إن الرحلة ضرورة إنسانية لا غني عنها للبشر، وهي قديمة قدم الإنسان نفسه، وجوهرها التنقل والحركة، ولذا نرى الإنسان أنه منذ أن وضع قدمه على ظهر هذه البسيطة “يحاول اكتشاف ما يحيط به من أسرارها بقصد التعرف والسيطرة على ما يكتنفه من الحياة في رحلة مستمرة،”[1] وذلك لأن التنقل ديدن الإنسان أيا كان جنسه وعصره، والإنسان -كما يقول شوقي ضيف- “وُلد راحلا وإن أعجزته الرحلة تخيل رحلات غير محسوسة في عالم الخيال.”[2]
وهناك أنواع مختلفة للرحلات التي اختلفت غاياتها وفق دوافع أصحابها، وقد تمت فعلا في حيّز الزمان والمكان، فأنتجت مادة دسمة ذات طبيعة جغرافية وإنسانية، بها الكثير من الغنى والثراء من النواحي الثقافية والأدبية والعلمية،
وقد عُرفت هذه الرحلات في العصر الحديث “بأدب الرحلة”
ومما لاشك فيه أن أصالة الرحلة في المجتمع العربي مسلم من المسلمات التي شهد عليها القرآن الكريم ووفرت لها السند نصوص الشعر الجاهلي وكتب اللغة، يقول الله سبحانه وتعالى “لإيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.[3]
ولايخفى على أهل العلم أن العرب كان لهم باع طويل وحضور مميّز في مجال الرحلات، البرية منها والبحرية، وكانوا قوماً رحّلاً منذ آلاف السنين بحكم طبيعة الحياة في شبه الجزيرة العربية،
وقد قسم الدكتور محمد الفاسي الرحلة بعصورها المختلفة ودوافعها المتعددة إلى خمسة عشر نوعا، وأورد الرحلات الحجازية قبل كل نوع من هذه الأنواع، نظرا لأهميتها البالغة ومكانتها السامية.[4]
ومن هذا المنطلق نرى عددا كبيرا من الأدباء والشعراء من مختلف بقاع المعمورة، الذين اعتنوا بتسجيل رحلاتهم إلى البلاد المقدسة ولا سيما الحرمين الشريفين اعتناءا بالغا، وذكروا خواطرهم وانطباعاتهم وكل ما جاش في صدورهم بلغة الحب والهيام وبشتى أساليب التعبير والبيان، وهى بكثرة كاثرة وعدد لا يأتي عليه الحصر، وهى توجد في مختلف لغات العالم، وتختلف مناهج كتابها في طرق التعبير وأوجه الأداء الفني، ومن أشهر هذه الرحلات رحلات الأستاذ عبد الوهاب عزام، ورحلة محمد شفيق أفندي، ورحلة أحمد حسين بعنوان “مشاهداتي في جزيرة العرب”، ورحلة محمد حسين هيكل بعنوان “في منزل الوحي” ورحلة علي الطنطاوي “من نفحات الحرم” ورحلة محمد الأمين الشنقيطي، ورحلة عائشة بنت الشاطئ “أرض المعجزات” و”رحلة الحجاز” للأديب الشهير إبراهيم عبد القادر المازني، ورحلة الأستاذ عباس محمود العقاد، ورحلة الدكتور محمد رجب البيومي، ورحلة الكاتب يوسف إدريس “إسلام بلا ضفاف “ورحلة العلامة أبو الحسن علي الندوي وغيرهم .
