاالأصل، ثم أقفي ذلك ببحث مدى الارتباط والعلاقة التي تحكم هذا الأصل مع باقي الأصول
الاجتهادية في المذهب.
المطلب الأول:الأدلة الناهضة بحجية مراعاة الخلاف:
أولا:أدلة الاستحسان:
مما يمكنأن يستأنس به في هذا المقام أدلته الاستحسان؛ خاصة وأن بعض أعلامِ المذهب المالكييجعلون مراعاة الخلاف من قَبيل الاستحسانِ؛ وقد احتجالقبابفي جوابه الثاني للشاطبيعلى قوة مراعاة الخلاف بأدلَة الاستحسان[48].لكن سبقأن تجلى مفارقة مراعاة الخلاف للاستحسان في غير ما شيء؛ لكنالأصلين يصدران عن منطق اجتهادي مشترك؛ وعليه فإن أدلة الاستحسان مما يستأنسبها في هذا المقام.
ثانيا: أدلة التفريق ما بين ما قبل الوقوع وبين ما بعد الوقوع:
مما يحتج به لمذهب المالكية في التعلق بأصل مراعاة الخلاف أن التفريق بين ما قبل الوقوع وما بعد الوقوع في الآثار مما ثبت ـ في الجملة ـ في الشرع وفي فتاوى الصحابة رضي الله عنهمالذين هم أعلمالأمة وأهداها سبيلا:
فمن الشرع:
1 ـ حديث أبي هريرة رضي الله عنهعن النبي صلى الله عليه وسلمأنه قال: “لا تزوج المرأَة ُالمَرْأَةَ، ولا تزوج المرأةُ نفسها فإن الزانية هي التي تزوجنفسها”[49].
وحديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا: “أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحهاباطل ـ ثلاث مرات ـ فإن دخلا فالمهرلها بما أصاب منها”فحكمأولا ببطلان العقد وحرمته وأكده بالتكرار ثلاثا وسماه زنا؛ وأقل مقتضياته عدم اعتبار هذا العقد جملة؛ لكنه صلى الله عليه وسلم أردفه بما اقتضى اعتباره بعد وقوعه بقوله: صلى الله عليه وسلم:”ولها مهرها بما أصاب منها”؛ ومهر البغيحرام.[50]
2 ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان عتبة بنأبي وقاص عهدإلى أخيه سعد بن أبيوقاص أن ابنوليدة زمعة منيفاقبضه، قالت: فلما كان عامالفتح أخذه سعدبنأبي وقاص؛وقال: “ابنأخي قد عهدإلي فيه” فقام عبدبنزمعة فقال: “أخي وابنوليدة أبي ولدعلىفراشه فتساوقا إلى النبيصلى الله عليه وسلم؛ فقال سعد:يا رسول الله؛ ابنأخي كان قد عهد إلي فيه. فقال عبدبنزمعة: أخي وابنوليدة أبي ولدعلى فراشه. فقال رسول الله صلى الله عليه”هو لك يا عبدبن زمعة”؛ ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: “الولدللفراش وللعاهر الحجر”؛ ثم قال لسودة بنت زمعة زوجِ النبي صلى الله عليه وسلم احتجبي منه لما رأى من شبهه بعتبة[51].
قال ابنعرفة: “وصحة الحديث ودلالته على ما قلناه واضحة عندي بعد تأمل ما قلناه، وفهم ما قررناه”.[52]
فالحكم الأصليأن الولد للفراش؛ ومقتضى هذا أن آثار ثبوت الانتساب تثبت كلها؛ كالمحرمية وجواز إظهار ما يظهر من المحارم؛ إلا النبيصلى الله عليه وسلملم يجر على ابن وليدة زمعة كل آثار ثبوت النسب؛ فقد أمر سودة بنتزمعة بالاحتجاب منه؛ لما رأى من شبهه بعتبة بن أبي وقاص.
ثالثا:الأخذ بمراعاة الخلاف أخذ بالدليل الراجح والقول به لازم في الدين:
الأخذ برعي الخلاف ليس فيه اعتبارلصورة الخلاف؛ وإنما ترجع حقيقته إلى الأخذ بالدليل الراجح في حال وقوع الفعل؛ والأخذ بالراجح واجببالإجماع من الأئمة المعتبرين[53].
وقال ابن عرفة مبينا مدرك مراعاة الخلاف: “وأما دليله شرعا فمن وجهين: الأول: وجوب العمل بالراجح؛ وهو مقرر في الأصول”[54].
وعليه؛ فإن الأدلة التي دلت على تقديم الراجح على المرجوح شاهدة على اعتبار أصل مراعاة الخلاف؛ وكثير من الاعتراضات التي تفوقالمنكرون لمراعاة الخلاف على القائلين به كانت ترجع إلى اعتبار هذا الأصل رعيا للخلاف نفسه لا للدليل، وأن فيه تركا للدليل الراجح من غير موجب؛ وهذا ما لا يقول به المالكية على التحقيق عندهم .
