ملخص:
اللغة تربط بين الفرد وغيره بين أفراد الجماعة اللغوية، فهي وسيلة للتعبير والتواصل والتفاهم و تبادل الآراء والأفكار، ولولا اللغة لظل الإنسان بعيدا عن مجتمعه منفصلا عن الآخرين لا يدرك ما يحدث حوله من أحداث، ولا يسهم فيها ولا يتفاعل معها فيأخذ مجال الحياد، ومنه ساعدت اللغة على إثراء الفكر اللغوي والعقل كذلك، وتعدّ وسيلة للتواصل في خضم العلوم والمعارف واختلافها وتنوعها، وتنفرد من ذلك كل لغة بطريقة أدائها، وأسلوب نظامها، وطريقة تطبيق قواعدها.
الكلمات المفتاحية: التعدد اللغوي، التفاعل بين اللغات، الفكر اللغوي.
مقدمة:
إنّ من أهم وظائف اللغة هي عملية الاتصال مع أفراد المجتمع، ولابد لأي مجتمع بشري من لغة يسلكها حتى تسير الحياة طبيعية، صوتية أو غير صوتية كالرموز والإشارات وغيرها، هذا مفهوم اللغة بشكل عام وتقوم من ذلك اللغة على الأصوات اللغوية والإنسانية. واللغات من ذلك على مرّ العصور لم تكن على وتيرة واحدة بل يعتريها ما يعتريها من تغير وتطور وبقاء واندثار لها أو لبعضها، وهذه سنة الحياة المتلازمة مع طبيعة البشر.
إنّ الواقع اللغوي الاجتماعي في الدول العربية يعرِف العديد من التحوّلات والتغيرات على المستوى اللساني من ازدواج لغوي إلى ثنائية لغوية ومنها صّراع لغوي ينتج عن تعدد لغوي بين وجود لهجات محلية ولغات متباينة فيما بينها تنمو مع الزمن فتشّكل بدلك تنوعات لغوية، وتعدد لغوي يؤثر على الوضع الثقافي واللساني للفرد. وهذا الوضع اللغوي ينمو نتيجة مؤثرات ترجع أسبابه حسب تنوع المؤثرات والانقسام الدائم للغات واللهجات. التي نتوقع منها دائما والتعدّد.
ولقد ظهر في التاريخ اللغوي في مختلف أنحاء العالم أن الهجرات وقلة الصلة بين أبناء الجماعة اللغوية الواحدة قد أدى باللغة الواحدة إلى الانقسام إلى لهجات، وحدث انقسام لهذه اللهجات بعد ذلك إلى لهجات أخرى وموضح في تاريخ العربية الارتباط بين العربية والإسلام، فالقرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين عامل الوحدة اللغوية، وبذلك يستقر الازدواج اللغوي في المنطقة العربية بين لهجات عربية مختلفة ولغة فصيحة عامة [1].
إنّ الاعتراف بالتعدّدية اللغوية والثقافية والدينية والعرفية والإيديولوجية هو الحل الوحيد لكثير من الصراعات والنزاعات، ومن بين هذه التعدّديات يلعب التعدد اللغوي دورا رياديا في إنتاج الوعي الثقافي والتفاهم الدّولي وبالتالي تحقيق الاندماج اللغوي في المجتمعات الدولية.
التعدّد اللغويّ :(purilinguisme):
يعدّ مفهوم التعدّد اللغوي من الأدبيات اللّسانية اللغوية التواصلية، يظهر اختلاف اللغة المستعملة حسب الوضعية والسّياق إضافة إلى الحاجة والغاية والهدف ومنها يمكن التحدث بأكثر من نظامين لغويين، ومنه يحتوي على الأحادية اللغوية والثنائية اللغوية والازدواجية اللغوية، فعليه نجد الأحادية اللغوية نجد حضور مستوى من الأنظمة اللغوية وغياب الأنظمة اللغوية الأخرى؛ لأن أغلبية مميزات لغات العالم تتميز بخاصية التعدد اللغوي، ورغم ذلك يبقى كل نظام لغوي يتميز بخصوصية دولة على أخرى . فالتعدد لغوي ويعني كذلك وجود أكثر من لغتين داخل المجتمع الواحد مثال ذلك المغرب الذي يوجد فيه تعدد لغوي متمثل في العربية والفرنسية ولغة المستعمر.