الرحلات الحجازية ومناهج كتابها في العصر الحديث:
ومن هذا القبيل كتاب العلامة محمد واضح رشيد الحسني الندوي الذي نحن بصدده في هذا المقال فقد جمع الأستاذ بعض النماذج الرائعة للرحلات الحجازية واستعرض بعض المناهج المهمة التي اتخذها أصحابها في تدوين رحلاتهم كما يقول: “تختلف مناهج الكتاب في وصف الرحلة الحجازية باختلاف طبائعهم وثقافتهم، فيغلب على بعض الرحلات الطابع الجغرافي، إذا كان الكاتب مهتما بجغرافية الأماكن التي زارها، ولا يطغى ذلك على العنصر الفني، لأن الرحلة عندما تنقله إلى الأماكن المقدسة التي يشتاق إليها، وكان حريصا على زيارتها منذ مدة إذا وقع بصره عليها فاضت قريحته، وثارت الأشجان والأشواق، فتصبح هذه القطعة أدبية خالصة.”[5]
ويقول الأستاذ محمد الرابع الحسني الندوي في تقديمه لهذا الكتاب:
” إنه اختار نماذج رائعة وبخاصة من أدب الرحلات الحجازية لشخصيات نابهة في الأدب والثقافة من الكتاب العرب، وكان اختياره موفقا لكونه مقتبسا مما كتبه أصحاب التعبير الفني الجميل…وكان استعراضه لهذه الأحوال المسجلة في كتب الرحلات مع تعليقاته المؤثرة كذلك، فإنه يوضح به روح الانطباعات والتأثر الخفية، وبذلك زاد عرضه للأحوال المذكورة في كتابه قوة وتأثيرا للموضوع.”[6]
كتب الأستاذ محمد واضح رشيد الندوي حول موضوعات شتى، من الفكر، والدعوة، والتعليم والتربية، والصحافة، والإعلام، والأدب العربي، والتاريخ، والسيرة، والغزو الفكري، والعولمة وغيرها، وهو عالم مخضرم يجمع بين الأصالة والمعاصرة ويتحلى بفراسة الإعلامي المؤمن، فيحلل القضايا العالمية والموضوعات الصعبة بقدرة وحرفية يقل نظيرها لدى كثير من كتاب عصره.
أما مساهمته في مجال أدب الرحلة فلا نكاد نعثر عليها إلا من خلال هذا الكتاب الصغير الحجم، ولكنه يجمع في طياته فؤائد علمية وأدبية وثقافية لا يستهان بقدرها وقيمتها. إنه كتب هذا الكتاب أولا في صورة مقال بعنوان “الرحلات الحجازية في منظور التحديات الجديدة” لكي يقدمها في ندوة علمية أدبية عقدت تحت ظل رابطة الأدب الإسلامي العالمية في لاهور بباكستان عام 1997م، وكانت المقالة مشتملة على نماذج خمسة كتاب، وهم علي الطنطاوي وأبوالحسن علي الندوي، ومحمد الأمين الشنقيطي، ومحمد حسين هيكل، والدكتور محمد إقبال رحمهم الله.[7]
ظلت هذه المقالة في غمار الكتب والمقالات حتى أخرجها تلميذه البار محمد وثيق الندوي وراجعتها، وحققها، وأضاف إليها نماذج أخرى مما كتبه الأدباء والشعراء في العصر الحديث، وهم محمد رشيد رضا المصري، وشكيب أرسلان، وعبد الوهاب عزام، وعباس محمود العقاد، وأحمد حسن الزيات، ويوسف إدريس، وعائشة بنت الشاطئ، ومحمود غنيم، وعمر بهاءالدين الأميري، وأحمد شوقي، ومحمد الرابع الحسني الندوي، فجاء هذا الكتاب مسلطا الضوء على النماذج المتنوعة للرحلات الحجازية التي أنتجها هؤلاء الكتاب والشعراء في العصر الحديث، والتي تستحق أن تُضم إلى حقل أدب الرحلة نظرا إلي مضامينها الهامة، اللهم إلا بعض المحتويات من الكتاب، فإنه لا يمكن إدخاله تحت مصطلح أدب الرحلة، ذلك لأن أدب الرحلة قد صار له حقل خاص به في هذا العصر، وله أسسه وقواعده المحددة من قبل الأدباء والنقاد، وتعريفه يخرج الرحلة الخيالية من دائرة أدب الرحلة، كما يقول أحد المتخصصين في أدب الرحلة معرفا: “إنه الكتابة الأدبية عن رحلة واقعية”[8]
ومن اللافت للنظرأن لفظة “الواقعية” ستخرج كثيرا من الرحلات الخيالية من دائرة أدب الرحلة، فرسالة الغفران لأبي العلاء المعري، والقوابع والزوابع لابن شهيد الأندلسي لا يندرجان تحت أدب الرحلة، وإن كانت لهما صلة بالرحلة، ومن هذا القبيل رحلة الدكتور محمد إقبال رحمه الله، فإنها خيالية لا واقعية.
