ربما كان هذا آخر حوار للأستاذ واضح رشيد الحسني الندوي، فقد تم نشره في مجلة عربية هندية قبل وفاته بشهر، وننشره في هذا العدد الممتاز إذ يحتوي المعلومات الأساسية عن معالم حياة الأستاذ المهمة، وبعض أسرار شخصتيه الذاتية، ويوفر لنا لمحات عن أدوار حياته المختلفة، وأعماله المتعددة. وفيما يلي نفسح المجال للأخ محمد محبوب عالم الذي سعد أن يحاور الأستاذ الندوي.
يُعَدُّ واضح رشيد الندوي من الأعلام البارزين المعاصرين الهنود الذين ذاع صيتهم في الأوساط العلمية والأدبية والاجتماعية بفضل ما يملكون من مهارة وبراعة في مختلف العلوم والفنون. لقد جمع الله في شخصية واضح الندوي عدة مواهب ومؤهلات، فإنه صحفي كبير ومحلِّل سياسي بارز ومترجم قدير ومتقن اللغة العربية ومُطَّلِع تام على الفنون الأدبية قديماً وحديثاً ومتضلع من اللغة الإنجليزية.
يتمثل دوره البارز في مجال الصحافة العربية في الهند، حيث تتمتع إنجازاته الصحفية بالإعجاب والاستحسان في الأوساط العلمية والأدبية في داخل البلاد وخارجها. يتولى منصب رئيس التحرير لجريدة “الرائد” نصف الشهرية ورئيس التحرير المشارك لمجلة “البعث الإسلامي” الشهرية الصادرتين عن مؤسسة الصحافة والنشر بدار العلوم لندوة العلماء. وإن الصحافة لديه سلاح قوي في مقاومة الغزو الفكري ومواجهة الباطل وخلق مناخ دعوي وتربوي وإرشادي إلى ما هو الصدق والكذب وما هو الحق والباطل. ويضاهي في مقالاته الصحفية كبار الصحفيين العرب من حيث تقديم المواضيع الساخنة وتحليلها تحليلاً موضوعياً.
بدأ حياته العملية كمترجم ومذيع في إذاعة عموم الهند، نيو دلهي، وبعد عشرين سنةً قدّم استقالةً طوعية من منصبه وانخرط في سلك التدريس في دار العلوم لندوة العلماء، ولا يزال يتولى التدريس فيها أستاذًا للغة العربية وآدابها، ويعيش حياةً حافلةً بالخدمات العلمية والأدبية والصحافية والاجتماعية. وإلى جانب ذلك، يشغل عدة مناصب إدارية وعلمية. وله مشاركات علمية كثيرة في مختلف المناسبات في داخل البلاد وخارجها. وتحظى المكتبة الإسلامية بأعماله الأدبية والعلمية والفكرية، ومن أهم أعماله: أدب الصحوة الإسلامية، الدعوة الإسلامية ومناهجها في الهند، حركة التعليم الإسلامي في الهند وتطور المنهج، تاريخ الأدب العربي (العصر الجاهلي)، إلى نظام عالمي جديد، الإمام أحمد بن عرفان الشهيد، مصادر الأدب العربي، الشيخ أبو الحسن قائدا حكيما، تاريخ الثقافة الإسلامية، من قضايا الفكر الإسلامي– الغزو الفكري، أعلام الأدب العربي في العصر الحديث، وغيرها من الكتب القيمة الأخرى.
حاز الأستاذ واضح الندوي على جائزة الرئيس الهندي، وذلك تقديرا لجهوده الجبارة في مجال خدمة اللغة العربية وآدابها.
يسعى هذا الحوار لاستيعاب مختلف مراحل حياة واضح الندوي التعليمية والعملية والتدريسية. وأتمنى أن يقوم هذا الحوار بإضافة معلومات جديدة عن شخصيته للقراء.
