قرأت إبان مرحلة التحضير لرسالة الدكتوراه حول روايات الدكتور غازي عبد الرحمن القصيبي، معظم مؤلفاته وكتاباته التي صدرت عن قلمه الرصين، فاطلعت على أن القصيبي كتب كثيرا عن الهند ومدنها وثقافتها وسكانها وكذلك عن الزعماء الهنود، فهنا أود أن أقدم بين أيدي القراء الكرام من خلال هذا المقال، ما كتبه هذا الإنسان الموهوب عن وطننا الحبيب وثقافتنا الغالية.
يتميز الدكتور غازي القصيبي[1] بغزارة إنتاجاته الأدبية والعلمية بما فيها ثلاثة كتب عن حياته الشخصية وهي “حياة في الإدارة”، و”السيرة الشعرية”، و”الوزير المرافق”، وسرد القصيبي في هذه الكتب، تجاربه ومشاهداته التي حظي بها في مختلف مراحل حياته المهنية، وتناول الدكتور القصيي الهند وثقافتها وتقاليدها في معظم مؤلفاته ولو بإشارة بسيطة، فيما يذكر سكان هذه البلاد كفيلسوف، وشهرة هذه البلاد بتوابل وأطعمة بجانب ذكر المطاعم الهندية والوجبات الهندية مثل الدال الهندي.
وخص الدكتور القصيبي بذكر بعض الملوك والزعماء الهنود قبل استقلال الهند وبعدها مثل الإمبراطور أكبر ضمن ديانات العالم، والمهاتما غاندي في سياق القوة الإرادية وتبديد الكآبة النفسية، كما تناول شخصية الزعيمة إندرا غاندي كامرأة حديدية. إلى ذلك، كتب الدكتور القصيبي عن بعض المدن الهندية من أهمها مدينة مومباي التي كانت محطة تجارة اللؤلؤ والخشب والتوابل لأفراد عائلته، ومدينتي دلهي وآغرة.
فأريد أن أركز في هذا المقال، على ما كتبه القصيبي عن رئيسة الوزراء الهندية السابقة إندرا غاندي بالتحديد، وعن انطباعاته حول مدينة دلهي.
قال الدكتور القصيبي في أحد حواراته أنه ما كان يريد أن يزور نيودلهي، لأنه لم يكن يرىد أن يرى بأم عينيه، أوضاع وظروف هذه المدينة، التي تسودها مظاهر البؤس حسب تصوراته، فهنا أنقل نفس الحديث الذي ورد على لسانه عن مدينة دلهي في حوار له، عندما سئل عنه:
السوال: “هل هناك مدن لا تريد زيارتها بسبب من الأسباب، ثم عندما تزورها تكتشف أن أحببتها رغما عنك.. وما هذه المدينة، وأسباب عدم رغبتك في زيارتها؟ وانطباعك الجديد عنها، وكيف يكون؟ “[2].
الجواب: “تطلبت ظروف العمل ذات يوم، أن أزور نيودلهي، لم أكن أتطلع إلى الزيارة، والحق أقول: كنت أتهيبها. والسبب؟ لم أكن حريصا على أن أرى بعينيّ مظاهر البؤس البشري المتفشي في عواصم العالم الثالث، إلا أن المدينة كانت أجمل بكثير مما توقعت. وأجمل وأنظف وأرقى، حتى مظاهر البؤس كانت أهون مما توقعت. ولم يكن هناك الرخام الخانق الذي يخيفني. ومن هناك أخذت الطائرة إلى تاج محل (رغم أنني، بطبعي، عزوف عن زيارة الأماكن التاريخية والمعالم والمتاحف على النقيض من زوجتي التي تستطيع أن تقضي سنين في هذه الأماكن)، وهنا وجدت كل ما سمعته عن تاج محل، يتضاءل أمام الواقع، وكدت أرى بعينيّ شاه جهان، والحبيبة التي أنشأ هذا المكان/ الحلم من أجل عينيها. وهذه هي المرة الوحيدة التي أرى فيها حقيقة تفوق الأسطورة جمالا. بكثيرة من الحسرة، أقرأ هذه الأيام: أن التلوث بدأ يقتل هذا الإبداع البشري العظيم”[3].
