جُزَيرات الأنا
ترجمة قصة قصيرة أردوية (ندي)
نبذة عن المؤلف: سلام بن رزاق هو الاسم المستعار للشيخ عبد السلام عبد الرزاق، الذي ولد في عام 1941 في ولاية مهاراشترا من الهند، ويسكن حاليا في مدينة مومبائي بعد التقاعد من خدمته معلماً في مدرسة رسمية لستة وثلاثين عاما. أحد أعلام القصة القصيرة الأردوية في العصر المعاصر، قد اكتسب سلام بن رزاق شهرة واسعة في الأدب الهندي المعاصر، حيث شق لنفسه أسلوبا خاصا به وطريقة فريدة عن الأدباء المعاصرين. تتميز قصصه ببراعة السرد وجمال الحكي وروعة البيان وتعبر عن سعة دراسته وشمولية معرفته. تتمحور موضوعات قصصه عامة حول العلاقات البشرية واستغلال الشعب على عتبة القهر السياسي والاقتصادي. على أن الاستغلال السياسي و تداعيات الأزمة الاقتصادية والفوضى الناشئة من التطرف الديني تشكل هي موضوعات مفضلة لديه. صدر له أكثر من 13 مؤلفا، ما بين مجموعات القصص القصيرة باللغة الأردوية والهندية والقصص المترجمة. كما يكتب مسرحيات وسيناريوهات للأفلام والمسلسلات. حاز سلام بن رزاق على العديد من الجوائز الأدبية من المجامع الأدبية المركزية والإقليمية الهندية لإنتاجاته الإبداعية والمترجمة، من أهمها: جائزة المجمع الأدبي الهندي للترجمة (نيو دلهي) (1998)، جائزة المجمع الأدبي الهندي للإبداع (2004)، جائزة المجمع الأدبي الأردي الإقليمي لولاية مهاراشترا (6 مرات)، جائزة المجمع الأردي لولاية أترا براديش (مرتين)، جائزة المجمع الأردي لولاية بيهار (مرتين)، جائزة الشاعر الأردي “غالب” (2014) وغيرها.
*****
نهر عريض…
لعله في زمن كان يجري في مجرى رحب واحد. قد تقلص الآن، وتحول في مجار شحة عديدة، منكمشة في ذواتها. في أزمان منقرضة، اصطفت على جانبيه أشجار باسقة من جوز الهند، تناطح السماء. انعكست ظلالها المكثفة على صفيحة النهر الهادئ العميق الرقراقة، كأنها جلساء في بلاط الملك الجبار، يقفون في حضرته مطأطئين رؤوسهم. ولكن لم يبق من نضارتها إلا اصفرار. وتحولت غضارتها إلى يبوسة. واستحالت الأشجار المخضرة في جذوع يابسة مبتورة، تراءت معوزة مفلسة كالفقراء الجائعين في منطقة نكبتها المجاعة.
كان النهر عريضاً ولا يزال عرضه الجاف يشي بفخامته الماضية وينم عن مجده المفقود. ولكن جفافه حوّله إلى جزيرات صغيرة غير متناسبة. جزيرات لا حصر لها، نبتت فيها أعشاب وحشائش برية، تقفز بينها أسراب الجراد والصراصير طول الليل والنهار، وتزحف في الوحل تحتها آلاف الحشرات والديدان. وفي الظهيرة، حين لفحت الشمس وسخنت المياه العكرة الآسنة، طفحت أسماك النهر تغطي وجوهها كأنها نسوة محجبات من أسرة كريمة، وقد أزيل النقاب عن وجوههن على رؤوس الأشهاد. كان عدد الأسماك آخذاً في التقليص يوماً فيوماً، وعدد الحشرات والصراصير والضفادع في ازدياد مطرد. تخرج الضفادع الكبيرة والصغيرة بالعدد الهائل في ظلال الآصال من مياه النهر العفنة الفاترة وتنق رابضة على الجزر. يحكم كل جزيرة ضفدع كبير، له آلاف الأتباع، ينقون معه مؤيدين كل كلمة ينبس بها.
ينق الضفدع الكبير.
– أنا وريث هذا النهر.
فتجاوب الضفادع الصغيرة مؤيدة:
– أجل، أنت وريث هذا النهر.
– يسود حكمي في كل جزيرة من هذه الجزر.
– يسود حكمك في كل جزيرة من الجزر.
– و لو شئتُ……
يجيل الضفدع الكبير بصره ويقلب مقلتيه بحثاً عن إدعاء يلائمه، ويضيف بعد هنيهة من الصمت:
– لو شئتُ لكنت قادراً على نهش هذه الشمس البراقة من السماء في قفزة، والزج بها في هاوية سحيقة.