فالأخذ بمراعاة الخلاف ليس من ترك الدليل الراجح إلى غيره؛ بل إن حقيقته أخذ بالدليل الراجح في المحل الذي رجح فيه؛ والترجيح يختلف بحسب المحل وما يعلقبه من مرجحات، فقد يرجح في ظرف معين دليل، ويرجح في ظرف آخرالدليل المقابل له، لا على أنه تركللراجح لأول؛ وإنما هو تمسك بما احتفبالدليل المقابل من أمارات ومرجحات جعلت هذا الدليل هوالراجح في هذا الظرف؛ ففي الحقيقة هناك مسألتان لا مسألة واحد: المسألة قبل الوقوع وفيها أدلة؛ والمسألة بعد الوقوع وهي مسألة تختلف عن المسألة الأولى؛ لذلك جدد النظرفيها وفيأدلتها؛ فأخذ بغير الدليل الذي أخذ به في المسألة الأولى؛ لترجح الدليل المقابل على الدليل الذي اعتمد في المسألة الأولى.قال الشاطبي:”وقد سألتعنها (أي: عن مراعاة الخلاف) جماعة من الشيوخ الذينأدركتهم:فمنهم: من تأول العبارة و لم يحملها على ظاهرها، بل أنكر مقتضاها بناء على أنها لاأصل لها؛ وذلك بأن يكون دليل المسألة يقتضي المنعابتداء ويكون هو الراجح، ثم بعد الوقوع يصير الراجح مرجوحا لمعارضة دليل آخر يقتضي رجحانَ دليل المخالف؛ فيكون القول بأحدهما في غير الوجه الذي يقول فيه بالقول الآخر؛ فالأول فيما بعد الوقوع، والآخر فيما قبله، وهما مسألتان مختلفتان فليس جمعا بين متنافيين، ولا قولاما معا”[55].وقال أبو عبد الله الفشتالي: “فالإمام مالك رحمه الله إذا ترجح عنده دليل المنع من الإقداممثلا؛ أطلق المنع والتحريم ولم يراع ما خالفه لمرجوحيته، وهذا قبل الوقوع؛ فإذا وقع الفعلالممنوع وأردنا ترتيب آثار المنع من عدم الإجزاء في العبادات، وعدم ترتب آثار العقود عليها في المعاملات، وجدنا هناك أدلة جديدة نشأت لم تكن موجودة حال قبل الوقوع.
رابعا:تخريج مراعاة الخلاف على أصل اعتبار المآل: ومن أدلة مراعاة الخلاف أصل اعتبار المآل؛ فإن هذا الأصل شاهدلمراعاة الخلاف؛ وقد فرع الشاطبيعلى أصل مراعاة المآلات قواعدكان من جملتها قاعدة مراعاة الخلاف؛ قال الشاطبي: “ومنها (أي: ومما يبنى على اعتبار المآلات) قاعدة مراعاة الخلاف”[56].
وتقرير اعتبار المآل في مراعاة الخلاف يكون بما يلي:
إن وقوع المنهيعنه أنتج حال وقوعه أثرا لم يكن في الابتداء؛ وكان لهذا الأثر اعتبارفيتجديد النظر في المسألة بعد الوقوع؛ لوجوب استئناف الاجتهاد في المسائل التي حصل فيتشكيلها وما يحتف بها من قرائن وآثار ما تغاير المسألة المجتهد فيها أولا؛ وإذا تغيرت المسألةوطبيعتها وجبأن يجتهدفيها وينظرفي الأدلة نظرا مستأنفا.
وهذا الأثر في الجملة يكون ضررا حاصلا لمن واقع المنهيعنه المختلففيه؛ وهو أثر زائدعلى ما يجب بحكم الأصالة فيكون ما آل إليه أمرمن واقع المنهيعنه المختلف فيه أشدعليه من مقتضى النهي؛ وعليه فإن الجري على مقتضى العدل الذي هو من مباني التشريع يوجبأن لا يحكم عليه بحكم الدليل قبل الوقوع؛ بل يكون هذا الضرر الذي لحق به سببا في تقوية الدليل الذي قال به المخالف في المسألة الأولى؛ فيحكم له بحكم الدليل الذي رجح بعد وقوع الفعل[57].