والتاريخ من ذلك يظهر قدرة اللغة العربية على استيعاب الأفكار الجديدة التي جاءت بها الشريعة الإسلامية من كفاءات واسعة في الترجمة من اللغات الأعجمية في العصر العباسي الأول، ولم توجد أية شكوى من المترجمين آنذاك، قصور الفصحى عن استيعاب الأفكار الفلسفية والعلمية التي كانت لمفكري السريان والإغريق والرومان وغيرهم [2].
فالتعدّد اللغويّ من ذلك هو وجود مجموعة من اللغات المستعملة، بدرجات متفاوتة ومن ذلك ما حصل لبلاد المغرب العربي حين تعددت العوامل كالفتح الإسلامي والغزو الإنساني والاستعمار الفرنسي، تداخلت اللغات بعضها ببعض فأدّى إلى تمازج اللغات فيما بينها وظهر التداخل اللغوي.
ومنه التعارف بين الدول يؤدي بالضرورة إلى تَفَتُح كل لغة على غيرها، يكون الأم طواعية أو إكراها، فمعيشة العالم في ثورة تكنولوجية ومعلوماتية، هذا ما أدى إلى هيمنة ثقافية عالمية تُضَيّق الخناق على الثقافة الأصلية عند الأمم غير التابعة بالمفهوم الخلدوني، ولذلك تكرّس الجهود للانتباه على تحصين ثقافة اللغة الأم، لاستهلاكها والإنتاج بها، معرفيا وماديا، حتى لا تصاب بالضمور والانزواء والانكماش [3].
وهذا ما أعطى إلى البحث والإنتاج عن نقاط مركزية لا تستسلم للعولمة أو لحصار التعدد اللغوي الغير مدروس.
والجزائر تتميز لسّانيا بالتعدد اللغوي فهي تتضمن إلى جانب اللغة العربية والعاميّة اللغة الفرنسية والأمازيغية، وقد كان نتاج ذلك ظروف تاريخية قاهرة عاشتها الجزائر منذ معرفتها للغة، والملاحظ أن اللغة الجزائرية يعتريها الكثير من الغموض بيم المزاوجة مع اللغات الأخرى التي تغير من طبيعة اللغة الأصلية، ومن ذلك تميّز الوضع اللغوي في بلادنا بالازدواجية اللغوية والتعدديّة والثنائيّة اللغويّة [4].
أسباب التعددّ اللغويّ:
تتنوع الدراسات الحديثة وتختلف مضامينها حول تعدد اللغات، أو تحوّل اللغات إلى لغات متعددة تعليلا آخر، إذ يرجع انقسام اللغة إلى لغات إلى عوامل كثيرة منها:
ــ اتساع اللغة إلى أقاليم واسعة من الأرض بحيث تتعدد وتتشتت الوحدات اللغوية فتتشّعب اللغة إلى لهجات، وتأخذ كل لهجة سمات خاصة تميزها من أخواتها ثم تنقلب اللهجة مع مرور الأيام إلى لغة مستقلة [5].
ومنه تتبع السّمات اللهجية التي تحول اللهجات إلى لغات من اتساع الأرض فقط، ولا من وجود حواجز طبيعية بين الناطقين بها، بل يؤثر فيها ضعف السلطة المركزية فإذا عجزت الحكومة عن الحفاظ على الوحدة راحت الدولة الكبرى تتحول إلى دويلات ومنها اللغة الأم إلى لهجات [6] .
وإضافة إلى تأثير الأرض والسياسة وتأثير الفروق الاجتماعية وتأثير العرق واللون والثقافة والدين، ومنه يتم معرفة أن الانقسام واقع مرهون بعوامل تصنعه، ومنه قوله تعالى: “ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم و ألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين”[7].