ومما لا شك فيه أن الرحلة الحجازية نوع من أنواع أدب الرحلة، وهي الرحلة التي يصف فيها الكاتب سفره من بلده إلى البلاد المقدسة، ويسجل فيها انطباعاته وخواطره وكل ما شاهده وجربه في رحلته، ويصور المناظر والأحداث بما يمتلك من قدرة بيانية وأسلوب أدبي جميل مما يجعل المتلقي يستمتع به وينساق له شوقا وفرحا، ومعلوم أن كل أديب له أسلوبه ومنهجه الذي يميزه من بين أقرانه، وذلك لاختلاف طبيعة الكاتب وثقافته وبيئته ومجتمعه.
ولقد أحسن الأستاذ محمد واضح الندوي إذ وفق إلى تأليف هذا الكتاب المسمى ” بالرحلات الحجازية ومناهج كتابها في العصر الحديث” و استعرض فيه استعراضا موجزا مناهج بعض كتاب العصر الحديث وكيفية تعاملهم مع أدب الرحلة الحجازية.
استهل الأستاذ الندوي كتابه هذا متحدثا عن الرحلة ومكا نتها لدى العرب وسلط الضوء بإيجاز على تاريخ الرحلة وأصالتها في المجتمع العربي ثم قام بتقديم نموذج العرض الفني الوجداني وقد اختاره من كتاب “نفحات الحرم” للأستاذ علي الطنطاوي فيقول:
”نقدم أولا نموذج العرض الفني الوجداني، وقد اخترناه من كتاب “نفحات الحرم” للأديب الكبير الأستاذ علي الطنطاوي (1909م-1999م) وهو يصف حالته برؤية جبال المدينة، ونجد فيها كيف انتقل من حالة عادية إلى حالة عاطفية”[9] والحق أن الطنطاوي”تصنف كتابته الرحلية ضمن أسلوب السهل الممتنع.”[10]
ثم يقدم نموذجا للإمام أبوالحسن علي الندوي من كتابه “الطريق إلى المدينة” يصف فيه حبه وأشواقه بأسلوب أدبي جميل، يستهوي القلوب، فيهتز له القارئ فرحا كما تهتز تحت البارد الغصن الرطب.
ثم يورد الأستاذ محمد واضح الندوي نموذج رحلة قام بها أديب محقق يركز على النقط العلمية ومواضع الاختلاف وآراء العلماءوالأدباء فيها، أعني به الأستاذ محمد الأمين الشنقيطي، فقد تميزت رحلته بالمباحث الفقهية واللغوية والبلاغية، وهي أقرب إلى المجالس العلمية ،كما قد أشار إليه الأستاذ الندوي.[11]
ويورد الأستاذ محمد واضح رحلة محمد حسين هيكل إلى الديار المقدسة كنموذج فريد للوصف الأدبي البليغ الذي يأسر القلوب وتعشقه النفوس، لما قد تضمنت كتابته روائع الوصف والصور الفنية البديعة للأماكن والمشاهد.[12]
هذا، والكتاب يتحدث عن شتى نماذج الرحلات الحجازية، وقد استطاع المرتب أن يضيفها إلى عمل الأستاذ محمد واضح الندوي بحيث تفي بالغرض المنشود. والكتاب يدل على تذوق الأستاذ محمد واضح رشيد للأدب العربي بكل أصنافه وجميع فئاته، ومن ضمنها أدب الرحلة الذي صار له حقله الخاص في العصر الحديث، وهو بذلك يستحق الثناء والذكر الجميل على ما قدمه من أعمال مشرقة في حقل الأدب العربي.
الهوامش:
[1] حسني محمود حسين، أدب الرحلة عند العرب، ص 5.
[2] شوقي ضيف ، الرحلات ، ص 7
[3] سورة قريش
[4] ناصر عبدالرزاق الموافي،الرحلة في الأدب العربي ،ص 32
[5] الندوي، محمد واضح رشيد ، الرحلات الحجازية ، ص 19.
[6] المصدر السابق، ص 14.
[7] نفس المصدر السابق، ص 10.
[8] عبد الله حامد، أدب الرحلة في المملكة العربية السعودية، ص5.
[9] الندوي، محمد واضح رشيد ، الرحلات الحجازية ، ص20.
[10] عبد الله حامد، أدب الرحلة في المملكة العربية السعودية، ص177.
[11] الندوي، محمد واضح رشيد ، الرحلات الحجازية ، ص 28.
[12] نفس المصدر، ص 35
*الباحث في الدكتوراه، قسم اللغة العربية وآدابها، جامعة لكناؤ،الهند
Leave a Reply