بينما كنت أبحث عن بعض الملفات الوثائقية في دار الوثائق الوطنية بدلهي عن السعودية ودول الخليج، عثرت على ملف وثائقي يرجع تاريخه إلى عام 1955م، تحت رقم (F.16 (44)-WANA/55) التابع لوزارة الشؤون الخارجية الهندية، ([1]) والذي يتعلق بقيام الأمير فيصل بإهداء سيارة كاديلاك إلى جواهر لال نهرو. وقبل أن أعرف مضامين ذلك الملف يجدر بي أن ألقي بعض الضوء على طبيعة العلاقات بين كلى الزعيمين اللذين تعرفا بعضهما البعض خلال مشاركتهما في المؤتمر الآسيوي الإفريقي في باندونغ، إندونيسا، والذي انعقد في شهر شعبان 1374هـ/الموافق شهر أبريل عام 1955م. فقد قدم ذلك المؤتمر فرصة ذهبية لتعميق علاقتهما، والتعرف على أفكار بعضهما البعض وميولاتهما السياسية والثقافية. فكانت لهما جلسات ولقاءات خاصة في أثناء ذلك المؤتمر، وفي إحدى تلك اللقاءات الخاصة دعا نهرو الأمير لزيارة الهند عقب انتهاء أعمال المؤتمر. وقد قبل الأمير دعوة نهرو، وتوجه بالفعل إلى دلهي، عاصمة الهند، لزيارة قصيرة في طريق عودته من ذلك المؤتمر.
استقبل نهرو الأمير فيصل استقبالًا حارًا، وأقام المأدبة الرسمية في القصر الرئاسي تكريمًا له، وللوفد المرافق له. وألقى كلمته الترحيبية بتلك المناسبة التي وجدتها في سجل الشؤون الهندية الخارجية، ([2]) وقال نهرو في كلمته:”نحن سعداء بوجود صاحب السمو الملكي معنا هنا في دهلي. وعلى الرغم من أن هذه الفترة قصيرة جدًا إلا أنني آمل أن يشعر سموه بأنه ليس غريبًا بل هو موجود بين الأصدقاء. ولقد كنا معًا مع صاحب السمو الملكي خلال الأسبوعين الماضيين بمناسبة حضور الاجتماع التاريخي في باندونغ، حيث كنا نتقابل كأصدقاء على الرغم من ظهور الاختلاف في وجهات نظرنا لبعض الأحيان، إنما كنا نحاول البحث عن المصالح المشتركة وإيجادها من خلال تلك الاختلافات في وجهات نظر بعضنا البعض. ولا شك أننا وصلنا إلى الأهداف المشتركة بعد الخوض في كثير من البحث والمناقشة، إنما الشيء المهم هو أننا قضينا معًا وقتًا طيبًا ومباركًا، وناقشنا المسائل العديدة المهمة في جو الود والمحبة، وهو الأمر الذي جعل ذلك المؤتمر ناجحًا.
وخلال المؤتمر أمعنت النظر في الماضي البعيد والحاضر وحتى في بعض الأحيان حاولت أن أتطلع إلى المستقبل حول العلاقات الودية. فكنت أسرح متأملًا في الماضي البعيد للبحث عن القواسم المشتركة التي تطلبت من أسلافنا إيجاد العلاقات وتقوية الصلات مع البعض مما أدى إلى تقوية العلاقات والتبادل التجاري والثقافي. أنا لا أعرف اللغة العربية ولكن لدى سماع كلمة صاحب السمو الملكي بهذه اللغة النبيلة، شعرت أنني يمكن أن أفهم العديد من الكلمات المستخدمة في هذه اللغة التي ما تعلمتها قط. وهذا الأمر جعلني أتذكر كل تلك الصلات الحضارية القديمة التي لم تجلب الكثير من الكلمات الحضارية فقط، ولكن الكثير من الثروات من البلدان الأخرى إلى الهند التي كانت تؤدي نفس الدور بجلب خيرات الهند إلى هذه الدول الشرقية والغربية والدول العربية بالدرجة الأولى.