والدليل على اعتبار الضرر بعد الوقوع وتأثيره في حكم المسألة:
جملة أحاديث شاهدة لهذا التأصيل :
الأول:حديث عائشة رضي الله عنها في عزوفه صلى الله عليه وسلمعن بناء الكعبة على قواعد إبراهيم، فترك النبي صلى الله عليه وسلمإعادة بناء الكعبة لما توقعه من الضرر الذي يحصل عند وقوع البناء؛ فاعتبر مآل الوقوع وجعله مؤثرا في تشكيل حكم المسألة؛ فلئن كان بناء الكعبة من الأمور المطلوبة؛ فإن اعتبار مآل الوقوع نشأ عنه دليل أحال الحكم من الطلب إلى المنع[58].
الثاني: حديثه صلى الله عليه وسلمفي تركه قتل المنافقين: “لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه”[59].
فامتناع النبي صلى الله عليه وسلممن قتل المنافقين كان لحظا لمآل وقوع الفعل؛ وهو خشية قالةِ الزور في أن محمدا يقتل أصحابه؛ فترك النبيصلى الله عليه وسلمقتلهم لما نتج في حال الوقوع من الضرر الذي كان له قوة في ترجيح الامتناع من الإقدام على قتل المنافقين[60].
الثالث:وحديث البائل في المسجد وقوله :”لا تزرموه”[61]؛ فإن النبيصلى الله عليه وسلمأمر بتركه إلى أن يتمبوله؛ لأنه لو قطع بوله لكان فيه تنجيسثيابه، فترجح جانبتركه على ما فعل من المنهيعنه على قطعه بما يدخل عليه من الضرر[62].
المطلب الثاني:الإشكالات الواردة على أصل مراعاة الخلاف
عدأن تقررت مداركالمالكية في حجية مراعاة الخلاف آتي على تناول الإشكالاتوالاعتراضاتِ التي أوردها بعضالمالكية على هذا الأصل. والإمامالذي اعتنى بهذه الإشكالات وحرر وجوهها هو الإمام الشاطبي؛ فلقد كان من عنايته أن راسل بعض أئمة المغرب سائلا إياهم عن الكشف عما استوقفه في هذا الأصل؛ قال الشاطبيفي الاعتصام:” ولقد كتبتفي مسألة مراعاة الخلاف إلى بلاد المغرب وإلى بلاد أفريقية لإشكال عرض فيها من وجهين”[63]. وتسمى هذه الأسئلة بالأسئلة الغرناطية، ولم تكن متضمنة فقط لمسألة مراعاة الخلاف؛ بل فيها أسئلة غيرها.
والملحوظ أن الشاطبيقد استقر على دفع تلك الإشكالات وتقرير مراعاة الخلاف كأصل؛ بدليل أنه تناول مسألة مراعاة الخلاف في كتاب الموافقاتوأورد أجوبة سديدةً تدفع كل تلك الإشكالات التي راسل منراسل من أهل المغرب؛ بل إنه جعل مراعاة الخلاف من القواعد التي تنبني على اعتبار المآلات.
والإشكالات الواردة على مراعاة الخلاف إنما تجري على منطق منينـزل الأدلَة التجريدية على النوازل من غير اعتبار لخصوصيات التنـزيل وما ينشأ عنه من آثار، أما من وما ينشؤ عنه من آثار، أما من كان من منهج اجتهاده لحظُ العوارض حال التطبيق واعتبارالمآلات والنظرفي نتائج الأفعال والتصرفات؛ فإن الإشكالات الواردة على هذا الأصلتهونوإلى هذا أشار القباب في جوابه للإمام الشاطبي، وتبعه هو على ذلك وجعل مراعاة الخلاف مما تنبني على اعتبار المآلات، كما أن جواب أبي عبد الله الفشتالي عن أصل الإشكال مما يجري على هذا التخريج؛ فالأصل أن يتبع الدليل إلا إذا توارد على بعض المحال أدلة كلية خارجية تقتضي العدول.
وفيما يلي بعض الإشكالات التي أُوردت على مراعاة الخلاف، وأُردفها بالأجوبة السديدة
الإشكال الأول:الخلاف ليس حجة:
من الاعتراضات التي أُوردت على أصل رعي الخلاف أن الخلاف لا يكون حجة في الاستدلال؛ لأن منراعى الخلاف إنما اعتبر الخلاف حجة له فيما ذهب وتقلد من قول؛ والخلافلا يكون أبداً حجة؛ وإلا لانحلَت عرى الشرع كله؛ قال أبو عمر بن عبد البر: “الاختلاف ليس بحجة عند أحد علمته من فقهاء الأمصار؛ إلاَ منلا بصر له ولا معرفة عنده ولا حجة في قوله”[i][64].