*****
س: أولاً أود أن أعرف كيف بدأتَ مسيرة التعليم الابتدائي؟
ج: تلقيتُ التعليم الابتدائي من أمي الحنون، فكانت تقص عليّ قصصَ الأنبياء والصلحاء، ولهذه القصص دور كبير في تكويني الديني، وبناء شخصيتي الإسلامية، وتعلمتُ قراءة القرآن من الأستاذ أبي بكر الحسني الذي كان درّس في مدرسة فلاح المسلمين بتيندوا في راي بريلي أولاً ثم عمل في إذاعة عموم الهند (دلهي) التابعة لوزارة الإعلام والإذاعة للهند، ثم تتلمذت على والده الشيخ عزيز الرحمن وهو أستاذ شقيقي الأكبر محمد الرابع الحسني الندوي أيضاً. كما قرأت عليه الكتبَ الابتدائية للغة الأردية والفارسية. وبعد إكمال هذه المرحلة قرأتُ الكتب البدائية على الأستاذ جميل، ثم التحقت بالمدرسة الإلهية الواقعة في مدينة راي بريلي، وكان من زملاء الدراسة فيها الأخ مصباح الدين الحسني والأخ مرتضى، وأكملت فيها المرحلة الابتدائية والثانوية. ثم التحقت بدار العلوم لندوة العلماء حيث دخلت في السنة الأولى من العالية فأكملت مرحلة العالمية ومرحلة الاختصاص في اللغة العربية وآدابها، ثم قضيت فيها سنة كمدرِّس مساعد بجنب دراسة متخصصة في الأدب العربي.
س: إن أسرتك هي أسرة عريقة في العلم والدين والفضل والصلاح. ولقد أنجبت هذه الأسرةُ أعلاماً كباراً ومشايخ نبلاء ومؤلفين وأدباء ورجال فكر ودعوة وإصلاح، فإلى مدى تأثرتَ بالجو العلمي السائد في أسرتك وكيف تأثرتَ به؟
ج: كانت جدتي من جهة الأم مربية حكيمة، تقص علينا قصصَ كبار العلماء والصلحاء في الأسرة وغيرها وتراقب على عاداتنا ونشاطاتنا مراقبة شديدة، وتنبهنا على أخطائنا، وكان بيتها ملاصقاً لبيتي ولذلك كنا تحت مراقبتها كل وقت. وكانت امرأة صالحة عابدة زاهدة، وأديبة شاعرة. وكانت تؤكّد على المحافظة على الصلاة وأدائها في مواعيدها، ولا تقبل أي تكاسل ومداهنة أو عذر في هذا الصدد، بل تؤاخذ على ذلك أشد المؤاخذة. وكانت نساء البيت يشتغلن بالمناجاة تحت إشرافها بصورة جماعية، فكان هذا الجو الديني يلعب دوراً حسناً في تكوين الذوق الديني وينشِّئُنا على حياة الصلاح والصدق والعفاف. كما كان يقرأ كتاب “صمصام الإسلام” وهو يشتمل على تاريخ الإسلام ووقائعه، فنطلع بقراءته وسماعه على التاريخ الإسلامي وتترسخ فينا عظمة التاريخ الإسلامي، وبه يتكون فينا الذوق الدعوي والإصلاحي والحركي.
وبعد ما انتقلنا إلى لكناؤ كان يُشرف على تربيتنا وتعليمنا خالي الدكتور عبد العلي الحسني الذي كان جامعاً بين العلوم الدينية والعلوم العصرية. وكان يهتم بتربيتنا ودراستنا غاية الاهتمام. وكنا نذهب إلى دار العلوم لندوة العلماء في الصباح ونقضي فيها وقت الدراسة ثم نرجع إلى بيتنا ولا يسمح لنا بأن نمكث فيها بعد انتهاء الحصص الدراسية، ونقرأ ونطالع تحت إشرافه، وكان ولده محمد الحسني زميلنا في الدراسة وصديقنا فلا يميّز بيننا بل يعتني بي اعتناءه بولده.