هذه هي انطباعاته عن مدينة دلهي ومدينة آغرة، فيما يبدو أن الدكتور القصيبي كان يتصور في خلده، بأنه لايوجد في الهند إلا مظاهر البؤس والفقر وعدم التخلف، ولعله قد نسي الدكتور أن هذه البلاد كانت لها دوي وشهرة في مجال العلوم والدراسات ناهيك عن فن العمران في زمن من الأزمنة، وحكمها الحكام المسلمون فاهتموا في البلاد بنشر العلوم والفنون كل الاهتمام، فكيف يمكن ألا يوجد فيها جمال وسعادة، ولكن القصيبي تصور عكس ذلك، واعترف نفسه بخطأ تصوره عن الهند.
على كل، كتب الدكتور القصيبي قدرا من التفصيل، عن رئيسة الوزراء الهندية السابقة السيدة إندرا غاندي التي زارت الرياض عام 1982م، في كتابه الوزير المرافق، خص فيه بابا عن السيدة غاندي، ويحتوي هذا الباب على خمس عشرة صحفة.
ذكر الدكتور غازي القصيبي في هذا الكتاب “الوزير المرافق”، عشرة أهم أحداث شاهدها أو رافقها خلال مهامه الرسمية في المملكة وخارجها، وقام بتحديد فصل مستقل لكل من هذه الأحدات، وفي نفس الكتاب، خص الدكتور القصيبي بابا مستقلا سماه (مع سيدة الهند الحديدية) [4]، تناول فيه رفاقه مع رئيسة الوزراء الهندية السابقة “إندرا غاندي” خلال زيارتها إلى الرياض عام 1982م، لأن هذه الزيارة منحته فرصة للتعرف على هذه السيدة الهندية عن كثب، فانتهز الدكتور غازي القصيبي رفاقه مع رئيسة الوزراء الهندية السابقة ليتبادل معها أطراف الحديث عن موضوعات عديدة بما فيها سياسة الهند داخلياً وخارجياً ووجهات نظر الزعماء الهنود وتطلعات الشعب الهندي ومستقبل البلاد إلى ذلك الظروف العائلية الخاصة لرئيسة الوزراء “غاندي” بشكل خاص.
يكتب القصيبي في البداية، أنه كان يسمع أمورا غريبة عن صورة هذه السيدة عن طريق وسائل الإعلام،: كيف كانت هذه الصورة لهذه السيدة يقول الاقتباس:
“الصورة إمرأة قوية الشخصية، متعطشة للقوة، شديدة الدهاء، حديدية الإرادة، قاسية القسمات لا حد لطموحها أو لعنادها” [5].
وبعد لقائه معها، وجد الدكتور القصيبي هذه السيدة عكس ما سمع وتصور عنها، إذ أنها كانت تتحدث بخجل وتردد في بعض الأحيان، فيصف القصيبي ذلك في تعبيره:
“الأصل: امرأة في الرابعة والستين، ضئيلة ضئيلة، تتحدث بصوت هامس لايكاد يسمع، لايدل شكلها على إرادة عاتية ولايوحي مظهرها بأي تعطش إلى السلطة. لايملك المرء إلا أن يشعر بالشفقة على هذه المرأة”[6].
وفي حديثه مع السيدة إندرا غاندي، تحدث القصيبي عن أفراد أسرتها بمن فيهم رئيس الوزراء السابق جواهر لال نهرو، وقضية وفاة ابنها سانجاي وزواجه من السيدة مينكا غاندي، كذلك ابنها الثاني راجيف غاندي وزواجه من المرأة الإيطالية.