صاحب السمو الملكي! أود أن أنتهز هذه الفرصة للتأكيد عليكم أنه كانت هنالك صلة قوية بين بلدكم وبلدنا بسبب وجود القواسم المشتركة بيننا في الماضي البعيد، وقد استمرت تلك الصلات والعلاقات القوية على قدم وساق لعصور طويلة إلى أن جاءت فترة اعتزلنا فيها عن بعضنا البعض، وهذا الأمر الأخير حدث مع كثير من البلدان الآسيوية. ومن العجيب أنه قطعت صلتنا عن البعض وقويت صلة وثيقة مع الدول البعيدة في قارة أوربا. ومع ذلك، لسنا متشائمين حيال فتح صفحة جديدة لتحسين العلاقات بين البلدين وتقويتها في جميع المجالات من جديد. فكل ما علينا هو استئناف تلك الصلات القديمة بين بلدينا وإرجاع تلك الذكريات الجميلة إلى أذهاننا. وانطلاقًا من هذه الرؤية، فمن دواعي السرور لي ولحكومتي وشعبي أن أستقبل مثل هذا الممثل العظيم والمُمَيَّزِ لدولة عظيمة.
وأتمنى لسيادتكم أن تشعروا خلال هذه الزيارة القصيرة هنا أنكم بين الأصدقاء، حيث نتطلع معًا إلى مستقبل مشرق وبموجبه ستكون لنا قواسم مشتركة مما سيجعلنا أن نتعاون معًا في المهام والواجبات العديدة لتحقيق الأهداف المرجوة، ونتقدم معًا إلى الأمام. وأنا أقول بكل ثقة: إن صاحب السمو الملكي وبلدكم سيتعاونان مع الهند والدول الآسيوية الأخرى في المهمة المعنية لنشر الأمن والسلام، وأستطيع القول أيضًا وأوكد لصاحب السمو الملكي إن الهند بدورها ستفعل الشيء نفسه. وحقيقة أنا سعيد جدًا بمجيئكم إلى بلدنا وتشرفنا بقدومكم. وعلى الرغم من أن زيارتكم ستكون قصيرة إلا أننا سنعد برنامجًا مكثفًا لزيارة الهند ومعالمها التاريخية المزيج بين القديم والحديث، فلدينا منها ما هو قديم ومنها ما هو حديث. وأرجو من سيادتكم الموافقة على أن تبقوا معنا وفي ضيافتنا يومين أو ثلاثة أيام أخرى والتي من خلالها لا تقضون وقتًا طيبًا ومباركًا فحسب؛ إنما سنتابع معًا اللمحات للبحث عن الآمال والتطلعات التي ستحركنا وتجعلنا نعمل معًا للهند الجديدة ولآسيا الجديدة وللعالم الجديد”.
ثم جاء دور الأمير لإلقاء كلمته التي قال فيها:” لقد كان لي شرف وسعادة بمعرفة معالي رئيس وزراء الهند. كما كان من دواعي السرور أننا تمكنا من التحدث والتباحث والمناقشة حول المسائل المختلفة في العديد من المناسبات. وفي كل تلك المناسبات كنت قد وجدت الفرصة للخوض معه في الحديث مع بالغ السعادة والفرح، وكنت أشعر أنني أمام رجل عظيم سوف يسجل له ولأعماله العظيمة ليس في الهند فحسب إنما في تاريخ العالم كأحد الزعماء البارزين الذين ناصروا الحق وسعوا إلى تحقيق الأمن والسلام والاستقرار في المجتمع الدولي وقدموا للبشرية خدمات جليلة. وأنا لا أريد المناقشة هنا تلك الأيام وما كان فيها خلال مؤتمر باندونغ، بل ومن أجل تسجيل أعمال هذا الرجل الجالس على الطاولة في التاريخ، أود أن أقول إن سعادة السيد نهرو أسهم بكل ما أوتي من قوة وجهد من أجل إنجاح مؤتمر باندونغ. فبذل السيد نهرو قصارى جهده لإعلاء المبادئ التي يؤمن بها ويقف لها بمواقفه الثابتة وبكل شجاعة.