س: متى التحقتَ بدار العلوم لندوة العلماء، وكيف تعلمت اللغة العربية. ومن هم الأساتذة البارزون الذين تعلمتَ منهم؟
ج. التحقتُ بدار العلوم لندوة العلماء في عام 1944م قبل ثلاث سنوات من استقلال الهند. وفي ذلك الوقت كان في الصف الذي بدأتُ الدراسةَ فيه أستاذان ندويان أزهريان الشيخ محبوب الرحمن الندوي الأزهري والشيخ محمد عمران خان الندوي الأزهري، فكانا يتكلّمان باللغة العربية بلهجة عربية خالصة، وتأثرتُ بلهجتهما، ودخل في قلبي حبُ اللغة العربية. وكانا يُصرّان على أن يتكلم كل طالب باللغة العربية. وكانت الدراسة في ذلك الوقت بدون كتاب، بل كانت الدراسة مباشرةً، فكانت هناك فواكه صناعية في الصف. كان الشيخ محبوب الرحمن الأزهري يَخْرُجُ بالطلبة إلى الحديقة ويعرّف الأشياء والفواكه وما يُوجَد في تلك البيئة من الأشياء باللغة العربية، فكنا نتعلم اللغة العربية مباشرةً. وكذلك كان بجوار ندوة العلماء نهر يُعرَف بنهر “غومتي”، فكان يخرج بالطلبة إلى شاطئ النهر، ويعرِّفنا بالماء والسمك والرمل والحجارة والأشجار باللغة العربية. كنا نتعلم هذه الألفاظَ مباشرةً بدون كتاب. فهذا طريق مباشر لتعليم اللغة العربية كان في ذلك الوقت سائرا في ندوة العلماء في المرحلة الابتدائية. وكان هذا المنهج نفسه لخالي الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي أيضاً، فدخل في قلبي حُبُّ اللغة العربية بهذه الطريقة للتعليم.
س: ما هي الأوضاع الاجتماعية التي نشأتَ فيها؟
ج. كان عهد الطفولة عهد الصراع السياسي للحصول على الاستقلال من الحكم الإنجليزي، وكانت الحركات السياسية ناشطة لتحقيق هذا الغرض، وفي مقدمتها المؤتمر الوطني والعصبة الإسلامية، وكان العلماء وفي مقدمتهم المنتسبون إلى دار العلوم ديوبند، يؤيدون المؤتمر الوطني، والمتخرجون من الجامعات العصرية التي كانت تطالب بإنشاء دولة إسلامية، يؤيدون الحركة التي يقودها محمد علي جناح، ولذلك كان الصراع بين العلماء المحافظين وخريجي الجامعات العصرية. وكنت لانتمائي إلى جماعة العلماء والمدارس الإسلامية أشترك في الاجتماعات التي كانت تُعقد من قبل جمعية علماء الهند التي كان يرأسها شيخ الإسلام الشيخ حسين أحمد المدني، والاجتماعات للمؤتمر الوطني كذلك. وقد كان خالي الأكبر الدكتور عبد العلي الحسني من مستر شدي الشيخ حسين أحمد المدني، وخالي الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي من محبيه ومؤيديه، ولذلك كنت أواجه في بعض المناسبات حملة الكراهية والعداء من قبل المنتسبين إلى العصبة الإسلامية. وقد شكلتُ أنا وبعض أصدقائي جمعية للطلبة مقابل جمعية الطلبة للعصبة الإسلامية، وكنت أعقد الحفلات للدفاع عن القضية ومعارضة فكرة إنشاء باكستان، والدفاع عن العلماء.
وفي نفس العهد كانت معظم البلدان الإسلامية الأخرى تثور للتحرر من الاستعمار الغربي، وتواجه إجراءات القمع والكبت والاستبداد من نظم الحكم المحتلة، فنشأ في نفسي الامتعاض والاستنكار من الاستعمار الغربي وتصاعد إلى حد الكراهية للغرب، ثم استقلت معظم البلدان التي كانت ترزح تحت نير الاستعمار الغربي البريطاني، إلا الجزائر التي بقيت تحت الاستعمار الفرنسي، واتخذت فرنسا أقسى الإجراءات لإسكات صوت الحرية باختيار وسائل الوحشية والبربرية التي أدت إلى استشهاد مليون شخص، وكان في مقدمتهم العلماء وأصحاب الفكر الإسلامي السليم.
