المدخل:
شهد الخليج العربي كثيرا من التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ومر بمراحل عديدة بعد الحرب العالمية الثانية التي اهتم بها الباحثون والأدباء العرب في دراساتهم العلمية وأعمالهم الأدبية. ويعد عبد الرحمن منيف من أبرز هؤلاء العباقرة الذين بذلوا قصارى جهودهم في إبداع الرواية العربية الحديثة من حيث الفن والموضوع ونالوا شهرتهم العالمية في نهاية القرن العشرين. ويتفرد هذا الأديب عن هؤلاء الأدباء بالتعامل مع موضوع النفط في مؤلفاته الأدبية.
كان عبد الرحمن منيف ناشطا ومفكرا سياسيا وخبيرا اقتصاديا وصحفيا صادقا وأمينا ومحبا للفن التشكيلي وروائيا عربيا وكاتب قصص قصيرة وسيرة ذاتية. بدأ الروائي الكبير حياته الأدبية بعد أن بلغ أربعين سنة من عمره حيث أنه أصدر روايته الأولى “الأشجار واغتيال مرزوق” عام 1973م. وكتب 11 رواية بما فيها خماسية “مدن الملح“، و“أرض السواد” في ثلثة أجزاء.
تمت ترجمة أعماله الرائعة إلى اللغات الأجنبية العديدة وأدرجت أعماله في برامج التعليم بجامعات أوربا وأمريكا ووافقت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) على ترجمة أعماله إلى أكثر من 15 لغة أجنبية.(1)
فهو كاتب عربي من جمع بين الإبداع والالتزام، وتضمن السيرة الفردية والسيرة الجماعية وسيرة المكان الطويل والأمكنة الضيقة والمغتضبة وسيرة الزمن العربي الحديث، وأدرج الحكاية في البنية الروائية وهو يمزج بين المتخيل الطليق والتوثيق التاريخي. وأعطى لهذه كلها أشكالها الفنية الموافقة لها. وهي اقتراح مفتوح للرواية العربية.(2) ولذا حاز على “جائزة تيسير سبول الدولية” التي تنتمي إلى الشاعر الأردني “تيسير سبول“(1939م-1973م) عام 1986م للرواية العربية. ونال جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في الحقل الثاني للرواية مع الكاتب المسرحي ألفريد فرج(1929م-2005م) في دورتها الثانية عام 1990م-1991م. وحصل على جائزة ملتقى القاهرة للإبداع الروائي في دورته الأولى عام 1998م.
نبذة عن الروائي:
ولد عبد الرحمن إبراهيم منيف في عمان عام 1933م من أب سعودي وأم عراقية. كان أبوه ينتقل من نجد إلى العراق وسورية والأردن بحثا عن الرزق. ومات في إحدى هذه الرحلات ولم يبلغ منيف ثلثة من عمره.(3) تمت تربيته تحت إشراف جدته. ما زال منيف ينتقل من مكتب إلى أخر حتى التحق بالمدرسة الحكومية وأنهى دراسته الثانوية منها ثم غادر إلى العراق والتحق بكلية الحقوق ببغداد لكنه طرد منها قبل أن تنتهي دراسته بجماعة من المواطنين الآخرين الذين شاركوا في احتجاج ضد “حلف بغداد” عام 1955م. فذهب إلى مصر وواصل دراسته حيث تخرج من جامعة القاهرة في الحقوق. ثم انتقل إلى يوغسلافيا على المنحة الدراسية لحزب البعث. وواصل دراسته منذ عام 1958م إلى 1961م. ونال درجة العالمية “الدكتوراه” في اقتصاديات النفط بجامعة بلغراد. وبدأ يعمل في مكتب حزب البعث الرئيسي في بيروت بعد عودته من يوغسلافية. وخلال هذه الأيام حوكم عليه أن لا يدخل في العراق لانتقاده حزب البعث وسحب منه جنسيته المملكة العربية السعودية عام 1963م لأفكاره السياسية ضدها. فغادر إلى سوريا والتحق بوزارة النفط وعمل فيها حتى نهاية عام 1974م.(4) ثم مارس حياته المهنية في الصحافة وعمل في مجلة “البلاغ” الصادرة من لبنان، وتولى منصب رئيس التحرير في مجلة “النفط والتنمية” الصادرة من العراق. وفي عام 1981م تفرغ منيف نفسه كاملا لكتابة الرواية ووصل إلى فرنسا. ومكث هناك سنوات عديدة ثم رجع إلى دمشق وكرس حياته لكتابة الرواية حتى توفى 23 يناير 2004م بسوريا.