السادة الحاضرون! إنني أجد نفسي غير قادر على العثور على الكلمات المناسبة للتعبير عن خالص شكري وتقديري وامتناني لهذه الحفاوة البالغة في استقبالي وفي ضيافتي والتي أجدها منذ وصولي إلى أرض بلدكم المعروف. وإنني لست مندهشًا ولا متعجبًا على الإطلاق من الحصول على حفاوة الترحيب والاستقبال الكريم من الحكومة الهندية والشعب الهندي. وقبل أن أختم كلامي أود أن أكرر هنا أن صاحب الجلالة ملك المملكة العربية السعودية وحكومة المملكة العربية السعودية وشعبها، وحقيقة أشعر أنه بإمكاني أن أقول إنّ رؤساء جميع الدول العربية، يتفهمون مشاعركم ويقدرون مساعيكم النبيلة من أجل الحفاظ على الحرية والاستقلال لجميع أولئك الذين يطالبون بها ويسعون إلى الحصول عليها.
وسجل نهرو في مذكراته تلك الزيارة التاريخية وكتب قائلًا: “حقيقة الأمر فقد ترك الأمير فيصل فيّ تأثيرًا إيجابيًا للغاية، وجدته ذكيًا وودودًا، ويسعى جاهدًا للفهم والمعرفة”. وفي مكان آخر ذكر تسعة عشر موضوعًا من أهم الموضوعات التي تحدث عنها مع الأمير فيصل في جلسات خاصة. وعثرت على مضامين تلك المحادثات في بعض الملفات الوثائقية بعنوان: “محادثات مع الأمير فيصل”. ([3]) واستهل نهرو تلك المحادثات بمقدمة كتب فيها قائلًا: “خلال إقامة الأمير فيصل في دهلي أجريت معه أربع محادثات التي امتدت كل منها لمدة ثلاث ساعات ونصف. وتحدثنا بحرية تامة وفي جو من الصداقة والمحبة عن العديد من المسائل والقضايا المحلية والإقليمية والدولية. ووجدته تواقًا إلى المعرفة بالعديد من الأشياء وفهمها عن الهند، فضلًا عن معرفة وجهات نظري حول مختلف القضايا الدولية والإقليمية. وأخبرته بالتفصيل عما نفعله نحن في الهند في العديد من المجالات السياسية والاقتصادية والتجارية والتعليمية إلخ. وكان من الواضح أنه تأثر كثيرًا بما شاهده قليلًا في أثناء تجوله في دهلي، ولدى مشاهدة آثارها التاريخية. وتطورت محادثاته معي أكثر شخصية وحميمية، وفي الواقع كان عاطفيًا تقريبًا عند مغادرته، عند الإشارة إلى زيارته الحالية قال إنه يرغب في العودة إلى الهند مرة أخرى. بل أضاف أيضًا إنه يود أن يزور أخوه ملك المملكة العربية السعودية الهند في جولة تعليمية”.
“أنا آسف لأنني لم أقل له أي شيء حول إمكانية قدوم الملك إلى الهند؛ لأن ذلك لم يكن في حسباني، ولكن على أي حال يجب أن نرسل دعوة رسمية إلى الملك على الفور. وبطبيعة الحال يجب تكون تلك الزيارة خلال موسم الشتاء، وذلك إذا قبل الملك دعوتنا، فيمكن لنا النظر في تحديد التواريخ في وقت لاحق. ولذلك، ينبغي لنا أن نطلب من ممثلنا في جدة أولًا أن ينقل شخصيًا إلى الأمير فيصل سعادتنا الغامرة وتقديرنا الكبير لزيارته للهند، فنحن حقيقة سعدنا بزيارته سعادة بالغة؛ لأن تلك الزيارة أسهمت في التفاهم حول العديد من القضايا فضلًا عن إسهاماتها في تقوية العلاقات بين البلدين. وعلاوة على ذلك نأمل أن يتمكن سمو الأمير من القدوم إلى الهند مرة أخرى في زيارة أطول لمشاهدة الهند وحضارتها القديمة والإسلامية، فضلًا عن مشاهدة مشروعاتنا الاقتصادية والتعليمية. فنحن على أتم الاستعداد باستقباله بكل ترحيب يليق بسموه. وينبغي أيضًا إرسال الدعوة الرسمية إلى ملك المملكة العربية السعودية نيابة عن حكومتنا، وينبغي أن يتم إبلاغه بأننا سنكون سعداء جدًا إذا قبل فخامة الملك دعوتنا لزيارة الهند في وقت يناسبه”. ولمزيد من التأكيد ذكر نهرو ذلك في رسالة بعث بها إلى الأمير فيصل في 7 مايو في العام نفسه ردًا على رسالة شكر وتقدير من الأخير. وقال: “سنكون سعداء جدًا إذا كان جلالة الملك السعودي شرفنا بزيارة الهند…وآمل أن يكون من الممكن له أن يفعل ذلك في وقت ملائم له في فصل الشتاء القادم”.