وبعد استقلال بعض البلدان حدثت قضية استيطان اليهود في أرض العرب فلسطين من قبل الانتداب البريطاني، ثم تمهيد الطريق لتحقيق وعد بالفور بإنشاء دولة اليهود في فلسطين في أرض العرب، وحدوث حرب بين اليهود والدول العربية المجاورة لفلسطين وخيانة الحكام العرب في ذلك الوقت إزاء التضحيات التي بذلها المجاهدون المسلمون المنتسبون إلى الإخوان المسلمين.
كان لهذه الأوضاع أثر بالغ في تشكيل ذهني، وكنت أسترشد في ذلك برأي خالي العلامة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي والأساتذة الآخرين.
س: من هي الشخصيات التي تأثرت بها وكيف استفدت منها؟
ج: من الشخصيات التي أثّرت فيّ واستفدتُ منهم شيخ الإسلام الشيخ حسين أحمد المدني الذي كان يخوض المعركة، والعالم الرباني الشيخ عبد القادر الراي فوري وكانا يشرِّفان مدينةَ لكناؤ بالقدوم إليها وكنت أستفيد من مجالسهما، والعلامة أبوالكلام آزاد الذي كان يزور ندوة العلماء وخاصة خلال وجود السيد سليمان الندوي في ندوة العلماء وكنت أقتبس الأفكار منه.
وقد استفدت من عدد من العلماء بصورة غير نظامية وبعض العلماء بصورة نظامية خلال الدراسة المنتظمة. فمن العلماء الذين استفدت منهم بصورة غير نظامية العلامة السيد سليمان الندوي الذي كان مستشاراً تعليمياً لندوة العلماء في عهد دراستي بها، وهو من أخص تلامذة العلامة شبلي النعماني. ومن العلماء الذين استفدت منهم بصورة نظامية الشيخ حليم عطاء السلوني شيخ الحديث بدار العلوم لندوة العلماء، والشيخ محمد أسباط من تلاميذ الشيخ عين القضاة، والشيخ عبد الحفيظ البلياوي صاحب مصباح اللغات، والشيخ عبد الله عباس الندوي، والشيخ محبوب الرحمن الأزهري، والشيخ محمد عمران خان الندوي الأزهري. ودرست الإنكليزية على الأستاذ عبد السميع الصديقي، والشيخ نور الحسن، والشيخ أحمد الأعظمي، والشيخ محمد إسحاق السنديلوي.
س: متى بدأتَ الوظيفة في إذاعة عموم الهند، وما هي المناصب التي شغلتَها فيها؟
ج: في عام 1953م عُيِّنت أساسياً لقراءة المواد الإذاعية التي كانت يعدها المترجمون العرب في إذاعة عموم الهند، وكان يصعب على بعضهم الحضور شخصياً لقراءتها في ساعة متأخرة في الإذاعة المسائية. ثم عُيِّنت في إدارة البرامج ومساعدة المسؤولين عنها، ثم فُوِّضت إليَّ مسؤولية استماع البرامج العربية من الإذاعات الأجنبية وتقديم ملخص هذه البرامج باللغة الإنجليزية إلى المسؤولين. وفي المرحلة الثالثة عُيِّنتُ مساعد رئيس القسم العربي. وفي المرحلة الرابعة، انتقلت إلى منصب مذيع ومترجم. وكان القسم العربي في ذلك العهد استولى عليه المذيعون المترجمون العرب الذين كانوا منتمين إلى بلدان مختلفة عربية عريقة مثل العراق وسوريا ومصر وفلسطين، وكان فيهم أدباء، وقصصيون، وكان منهم صحافيون فاستفدت من خبرتهم.