قضية النفط في روايات عبد الرحمن منيف:
قد اختار عبد الرحمن منيف منهجا حديثا وموضوعا جديدا وفكرا رائعا في سرد الرواية العربية. وعالج في رواياته قضايا اجتماعية واقتصادية وسياسية. وركز على المجتمع الصحراوي وكشف عن المشكلات والهمموم والمعاناة والأحزان والأفراح وطريقة المعيشة والممارسات الاجتماعية وما إلى ذلك. وكتب تاريخ المجهولين الذين لم يكتب عنهم أحد. وقدم معاناة العرب ومشكلاتهم في المنفى وفي مستشفيات المنفى بشكل خاص. وكشف عن الظلم والقسوة والعنف التي تمارسها السلطات العربية في السجن. وأشار إلى مشكلات حياة العرب في البلدان الغربية. وتناول قضية النفط وآثاره على المجتمع العربي بشكل خاص.
يتفرد الروائي الكبير باستخدام قضية النفط في رواياته. فكان خبيرا في اقتصاديات النفط وكان لديه متسع الخبرة في هذا المجال. وكان يعتقد أن الكثيرين الذين يكتبون في البلاد العربية ليست لهم علاقة مهنية بالدراسات وليس من الشرط أن يكون الأديب خريج كلية الآداب، وتحديدا اللغة العربية، لكن يحدث أحيانا تطابق بالصدفة بين المهنة والهواية فيظهر الفن الرائع. وهذا ما وقع به.(5)
فقد بدأ معالجة قضية النفط اولا في رواية “سباق المسافات الطويلة“. وهي تسرد قصة دخول الإمبراطورية البريطانيا العظمى والولايات المتحدة الأمريكية في إيران لتأميم صناعة النفط. فيتخاصمان كلاهما للحصول على أكثر الثروات الشرقية. تدور هذه الرواية حول صعود حكومة مصدق وسقوطها (1951م-1953م).
وكان يعتقد أن اكتشاف الثروة النفطية أمرا مهما في البلاد العربية. وكان لها دور كبير في تغيير شكل المنطقة وطبيعة العلاقات. وتوجد تأثيراتها وانعكاساتها على المجتمع العربي بشكل كبير. ولا بد من التعامل معها من خلال الرواية. فأصدر روايته الرئيسية الشهيرة خماسية “مدن الملح“.
التعريف برواية خماسية مدن الملح:
أصدر عبد الرحمن منيف روايته الرئيسية “مدن الملح” في خمسة أجزاء. وهي: “التيه” (1984م)، و“الأخدود” (1985م)، و“تقاسيم الليل والنهار” (1989م)، و“المنبت” (1989م)، و“بادية الظلمات” (1989م). تحتوي هذه الرواية على حوالى 2500 صفحة. أصدرت المؤسسة العربية للدراسات والنشر، والمركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع طبعتها الثالثة عشرة بالاشتراك مع دار التنوير للنشر والتوزيع عام 2012م ببيروت. هي رواية ملحمية تغطي السياسة العربية لسبعة عقود منذ صعود السلطان “خريبط” إلى السلطة عام 1902م حتى وفاة السلطان “فنر” عام 1975م. تكشف هذه الرواية عن الحياة البدوية في الصحراء وتسلط الضوء على ما يدور في القصر. وتركز على اكتشاف النفط وآثاره على المجتمع العربي.