الجواب عن الإشكال الأول:
والجواب عن هذا الإشكال سهل ليس فيه عناء؛ لأن هذا الاعتراض إنما أسس على تصور خاطئ لمراعاة الخلاف؛ إذ إنه صور على أنه أخذ بصورة الخلاف نفسه؛ وهذا ليس من مذهب المالكية على التحقيق؛ وإنما الذي يعتبره المالكية كما تقرر فيما سبق هو الدليل الذي ترجح عند المجتهد بعد وقوع الفعل؛ وإذا استبان أن الاعتراض مرتكز على تصور خاطئ فإن ما انبنى عليه فهو على شاكلته ومن جنسه؛ قال الرصاع: “المراعى في الحقيقة إنما هو الدليل لا قول القائل كما حققه الشيخ ابن عبد السلام في أول شرحه، وكذلك غيره”[65].
الإشكال الثاني:مراعاة الخلاف تركللدليل الراجح إلى غيره من غير حجة
ومن الاعتراضات التي تقلَّدها من ردمراعاة الخلاف من المالكية أن في الأخذذا الأصلتركا للدليل الراجح؛ وتركالراجح إلى غيره من غير حجة باطل بالإجماع[66]؛ فما أدى إليه فهو باطل .قال عياض: “القول بمراعاة الخلاف لا يعضدهالقياس[67]، وكيف يتركالعا لم مذهبهالصحيح عنده ويفتي بمذهب غيره المخالف لمذهبه؛ هذا لا يسوغ له إلاَّ عند عدم الترجيحوخوف فوات النازلة فيسوغ له التقليد ويسقط عنه التكليف في تلك الحادثة.
وقال الشاطبيفي إيراده للإشكال:الدليل هو المتبع، بحيث ما صار يصار إليه، ومتى ماترجح للمجتهد أحدالدليلين على الآخرـ ولو بأدنى وجوه الترجيح ـوجبالتعويل عليهوإلغاء ما سواه، على ما هو مقرر في الأصول. فإذا؛ رجوعه لقول الغير إعمال لدليله المرجوح عنده، وإهمال لدليله الراجح عنده الواجب عليه اتباعه؛ وذلك على خلاف القواعد”[68]
الجواب عن الإشكال الثاني:
وهذا الإشكال لا موقعله بعد أن بسطنا في مواضع مما سبق حقيقة مراعاة الخلاف؛ لأن هذا الاعتراض كان يصدر عن تصور مبهم لهذا الأصل؛ إذ حسبوظنأن رعيالخلاف يكون فيه تركالدليل الراجح وإهماله إلى غيره؛ وهذا لا يصحلأنَ مراعاة الخلاف هو أخذٌ بالدليل الراجح عقبالوقوع، بعد أن كان مرجوحا قبل الوقوع؛ وانقلابالرجحان كان بسبب ما ظاهرالدليل المخالف من أدلة عرضت لم تكن في المسألة قبل الوقوع؛ ومن هذا يستبينأن أصل مراعاة الخلاف ليس فيه خلاف للقواعد في وجوب الاستمساك بما رجح من الدليل والإعراض.
قال ابن عرفة مجيبا عن هذا الاعتراض:”الجواب…أنه إعمال لدليله من وجه هو فيه أرجح، ولدليل غيره فيما هو فيه أرجحعنده…والعمل بالدليلين في كل ما هو فيه أرجحليس إعمالا لأحدهما، وتركا للآخر بل هو إعمال لهما معا”[69].
وهذا ما قرره أبو عبد الله الفشتالي في جوابه للإمام الشاطبيحيث إنه فسر حقيقة مراعاة الخلاف: بأنَّ دليل المخالف بعد الوقوع صار عند مالك رضي الله عنهأقوى من دليله الذي منع به الإقدام ابتداء بدليل مقوخارجي[70].
الإشكال الثالث:ما ضابط مراعاة الخلاف؟
إذا كان مراعاة الخلاف أصلا في المذهب فلملا يطَّردفي كل المسائل؛ فإنا نجد أنالمالكية لا يعتبرون رعيالخلاف في كثير من المسائل؛ ويلزم من هذا أن يبين ما وجهالضابط الذي يلمحه المالكية في الأخذ به وعدم الأخذ به[71].
الجواب عن الإشكال الثالث:
ضابط المراعاة للخلاف هو ظهور القوة والرجحان في الدليل الذي تمسك به المخالف؛ فإن قوي دليلُه وترجح بعد الوقوع على الدليل الأصلي للمجتهد أخذ به؛ وإلاَ بقيعلى أصل دليله. قال ابن عرفة:”الجواب…أن نقول هو حجة في موضع دون آخر؛ وضابطه رجحان دليل المخالف عند المجتهد على دليله في لازم مقول المخالف؛ كرجحان دليل المخالف في ثبوت الإرث عند مالك على دليل ذلك في لازم مدلول دليله، وهو نفيالإرث، وثبوتالرجحان ونفيه بحسب المجتهد في المسألة؛ فمن هنا كان رعي الخلاف في نازلة معمولا به، وفي نازلة غير[72].