س: قضيتً 20 عاما في القسم العربي لإذاعة عموم الهند، وكتب نذر الحفيظ الندوي في مقدمة الكتاب ” إلى نظام عالمي جديد” أن التذوق الأدبي الخاص بك قد تطور خلال عملك في إذاعة عموم الهند، فأطلب منك أن تذكر بقدر من التفصيل كيف أدّت فترةُ عملك في الإذاعة دورا ملموسا في توسيع ثقافتك، وتفجير ملكتك في الصحافة العربية، وتنمية ذوقك الأدبي والتاريخي؟
ج: لما نُقلت إلى منصب المذيع والمترجم وجدت فرصةً للمطالعة والكتابة، وكنت أتردد إلى مكتبة مولانا أبي الكلام آزاد في “راج بهون” وكان مدير هذه المكتبة أحد معارفي، وكان يساعدني في المكتبة، فكنت أنتهز الفرصة بعد أداء المسؤولية الإذاعية وأقضي وقتاً في هذه المكتبة. ففي هذه المدة كانت تُتاح لي فرصة مطالعة الجرائد والمجلات العربية والكتب الفكرية في مكتبة الإذاعة التي كانت تشتمل على كتب قديمة وكتب جديدة. وكذلك استفدتُ من مكتبة الجامعة الملية الإسلامية، ومكتبة مولانا أبي الكلام آزاد، ومكتبة المدرسة المجاورة للجامع الفتحبوري التي كانت تابعة للمدرسة الإنجليزية. وعلاوة على ذلك، كانت تُتاح لي الفرصة للقاء شخصيات عالمية كانت تزور الإذاعة لإلقاء أحاديث، وكذلك كانت تتاح الفرصة لإجراء مقابلات إذاعية معها، ومنها كانت شخصيات سياسية عالمية من دول العرب. كما استفدت من مكتبة جامعة جواهر لعل نهرو، وكان فيها بعض زملائي كالدكتور منور نينار والدكتور مسعود الرحمن والدكتور محمود الحسن، وأتيحت الفرصة للاستفادة من مكتبتها وتبادل وجهات النظر مع الشخصيات العلمية والفكرية العالمية. وقد استفدت من المذيعين العرب لما أكتبها على آلة الكتابة من أحاديثهم، فهذه المطالعات والقراءات واللقاءات كانت تساعدني في تكوين الفكرة والمعرفة الحديثة والذوق الأدبي والتاريخي، كما توسعت في هذه الفترة ثقافتي الإنجليزية ومعرفتي عن سياسة الغرب وحياتهم الاجتماعية والثقافية.
س: كنتَ تكتب المقالات لجريدة ” الرائد ” أثناء عملك في الإذاعة، باسم ” محمد أبو مسعود الندوي”، ولكن عندما تركتَ الوظيفة في إذاعة عموم الهند، بدأتَ كتابة المقالات باسمك الأصلي. فهل السبب وراء ذلك القيودُ المفروضة على الموظفين الحكوميين من قبل الحكومة أو هناك سبب آخر؟
ج. أما كتابة المقالات في هذه المدة باسم “محمد أبو مسعود الندوي” فكان سببُها السبب الأول الذي ذكرتَه في سؤالك .
س: إنك تركتَ الوظيفة في إذاعة عموم الهند، وفضّلتَ عملية التدريس في دار العلوم على الوظيفة الحكومية مع أن هذه الوظيفة تدر مالا كثيرا، ما هو السبب الرئيس وراء تقديم استقالة؟
ج: السبب الرئيسي هو امتعاضي من الجو المادي الجامح في الإذاعة، والتأثر الشخصي بالشيوخ الكبار أمثال الشيخ عبد القادر الرائيبوري والشيخ محمد زكريا الكاندهلوي والشيخ محمد يوسف الكاندهلوي والشيخ إنعام الحسن الكاندهلوي. فقد كنت أزور في ذلك الوقت مركز نظام الدين وسهارنبور ورائيبور لقضاء وقت في صحبة هؤلاء المشايخ والعلماء الربانيين لتزكية النفس وتحصينها من مفاسد الجو المادي وشروره. كما أتردد إلى مركز الجماعة الإسلامية التي كان رئيسها في ذلك الوقت الشيخ أبو الليث الإصلاحي الذي درس في دار العلوم لندوة العلماء وكانت له صلة بمسئوليها. وكذلك كان خالي الشيخ أبو الحسن الندوي أحياناً يزور دلهي ويوصيني بالاستفادة من هؤلاء العلماء، فأعادت صلتي بالعلماء عاطفة دينية كامنة في نفسي وغلبتْ هذه العاطفةُ على الجوانب المادية وقبلت هذه البيئة الدينية عندما أتيحت لي الفرصة لقضاء فترة في دار العلوم لندوة العلماء في غياب أخي الأكبر الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي لأداء الحج، وأُسند إليَّ تدريس المواد التي كان يدرِّسها. وفي هذه المدة، وجدتُ بيئةً صالحةً في ندوة العلماء واستشرت الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي فأمرني بترك الإذاعة والانتقال إلى جو ديني، وقبلتُ هذا الأمر بدون استشارة أحد، وقدَّمتُ الاستقالة، فأثارت الاستقالةُ قضيةً في الإذاعة، ولم تقبل إلا بعد أشهر، لأن المسؤولين كانوا استغربوا لهذا الأمر، فقاموا بتحقيق لمعرفة خلفيات الاستقالة ولم يقبلوا إلا بعد أن صرحت لهم شخصياً أني قد اتخذت هذا الإجراء إيثاراً وتضحية لا لمنفعة مادية.