ملخص الرواية:
يسرد الجزء الأول قصة آثار اكتشاف النفط على المجتمع العربي ويعرض حياة البادية البسيطة بكل تفاصيلها في المنطقة إسمها “وادي العيون“. وهنا تظهر فجأة جماعة من الأمريكيين وهي تحمل معها توصية قوية من قبل الأمير المحلي. وبدأت الجماعة تتجول في البادية وهي تبحث عن شيء مهم ما لم تفسره للشعب البدوي قط. تتحرك الرواية إلى بلدة “حران” أينما يحتاج الأمريكيون إلى بناء الميناء ومد خط أنانيب إلى الآبار التي حفروها. وهنا يبدأ استغلال الشعب البدوي ليكونوا عمال البناء. فتبدأ الانتفاضة الأولى من قبل أهل “حران” ضد الشركة الأمريكية وسلطة الإمارة. تشتد هذه الانتفاضة وتعجز الشرطة عن إقماعها.
وفي الجزء الثاني أصبح “خزعل” سلطانا بعد أن توفي السلطان “خريبط“. فهو يدغق المال والعطاء على إخوانه ليمكن له أن ينشأ الدولة الجديدة من الثروة النفطية لكن بعضهم لم يأخذوا منها شيئا. وتبدأ حركة مناوأة لحكم الأمير خزعل من قبل إخوانه ثم من قبل أناس فقراء.
وفي الجزء الثالث تتحدث الرواية عن الصراع السياسي في مدينة موران قبل مجيئة الأمريكيين في الوادي وتحكي قصة وصول السلطان “خريبط” إلى السلطة. تكشف عن الظلم والعنف والقسوة التي كانت تمارس في القصر خاصة بالنساء. وتصف بما كان يدور في داخل القصر بين زوجات السلطان أيضا.
وتدور القصة في الجزء الرابع خارج البلد في ألمانيا أينما وصل السلطان لقضاء شهر العسل مع سلمى بنت الحكيم صبحي المحملجي وتوفى هنا معزولا عن السلطة.
تظهر آثار النفط بشكل واسع في الجزء الخامس. فنجد فيه أن الدولة الجديدة تتكون وتظهر الفوارق الطبقية بين الفقراء والأغنياء. وتتغير حياتهم الاجتماعية في مدينة “موران“. فكان هذا المجتمع بسيطا يعيش على الكفاف من قبل لكنه بدأ يعيش في المدينة بمشاكلها وتعقيداتها.
النفط والرحلة من البدواة إلى الحضارة:
يقول عبد الرحمن منيف عن مدن الملح:
“أقدر أنّ الرواية يمكن أن تضيف جوانب معينة في وضع الشرق الأوسط ومناخه وبالتالي همومه. ومما لا شك فيه أن الحافز الأساسي لدي لكتابة هذه الرواية، كان الإحساس بأن موضوع النفط بحاجة إلى معالجة وإلى معرفة التأثيرات الكبيرة التي حصلت نتيجة وجود هذه الثروة التي لم يُحسن التعامل معها. ومن البديهي أن إلقاء الأضواء على جزء من ماضي هذه المنطقة سيساعد في قراءة الواقع الراهن ومعرفة هذا الغليان أو هذا الوضع الاستثنائي المتفجر. ولعل السعودية هي إحدى هذه المناطق التي هي بحاجة إلى إعادة نظر.“(6)
ولذا تناول منيف في هذه الرواية آثار اكتشاف النفط على المجتمع العربي. وكتب أن هذه الثروة أتت بنفسها كثيرا من الأشياء النافعة وسيطرت على حرية المجتمع العربي. وكان هذا المجتمع يعيش حياة بسيطة ساذجة. وكان يعتمد على الزراعة، وتربية الحيوانات، والصيد، والتجارة مع القوافل للمعيشة. وكان يحب الحرية والوفاء مع الأسرة والقبيلة. وكانت طبيعة العرب والبدو بشكل خاص تتصف بالقيم العصبية والقيم الفروسية والقيم الضيافة والقيم الفردية والقيم المعيشة. فالبدو يواجهون تحديات الصحراء ومخاطرها لتأمين المعيشة والرزق ويبذلون قصارى جهودهم بالمعاونة مع الآخرين للدفاع عن أنفسهم وللمحافظة على آثارهم من الحسب والنسب، وطاعة الأهل والكبار، ونصرة القريب، والمساواة بين أفراد القبيلة.(7) وقد فقد المجتمع العربي أكثر من خصائصها التي يفتخر بها بعد اكتشاف النفط بدلا من الثروة النفطية.