الفصل الثاني: النماذج التطبيقية لأصل مراعاة الخلاف في العبادات
بعد أن تم التطرق لأصل مراعاة الخلاف من الناحية النظرية الأصولية، فحدد مفهومه، وتم الكشف عن الأدلة التي بني عليها، وضوابط العمل به والإشكالات التي واجهته، يحسن بنا في هذا الفصل أن نتعرض لأصل مراعاة الخلاف من الناحية التطبيقية وذلك من خلال نماذج وتطبيقات تختص بباب العبادات وذلك فيما يلي:
النموذج الأول:الماء اليسير إذا حلت فيه نجاسة يسيرة ولم تغير أحد أوصافه.
من المسائل التي بنيت على مراعاة الخلاف في المذهب المالكي مسألة الماء اليسير[73] إذا دخلت فيه النجاسة اليسيرة، ولم تغير أحد أوصافه، أنه لا يتوضأ به، بل يتيمم ويتركه، فإن توضأ به وصلى أعاد ما دام في الوقت، ولم يعد بعد الوقت. وإنما قال: ” يعيد في الوقت”، ولك يعد بعده، مراعاة لقول من يقول: إنه طاهر مطهر، ويرى جواز الوضوء به ابتداء[74]، وكان القياس، أن يعيد أبدا، وإذا لم يتوضأ إلا بماء يصح له تركه والانتقال عنه إلى التيمم”[75].
النموذج الثاني:الوضوء من الرعاف والحجامة
كان الإمام أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الرعاف والحجامة[76] فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدم، ولم يتوضأ، هل تصلى خلفه؟ فقال: كيف لا أصلي خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب[77]. وصلى هارون الرشيد إماما وقد احتجم، فصلى أبو يوسف خلفه ولم يعد[78] وكان أفتاه مالك بأنه لا وضوء عله فمقتضى القياس ـ في هذه المسألة ـ بطلان الصلاة في الحالتين، عند الإمامين أحمد وأبو يوسف لوجود الناقض، ولكن صححت مراعاة لقول من لا يرى أن ذلك من النواقض[79].
النموذج الثالث: الصلاة على جلود الميتة بعد الدبغ:
جلد الميتة عند المالكية نجس حتى بعد الدباغة قال ابنرشد: “أكثر أهل العلم يقولون إن جلد الميتة يطهره الدباغ فيباع ويصلَى عليه، وهو قول ابن وهب…والمشهور المعلوم من قول مالك أن جلد الميتة لا يطهره الدباغ، ولا يجوز بيعه وإن دبِغ، ولا يصلى عليه”
فيمنع المصلِي من الصلاة على جلودها أو الصلاةبها؛ غيرأنه لو صلَّىبها أو عليها لم يعِد إلا في الوقت استحبابا[80].
كان الأصل طَرداً لمقتضى نجاسة الجلد أنْ تكون الصلاة باطلة؛ فيطالب المصلي بإعادةالصلاة أبدا في الوقت وخارجه؛ إلا أن المالكية راعتخلافالجمهور من خارج المذهب ومن داخله كابنِ وهب في كون جلود الميتة المدبوغة طاهرةً والصلاة عليها أوبها جائزة؛ فقالت المالكية بعدم إعادة الصلاة بعد الوقت رعيا لخلاف من خالف من أهل العلم.
قال مالك: “لا يعجبني أن يصلى على جلود الميتة وإن دبغت، ومنصلى عليها أعاد مادام في الوقت”[81].
النموذج الرابع: من قام لثالثة في نافلة
مذهب مالك أن التنفل لا يكون إلا بالركعتين، فلا يصح التنفل بالأربع ولا بما زاد على ذلك، هذا هو الحكم ابتداء[82].
لكن منقام في نفل من اثنتين ساهيا ولم يعقد ثالثته؛ فالمذهبأنه إن عقدها سهوا برفع رأسِه من ركوعها؛ كمل أربعا وجوبا؛ وهذا مراعاة لخلاف من خالف من أهل العلم في أن التنفل يقع بالأربع[83] أما منقام إلى خامسة عقدها أم لا؛ فعليه أن يرجِعإلى الجلوس مطلقا؛ فإن لم يرجِع بطلت صلاته، فلم يراع المالكية قول منقال من أهل العلم بجواز التنفُل بما زاد على الأربع [84].
ووجهالفرق بين القيام إلى الثالثة وبين القيام إلى الخامسة أن شرط إعمال مراعاة الخلافأن يكون قويالمدرك؛ فلا يكون شاذا ولا ضعيفا والقول بجواز التنفل بأكثر من أربع قولضعيفالمدرك عند المالكية بخلاف التنفل بالأربع؛ قال الدرديري موجها الفرق بين المسألتين: “بناء على أنه لا يراعى من الخلاف إلا ما قويواشتهر عند الجمهور، والخلاففي الأربع قويبخلافه في غيره”[85].