وعلى أي حال، عندما عاد الأمير من تلك الزيارة القصيرة، طلب من الجهة المعنية بشحن سيارة كاديلاك كهدية إلى رئيس وزراء الهند. وعندما وصل الخبر عن ذلك بواسطة السيد علي رضا، أحد وزراء المملكة العربية السعودية، إلى محمد يونس، نائب سكرتير لوزارة الشؤون الخارجية الهندية في دلهي، أرسل رسالة أخيرة إلى وزارة الخارجية الهندية لإخبار مكتب رئيس وزراء الهند عن ذلك، وبموجب توجيه نهرو وتوقيعه حررت رسالة موجهة إلى القنصلية الهندية في جدة، وجاء فيها: “هذا الخبر مزعج للغاية، وإني أعتقد بأنه ينبغي أن يتم المحاولة لإخبار سمو الأمير بأننا لا نقبل مثل هذه الهدايا. والأمر الثاني، أننا لا نسمح وصول سيارة كاديلاك أو أي نوع من السيارات الفارهة إلى الهند. وبما أننا جعلنا قاعدة عامة لنا ولغيرنا، فلا نحب أن يكون هناك استثناء لنا ولغيرنا. وإنني بطبيعة الحال مقر بالشكر والتقدير على اهتمامه بي، ولكني قد أكون له شاكرًا أكثر لو قدر مركزنا وموضعنا السياسي والاجتماعي حول هذا الموضوع. وينبغي لوزيرنا في جدة أن يبلغ كلامنا هذا الوزير السيد علي رضا”.
أرسل قدوائي، السفير الهندي لدى الممملكة، رده إلى وزارة الخارجية الهندية، وقال فيه: “إنني علمت من السيد علي رضا أن سمو الأمير مؤخرًا سجل بالفعل طلب شراء سيارة كاديلاك عند شركة جنرال موتورز وإرسالها إلى رئيس وزراء الهند على حسابه. وأن شركة جنرال موتوزر بسبب عدم إتمام بعض الإجراءات الرسمية لم تتمكن من إرسال السيارة المعنية مباشرة إلى الهند، ومن هنا ستأتي السيارة أولًا إلى المملكة ومنها يتم شحنها إلى بومباي”. ولدى تسليم تلك الرسالة كتب وكيل الوزارة الهندية السيد جها إلى السفير الهندي قائلًا:”يرجى النظر في رسالتي السابقة، علمًا بأن رئيس الوزراء ليس سعيدًا على الإطلاق بهذا الخبر، وذلك أولًا إنه لا يقبل مثل هذه الهدايا، وثانيًا استيراد سيارة كاديلاك أو أي سيارة فارهة للهند غير المسموح بها. وقد يكون من الحرج للحكومة الهندية لو تعاملت التأخير بهذه المسألة بصورة استثانئية معتبرًا إياها مسألة رئيس الوزراء. ورئيس الوزراء سعيد جدًا باهتمام سمو الأمير فيصل به، إنما سيكون أسعد به لو قدر الأخير بمكانة رئيس الوزراء حول هذه المسألة. وقد بلغنا من السيد علي رضا هذا الخبر رسميًا، فيمكنك أن تتفهمه بلباقة وببراعة هذ الموضوع”.