قدم منيف في هذه الرواية أن الأمريكيين أتوا بالمخترعات الحديثة في هذه الرحلة إلى العالم العربي لاكتشاف النفظ. وتسلط الرواية الضوء الكامل على أن البدويين سحروا بالاختراعات العلمية والتقنية حينما شاهدوها وشعروا أن الأمريكيين لا ينتمون بهذه الكرة الأرضية. فنجد أن أهل الوادي بهتوا حينما رأوا “المولد الكهربائي“. وسيطر الخوف على “متعب الهذال” حينما شاهد هذا الجهاز وصرخ ليتغلب عليه قائلا: “ــ ارجعوا يا أهل وادي العيون.. إذا لم ترجعوا حرقتكم النار وما بقي منكم أثر.”(8) وقال بعد أن شاهد الأجهزة الأخري التي تم استخدامها من قبل الأمريكيين لاكتشاف النفط: “يقولون: يوم القيامة؟ اليوم هو يوم القيامة. يقولون: إذا مشى الحديد على الحديد؟ اليوم رأيت الحديد يمشي على الحديد!”(9) واستبد بالسلطان ورفقائه الخوف الشديد بعد أن ركبوا على الباخرة للجولة القصيرة في البحر. وهكذا بحروا بالأصوات والأغاني التي تنشر على “الراديو“. وكان أهل وادي العيون يخافون من الآلات الحديثة للأمريكيين. حين ترفع صوت الآلات يتوهمون أن باب الجهنم سيفتح ويبتلعهم.(10)
ذكر الأديب أن الأمير الجديد وابن الراشد حينما ركبا اول مرة على الباخرة كانا متخوفين وقال الأمير: “ما قولك يا ابن الراشد لو نرجع ونموت بديرتنا.. ما هو أخير؟” ولما دار المركب متجاوزا الخليج على عرض البحر فقد أصبح الأمر أكثر من أن يحتمله الرجال قال الأمير مخاطبا نعيم بحزم: “قل لجماعتك.. هذا الكثر يكفينا، والأخير أن نرجع.”(11) وكذلك اندهش الناس حين شاهدوا السيارة وقالوا إن الصندوق الحديدي الذي جاء به مدير الشركة يمشي بسرعة دون أن يدفعه أحد، دون أن يجره أحد. ويدخل فيه اثنين أو ثلثة من الأمريكين.(12)
كان المجتمع العربي يعيش حياة بسيطة ساذجة أينما لا توجد هذه المخترعات حتى الملوك الصغار لا يملكون هذه الأجهزة الحديثة. وكانوا يعتمدون على الزراعة ورعاية الحيوانات والصيد والتجارة مع القوافل للمعيشة. وكانوا يحبون الحرية والوفاء مع الأسرة والقبيلة. وتغيرت هذه الأوضاع بعد مجيئة الأمريكيين حيث بدأت الدولة الجديدة تنشئ وتتكون. ذكر منيف أن العمال في مدينة حران العرب كانوا يعيشون 20-25 رجلا في بركس واحد. وكان البركس مملوء بالحرارة ورائحة كريهة حيث يصعب السكن فيه. وعكس ذلك كان بركس الأمريكيين مضيئة لامعة مريحة وتوجد فيه الأشياءاللازمة كلها. وكان العرب يهربون من البركس بل من هذه الحياة في حران وفي الليل يلتجأون إلى الغناء من أجل أن يخففوا عن أنفسهم هذه المشاكل. قال ابن الزامل: “يا جماعة.. إذا سكتنا مثل ما يموت فأر السحر، وما دام الموت هو الأول والأخير فالموت عند الأهل أخير من الموت بين العفاريت الزرق.”(13)
وقدم منيف فيها أن شعلان ابن متعب الهذال طلب من أخويه فواز وصويلح أن يصلا إليه في المعسكر الأمريكي. ووصلا هناك وشاهدا الحياة التي يعيشها الناس فاستغربا كثيرا لأنه بدا لهما أن كل واحد من هؤلاء يعيش بمفرده، وليس له صلة، من أي نوع بالآخرين.(14)
كتب الروائي عن حياة العرب قبل مجيئة الأمريكيين وبعدها في مدينة حران التي انقسمت إلى المعسكر الأمريكي والمعسكر العربي، بهذه العبارة:
“في وقت من الأوقات كانت حران مدينة الصيادين والمسافرين العائدين، أما الآن فلم تعد مدينة لأحد، أصبح الناس فيها بلا ملامح، انهم كل الاجناس ولا جنس لهم. انهم كل البشر ولا انسان. اللغات الى جانب اللهجات والألوان والديانات. الاموال فيها وتحتها لا تشبه أية أموال أخرى، ومع ذلك لا أحد غنيا أو يمكن أن يكون كذلك. كل من فيها يركض، لكن لا احد يعرف الى اين او الى متى. تشبه خلية النحل وتشبه المقبرة. حتى التحية فيها لا تشبه التحية في اي مكان آخر، اذ ما يكاد الرجل يلقي السلام حتى يتفرس في الوجوه التي تتطلع اليه، وقد امتلأ خوفا من ان يقع شيء ما بين السلام ورد السلام!”(15)
قد أدت هذه الثروة النفطية دورا بارزا في تكوين المجتمع الجديد أينما لا توجد الملامح العربية التي تفتخر بها العرب في العالم. ومنها أنهم كانوا يهتمون بإخفاء أسماء النساء ولا يخبرونها أحدا. لكنهم اضطروا إلى إظهارها لحصول الوظيفة. فسئل الأمريكيون في الحوار لتوفير العمل عن أسماء أمهاتهم وأخواتهم وزوجاتهم. فتظاهر العرب الغضب ضدهم ولكنهم فشلوا في إخفاء الأسماء وحفاظة العادة القديمة واضطروا إلى تقديمها لهم التفصيلات الكاملة. فأظهروا أسماء أمهاتهم وعدد زوجات أبيهم ومكان أمهم بين زوجات أبيهم. ولم يطمئنوا ولو قال لهم الأمريكيون إن هذه المعلومات سرية لدرجة لا يمكن لأحد أن يطلعوا عليها.(16)
قد لعب اكتشاف النفط دورا بارزا في تغيير حياة الناس في المملكة العربية السعودية. فبدأ مئات الألوف من الناس الذين كانوا يعتمدون على الزراعة ورعاية الحيوانات لتأمين الرزق ينتقلون من القرى والبوادي إلى المدن للبحث عن العمل في الوظائف الحكومية المختلفة والمعامل الصناعية والتجارية والمؤسسات الخاصة. وأدى هذا العامل إلى كثير من التغيرات في حياتهم الاجتماعية. وتداخل الضعف في العلاقة الأسرية وانخفضوا لتأمين الرزق ولا يقدروا على محافظة التراث. ولم يبق عندهم إلا الخضوع للثروة النفطية.
وكانت الثروة تعتبر في موران بكثرة الإبل والفرس لكنها تحولت إلى السيارة حيث أصبحت السيارة شعارا للغناء وبدأت أهمية الشخص وموقعه يتحددان بالسيارة التي يركبها أو بعدد السيارات التي يملكها.(17)
والجدير بالذكر أن الروائي أورد في هذه الرواية قصة المهندس الأرلندي الذي زار مدينة موران وقال ساخرا بعد أن شهد السيارات الكثيرة في المدخل الغربي لمدينة موران: “سوف يعيش ناس هذه الأرض في النعيم الكامل، لأن لديهم كل ما يريدون: نعمة النفط الآن، ونعمة الحديد في المستقبل. أما إذا غادروا هذه الدنيا فإن نعمة الجنة بانتظارهم!”(18)
ومع ذلك أدت هذه الثروة النفطية إلى الظلم والعنف والقسوة على الشعب العربي من قبل السلطة العربية في “المملكة الهديبية“. واضطر المواطنين العرب إلى الخضوع للقانون بشكل كامل حتى لا يفكروا فيه شيئا ضد السلطة الحاكمة. فأصبحت الحرية حلما في هذه المملكة. أما الصحفيون فتدفعهم السلطة ثمنا غاليا ليكتبوا ما يريد السلطان منهم وإلا يصمتوا أو يكتبوا أشياء ثانوية لا علاقة لها بالسلطان والسياسة. وبدأت سلسلة الظلم تزداد على المواطنين بشكل واسع وتنتشر في المملكة كلها. فلم يبق أحد من يريد الحرية أو يفكر فيها ضد المملكة أو السلطان سواء كان في مدينة أو عاد إليها بعد مدة طويلة إلا قتل أو سجن قبل المحاكمة. وسرد الروائي فيها قصة الطالب الباحث الشاب الذي كان يدرس في الجامعة الأمريكية وجاء إلى مدينة موران ليكمل رسالته الدكتوراه. ولما شاهد إعدام سبعة رجال من أجل أنهم كانوا من الدولة المعادية أحرق رسالته الدكتوراه الكاملة بعنوان “أثر النفط في التنمية، النموذج: السلطنة الهديبية“.(19)