فيكتب القصيبي عندما أنه ذكر قضية وفاة سانجاي غاندي:
” لاحظت أن صوتها ترتعش ارتعاشة خفية كلما مرّ ذكر سانجاي ابنها الذي توفي قبل زيارتها إلى المملكة بسنة، في حادثة طائرة.
وبدأت الملامح تشح بغمامة من الكآبة. هل هناك دموع خلف النظارة، أم أنني أتخيل أشياء؟. ندمت على إثارة الموضوع، صمتت قليلا تم تكلمت”[7].
وماذا كان رأي الدكتور القصيبي عن رئيس الوزراء الهندية السابقة التي كان يصفها الناس بالمرأة الحديدية، يكتب القصيبي نفسه في ضوء حديثه عن أسرتها:
هنا بدأت تتحدث بانفعال وحيوية، طيلة الزيارة لم أرها تتحدث بهذه الحدة، وبهذه الطريقة العاطفية، نسيتُ ـ لحظتها ـ أنني أمام رئيسة وزراء دولة من أكبر دول الأرض، تصورت أنني مع أم عادية في الحي، تشكو متاعبها مع زوجة ابنها[8].
شمل الحديث الذي جرى بين الدكتور القصيبي وبين السيدة إندرا غاندي، بعض أهم الأمور التي تختص بسياسة الهند ومعارضتها السياسية ومشاكل الشعب الخطط التنموية للمستقبل، حيث كان يتوقع القصيبي نقاشا حادا مع السيدة غاندي بما خاضت غمار التنمية لفترة طويلة من الزمن وفي أكبر دولة نامية.
فيذكر القصيبي في كتابه:
“كنت أتوقع نقاشا صاخبا مثيرا عن التنمية مع الزعيمة التي خاضت غمار التنمية عدة عقود في أكبر دولة نامية. كنت أتوقع أن تعلم بعض الدروس، بعض العبر، بعض الحكم، كنت متعطشا إلى نقاش فكري، غير أنها لم تناقش. وشعرت بخية الأمل. ألا يوجد درس واحد يستفاد من تجربة الهند التنموية؟ ألا توجد نصيحة واحدة؟ ربما كان الخجل هو الدافع وراء سكوتها”[9].
وكذلك يلقي الدكتور القصيبي الضوء على الوضع خلال المحادثاث الرسمية أيضا فهو يكتب:
“تكررت خيبة أملي في المباحثات الرسمية، ربما كان هذا الحكم قاسيا بعض الشيء. ولكن عندما يجتمع المرء بزعيمة عاصرت أهواء السياسة وأعاصيرها قرابة أربعين عاما، واجتمعت بكل قادة العالم البارزين. يتوقع شيئا غير مألوف، شيئا غير عادي”[10].
ألمح الأمير فهد إلى هذا في كلمته الترحيبية.
“يا دولة الرئيسة! إننا نعتبرك من أبرز الشخصيات الدولية المعاصرة. لقد مرت بك تجارب طويلة واكتسبت حكمة عميقة وخبرة كبيرة. إننا نتطلع إلى الاستفادة من آرائك؟. شكرته بخجل. وبدأت في الحديث، وكان حديثا عاديا. لا يحس المرء وهو يستمع إليه أن وراءه خبرة سياسية تكاد تبلغ نصف القرن!”[11].
بعد هذه المشاهدات والتجارب التي مر بها الدكتور غازي القصيبي مع السيدة إندرا غاندي، يبدو أنه أخطأ في فهم هذه السيدة ووضع بلادها، وتخيل بأن هذه البلاد ليست في حالة جيدة، وإن زعيمتها قد تطلب من المملكة مساعدة. لكن أخطأ القصيبي في هذا الأمر، ويتضح ذلك مما كتبه في هذا الشأن:
” طيلة المباحثات لم تشر من قريب أو بعيد إلى العلاقات الاقتصادية بين المملكة والهند. لم تطلب قرضا. ولم تطلب مساعدة. ولم تتحدث عن اختلال الميزان التجاري. لقد جاءت زعيمة الهند إلى المملكة كلي تناقش وتبحث، لا لكي تطلب مساعدة. أكبرت فيها هذا الموقف، وتمنيت لو كان كل زوارنا مثل هذا”[12].