النموذج الخامس: من دخل مع الإمام في صلاته فنسي تكبيرة الافتتاح:
روى سحنون عن مالك رحمه الله أنه قال: فيمن دخل مع الامام في صلاته فنسي تكبيرة الافتتاح: إن كان كبر للركوع ينوي بذلك تكبيرة الافتتاح أجزأته صلاته، وإن لم ينو بتكبيرة الركوع تكبيرة الافتتاح فليمض في صلاته ولا يقطعها، فإذا فرغ من صلاته مع الإمام أعادها.
وقال مالك ـ فيما بلغه أنه قال ـ : ” إنما أمرت من خلف الإمام بما أمرته به لأني سمعت أن سعيد بن المسيب قال: يجزئ الرجل مع الإمام إذا نسي تكبيرة الافتتاح تكبيرة الركوع. قال: وكنت أرى ربيعة بن أبي عبد الرحمن يعيد الصلاة مرارا فأقول له: مالك يا أبا عثمان؟ فيقول: إني نسيت تكبيرة الافتتاح، فأنا أحب له في قول سعيد أن يمضي، لأني أرجو أن يجزئ عنه، وأحب له قول ربيعة أن يعيد احتياطا، وهذا في الذي مع الإمام[86]. وذكر القاضي عبد الوهاب استحباب ذلك، وإن اختار المأموم أن يقطع ويبتدأ، فله ذلك. والقياس ـ كما ذكر ابن عبد البر ـ أن يبتدأ الإحرام، فيصلي ما أدرك، ويقضي ما فات[87].
في نهاية هذه المسيرة العلمية البحثية أشير إلى الوصول إلى جملة مـن النتائج والتوصيات التي ظهرت لي من خلال تناول هذا الموضوع أوجزها فيما يلي:
أولا: النتائج:
1 ـ مراعاة الخلاف تبين لنا مدى تآلف العلمـاء وتحـاببهم واحتـرامهم للـرأي المخالف، بعيدا عن التعصب المذهبي، مسترشدين بالأدلة والقواعـد المؤيـدة بالأدلة.
2 ـ الوقوف على أدلة العلماء التي يستدلون بها، ومعرفة الأدلـة الأصـلية التـي يتفقون على حجيتها والأدلة الاستئناسية التي يمكن أن يختلفوا فـي حجيتهـا، ومن ثم التعرف على الطريقة المتبعة لدى العلماء في التوصـل إلـى معرفـة الحكم الشرعي، والاستفادة من توابع ذلك كالمناقشات والمناظرات التي تحصل بين العلماء عند اختلاف الآراء سواء الأصولية أو الفقهية.
3 ـ هذه الدراسة وأمثالها تربط الفروع بالأصول، من خلال ذكر القاعدة الأصولية وتوضيحها ومن ثم تخرج الفروع الفقهية عليها.
4 ـ يعتبر هذا النوع من الدراسة الأصولية نوعا هاما ـ أعني التأصيل والتطبيق ـ فهو يربي الملكة الأصولية والحس الاجتهادي.
5 ـ إن الأقوال والمذاهب المختلفة والمتفقة سواء، تشكل ثروة علمية هائلة صالحة للأمة الإسلامية في معالجة الإشكاليات المطروحة عليها.
6 ـ يراعى الخلاف إذا كان قوي المدرك، ودعت الضرورة لاعتباره، ولو كان دون حد المشهور، المعتبر في الخلاف هو دليل المخالف، وليس الخلاف في ذاته، سواء كان خارج المذهب الواحد، أو حتى خارج المذاهب الأربعة.
7 ـ لا يفسق العالم، ولا يؤثم، إذا أخطأ في الحكم بتأويل، ولو خالف فيما لا يسوغ فيه الاجتهاد، ويجب علينا بيان الحق له، وإقامة الحجة عليه أمام الله، والدعاء له بالتوفيق، كل ذلك بملاطفة، وحسن، ولا يسوغ التعنيف، والتغليظ، والتأديب ـ إذا اقتضى الأمر ـ إلا من الحاكم المسلم.
ثانيا التوصيات: من التوصيات التي خرج بها هذا البحث ما يلي:
1 ـ العناية بأصل مراعاة الخلاف ودوره في التقريب بين المذاهب وهو ما سيكشف اتحاد المقصد بين المذاهب وإن اختلفت في الفروع.
2 ـ ضرورة بالاهتمام بهذا الجانب الفقهي، لأن الدراسة في الفقه الإسلامي ـــ غالبا ـــ مستقلة عن أصوله مما يجعلها دراسة نظرية لا تعطي الدارس فهما حقيقيا للفقه الإسلامي من حيث أصله ومصدره، وأحسب أن هذا الموضوع مما يبرز الغاية من أصول الفقه بشكل عملي، لأن ربط هذا العلم بالجانب التطبيقي يجعله يؤتي ثماره المرجوة بإذن الله.