الخاتمة:
يتجلى من هذه التفاصيل أن الثروة النفطية تغير بها شكل المنطقة العربية كاملا ولم يبق فيها القيم الأخلاقية والخصائص الاجتماعية والآثار القديمة التي يفتخر بها العرب من العلم والحكمة والقدرة على الكلام والحرية والسخاوة والضيافة والمعاونة والتسامح والبطولة في الحياة الصحرواية والمحافظة على التراث وما إلى ذلك. وكان الروائي الكبير عبد الرحمن منيف من المحافظين على التراث العربي وكان يحب أن يبقى هذا التراث على ما كان يفتخر به العرب. لكنه شاهد أن الثروة النفطية تنزع من الشعب العربي تراثهم وتقودهم إلى الحياة أسوأ من ناحية الحرية والقيم الأخلاقية. لذا اعتبر الثروة النفطية نقما بدلا عن النعمة لأن العرب فقد بها تراثهم واستخدمها الأمراء والسلاطين العرب لتعزيز مملكتهم وسيطرتهم على البلاد والشعب العربي.
الهوامش:
1 ـ الدكتور القشمعي، عبد الرزاق محمد، ترحال الطائر النبيل، ص 45، دار الكنوز الأدبية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، عام 2003م.
2 ــ المصدر السابق، ص 173
3 ـ المصدر السابق، ص 23
4– Munif a bio-history: An Arabian Master, By: sabry Hafez, pp 2-3, New Left Review 37, January-February 2006.
www.newleftreview.org/II/37/sabry-hafez-an-arabian-master 08/05/2015
5ـ حسين الموازني، الروائي الراحل عبد الرحمن منيف وأول حوار ينشر له.
6ـ عصام بغدادي، الروائي المؤرخ عبد الرحمن منيف
http://forum.stop55.com/361232.html 14/09/2014
7 ـ د. حليم بركات، المجتمع العربي المعاصر: بحث استطلاعي اجتماعي، ص 73، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، الطبعة السادسة، عام 2000م.
8ــ منيف، عبد الرحمن، مدن الملح: التيه، ص 74، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والمركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الحادية عشرة، 2005م.
9ــ المصدر السابق، ص 75
10 ـ المصدر السابق، ص 99
11 ـ المصدر السابق، ص 262
12 ـ المصدر السابق، ص 394
13 ـ المصدر السابق، ص 274
14 ـ المصدر السابق، ص 132
15 ـ منيف، عبد الرحمن، مدن الملح: الأخدود، ص 182، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثانية، 1986م.
16 ـ منيف، عبد الرحمن، مدن الملح: التيه، ص 300، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والمركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الحادية عشرة، 2005م.
17 ـ منيف، عبد الرحمن، مدن الملح: الأخدود، ص 169، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثانية، 1986م.
18 ـ منيف، عبد الرحمن، مدن الملح: بادية الظلمات، ص 327، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والمركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الحادية عشرة، 2005م.
19 ــ مدن الملح: بادية الظلمات، ص 395، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والمركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الحادية عشرة، عام 2005م.
*أستاذ ضيف بقسم اللغة العربية وآدابها، جامعة مولانا مظهر الحق العربية والفارسية، مدينة بتنا بولاية بيهار، الهند
Leave a Reply