“ولو شاء ربك لجعل النّاس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك”[8]. ومنه تعدداللغات آية من الآيات، حيث أحصى عدد اللغات في العالم إلى أكثر من 3000 لغة (ثلاث آلاف لغة) يستخدمون بعضها ويهملون البعض الآخر. وعليه يبقى تعدد اللغات سببالمن يحاولون علاجه بإنشاء لغة عالمية (اسبرانتوesperanto) يتحدث بها النّاس جميعا[9].
ومنه اللغة لا تلبث بعد تداولها على الألسنة الخضوع لجميع اللغات الطبيعية التي مسّت اللغات منذ نشأتها الأولى، فاللغة تخضع لقوانين وقواعد التي خضعت لها لغات الطبيعية منذ بدايتها ومنذ أول لغة تكلم بها الإنسان.
وما يحدث حين امتلاك اللسان البشري عدّة لغات دفعة واحدة حدوث ما يسمى الصّراع اللغوي ممّا يولّد العديد من الصراعات التي قد تشمل الصوت والنحو والصرف والدلالة وهذا ما اكتسح في الآونة الأخيرة الحيز الأكبر من اللغات التي لطالما كانت ولا زالت تصارع للبقاء، والتاريخ القديم والحديث يوضحان ذلك.
ومنه كان من الممكن أن تتحرر اللغة العربية من مهمة طمس التعدد اللغوي في الجزائر خاصة بعد الاعتراف الرسمي باللغة الأمازيغية، ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن في هذا الشتاء الذي ينذر بكثير من المفاجئات، فأمام فشل النخب المعرّبة في مهمة ترقية اللغة العربية وجعلها أداة من أدواة التقدم والتحرر، وهي تتحامل على اللغة الأمازيغية وتعمل على فرض مشروعها الفاشل على اللغة التي عملت كل ما في وسعها من أجل محوها من الوجود.
وإنّ الحملة الهوجاء لفرض الخط السرياني في كتابة اللغة الأمازيغية هو تعبير عن أزمة حضارية وثقافية تعيشها هذه النخب التي تصّر على فرض تصور المستشرقين في بناء الضفة الجنوبية من البحر المتوسط ضفة جنوبية تخلو من التعددية اللغوية والثقافية تحت غطاء الأمة العربيّة الواحدة والموحدة التي ابتكرتها مخابر الاستعمار لتغيير طابع الأمم وطمس مقوماتها التي أفشلت كل محاولاته في التحكم في أراضي تعيش شامخة ولو بدفع الثمن.
وما يلفت الانتباه في هذه النخب يتوزع على كل التيارات السياسية من جماعة العلماء المسلمين إلى الشيوعيين في الخبر إلى نشطاء الانتقال الديمقراطي ومن بين الأدوات المستخدمة لجلب المثبتة إلى الجزائر هو إذكاء أحفاد هذا النظام الاستعماري أول من اختلقها، وعمل النظام الوطني على استمرارها وامتصاص تلك الهيمنة الاستعمارية العالمية.
ومنه نجد قول الزعيم الوطني حسين آيت أحمد “كنت أفضل الجزائر الربية على الجزائر الفرنسية وكنت على يقين أن الكثيرين يفضلون الجزائر الفرنسية على الجزائر الامازيغية”[10].
الواقع اللغوي في المغرب العربي الكبير (الجزائر، المغرب، تونس) يعيش المغرب العربي وضعا لغويا صعبا ومرا، حيث تختلف فيه اللغات وتتعدد فيه اللهجات، والحكم على ذلك بالتعدد والمرارة لا يرجع لكونه فقط واقع لغوي وإنّما هو عامل قوة كما هو الحال في بعض الدول مثلا، بل على مخلفاته السلبية الفكرية والاجتماعية على ذلك المجتمع، وذلك ما يتجلى عند المجتمع المغاربي فلغته تكاد تكون سوق من اللغات تكاد تختلف تماما عن ما يتحدث به المشارقة وهم أيضاً يعانون هذه المشكلة، فإذا أردنا معرفة مكونات لغتنا نجد العربية بمختلف لهجاتها، الامازيغية بمختلف لهجاتها، الفرنسية و الإنجليزية التي فرضت وجودها، وفي خضم هذا التعدد اللغوي يجد المغاربي نفسه أمام خليط من اللغات منها المستعملة ومنها المهملة فيتشتت تفكيره ويجهل انتماءه لأي لغة.