– لو شئتَ……
تؤيده الضفادع الصغيرة حسب عادتها، مغمضة عيونها من الشمس، كأن هدفها الوحيد هو استرضاء الضفدع الكبير وتملقه.
و ثم ينبعث صوت ضخم من جزيرة متآخمة، يحدثه ضفدع هائل ذي كرش كبير وأرجل رقيقة، يسأل أحد أتباعه:
– من هذا؟ من هذا المعتوه؟
فيقفز ضفدع رشيق و يجيب:
– جارنا الخسيس ذاته، الذي خدم أجداده قروناً في بلاط جلالة الملك.
– تباً له. قل لذلك الناكر للجميل أن يقبّل قدميّ قبل أن يشرئب للوصول إلى الشمس، لأن الشمس ليست إلا وقع أخمص قدميّ.
وفي رد لثرثرته، يرتفع صوت آخر من جزيرة ثالثة:
– من ذاك الوقح السليط؟! قل له أن يكف عن ثرثرته ويلجم لسانه. فإننا ننزع لسان السليط كما ينزع ملك الموت الروح من الجسد.
– صه، أسكت، فكل جزيرة هنا في نطاق ضربتنا.
وهناك، تنشز من كل جزيرة صيحات جديدة، تفوق كل منها الآخر صراخًا. وترتفع إدعاءات مبتكرة، يزداد كل منها الآخر صيحةً وعلواً، تحدث كلها ضجيجًا وضجةً تبعث الرعب في الأسماك البريئة، فتختفي في أعماق المياه الآسنة، وتخيف الطيور الجاثمة على أغصان الأشجار، فتطير مهفهفة أجنحتها ويتجه كل منها إلى جهة يشتهيها. تُبح أصوات الضفادع صراخاً، وتنفطر بطونها انتفاخاً، وتُدهس عشراتها تحت وطأة إدعاءاتها الرفيعة. و ثم يخيم على الجزيرة صمت مرعب مخيف، لا يخالطه نقيق ضفدع أو صوت صرصور. ولكن لم يدم الصمت إلا لفترة محدودة، و في اليوم التالي، تجتمع الضفادع من جديد في الجزر، وتتكرر التبجحات والادعاءات نفسها إلى أن يعود الصمت من جديد. وذات يوم، كانت الضفادع الكبيرة والصغيرة تنق وتصرخ بأعلى صوتها من جزرها المتجاورة، يشتم ويهين بعضها البعض، ويتهم كل منها الآخر. نظرت إليها الأسماك الطافحة على سطح الحفرات شحيحة المياه، بعيون خائفة وحيرانة. ولاذت الحشرات الضئيلة بجذور الأعشاب والنبتات. وأنصتت الأطيار على شاطئ النهر مبهوتة إلى سجالات دائرة بين الضفادع. وإذا بهزة نشأت بناحية من النهر. طفت اولاً فقاقيع على سطح الماء، و ما لبث أن ظهر رأس طويل. كان لتمساح طاعن في السن. انقشر مسلاخه من الشيب، وكلت أشواك ذيله، ولاحت الخضار على ظهره. ضرب التمساح المسن بذيله بكل قوة على سطح المياه الموحلة. فحدثت جلبة، تطايرت منها رذاذات سخية لتتساقط منتشرة متباعدة، خرست فجأة الضفادع الصاخبة كلها على مختلف الجزر. وبدأت تقفز على أرجلها الخلفية وتشرئب إلى جهة الصوت، وأخيراً، تبينت جميعها التمساح المسن الذي كانت كلها تحترمه، بل تهابه لما ناقل إليها أجدادها من أنه كان شاهد عيان لما مرت به الجزيرة من تقلبات وتغيرات عبر القرون. بلغ من العمر ما لا علم به لأحد، إذ كان عايش القرون وعاصر العصور.
رحبت به الضفادع وحيته منقنقة، فضرب التمساح المسن ذيله الضخم، وفغر فاه العريض معبرًا عن فرحه. ثم زحف إلى صخرة ناتئة عالية وربض عليها، وأجال بصره حول النهر. وأين كان النهر؟ لم يكن بقي منه إلا جزيرات صغيرة وحفرات موحلة. نشأت في مجاريه هضبات من الرمال الجافة. نضب الماء في بعض الحفرات، فملأتها الأوحال. نبتت الأعشاب البرية على حافتي النهر ولكن شحة المياه حولت لونها إلى الاصفرار. تراءت أشجار جوزة الهند وجوزة الفوفل قاحلة مقفرة، كأنها غابات الخيزران. رق قلبه لتقلب حال النهر، وأوشك أن تجري من عينيه سيول من الدموع ولكنه استجمع صبره وتمالك دموعه، خشية أن لا يسخر منه قاطنو النهر الأنذال بوصف دموعه بدموع التماسيح كما جرت العادة. قلب مقلتيه وألقى نظرة على الضفادع الجاثمة على المرتفعات وقد خيم عليها الصمت. نحنح التمساح مدوياً وخاطب الجميع بصوت بح:
– أيا قاطني النهر! هل سنح قط أن رأيتم هذا النهر من علو هذه الصخرة الشماء؟
تبادلت الضفادع النظر ورددت في صوت واحد.