والله أسأل أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح.
هوامش البحث:
[1] ـ ابن منظور لسان العرب 14/327.
[2] ـ الفيروز ابادي القاموس المحيط للفيروز ابادي 4/335.
[3] ـ الرجع السابق 14/327.
[4] ـ ابن منظور لسان العرب 14/327.
[5] ـ المصدر السابق 14/327.
[6] ـ المصدر السابق 9/90 ـ 91 ـ 94.
[7] ـ للمنجور شرح المنهج المنتخب ، ابن ناجي شرح الرسالة 2/37.
[8] ـ الرجع السابق ص 255
[9] ـ الرصاع شرح حدود ابن عرفة شرح 1/2
[10] ـ المرجع السابق 1/2
[11] ـ عليشفتح العلي المالك 2/61
[12] ـ الشاطبي الاعتصام 2/145 ـ 146
[13] ـ الزركشي المنثور 2/130 ـ 133
[14] ـ الدرديريالشرح الصغير 1/94
[15] ـ السنوسي مراعاة الخلاف 65 ـ 66
[16] ـ الرصاعشرح حدود ابن عرفة 1/ 269.
[17] ـ ابن رشدالبيان والتحصيل 8/ 118
[18] -المصدر السابق 4/174[18]
[19] ـ ابن فرحون كشف النقاب ص 93، ابن فرحون تبصرة الحكام 1/ 81 ـ 82.
[20] ـ المواق التاج والإكليل 4/ 490 ـ 491.
[21] ـ ابن رشد الجد البيان والتحصيل 3/ 367.
[22] ـ المنجور شرح المنهج المنتخب ص 255.
[23] ـ عليش فتح العلي1/ 60.
[24] ـ المرجع السابق1/ 61.
[25] ـ الونشريسيالمعيار المعرب 11/ 103.
[26] ـ المقري القواعد القاعدة رقم 12 و الونشريسي المعيار المعرب 12/37.
[27] ـ المقري القواعد : القاعدة رقم 540.
[28] ـ. المنجور شرح المنهج المنتخب ص 250.
[29] ـ سحنون المدونة الكبرى 2/ 120 ـ 121.
[30] ـ القرافي شرح التنقيح ص 441.
[31] ـ الرصاعشرح حدود ابن عرفة 1/263.
[32] ـ عليشفتح العلي 1/ 60.
[33] ـ ابن ناجي شرح الرسالة 2/ 50.وانظر مثالا راعى فيه عيسى بندينار خلافابنِ نافع في بعض مسائل العتبية. ابن رشد الجد البيان والتحصيل 14/ 539.
[34] ـ الونشريسيالمعيار المعرب 12/ 37. المنجور شرح المنهج المنتخب ص 256.
[35] ـ المنجور شرح المنهج المنتخب ، ص 245.
[36] ـ المقري القواعد: للمقري القاعدة رقم 12.
[37] ـ سورة محمد الآية 33
[38] ـ سورة محمد الآية 33
[39] ـ الونشريسيالمعيار المعرب 6/392.
[40] ـ الشاطبيالموافقات 4/ 203 ـ 204.
[41] ـ المصدر السابق 4/ 204 ـ 205.
[42]ـ ما في نكاح اليتيمة من غير تحقق الشروط المشترطة في ذلك: حاشية الدسوقي 2/ 224 وانظر الأنكحة التي تفوت بعد طول مدة الدخول وولادة الأولاد في: أبو عمران الفاسي النظائر ص 99
[43] ـ المواق التاج والإكليل 6/ 256.
[44] ـ القرافي شرح تنقيح الفصول، ص 156، ابن عاشور مقاصد الشريعة الإسلامية ص 478 الهامش
[45] ـ أخرجه مالك مرسلا في الموطأ كتاب الأقضية حديث رقم 1435
[46] ـ الونشريسي المعيار المعرب 6/ 392.
[47] ـ المواق التاج والإكليل ، 5/ 90.
[48] ـ الشاطبيالاعتصام 3/ 80.
[49] ـ رواه ابن ماجه في سننه، كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي، رقم: 1882، والدار قطبي في السنن، كتابالنكاح، 3/ 227. وصححه الألباني كما في إرواء الغليل رقم: 1841
[50] ـ الشاطبيالاعتصام للشاطبي، 3/ 85 ـ 86.
[51]ـ رواه مالك في الموطأ، كتاب الأقضية، باب القضاء بإلحاق الولد بأبيه، رقم: 1418، والبخاري في صحيحه،كتاب البيوع، باب تفسير المشتبهات، رقم:1948.