والتعدّد اللغويّ يجر أصحابه إلى مشاكل نجهل نهايتها رغم معرفتنا لبدايتها فيجدر إطلاق اسم التلوث اللغوي بدل التعدد اللغوي، وأخطر مشكلة، ومن ذلك هي مشكلة الهوية التي لطالما ارتبطت بحياة الانسان ومستقبله، والإتقان الغير واضح لهذه اللغات حتى للعربية نفسها التي هي أساس مجتمعنا وأصله. وخير دليل على ذلك الدروس التي يتلاقاها الطلبة فعدم إتقانهم للتعبير الكتابي والكتابة الإملائية خاصة والشفوية؛ لأن اللغة العربية لا تستعمل بشكلها الفصيح، ولا تكاد من ذلك تتفحص نماذجهم التعبيرية حتى تجدها مليئة بالأخطاء اللغوية، ولذلك يتساءل العديد عن المتسبب في ذلك، فيرجع أغلبهم ذلك إلى الاستعمار فرنسيا كان أم إنجليزيا الذي نخر عقول المجتمعات وسعى جاهدا إلى فرنسة المجتمع المغاربي وخاصة الجزائر، فانقسّم المجتمع إلى معربين ومُفَرنْسين ومهمشين …في مقابل ذلك دورنا في تهميش اللغة العربية كيف لا وذلك يحدث فقط في الجزائر رغم وجود العديد من الدول العربية تسعى إلى تعميم العربية حتى في استخدام العلوم، ويحدث هذا الارتباك اللغوي في الجزائر، ونحن نعرف أن اللغة العربية لغة رسمية ولكننا نستقبل المراسلات الإدارية باللغة الفرنسية، ففي المجتمعات الأوروبية يوجد التعدد اللغوي ولكن لم يحدث هذا الارتباك اللغوي والتلوث اللغوي …إنّها ببساطة مجتمعات متحضرة تتقن فلسفة التعايش اللغوي، فلسفة حسن التخطيط اللغوي، فلسفة أهمية اللغة، وهذا ما لا يوجد في المجتمعات المغاربية.
ومنه مثل التعدد العرقي واللغوي ظاهرة اجتماعية وثقافية وتاريخية قلّ ما يخلو منها مجتمع، وتعرف بها الشعوب وتتميز بها الأقوام بمستوى حجمها وبقدر آثارها في الواقع من حيث انسجام المجتمع ووحدته أو انفصامه وتهديد تماسكه.
فاللغات المتداولة في الجزائر اللغة العربية تحتل منصب الصدارة نظراً إلى أنها لغة التعليم وتليها اللغة الأمازيغية التي هي اللغة الثانية والتي تدرس الآن في المدارس تليها اللغة الفرنسية التي هي لغة المستعمر التي قلّ استعمالها فقط في العلوم والمحادثات اليومية. ومنه الخريطة اللغوية للجزائر تحتاج للتدقيق وإعادة التخطيط لأنه المجتمع الذي تعرض لمشاكل وأزمات خلخلت البناء اللغوي لأفراده بين ما هو عربي وما هو أمازيغي وفرنسي أيضاً. والجزائر أخذت من أغلب الحضارات التي مرّت عليها ولكن الأكثر تأثيرا اللغة العربية تليها اللغة الفرنسية حيث أنها تدّرس في أغلب المدارس والجامعات، ومنه التعدد اللغوي في الجزائر كان نتيجة تنوع الحضارات التي مرّت على الجزائر ومن ذلك تشّكل صراع سياسي انعكس على اللغة المستعملة.