– كلا. ما رأيناه قط من تلك الصخرة الشماء.
– تعالوا! أنظروا من هنا، فتنكشف لكم حقيقة جزيراتكم الحقيرة.
– ولكن! لماذا علينا أن نراه من العلياء والنهر يجري في دمائنا؟
– لا تكسووا الحقيقة العارية ملابس الكلمات الزئبقية، لأن الكلمات أحقر وسيلة للتعبير عن المشاعر. إنها تقنع الذات، وتحدث اقتناعًا مؤقتاً، ولكن الاقتناع ذاته يؤذن بالدمار الشامل المقبل.
وإذا بضفدع قصير شاحب نقنق من ناحية:
– ها، أقدر أن أرى…. أستطيع أن أرى النهر من العلو…
تحولت أعناق الضفادع إلى الضفدع الشاحب المتحدث، الذي كان يركب على رؤوس خمسة عشر أو عشرين ضفدعاً، وكان صدره منتفخاً. نظر إلى الجموع نظرة ملؤها الاحتقار، وخاطب التمساح:
– يا عالم الأسرار! ألستُ أرفع من كل هذه الموجودات الترابية، حيث إن النهر كله من أقاصيه إلى أدانيه قد أصبح في نطاق أعيني؟
ولم تكن أصداء كلامه غابت من الفضاء، حتى اهتز أهرام الضفادع الواقفة بعضها على عواتق الآخر، وتساقطت كلها واحد فوق الآخر. لفظت الضفادع المهزولة أنفاسها الأخيرة، وخرجت الأمعاء من بطون بعضها. تفجرت الضفادع من الجزيرات المجاورة قهقهة، ملأت العالم صخباً وسخريةً وضوضاء، استحال معها تبين أي صوت قريب أو بعيد.
وأخيراً قطعت الضوضاء زمجرة التمساح:
– أخرسوا! أصمتوا أيها القاطنون للنهر! كفوا عن قهقهاتكم، لأن الموقف ليس موقف الفرح والهزل، بل موقف الجد والعبرة. واعتبروا كيف أن ما تكن صدوركم من توافه الحقد والبغضاء، بعضكم للبعض، قد صغّر من شأنكم وحقّر من أمركم، وأصبحتم تقهقهون على جثث ذواتكم.
– يا صاحب العقل والحصافة! ألا يحق لنا أن نفرح على مصيبة عدونا؟ كان هذا الوغد اللئيم يهددنا منذ أمد بعيد، مستندا إلى عواتق الآخرين.
– العدو!
تنفس التمساح نفساً طويلاً وواصل:
– لا تدرون أن العداء أيضاً يصبح أحياناً مقياس تسامحكم. إفتحوا أعينكم، ترون صوركم في جثث الموتى. أصغوا تسمعون أصواتكم في أصواتهم. يصعب تبين العدو، لأنه من الصعب تبين الصديق.
– أيا حكيم العصر! نلتمس منك أن تفيدنا بطريقة تتطهر بها قلوبنا من كدارة البغضاء والعداء، وتمتلأ صدورنا من أضواء الحب والوفاء. نراك تجسيدا لحصافة العقل وسداد الرأي ونظنك رجل الخبرات.
– إذا لم يكن الموقف ملائماً، لذهبت الحكمة عرضة للاستهزاء ولجلبت الخبرات التهم. إسمعوا ووعوا أن الورود لا تتفتح أبدا في القمامات. غرستم الكراهية، فلن تحصدوا سواها.
نط ضفدع مرقط ليقرب من التمساح وقال بنبرة كلها تملق:
– ولكن ليس هناك من يهدينا ما عداك، ونراك نحن مولانا وولي أمرنا بالإجماع.
ثم أجال بصره فيما حوله متباهيا كأنه يقول إن من يلدغه بتملقه لن ينجو حتى لشربة من الماء.
فطن التمساح المسن لسوء نية الضفدع الداهي، فحول نظره منه إلى الضفادع الأخرى واستأنف:
– يوصف بـ”ولي الأمر” الشخص الماكر الضغن الذي لا يتعهد برعاية مرؤوسيه إلا لكي يبقوا هم خاضعين له ومعترفين بسيادته طول حياتهم.