جاء الرد من السفير الهندي إلى وكيل الوزارة وكتب فيه قائلًا:”لقد بلغني من السيد فوزان، القنصل السعودي لدى الهند، أن السيارة كاديلاك قد وصلت إلى بومباي بالفعل، وسيقوم هو باستلامها وإرسالها في خدمة رئيس وزراء الهند. وإنني حاولت إقناع السيد فوزان قبل مغادرته للهند، إنه سيكون من المحرج لرئيس الوزراء الهند أن يقبل مثل هذه الهدية. فقال لي: “إنه كان يعلم جيدًا، وإنني وحسب رغبتك سأحاول إقناع السيد علي رضا بصورة غير رسمية، إنما أنا أخشى أنه قد فات الأوان لرفض هذه الهدية. ولو وصلت رسالتك إلي، ذلك قبل شحن السيارة المذكورة للهند، لقمت بتدبير هذا الأمر ومنع وصولها إلى الهند.”
ثم استطرد السفير الهندي في الرسالة نفسها قائلًا:”أنا أعتقد بأنه ليس من المستحسن الآن لرئيسنا الوزراء أن يرفض هذه الهدية. وإنك لتعلم جيدًا إنه من عادة العرب عامة والسعوديين بخاصة أن الهدايا لا ترد، والذي يرفض الهدية المقدمة له فهو مردود وغير مهذب عندهم. ويمكن لرئيسنا الوزراء أن يقدم هو أيضًا بهدية له بمناسبة ما. وما أريده من قولي هو أن العرب مرهفي الأحاسيس والعواطف بخصوص تبادل الهدايا في المناسبات الرسمية أو غير الرسمية، ومن هنا ليس من المستحسن أن يرفض رئيس الوزراء هديته هذه. وأريد أن أكتب هنا ملاحظتي الأخرى، وهي أن هذه الهدية قدمها سمو الأمير فيصل الذي قلما يقدم هدايا لأحد، فهو ليس مثل والده في هذا الطبع. ويبدو أنه متأثر جدًا من رئيس الوزراء، لاسيما بعد زيارته الأخيرة للهند، حيث زاد إعجابه وتقديره واحترامه حياله الذي لم يبخل في ضيافته وإكرامه خلال تلك الزيارة التي استقبله فيها بترحيب كبير، وتحدث معه في جو ملاؤه الحب والود والاحترام المتبادل مما ترك عليه أثرًا كبيرًا. إنني اعتقد بأنه بواسطة تقديم هذه الهدية له، إنما يريد الأمير التعبير عن حبه واحترامه وتقديره نحوه. ومن هنا، أنا أقترح أنه من المستحسن ألا يرفض رئيس الوزراء هذه الهدية، ويقبلها، وأنا أعلم بتمام العلم أنه سيقدم له أيضًا هدية في مناسبة ما”.
وعلى أي حال، قبل نهرو تلك السيارة المهداة له من جانب الأمير فيصل رحمه الله، ولكنه لم يحتفظ بها لنفسه أو للاستعمال الشخصي فقط، بل جعلها متاحة لنقل ضيوف الحكومة الهندية من الرؤساء والقادة من المطار، والذي يتبين من كلام رئيس الوزراء السابق لال بهادر شاستري الذي كان معاصرًا لنهرو، بحيث إنه كتب في كتابه (Lessons in Leadership) قائلًا:”كان نهرو يسافر عادة في سيارة هندية الصنع كانت تسمى هندوستان 14 أو (Hindustan Ambassador) فيما بعد، ولكن عندما كان يذهب إلى المطار لاستقبال رؤساء الدول والحكومات الأجنبية، فكان يستعمل سيارته كاديلاك”.