التعدّد اللغويّ في إفريقيا:
من الأشياء المُسَلَمْ بها بشكل عام هو أن اللغات الإنجليزية والفرنسية والأسبانية والبرتغالية هي لغات أوروبية، وانتشار هذه اللغات في إفريقيا كان بسبب الاستعمار الأوروبي بإفريقيا وعملية فرض هذه اللغات على إفريقيا تزامنا مع تهميش الإرث الثقافي للمجتمعات المحلية وإحلال الأوروبي الإمبريالي محله بينما نزوع حركات التحرر الوطني وبداية الاستقلال. نجد أن هيمنة النموذج الأوروبي الاستعماري قد انحصر قليلا، لكن واصلت اللغات الأوروبية هيمنتها وزحفها في إفريقيا ومؤشر هذه الهيمنة المستمرة هي الأعداد الهائلة من المؤلفات والكتب التي تُنُتَجُ بها المؤلفات باللغات الإفريقية المحلية، وهذا الافتتان باللغات الأوروبية في إفريقيا هي جزء من عملية التطفل الإمبريالي لكن نجد أنها تلعب دور العمود الفقري في توحيد أقاليم إفريقية متباينة وذلك لأن هذه اللغات اكتسبت صفة لغات التواصل المشتركة في دول عديدة وهذه هي لغة من إحدى هذه اللغات في التاريخ الثقافي الإفريقي، فهذه اللغات عبارة عن أسلحة سياسية للوحدة فيما يخدم المجتمع وهي أداة ثقافية للسيطرة عليه كذلك.
ومن هذه التعقيدات يتضح أن ثبات هيمنة اللغات الأوروبية أحدث تأثيرا تضاربا بالبنية الثقافية لإفريقيا، قد يكون بسبب غياب نظام فلسفي إفريقي أصيل في الوقت الحاضر قد أدى استخدام لغات أجنبية في أنماط التفكير والعمليات الإجرائية المنطقية. ويقول الشاعر المصري:”وكم عزّ أقوام بعزّ لغات” لتقوم للغة قائمة لا بد لها من وظيفة ثقافية وحضارية وأحيانا دينية [11].
ومن شروط تنمية اللغة الموحّدة: فرنسا تفرض لغتها بالقوة على شعبها، وتمنع إحياء اللغات القديمة لكنها نجحت في فرض التعدد اللغوي على المغرب ودول شمال إفريقيا وللتضيق على اللغة العربية، صنعت في مختبراتها بباريس حروف “تيفيناغ” كلغة الأمازيغية، فالأمازيغ يتكلمون عدّة لهجات، فمن هي الأمازيغية الذين يعترفون بها، فرنسا تريد تعليم المغاربة لغة من اختراعها بمواقف الدولة والحركة الأمازيغية.
فاللغة باعتبارها “كائن حيّ يعيش مع الإنسان ويخضع لمختلف مظاهر التطور التي يمر بها الإنسان في بيئته، فأي تغيير أو تطور يطرأ على حياة ذلك الكائن البشري يجب أن ينعكس على لغته التي لا تنفصل عنه لحظة من زمان”[12].
وجاء على لسان الزعيم الجزائري هواري بومدين “فيقول: “لا مجال للمقاربة أو المفاضلة بين اللغة العربية وأي لغة أجنبية أخرى فرنسية أو إنجليزية؛ لأن الفرنسية كانت وستبقى مثلما بقيت في ظل الاستعمار لغة أجنبية لا لغة الجماهير الشعبية” [13].
فالأزمة اللغوية التي تعيشها المجتمعات الإفريقية نتيجة تعدد لغاتها واختلافها، تخلق مجموعة من المشاكل في تحقيق التواصل. ومنه ترجع مشكلة التعدد اللغوي في البلدان العربية إلى المشكلة اللغوية نفسها وهي مشكلة تشكل مخاطر كثيرة على العربية واللغات الأخرى، ذلك أن العرب يتكلمون أن العرب يتكلمون لغات مختلفة ولو جهلوا فحواها ومحتواها”. وبما أن اللغات واللهجات تعددت وتنوعت في العالم بأسره فقد أدى ذلك الاقتراض اللغوي والازدواجية والثنائية اللغوية وهو بدوره أدى إلى الاحتكاكات اللغويّة بين جملة هذه اللغات واللهجات مع تباينها في الاستعمال اللغوي المنطوق منه أو المكتوب، ممّا أدّى إلى تمازج اللغات فيما بينها وتغلغل الدخيل الأجنبي خاصة في عاميتنا وذلك ما أدى إلى طرح مشكلة التعددية اللغوية [14].