[52] ـ الونشريس المعيارالمعرب ، 6/ 379.
[53] ـ ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله 2/ 309 . 310.
[54] ـ اللقانيمنار أصول الفتوى ص 359.
[55] ـ الشاطبي، الموافقات 4/ 151ـ 152
[56] ـ الونشريسالمعيار المعرب ،6/ 392.
[57] ـ المصدر السابق 4/ 203 ـ 204.
[58] ـ الشاطبي الموافقات 4/ 204,
[59]ـ صحيح البخاري: 3/1296
[60] ـ الشاطبي الموافقات 4/ 204.
[61] ـ المصدر السابق 4/ 204.
[62] ـ المصدر السابق 4/ 204.
[63] ـ الشاطبي الاعتصام 3/78.
[64] ـ الونشريسيالمعيار ، 12/ 35.
[65] ـ الرصاعشرح حدود ابن عرفة 1/ 163.
[66] ـ ابن رشد الجد:”…لا يجوز عند أحد من العلماء أن يقلد العالم فيما يرى باجتهاده أنه خطأ، وإنما اختلفوا هل له أن يترك النظر في نازلة إذا وقعت ويقلد من قد نظر فيها واجتهد أم لا؟ ومذهب مالك الذي تدل عليه مسائله أن ذلك لا يجوز .. “البيان والتحصيل 10/ 373.
[67] ـ قال المنجور في شرح المنهج المنتخب:” لما فيها من عدم الجريان على مقتضى الدليل” ص 259.
[68] ـ الونشريسيالمعيارالمعرِب 12/ 36.
[69] ـ المصدر السابق، 6/ 378. 379.
[70] ـ المصدر السابق 6/ 392.
[71] ـ المصدر السابق 6/ 366 ـ 367.
[72] ـ المصدر السابق 6/ 392.
[73] ـ حد الماء اليسير عند المالكية ما كان قدر آنية الوضوء أو الغسل فما دونها، ولا حد لأكثره، حاشية شمس الدين ابن عرفة على الشرح الكبير 1/73 للتفصيل انظر: مراعاة الخلاف وأثره في الفقه الإسلامي دراسة نظرية تطبيقية للطالب مختار قوادي ص 128.
[74]ـ وهو مذهب المدنيين من أصحاب مالك: ابن عبد البر الكافي ص 15,
[75] ـ الشاطبي الاعتصام 2/ 145. الدرديري الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1/74.
[76] ـ قاعدة المذهب عند الحنابلة أن الدم إذا كان فاحشا ينقض الروض المربع : البهوتي شرح زاد المستنقع ص 38
[77] ـ مذهب مالك لا يرى أن الرعاف أو الحجامة من نواقض الوضوء : سحنون المدونة الكبرى 1/ 126.
[78] ـ رغم أن قاعدة المذهب الحنفي أن الدم إذا سال من مخرجه فتجاوزه إلى موضع يلحقه حكم التطهير نقض الوضوء أبي الليث السمرقندي فتاوى النوازل ص 25.
[79] ـ هم المالكية والشافعية : ابن جزي القوانين الفقهية ص 22، ولشيرازي المذهب في فقه الإمام الشافعي1/ 41
[80] ـ الحطاب مواهب الجليل 1/ 101.
[81] ـ سحنون الدونة 1/ 183.
[82] ـ الدرديري الشرح الكبير 1/ 296 ـ 297.
[83] ـ المصدر السابق 1/ 296.
[84]ـ المصدر السابق 1/ 297.
[85] ـ الدرديري الشرح الكبير 1/ 297.
[86] ـ كلام مالك هنا يتعلق بالمأموم، لأنه عقد صلاته بصلاة إماماه، وأما الإمام والفذ فلا، جاء في الرسالة: وهو أي ” تكبير الافتتاح” فرض في حق الإمام، والفذ اتفاقا، وفي حق المأموم على المشهور: سحنون المدونة الكبرى 1/ 161 ـ 162.
[87] ـ ذكر ابن عبد البر فيه إعادة الصلاة إيجابا واحتياطا وهو مخالف لرواية المدونة التي قررت أن ذلك يكون احتياطا. وإذا اختلف في نقل مسألة وخصوصا عن الإمام فالمعقول الاعتماد على المصادر القديمة وهل تمة أقدم من المدونة. وفي هذا المعنى ذكر الشاطبي افضلية الاعتماد على كتب المتقدمين دون المتأخرين احتياكا في الدين وحذر من أن يتساهل في النقل من أي مصدر كان. : ابن عبد البر الكافي ص 40 والشاطبي في الموافقات 1/ 68.
*أستاذ تعليم عالي متعاون بالمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية، موريتانية
Leave a Reply