س: ما هي المناصب التي شغلتَها في دار العلوم لندوة العلماء؟
ج: أولاً أُسند إلي تدريس المواد الأدبية، ثم شغلت منصب مدير المعهد العالي للدعوة والفكر الإسلامي الذي أنشأه سماحة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي، ثم عميد كلية اللغة العربية وآدابها، وأخيراً رئيس الشؤون التعليمية لندوة العلماء.
س: تشغلُ منصبَ رئاسة الشؤون التعليمية لندوة العلماء، فهل أنت تشعر بأن هناك حاجة ملحة إلى إدخال إصلاحات وتعديلات في المقررات الدراسية القائمة منذ تأسيس ندوة العلماء؟
ج: لاشك في ذلك، وقد أدخلت بعد التحاقي بهذه الدار عدة مواد دراسية لم تكن من المقررات الدراسية التعليمية التقليدية، لكنها من المقررات الدراسية في الجامعات العصرية، كالأدب العربي الحديث، والفكر الإسلامي، والغزو الفكري، والنقد الأدبي، وعلم الاجتماع، وعلم النفس في المراحل الأخيرة بتأييد سماحة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي وشقيقي الأكبر الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي، وهذا من اختصاص ندوة العلماء بالنسبة إلى المدارس الدينية. وأما المواد الدينية فلا تقل في حجمها عن المدارس الدينية، ويشعر المسؤولون عن الإدارة بضرورة إدخال المواد الجديدة. وأما المواد العصرية الشائعة في المدارس العلمانية فهي مسئلة تحت البحث والدراسة، وعُقدت عدةُ مؤتمرات لدراسة هذا الموضوع ومنهج تطبيق الجمع بين الموضوعين، وأخيراً قد فُتح قسم جديد لدراسة اللغة الإنجليزية.
س: تحظى مقالاتك تحت” صور وأوضاع ” بشعبية أكبر، ويقرأها كل من له شغف بالأوضاع الراهنة، لما فيها من تحليل الأوضاع الراهنة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، وتعالج فيها الأفكار الغربية، وفلسفتها المادية دراسة وتحليلا. فما هي الأمور التي تميّز أسلوبَك وكتاباتك عن أساليب الآخرين وكتاباتهم، هل السبب وراء ذلك هو قدرتك الفائقة على اللغة الإنجليزية حيث تقرأ الجرائد والصحف والمجلات وتطالع الكتب الإنجليزية وتستفيد منها مباشرة؟
ج: أنا أحاول دائماً أن أقدم فكرة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي والفكر الإسلامي الحديث، ثم أستفيد من مطالعة الصحف والجرائد والمجلات العربية والإنجليزية والمعالجات للقضايا الإسلامية وأوضاع المسلمين في العالم كله. وقد استفدت من الكتب الإنجليزية للمفكرين كالسيدة مريم جميلة والدكتور محمد أسد وغيرهما بسبب معرفتي للغة الإنجليزية فاستفدت منها مباشرة. وأحاول أن أستخدم لغة صحفية، وأتابع الأسلوب التحليلي الحديث وذلك من توفيق الله وفضله على هذا العبد الفقير، وأما رأي القراء فهو يقوم على حسن الظن وأنا لا أستحق ذلك.