وإنّ محاولات تصنيف اللغات الإفريقية قد قاد الباحثون إلى تحديد مجموعة من العائلات اللغوية، فالمعايير الطوبوغرافية لهذا التصنيف اعتمدت على: ـ وجود أصوات وطبيعتها وتراكيب الجمل، المقاطع الأحادية، النوع …إلخ.
ونجد أن عملية التصنيف قد أنتجت مقاطع جديدة جدا فالباحثون الألمانيون في اللغات الإفريقية وفي نهاية القرن التاسع عشر طرحوا ثلاث عائلات لغوية أصيلة في إفريقيا، السودانية، الحامية، والبانتوا. أما مجموعة اللغات السامية فتقف في زاوية تماس بين هذه المجموعات، ولكل منها طبيعتها الخاصة، وتراكيب اللغات وثيقة الصلة ببعضها البعض من جهة طريقة تراكيب اللغات، وذلك لا يظهر جليا في التراكيب الداخلية، فهذا التشكيل اللغوي والثقافي المتنوع في القارة الإفريقية إضافة للبنية المتمايزة التي تطغى على هذه اللغات[15] هو عامل مركزي في التاريخ الثقافي لإفريقيا.
وهذه التعقيدات اللغوية تبدو تحديا كبيرا فيما يخص بناء إيقاع ثقافي موحد واختيار اللغة القومية لمجتمع ما ملئ بالتعدد الاثني والثقافي في إفريقيا. ومن بين العلماء الأمازيغ في إفريقيا وبالرغم من تعدد لغاتهم نجد:
الآلاف من العلماء المسلمين أمازيغ فمثلا: الزواوي والونشريسي وابن كثير والمالكي والمغيلي والسنوسي والتنسيوعبد الحميد بن باديس والتبسي والإبراهيمي والورثيلاني والشيخ اطفيش وبلكبير وآيت علجت …إلخ. وفصاحتهم بالعربية مضرب الأمثال. وهذا غيض من فيض وابن منظور صاحب معجم لسّان العرب، وابن معطي الزواوي صاحب الألفية.
التعدّد اللغوي في الجزائر:
فيما تخص المسألة اللغوية في بلادنا تحتل اللغة العربية مكانة مرموقة لكونها لغة عظيمة وغنية ومن بين اللغات التي لها القدرة على التوطن والتطور خارج مجالها الأولي وهي بذلك اللغة الوحيدة التي تمتلك جهازا صرفيا (الأوزان الصرفية والاشتقاقية) يحوّل لها التكيف والإغراء وشمولية التفكير على كل مناحي الفكر والحياة، لها أيضاً التجربة ترجمية طويلة مكنتها من هضم المعارف والثقافات الأخرى بتعقيداتها ومفاهيمها ورقائق معانيها وتمثيلاتها الدينية والفلسفية والأسطورية، لذلك فالعربية لغة حية واعدة صامدة قادرة على منافسة اللغات، وتندلع من ذلك معركة لغوية بين اللغة العربية ولهاجاتها واللغات الأخرى.
تعدّد اللغات multilinguilisme فهي إجادة أكثر من لغتين والقدرة على استخدامها بالتناوب في الاتصال اللغوي، ومن ذلك فوجود التعدد اللغوي في اللسان يعود على حامليه من أفراد ومجتمعات إلى أعمال اللغات لتحقيق التواصل.
ومن ذلك فله شكلان التعدد اللغوي الفردي حيث يجيد الفرد أكثر من لغتين.