وفي الواقع لم يكتف الأمير فيصل بإرسال تلك الهدية الغالية فحسب، بل تبرع بمبالغ مالية لصرفها على المشروعات التعليمية والصحية والأثرية إلخ. ويتضح ذلك من بعض أوارق نهرو التي تفيد بأن يوسف الفوزان، وزير المملكة العربية السعودية في دلهي الجديدة، التقى جواهر لال نهرو في 16 مايو في العام نفسه، وأبلغه أنه تلقى من الأمير فيصل آل سعود، رئيس الوزراء ووزير خارجية المملكة العربية السعودية، تبرعات مالية خصصها الأمير للصرف على النحو التالي: عشرين ألف روبية للمسجد الجامع في دلهي، وعشرة آلاف روبية للجامعة الملية الإسلامية بدهلي، وعشرة آلاف روبية للرعاية الصحية، كما أعطى شيكًا بمبلغ قدره مائة وخمسين ألف روبية لصندوق الإغاثة الوطني التابع لرئيس الوزراء بالنيابة عن ولي العهد.
وفيما يتعلق بصرف المبلغ الخاص على ترميم المسجد الجامع بدلهي وإصلاحاته، فيبدو أن نهرو شعر بحرج كبير الذي عبر عنه في إحدى رسالته الموجهة إلى الحكومة الهندية قائلًا فيها: “ولا أعتقد بأنه سيكون من الملائم تمامًا أن يستخدم فقط ذلك المبلغ المتبرع به من جانب ولي عهد المملكة العربية السعودية في الإصلاحات العادية للمسجد الجامع بدلهي، بل إنني أرى أنه يجب على الحكومة أن تقوم بإصلاحات شاملة لمثل هذه المباني الأثرية؛ لأن في الأول والآخر تلك المسؤولية تقع على عاتقها، فلماذا تنتظر حكومتنا المبادرات والتبرعات من الأشخاص والحكومات الخارجية؟ وعليه يجب ألا يكون هنالك أي صعوبة في أن تقوم حكومة الهند بدور رئيس في تحقيق هذه الغاية.
أما بالنسبة الأموال الأخرى المتبرعة بها من جانب ولي عهد المملكة العربية السعودية، فيمكن إصدار شيك لصالح رئيس المفوضية المعنية بدلهي. وينبغي على الأخير مناقشة مسألة استعمال ذلك المال المتبرع به مع وزير المملكة العربية السعودية في دلهي الجديدة. ويمكنه أيضًا استشارة كبار العلماء مثل الدكتور ذاكر حسين، ومولانا حفظ الرحمن، وكذلك ينبغي التشاور مع وزير التعليم. وبعد ذلك، يمكننا التفكير في البحث عن طريقة مناسبة لاستعمال تلك الأموال المتبرعة. وبالتأكيد لا يمكن تأجيل أعمال ترميم المسجد الجامع وإصلاحاته؛ لأنه سيكون من مأساة حقًا إذا تم إلحاق ضرر أكبر بهذا المبنى التاريخي الشهير بسبب عدم القيام بإصلاحات وترميمات ضرورية له”. ([4]) وفي الواقع، كان للملك فيصل رحمه الله دور كبير في إرسال التبرعات المالية لإنشاء الجامعات والمدارس والمستشفيات والهيئات التي كانت ولا تزال تقوم بدور تنمية الوعي الإسلامي والديني والتاريخي لدى شعوب شبه القارة الهندية.
الهوامش:
([1]) ‘Proposal to present Cadillac Car to the Prime Minister of India by His Royal Highness the Amir Faisal Prime Minister of Saudi Arabia’, Ministry of External Affairs, (WANA, Section), File No., F.16 (44)-WANA/55.
([2]) Foreign Affairs Record, May 03, 1955, pp. 114-115.
([3]) ‘Conversation with Amir Faisal‘, Note Secretary General, MEA, 5 May 1955, JN Collection, Extracts); I S. Chopra (b. 1909), Joint Secretary and Chief of Protocol, MEA, 1950-1955.
([4])’Maintenance of the Jama Masjid‘, Note to Chief Commissioner, Delhi. 17 May 1955. File No. 40(41) 56-60-PMS.
*زميل باحث في مركز حسن بن محمد للدراسات التاريخية، الدوحة، دولة قطر
Leave a Reply