أحدث رده القاطع جلبة صاخبة عبر الجزيرات التي ملأتها نقنقات الضفادع وقهقهاتها لفترة، وظل الضفدع المرقط يحنق ويتأجج غضباً وندماً. ولما انخفضت الضوضاء، صاح بأعلى صوته متشقلبا في الهواء:
– “الأنا”!… أيها الناصح الفظ! أدميتَ أنانيتي بلسانك القارص. والحفاظ عليها هو غايتي الأسمى من حياتي. أطيق أن أتحمل جرح السيف ولكن لأ أطيق أن يجرح أحد أنانيتي.
– “الأنا”!.
لفظ به التمساح المسن بازدراء ناظراً إليه وأضاف:
– تمشي النملة بحبة سكر في فمها، وتظن أن ثقلها يساوي ثقل سبعة جبال. لماذا تهتمون بهذا القدر بأنانيتكم التي لا تكبر من بوصة ونصف، وتجرفها لجة من المياه، وتعصف بها هبة من الرياح؟! إن أنانيتكم تبقى تافهة، لا قيمة لها، مثل ذيل السحلية المبتور، ما لم تصير جزءا متأصلا من ذواتكم ووجودكم. المشكلة أنكم متفرقون في جزيرات صغيرة، ويعد كل منكم جزيرته مساوية لكرة الأرض.
وقعت كلمات التمساح كصفعة حادة على الضفادع، التي تململت أمعاؤها وتشنجت شرايينها من فرط الألم. تبادلت النظر فيما بينها، وقد استحال وضعها من سورة الغيظ، والشعور بالإهانة والندم إلى حال بدأوا يشعرون كأن أحدا يمررها كالحبل، ولا يسعها المقاومة، ولم يكن لها لدغة الأفاعي، أو لسعة العقارب. نعم، كان لها أن تصرخ و تصيح، حيث لم يبق لديها إلا صرخات تشهد بوجودها. فبدأت كلها بعد هنيهة من الصمت تنق في تزامن. أخذت تنقنق من أعمق وجودها، وبقي التمساح يتحمل صيحاتها بصبر وأناة ويتفرج بصمت على انتفاخ جليدات حناجرها وانكماشها. ولما تدلت حناجرها المتعبة من كثرة النقيق، وتقلصت بطونها، رفع التمساح عنقها بهدوء، وطرح نظرة ملؤها الأسف على الضفادع المنتشرة من أداني النهر إلى أقاصيه. كانت كلها، صغيرا أو كبيرا، أزرق أو أصفر، أسود أو أبيض، نحيلا أو سمينا، تتنفس أنفاسا طويلة، مفتوحة أفواهها، ومرخية أعناقها. اختنقت حتى آخر صيحاتها في صدورها. وأخيراً بعد فترة طويلة، استأنف التمساح كلامه:
– يا ساكني النهر! يحوم كل منكم في دوامة المصالح الذاتية، وقد اختلطت عليكم الألوان بأجمعها بحيث لا يمكنكم تمييز بعضها من الآخر. فلا أستطيع الآن إلا أن أدعو لكم دعاء قاسيا عليكم. سأدعو، وعليكم أن تجهروا بـ”آمين” في نهايته، فهو آخر حيلة لخلاصكم.
لم يتلق التمساح أي رد من الضفادع التي ظلت ترمق إليه بأرواحها المنكسرة. وقد بدأ النهار يقبض جناحيه. والشمس تنتفض محتبسة بين غصني الأقاقيا. وتقطر حمرة تذوب في الحفرات، فتلمع مياهها بلون الذهب. وخيم في الجود صمت رهيب كئيب. عندئذ، رفع التمساح وجهه إلى السماء، وأغمض جفنيه ودعا:
“يا مليك البر والبحر! يا محول البر إلى البحر، والبحر إلى البر! طال الدهر وهذا النهر يطّرد في الجفاف. ونحن الذين كان عليهم أن يسكنوا نهرا واحدا، تشعبنا في جزيرات صغيرة متفرقة. يا ربنا الذي يسيل النهر من قطرة، و يضم الأنهار بالبحار! أثر فيضاناً في نهرنا الجاف هذا، لكي نحن الذين توزعنا في حفرات صغيرة متعددة، نذوب فيه مرة أخرى، ونفنى وجودنا في رحبته الثرة ونصبح جزءا منه! فيضانا فقط! فيضانا عارما تتلاطم فيه الموجات.”
ظل التمساح مغمض العينين بعد الانتهاء من دعائه، ينتظر استماع “آمين” من الضفادع، ولكن مر وقت طويل ولم يصل إلى سمعه رد واحد بآمين، ففتح عينيه. كانت الجزيرات والحفرات المجاورة مقفرة، لا وجود فيها لضفدع. كانت كلها غاصت في مياه النهر الشحيحة الموحلة النتنة.
Leave a Reply