التعدد اللغوي في المجتمع هذا ما تمت دراسته وذلك لإبراز مكانة الأمة عند استخدامها لأكثر من لغتين، وأن يستخدم في المجتمع المعني بالتناوب ثلاث لغات أو أكثر في أداء الوظائف الاجتماعية، فقد يكون بعض الأفراد أحادي اللغة (أي يتحدثون لغة واحدة ) أو يكونون ثنائي اللغة ( أي لغتين فقط )، أو يكونون متعددي اللغة (أي يتحدثون ثلاث لغات أو أكثر). ومن أمثلة المجتمعات المتعددة اللغات المجتمع السوداني والجزائري وغيره من المجتمعات العربية نظراً للظروف التي عاشتها من استعمارات وحضارات مرّت عليها عبر أحقاب تاريخية.
والتاريخ من ذلك يوضح لنا ويرينا أن وجود التعدد اللغوي ليس بالأمر الحديث إنّما وجوده مرتبط بوجود الإنسان وسعيه لتحقيق التواصل مع الآخرين.
ومن الباحثين من يشبّهون التعايش بين العُملة المحلية وهي اللغات أو اللهجات الأصلية لمجتمع ما، أكانت محكية أو مكتوبة، وبين العُملة العالمية مثل الدولار، ويرمز هنا إلى اللغة المسيطرة، و إلى مدى تأثيرها على أفراد المجتمع التبادل والتوليد المعجمي أو خروج بعض الكلمات من الاستعمال.
ويتضح ذلك في كتاب “اللغات والاستعمار للويس جون كالفي”(1974)، يتضح فيه كيف تفرض السلطة الحاكمة لغتها الفصحى.”وتعتبرها الأفضل في ترسيخ نفوذها وتأكيد مشروعيتها، محتقرة بذلك سائر اللغات ومعتبرة إياها سجلات دونية، لا تتوفر على نفس الخصائص التواصلية والجمالية، وهذا ما يجري في مسار عولمة اللغات” الذي يرفع من شأن اللغات الكبرى ويعتبر ما عداها عملات لا تصّرف ولا يعتدينها في سوق الفائدة والنقود.
وفي ذلك يقترح العديد من العلماء في إنقاذ اللغات واللهجات المستضعفة وذلك من خلال تشجيع التنوع اللغوي عبر تدريس لغتين بشكل آلي وتحقيق الاكتفاء اللغوي، ضمن أي نظام تربوي وفي ذلك يشترك أفراد النسيج اللغوي، فمن ذلك اللغات عبارة عن عملات تتداول في أسواق الألسن لتحقيق الفائدة من وجودها وهي بذلك تشكّل استعارة تمثل وضعية اللغات في العصر الحالي بعد أن أصبح العالم قرية واحدة تهيمن عليه لغة العولمة اللغوية الضاربة في كل أقطار العالم.
التاريخ العربي والتعدّد اللغوي:
“كيف تم طمس التاريخ العربي وعلاقته بالمشرق بعد “صهر” و” ّتمييع”. وإن التعدد اللغوي والاختلاف في الجزائر والذي تمثله كل من التارقية والميزابية والزواوية الشنوية والسنوسية والشاوية … إلخ.
قد أقر كل الباحثين في اللّسانيات وأكّدوا على أن هذا الاختلاف والتعدد اللغوي ينتمي إلى من يسمى اللغات الشامية السامية (chamitosmitie) أو تسمية أخرى أفروآسيوي (afroasaitie)، وكل الباحثين أكّدوا أن أصل اللهجات قد جاء من منطقة الشرق الأوسط نتيجة للهجرات المتتالية من تلك المنطقة لشمال إفريقيا، وأكّد كذلك الباحثون أن أصل اللهجات من اللغات التالية (الفينيقية، الآرامية، الأكدية، الكلدانية، النبطية، والدمشقية … وهذا كله نتيجة الهجرات.