س: هذه حقيقة أن دار العلوم لندوة العلماء أنجبت العديد من الصحفيين، لكن في القرن الحادي والعشرين، يبدو أن الجو التعليمي في دار العلوم قد فشل في إنجاب صحفيين، وفي تربية الجيل الجديد في مجال الصحافة؟ بينما تتقدم المدارس الأخرى نحو الأمام في هذا المجال؟.
ج: لاشك في ذلك، فقد تغير الجو في المدارس الإسلامية، وقد بدأت المؤسسات الدينية الإسلامية الجديدة تصدر مجلات عربية، وذلك بفضل الاستفادة من المدارس العربية في البلدان العربية كمصر والسعودية، والاستفادة من زيارة العلماء والمدرسين من البلدان العربية. وأما ندوة العلماء ففيها قسم خاص للصحافة وهي تواصل جهدها في هذا المجال، وقد أصبحت مجلة “البعث الإسلامي” التي يرأسها الدكتور سعيد الأعظمي الندوي والتي أنشأها المرحوم محمد الحسني، مدرسة بنفسها، وأعتقد أن هذه المجلة لها مستوى رفيع وتشتمل على بحوث وتحقيقات يكتبها دارسو الجامعات العصرية والمدارس العربية، ولها دور في خدمة اللغة العربية والدعوة الإسلامية في الهند، ويستفيد منها الناس في المدارس الإسلامية والعربية. وأما صحيفة “الرائد” فهي وصلة بين الصحافة الهندية والصحافة العربية، وقد تخرج من مدرسة الرائد عدد من الصحفيين يقدِّمون خدماتهم في هذا المجال.
س: كيف تنظر إلى فن الصحافة؟ وما هي الفروق الواضحة التي تلاحظها بين الصحافة في الماضي والصحافة في الحاضر؟.
ج: إن وجود وسائل الإعلام الحديث والتواصل الاجتماعي قد قلل من أهمية الصحف لأن وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي تحمل مفاجأة، والصحف تستغرق أربع ساعة، فالناس يستفيدون من وسائل الإعلام الحديث، ولكن الصحافة لم تفقد أهميتها، لأنها تبقى محفوظة وتصبح مرجعاً للمواد التاريخية وتبقى إفاديتها في المستقبل.
س: ما رأيك في رفع مكانة الصحافة العربية؟
ج: لابد من رفع مكانة الصحافة العربية من التحرر من استيلاء الإعلام الغربي وإيجاد مصادر حرة لانتقاء الأخبار وبثها، وإيجاد الشعور الإسلامي في الصحافة العربية وتوفير الوسائل المادية التي تفتقر إليها، وتمثيل المشاعر الإسلامية.
س: أخيراً ألتمس منك أن تتقدم بكلمات لخريجي المدارس الدينية الذين يلتحقون بالجامعات العصرية بهدف مواصلة الدراسات العليا، تمهّد الطريق إلى مستقبلهم المشرق ونجاحهم في الدنيا والآخرة، وذلك في ضوء تجاربك من الحياة؟.
ج: النصيحة الأولى المخلصة أن يحتفظ خريجو المدارس الدينية الدارسون في الجامعات العصرية بشخصيتهم الدينية وميزتهم الإسلامية، ولا يتطرق إليهم مركب النقص بالنسبة إلى عهدهم الماضي، وأن يصبحوا دعاةً يستفيدون من العلوم الجديدة لخدمة وطنهم وأمتهم.
في النهاية، أتقدم بكلمات الشكر والامتنان إليك على منح هذه الفرصة السعيدة لإجراء هذا الحوار المفعم بالمعلومات القيمة عن جوانب مختلفة من حياتك، والآراء المفيدة.
*الباحث في الدكتوراه، مركز الدراسات العربية والإفريقية، جامعة جواهر لال نهرو، نيو دلهي، الهند
(مع الشكر للأخ محمد محبوب عالم، ومجلة الجيل الجديد )
Leave a Reply