يتضح من كل ما وقع وجرى خلال الحديث بين الدكتور غازي القصيبي والسيدة غاندي، أن القصيبي تأثر بطبيعة السيدة غاندي تأثيرا بالغا بكونها على طبيعة صادقة كالإنسان العادي. ورغم كون السيدة غاندي زعيمة دولة كبيرة نامية، لم يلمس الدكتور منها أي تصنع وتفاخر، إنما وجدها كإنسانة بل كالأم الحنونة، كما يتجلى ذلك في كتابات القصيبي عن طريقة الدواع عندما أنهم كانوا يودعونها في المطار:
فيكتب القصيبي:
“في المطار كانت السيدة الضئيلة تصافح مودعيها، وتوقفت عندي قليلا..أشكرك كثيرا. لقد سعدت بلقاء زوجتك البارحة.. وارتفعت سلم الطائرة. بدأت الأم الطيبة تتلاشى مع كل درجة من السلم. في نهاية السلم لم تكن هناك عجوز رقيقة. كانت رئيسة وزراء الهند هي التي تقف منتصبة على مدخل الطائرة. وتلوّح بتحية الوداع”[13].
هذه انطباعات ومواقف شخصية كان يحملها الدكتور القصيبي بخلده إزاء الهند وأوضاعها ومدنها زعمائها وبالتحديد عن رئيسة الوزراء الهندية السابقة إندرا غاندي التي اشتهرت بالمرأة الحديدية.
الملاحظة: المقال صالح للنشر ولكن قد نسي الكاتب ذكر الصفحة التي اقتبس منها، فلا بد ذكرها.
[1]. الدكتور غازي عبد الرحمن القصيبي هو شخصية سعودية الجنسية، من مواليد الأربعينات، وهو أحد أبرز الأدباء والشعراء الذين تألقوا في أفق الأدب العربي السعودي خلال القرن العشرين، بما أنه أسهم بإنتاجه الأدبي والفكري والثقافي في تطوير الأدب السعودي المعاصر، وقدم الدكتور القصيبي مؤلفات قيمة في شتى الفنون الأدبية من أهمها الشعر والنثر بما فيه السيرة الذاتية والرواية والعلوم الاجتماعية بجانب المقالات الصحفية، وترك القصيبي خلفه، إنتاجا أدبيا غزيرا إذ يربو عدد مؤلفاته على 60 كتابا بما في ذلك 19 ديوانا شعريا و10 روايات عربية.
كان الدكتور غازي القصيبي رجل الدولة أيضا، فإنه شغل العديد من المناصب الإدارية والدبلوماسية والوزارية في المملكة العربية السعودية خلال مختلف الفترات التي حكمها كل من الملك فيصل والملك خالد والملك فهد والملك عبد الله، حيث أنه أدى مهامه الرسمية بكل أمانة وتفان، حتى انتقل الدكتور القصيبي إلى ذمة الله في شهر أغسطس عام 2010م.
الهوامش:
[2]. القصيبي، غازي عبد الرحمن القصيبي، سيرة شعرية، طـ 3، جدة، 1424هـ/صـ333
[3]. نفس المصدر. صـ 333
[4] القصيبي، الوزير المرافق، ط2، بيروت، 2011م، صـ35.
[5] . نفس المصدر.صـ35.
[6] نفس المصدر.صـ35.
[7] نفس المصدر، صـ39.
[8] نفس المصدر، صـ40
[9] نفس المصدر،صـ46.
[10] نفس المصدر، صـ47
[11] نفس المصدر،صـ47
[12]. نفس المصدر، صـ48
[13]. نفس المصدر، صـ50
Leave a Reply