وإن الاختلافات اللغوية بين التارقية والزواوية والشاوية ماهي إلاّمؤشرات لغوية تعكس ذلك التنوع العرقي والحضاري والثقافي بين تلك الأجناس والقبائل التي هاجرت من أرض كنعان وسوريا والعراق إلى أراضي شمال إفريقيا. وتبعا لهذا فإن كل عملية تمييع وإخضاع هذه اللهجات المختلفة تحت مسمى واحد وتحت مصطلح واحد “اللغة البربرية أو اللغة الأمازيغية” وتعتبر جريمة في حق الأصول المختلفة لهذه اللهجات ويسمى بذلك تمويها وطمسا للأصول العربية الشرقية (سورية، عراقية، آرامية، فينيقية، فارسية) للمغاربة الوافدين من الشرق الأوسط.
فكل الحروب والهجرات التي شهدتها دول شمال إفريقيا في أزمنة مختلفة كانت نتيجتها التعدد اللغوي والثقافي في منطقة شمال إفريقيا عامة وفي الجزائر خاصة، ولذلك ليس بالإمكان وضع هذا الثراء تحت هيمنة مصطلح واحد ولغة واحدة وتحت غطاء ( اللغة البربرية اللغة الأمازيغية)\.
في الجزائر مثلا:
ــــ لهجة جارحة واحدة محلية مغاربية سبب الوحدة السياسية التي استمرت في المغرب العربي لآلاف السنين.
ـــــ لهجات بربرية معزولة في بعض المناطق نجد (14 لهجة).
ــــ اللغة الرسمية هي العربية وهي قريبة جدا من اللهجة الدارجة من حيث النطق والأبجدية ومخارج الحروف وتشترك معها في الكثير من المسميات.
وعكسا لذلك تعمل أطراف عنصرية لتفريق الشعب الجزائري وتقسيمه لشعوب وأعراق مختلفة قد تقوده لحرب أهلية محتملة كما حدث في الدول الشقيقة المجاورة السودان مثلا. فمن الأسباب المؤدية لحدوث ظاهرة التعدد اللغوي نجد: الهجرة والإمبريالية والتقاء الحدود الجغرافية.
الهوامش:
[1] ينظر: اللغة العربية في العصر الحديث، محمود فهمي حجازي، القاهرة، مصر، ص 140.
[2] ينظر: بحوث ومقالات في اللغة،رمضان عبد التواب، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط 3، 1995، ص 171.
[3] ينظر: اللغة العربية بين التعدد اللغوي والتفعيل المعرفي، ذهبية بورويس، جامعة الأمير عبد القادر، ص 5.
[4] الاختلاف واضح بين الباحثين من العرب والغرب حول مصطلحي الازدواجية والثنائية، حيث هي الدكتور عبد الرحمان الحاج صالح إلى أن الازدواجية هي العلاقة بين اللغة العربية واللغات الأخرى، والثنائية العلاقة بين اللغة العربية ولهجاتها.
[5] ينظر: في علم اللغة، غازي محمد طليمات، دار طلاس للترجمة والنشر، ط 2، 6 200، ص 58.
[6] ينظر: الخصائص، ابن جني،تحقيق: محمد علي النجار، القاهرة، ج 1، 1952، ص 41.
[7]سورة الروم، الآية 22.
[8] سورة هود، الآية 118،119.
[9] ينظر: علم اللغة،علي عبد الواحد وافي، دار النهضة، مصر، القاهرة، 1984، ص 78.
[10]Cercle des avocat detiziouzou page info debates libres 26 يناير، تيزي وزو، 11: 42.
[11] ينظر: التعدد اللغوي كمعضلة ثقافية تونفيلا ما ستيليلا، منجدياخوس، أستاذ الدراسات الإبداعية، جامعة بيتزر ، الولايات المتحدة الأمريكية .
[12]الفصحى في مواجهة التحديات، نذير محمد مكتبي، دار البشائر الإسلامية للطباعة والنشروالتوزيع، بيروت، لبنان، 1991، ص 13.
[13]علم اللغة الاجتماعي، كمال بشر، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1997، ص 27.
[14] ينظر: واقع الصحافة الجزائرية المكتوبة في ظل التعددية اللغوية “الخبر اليومي” و”الشروق اليومي” و “الجديد اليومي”، ص 200.
*باحثة الدكتوراه، جامعة حسيبة بن بوعلي ـ الشلف، الجزائر.
Leave a Reply